الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة متأنية في رواية - ضيعة القوارير-

دينا سليم حنحن

2022 / 9 / 1
الادب والفن


قراءة متأنية في رواية " ضيعة القوارير"
للروائية دينا سليم حنحن

عبدالوهاب طالباني - أستراليا
الرواية، ليست موعظة أو خطابا في أدب الاخلاقيات، أو التأملات المجردة، بل ھي نثر أدبي رفيع، وسرد فلسفي لرؤية، وفكر تتزاحم فيه الحكايات والأحداث، مقترنة بلغة أدبية رصينة، تعتمد على تقنيات فنية متقدمة في السرد، إنها أكثر الفنون الأدبية تعبيرًا عن الحياة الإنسانية وتوتراتها، وأكثرها انغماسًا في كيمياء اللغة، وسبر المشاعر، والوصف، والحالات النفسية ومعالجاتها، وتجمع مجالات المعرفة المختلفة وتتوغل فيها.
ونحن إذ نحاول قراءة رواية " ضيعة القوارير"، الرواية الاخيرة للكاتبة الروائية المبدعة دينا سليم حنحن بشكل موضوعي، نبغي سبر تجربتها الأدبية الرائدة بعد العديد من التجارب الروائية الناجحة، كانت وحسب رأيي المتواضع، إضافات نوعية إلى فن الرواية العربية، خصوصا وأن الكاتبة تتمع بثقافة واسعة، تكتنز أصول ومصادر متعددة في الفنون الأدبية، منها تجربتها الحياتية في وطنها الأصلي، وهجرتها إلى أستراليا قبل فترة طويلة نسبيا وهي متعبة، مما جعلها تلوذ بالرواية، وبهذا الصنف المهم من الفنون الكتابية الإبداعية، إنها تتعامل مع تراكم صور، وذكريات تمتزج بثقافتها الواسعة، وتكريسها ضمن فعلها الروائي.
من السطر الأول لرواية " ضيعة القوارير"، والتي بين يدينا، نفهم أن الموضوع كلّه يدور حول مرض أحد أفراد الأسرة، ابن الأسرة الوحيد مع أربع أخوات وأب، أصبحت حياة ابن الأسرة، ومأساة مرضه محور الرواية كلّها، مما يعيد إلى الذاكرة إيحاءات من أحداث رواية صدرت للروائية دينا سليم حنحن بعنوان "جدار الصمت"، تنبعث منها أحداث وحكايات متقاربة، أو تكمل ما بدأته لتشكل البناء العام للرواية، لكن، ولذكاء الساردة، لم تسقط في التكرار، بل أتت على أحداث جديدة لم تذكرها في روايتها السابقة المذكورة، وكأن الكلام لم ينتهي، تصبح الأم عمود الرواية الحالية وبطلتها، وانتصاب قارورتين أمام مسكن العائلة، يتحول في جسم الرواية إلى رمز الشؤم، مستنبطا من عقائد المحيط، كتسمية للمكان - القرية، وإلى سرّ دفين في عمق الفكرة الأساسية للرواية، حيث تذهب الكاتبة على لسان الراوي من البداية إلى الحديث عن خمس مذهبات، يقول الراوي أن والدته أخفتها في إحدى القارورتين، لتبقى في ذاكرة الرواية دلالة للتعبير عن الجو المأساوي العام للرواية، وتنكسر القارورة التي أخفيت فيها المذهبات في إحدى الليالي، وتتناثر أجزاؤها ومحتوياتها أمام باب بيت الأسرة، ويبقى مصير المذهبات الخمس مبهما، إذ توحي الأحداث إلى أنها ربما سرقت، وتحمل الحادثة واختفاء المذهبات سرّ المستقبل الضبابي للاسرة، السرّ الذي ربما تكشف عنه الأحداث فيما بعد، أو المتلقي.
من خلال أحداث الرواية، يمكن أن نصنفها برواية مأساوية لتكاثف إشارات الألم، والمتاعب فيها، أو ربما اعتبارها مذكرات تراجيدية، إن صحّ التعبير. عندما تَلِج تفاصيل أحداث الرواية، تجدها لم تنته في صفحتها الأخيرة ، بل يبدو أن لها فصول أخرى أكثر مأساوية، إذ ابقت الكاتبة نهايتها مفتوحة لأحداث أخرى .
الراوي، أو ابن الأسرة المصاب بمرض يبدو أنه من الأمراض المزمنة دون أن يفصَح عنه كثيرا، إلا بإيجاز مقصود، لم ترد الكاتبة إدخالنا في حالة سير المرض، يضيف ذلك سرًا آخر إلى أسرار العائلة .
يشير الراوي في مفصل من مفاصل حياته إلى عادة خروجه من البيت ليلا إلى خلوات، قال إنه كان يحتاجها، واعتقدَ إنها كانت دون علم والدته، فتفاجئه بأنها كانت تعرف كل شيء، لكنها كانت تسمح له بذلك لكي يفرج عن نفسه، ويمارس حريته في التخلص من كرب المرض وأوجاعه، تقول له: " تركتك لتجرب وحدك ماذا تفعل".
والظاهر أن الابن " أو الراوي" يتحدث عن المحور الثاني في الرواية، عن أمه التي تتحمل كل مشاكل العائلة، وتدير شؤونها على الرغم من وجود أب في مرحلة معينة من حياة الأسرة، لكنه يذهب ويتركهم ويختفي، تتحوّل الأم إلى الشخصية الرئيسية في الحكاية تدور حولها الأحداث كلها تقريبا، وتتحمل تبعات، ومشقات كثيرة في سبيل الاحتفاظ بتماسك عائلتها وعدم تفككها، والاهتمام ببناتها، تنظر إلى كل واحدة منهم كملاك، وتلتصق بهن " فالأم الحقيقية لا تترك أطفالها مهما حصل " .
أما ما يخص مسرح الرواية ومكانها، فليس هناك تعدد في الأمكنة، بل تدور الأحداث في محيط واحد، لكن في مكانين قريبين من بعضهما، يمتازان بمواصفات متقاربة في طرق المعيشة، والحياة الاجتماعية.
الملاحظة الأولية في بناء الرواية تؤدي بالقارئ إلى مسألة مهمة، وهي أن الراوي الذي يُعتبر المحور الأول فيها، لا يتكلم كثيرا عما يقاسيه من أوجاع مرضه نفسيًا أو جسديًا، بل يعبُر غالبا في سرده القصصي إلى ما تقاسيه والدته من متاعب قاسية، ومشاكل عديدة تتعرض لها دون أن يدخل حتى في مونولوج داخلي مفصّل، ليعبر عن معاناته الصعبة في مرضه المزمن، كان يفضل الحديث عن أمه، الراعية الأساسية له وللأسرة، يضيف ذلك بُعدًا آخر وهو، السؤال عن هذا المرض الذي يجعل الإنسان ينسى آلامه ليتحدث عن عذابات الغير والاعتناء به حتى وإن كانت أمه! فقد جعل الراوي الأم هنا البطل الحقيقي للرواية، ويتشكل هنا تساؤل، من منهما كان يحب الآخر أكثر !
عندما نفكك الرواية أكثر، نجد أحداثا عدة، لها أسبابها الموضوعية، تتناغم مع الواقع المعاش في تلك البيئة القروية، وتلك الظروف الحياتية الصعبة، ونجد شخصيات عديدة، كل يمثل نوعًا معينًا من رموز ذلك المجتمع، تمثل واقع الحياة بكل خصائصها، في هذه الرواية، وعلى الرغم من محدودية الأحداث، تجعل القارئ يقف أمامها مندهشا لقساوتها، وتشابكها، وتعقيداتها، لأنها تعطي بعدا إنسانيا تجعلك تقف عندها وتفكر كثيرا.
من جانب آخر، نلاحظ حجم الرواية من ناحية عدد شخصياتها، نرى أن عددهم ليس كبيرا ومناسب لحجم رواية تتكون من حوالي مئة صفحة أو أقل، رسم الكاتب لكل فرد من تلك الشخصيات أدوارًا مختلفة في دراما لها عمقها، ومؤثرة في جسد الرواية، ومن هذه الشخصيات "جنايات" التي قتلها "عصام"، الشخصية السلبية، محاولا الإيقاع بأم الراوي وإلقاء الشبهة عليها، واتهامها بالقتل. هناك أيضا " أم النور" الغامضة في تصرفاتها، وقناعاتها، تضيف إلى الرواية عبر حضورها في عدة أحداث، بعدا سلبيا آخر في موضوع الأشباح والجن، الذي ما زال سائدا في مجتمعاتنا الشرقية، وحتى في بعض المجتمعات الغربية، ولكن الرواية في خطها العام، لم تكرس تلك الأحداث التي ترتبط بالمعتقدات الغيبية كحقائق علمية، بل جعلتها سائبة ليفكر فيها القارئ، يظهر ذلك من خلال الحوار الدائر بين أم الراوي و" أم النور"، تكاد تمثل الرمز الشرير في الرواية.
ثمة حوار آخر بين الأم وابنتها "لورا"، حول جدلية دينية عندما انكسر تمثال العذراء صدفة، تقول الأم تحاول مداراة ابنتها، " نحن لا نسجد لحجر ينكسر، بل لروحها التي تحوم حولنا ". فالدين من المقدسات التي يصعب تجاوزه، وخصوصا في مجتمع هذه الرواية، ولكن تبقى هناك فسحة للعقل لكي يجادل في مهارة استخدام هذا الرمز، في تركيب بعض تفاصيل أحداث الرواية، وهذا ما نلاحظه من خلال تداعيات الحوارات التي نقرؤها في الرواية.
الروائية دينا سليم حنحن، لها أسلوبها اللغوي الخاص، تستخدم اللغة الفصحى بدراية ومهارة، بل في بعض رواياتها الأخرى، تذهب إلى استخدام نثر مكثف وجميل يقترب من الشعر، ولكنها في رواية "ضيعة القوارير"، ولغتها المتينة، مالت أيضا إلى استخدام اللغة الوسطى في الحوارات، دون أن تذهب إلى مستوى الحوار باللهجة المحكية، حقيقة لم ألاحظ حتى في رواياتها الأخرى أي جنوح إلى استخدام اللهجة الشعبية المحكية إلا في روايتها الكبيرة " ما دوّنه الغبار"، المعلوم أن هناك جدل بين الكُتّاب العرب في استخدام اللهجة المحكية في حوارات الرواية، منهم من يعتبرها إغناء للرواية، وتسهيلا لإيصال الفكرة، ومنهم من يعتبرها إضرارًا باللغة العربية وهدما لها.
ختاما رواية " ضيعة القوارير" حكايةُ أخرى من حكايات الحزن، والصبر، والتحمل، والتعب، كتبت بتقنية سردية غنية بالأفكار والأحداث، ومفتوحة على توقعات غائبة، تجعلك تنتظر ماذا سيحدث في المستقبل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نسمه محجوب : فخورة بالمشاركة في مهرجان الموسيقي العربية


.. عوام في بحر الكلام|مع جمال بخيت- الشاعر محمد عبد القادر ج 2




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر محمد عبد القادر: البطلة زينب الك


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر محمد عبد القادر يشرح ما هي -إحتف




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: اليونسكو أعتمدت السمس