الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتفاضة في سريلانكا

كاديرغامار

2022 / 9 / 2
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


مقابلة: الانتفاضة في سريلانكا


نشرت المقابلة باللغة الانكليزية في العدد 175 من مجلة isj، بتاريخ 15 حزيران/يونيو 2022



تمر سريلانكا بأسوأ أزمة اقتصادية وسياسية منذ 75 سنة على استقلالها. مع جفاف العملات الأجنبية تقريباً، وأزمة الديون، وانهيار العملة، هرع زعماء البلد إلى صندوق النقد الدولي. بالنسبة للناس العاديين، هناك نقص في كل أنواع السلع الأساسية، وانقطاع للتيار الكهربائي قد يستمر إلى أكثر من 12 ساعة، وارتفاع كبير بالأسعار، من بينها الأطعمة الأساسية والدواء.

بدأت الاحتجاجات باستهداف الرئيس غوتابايا راجابكسا، وكل العائلة الحاكمة، بين أبناء الطبقة الوسطى مع استعمال هاشتاغ #gotamustgo (غوتا يجب أن يرحل). وهي الآن تتسع لتشمل قطاعات من الطبقة العاملة والفقراء. ترى السلطات في ذلك تهديداً موجهاً ضدها وقد زادت من القمع، واستعملت الشرطة لقمع المظاهرات السلمية وأطلقت النار على الذين رفضوا مغادرة الشوارع. في بداية أيار/مايو، أجبر رئيس الحكومة ماهيندا راجاباكسا، الذي هو أيضاً شقيق غوتابايا، على الاستقالة بعد يوم من العنف خلّف 5 قتلى وشهد هجوماً واسعاً على الممتلكات المرتبطة بالحزب الحاكم. وقد أطلقت النيران من مقره الرسمي على الآلاف من المتظاهرين الذين تحدوا حالة الطوارئ وحظر التجول الذي فرضته الشرطة لخرقهم البوابة الأساسية وإشعال النار في الباحة. وفي حدث منفصل، أطلق أحد النواب النار على شخصين، فقتل رجلاً يبلغ من العمر 27 سنة، كما عثر عليه ميتاً لاحقاً. دفعت موجة التحركات رئيس الحكومة السابقة رانيل ويكريميسينغ إلى وصف الحركة بأنها أقرب إلى “الربيع العربي”. مع بداية تصاعد الاحتجاجات في نيسان/أبريل، قال: “لم أرَ هذا النوع من المشاهد من قبل، أنا رأيت شغباً، ورأيت قتالاً، وإضرابات. هذا الأمر مختلف، إنه الغضب والمعاناة… النظام ينهار بأكمله”.(1)

اليوم، ويكريميسينغ عاد رئيساً للحكومة لولاية خامسة في منصبه، يحاول يائساً تشكيل حكومة قد تصمد أمام الموجة الثانية من الأزمة- التي ستكون جولة تقشفية جديدة بأوامر من صندوق النقد الدولي والبنك المركزي في سريلانكا. ولكن معظم الأحزاب السياسية تدرك جيداً أن حركة الاحتجاجات لم تبلغ مداها بعد، وهي حريصة على تجنب تلطيخها بالانضمام إلى الإدارة الجديدة. هناك كذلك مسألة ما يجب فعله مع آخِر راجاباكسا- الرئيس- الذي، وقت إجراء المقابلة، كانت سلطته تتضاءل لكنه كان ما زال في منصبه [غادر منصبه في 9 تموز/يوليو].

قابل يوري براشاد أهيلان كاديرغامار في نهاية شهر نيسان/أبريل 2022. كاديرغامار محاضر في علم الاجتماع في جامعة جفنا في سريلانكا، وقد عين مؤخراً نائباً لرئيس اتحاد جمعيات المدرسين الجامعيين. (2)

ي.ب.: هل بإمكانك وصف الأزمة السياسية والاقتصادية في سريلانكا وحركة الاحتجاجات التي تزايدت رداً على ذلك؟


أ.ك.: الآلاف يتظاهرون يومياً في الشوارع، بشكل أساسي ضد الصعوبات الاقتصادية ولكن كذلك ضد نظام راجاباكسا الحاكم. الاقتصاد منهار، وهذا هو الأهم في أذهان الناس. حالياً، هناك نقص في العديد من السلع الغذائية- كل شيء من الوقود إلى الغذاء والحليب ينفد، كما تتأثر الواردات بشكل كبير. إلى جانب ذلك، تتراجع قيمة رواتب الناس- خاصة، من يتقاضون أجوراً يومية هم أكثر من يعاني.

الطبيعة الواسعة للاحتجاجات والمشاعر المهيمنة بين الناس هي على تناقض تام مع الوضع قبل عامين حينما فاز غوتابايا راجاباكسا في الانتخابات الرئاسية مع أغلبية ساحقة في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2019. اليوم، فقد شرعيته تماماً ويواجه تحالفاً موحداً، الهتاف موحد بحيث يدعو عائلة راجاباكسا بأكملها إلى “العودة إلى المنزل”. الجماهير لديها الطاقة والشعور الذي عم منطقة شمال أفريقيا وغربي آسيا منذ 10 سنوات، ولكن بالطبع هذا الأمر يطرح أسئلة عليها. كيف ينتظم هذا الشعور؟ وإلى أي مدى يمكن أن يذهب أبعد من الدعوة إلى الإطاحة براجاباكسا؟ وماذا بعد ذلك؟

بعد انتخاب راجاباكسا، تعزز موقعه. فقد عَسكَرَ الإدارة المدنية عبر تعيين جنرالات سابقين لقيادتها كما عيّن مقربين منه في عدة وزارات. على الرغم من جائحة الكوفيد- 19، مضى النظام قدماً في الانتخابات النيابية عام 2020 وحرّك قاعدته الشعبية مستعملاً شعوراً معادياً للمسلمين. بعد فوزه بالانتخابات، سعى إلى تعزيز سلطة الرئيس. تتمتع سريلانكا بنظام رئاسي قوي جداً، لكن راجاباكسا عدّل الدستور بحيث وسع من سلطته عبر أغلبية الثلثين في البرلمان. الدفعة الثانية تمثلت بقانون كولومبو بورت سيتي، الذي كان جزءاً من محاولة إقامة مركز مالي للخدمات المصرفية والخارجية وسوى ذلك. هذا النوع من التمويل كان جزءاً من برنامج النظام.

مع ذلك، وطوال سنة ونصف السنة في من ولاية راجاباكسا، كانت تتزايد المقاومة فعلياً، الأمر الذي دفع الحكومة إلى تجاهل معاناة الشعب بشكل تام. أصابنا الوباء بعد 4 أو 5 أشهر من وصول راجاباكسا إلى السلطة. إذا نظرت إلى بيانات عام 2020 تلاحظ أن سريلانكا قد أنفقت ما يقارب 0،8 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي على مواجهة الكوفيد-19، على الرغم من أن بقية دول جنوب آسيا قد أنفقت ما نسبته 1،5- 2،5 بالمئة. جرى تجاهل الشعب. حصلت الكثير من التظاهرات الصامتة؛ لم يتحدث معظم الناس عن معاناتهم، ولكن يمكنك الشعور بعدم رضاهم من الحكومة. في بعض الأوقات، واجه الجيش، الذي كانت مهمته إيصال اللقاحات وفرض الإغلاق في عز الأزمة، غضباً في المناطق الريفية. تزايد العنف في المجتمع وأخيراً انفجر عندما حاولت الحكومة فرض قانون جامعة الدفاع الوطني في كوتيلاوالا، في كل سريلانكا كل الجامعات حكومية، ولكن هذا القانون سيقدم جامعة مجانية للعسكر، وهذا ما يهدد بعسكرة وخصخصة نظام التعليم. أخذت نقابة المعلمين في المدارس المبادرة في معارضة القانون الجديد وانضمت إليها بقية النقابات في النضال: كانت المعارضة قوية لدرجة أن الحكومة تراجعت عن القانون، على الرغم من أنها كانت قادرة على تمريره في البرلمان عبر استعمال أغلبيتها البسيطة اللازمة لذلك. إذاً، عدة عوامل أدت إلى نشوء موجة معارضة اجتماعية فعالة ضد النظام. خلال 8 أشهر، بات واضحاً أن الحكومة قد فقدت شرعيتها، ولذلك حاولت الرد عبر تعديل وزاري.


لسوء الحظ، فإن المعلقين في سريلانكا اليوم يعلقون على مجريات آخر شهرين فقط من الاحتجاجات وليس أكثر من ذلك. رغم ذلك، أود القول إن الحالة الغاضبة متصاعدة منذ بعض الوقت. كان الناس ينضمون ببطء إلى الاحتجاجات، وبدأت الطبقات الوسطى كذلك بالمشاركة. وهذا الأمر يعتبر تحولاً كبيراً لأن الطبقات الوسطى السريلانكية قليلاً ما تحتج. في الحقيقة، هي عادة ما تشتكي من الطلاب والمجموعات الأخرى التي تحتج، وتلومهم على تعطيل حركة السير وسوى ذلك. لكن النقص في السلع الأساسية أجبر أبناء الطبقة الوسطى على الخروج. وبسبب الطابع الواسع النطاق للحركة، تشعر مجموعات أخرى من الناس، من بينهم العمال، بالتجرؤ على التظاهر كذلك.

ومنذ شهور قليلة مضت، لم تكن النقابات العمالية قد تدخلت بشكل فعلي واتخذت زمام المبادرة، لذلك كان معظم المتظاهرين من الشباب، وكانت الاحتجاجات إلى حد ما من دون اتجاه محدد بما يتجاوز المطلب الشعبي “غوتا إرحل” “Gota Go Home!” رغم ذلك، خلال الأسابيع القليلة الماضية، بدأت النقابات في المشاركة على نحو صحيح. يوم الخميس 28 نيسان/أبريل، أضربت أكثر من 1000 نقابة. وكانت احتجاجات يوم العمال العالمي هذا العام اختبار قوة للنقابات، وهناك كلام عن إضراب كبير، كما في الإضراب العام في 6 أيار/مايو. كل هذا يدل على أن الحركة العمالية تتدخل وتدعم الشباب.

يمكن لدخول النقابات أن يمنح الحركة الاحتجاجية درجة أعلى من التركيز والاستقرار والتوجيه. ما يفزعني هو أنه إذا لم يكن للاحتجاجات رؤية واستراتيجية واضحة، فهناك خطر من اختطافها من قبل قوى متعددة. السؤال الرئيسي بالنسبة لنا هو، ماذا لو نجحنا وذهب غوتا؟ ماذا بعد ذلك؟ للنقابات دور حاسم للغاية في معالجة هذا الموضوع.

ي.ب.: هل انضم عمال المزارع والعمال الزراعيون والمزارعون كذلك إلى الحركة في هذه المرحلة؟

أ.ك.: بشكل علني، ليس بعد. حتى اليوم، يحصل الصراع في المناطق المُدنية، وأعتقد أن قسماً من السبب في ذلك هو أن المزارعين ومجتمعات الصيادين يريدون رؤية كيفية معالجة مخاوفهم. هذا لم يحصل بعد. وهذا مثال آخر على الانفصال بين الشعار السياسي المرفوع – “Gota Go Home!” – وتفكير الحركة في نوع المصير الاقتصادي المطلوب. يعتبر هذا الانفصال مشكلة خطيرة لأن طاقة الحركة تتأتى من الأزمة الاقتصادية. يؤيد معظم أولئك الذين يشغلون مناصب قيادية معالجة الأزمة الاقتصادية، كأحزاب المعارضة السياسية، والاستمرار في نفس المسار الذي اتبعه راجاباكسا. وهذا ما يحصل بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن اتفاقية قرض وفرض تدابير تقشفية بدأ تنفيذها فعلياً. رغم ذلك، حتى اليوم، لا يحصل نقد لما نتجه إليه على الصعيد الاقتصادي، حتى من جانب النقابات.


ي.ب.: هل هناك أي مؤشر على ظهور قيادة داخل الحركة؟

أ.ك .: ليست عائلة راجاباكسا وحدها من فقدت مصداقيتها- إنما مجمل الاستبلشمنت السياسية. لهذا السبب طلب المتظاهرون من السياسيين عدم المجيء إلى مواقع الاحتجاجات الأساسية. في الوقت عينه، تعبئ الأحزاب السياسية قواعدها الاجتماعية. نظم حزبا المعارضة الأساسيين، (ساماغي جانا بالاويغايا- سلطة الشعب المتحد)، واليسار المتطرف (جاناثا فيموختي بيرامونا-جبهة التحرير الشعبية) احتجاجات كبيرة في الأشهر الأخيرة. والحزبان يتحضران للانتخابات في المستقبل. لكن لا توجد قيادة واضحة للحركة الاحتجاجية في الشارع، ويعود ذلك بشكل جزئي إلى أنها تجسد تلاقي قوى مختلفة.

يتركز اليسار بشكل أساسي في النقابات العمالية، لأن الأحزاب “اليسارية” قد فقدت مصداقيتها بسبب تحالفها مع محور عائلة راجاباكسا. ومن بينهم حزب لانكا ساما ساماجا (حزب مجتمع المساواة بسيرلانكا- ترتسكاوي سابقاً) والحزب الشيوعي في سريلانكا. هناك تواجد يساري قوي بين صفوف الطلاب، وخاصة حول حزب الخط الأمامي الاشتراكي، الذي انفصل عن جاناثا فيموختي بيرامونا منذ عقد من الزمن. لطالما كان الطلاب مناضلين، ولهذا السبب ما زال التعليم في سريلانكا مجانياً، كما نظموا مؤخراً احتجاجات شجاعة جداً حيث حاصروا منزل رئيس الحكومة. مع ذلك، يفتقرون إلى المطالب وإلى مسار واضح للمضي إلى الأمام، كما فشلوا في طرح البرنامج اللازم لإنهاء الأزمة.

ي.ب.: ماذا عن التركيبة العرقية للمحتجين؟ مضى وقت طويل منذ أن حصلت حركة احتجاجية متعددة الأعراق في سريلانكا. هل هذا ما يحصل اليوم؟ هل تجمع المظاهرات غالبية السكان السنهاليين ومجتمعات التاميل المضطهد فضلاً عن سواهم من الأقليات العرقية والدينية؟

أ.ك.: في كولومبو، يشكل السنهاليون غالبية المتظاهرين، وهو أمر غير مفاجئ بسبب حجمهم هناك. مع ذلك، نحن نرى مشاركة أعداد لافتة من المسلمين في المظاهرات. وهذا الأمر شديد الأهمية لأن المسلمين لطالما اعتبروا العدو في سريلانكا خاصة خلال العقد الأخير. لقد رأينا خطاباً إسلاموفوبياً كما حصلت هجمات وحتى مذابح بحق المسلمين. لذلك، إن خروجهم وانضمامهم والعمل مع السينهاليين أمر شديد الأهمية.

كما انضم إلى الحركة الاحتجاجية شباب من التاميل الريفيين من منطقة هيل كونتري من مزارع الشاي في وسط سريلانكا. ينحدر التاميل الريفيون من العمال بالسخرة الذين جلبوا من الهند خلال القرنين الماضيين. رغم ذلك، كانت الاحتجاجات وسط مجتمع التاميل اللانكيين، من بينهم سكان المناطق الشمالية، أقل ضجيجاً. ولذلك عدة أسباب: أولاً، هذه المناطق معسكرة للغاية منذ نهاية الحرب الأهلية السريلانكية بين الدولة وحركة نمور تاميل إيلام الانفصالية عام 2009، لذلك احتجت القطاعات الأكثر تنظيماً في المجتمع. ثانياً، يشعر القوميون التاميل المهيمنون على السياسة التاميلية بالقلق من صعود حركات ذات أجندات عابرة للقوميات والأعراق لأنهم كانوا دوماً يرون سياسات التاميل منفصلة عن الهم العام. بالتالي، طلب السياسيون القوميون التاميل من الناس عدم المشاركة في المظاهرات. لذلك، إن نسبة المشاركة المنخفضة بين التاميل ناتجة عن تجارب الناس في الحرب وما تلاها من تراجع في المشاركة في الاحتجاجات، كما أن المواقف الأيديولجية لقومية التاميل لعبت دوراً. على سبيل المثال، يقع مكان عملي، جامعة جفنا، وهي مدينة غالبيتها من التاميل، إلا أن نقابة المعلمين والموظفين غير الأكاديميين نظمت تظاهرة. مع تزايد الأزمة، أعتقد أن تحصل مشاركة أكبر في شمالي البلاد.


ي.ب.: كيف تردّ الطبقة الحاكمة على الاحتجاجات؟

أ.ك.: لطالما اعتمد نظام راجابكسا على قاعدته الشعبية- من البوذيين السنهاليين القوميين والجيش- كما حاول تعزيز شعبيته عبر التحالف مع الأحزاب اليسارية واستمالة النقابات العمالية. اليوم، تصدعت هذه القاعدة والنظام أصابه التوتر. حصل أمر مشابه خلال فترة حكمهم السابقة بين عامي 2010 و2015، عندما بدأت الاحتجاجات النقابية بالتزايد. عرفوا بعدها أنهم إذا حاولوا سحق الاحتجاجات، فسيواجهون رداً اجتماعياً أكبر بكثير. كذلك، عائلة راجاباكسا اليوم شديدة الحذر. وهي تعلم أن المزاج الشعبي في البلد يطالب بمحاسبتهم بتهمة الفساد، وهذا بالضبط سبب عدم استقالتهم. هم يعلمون أن جهاز الدولة [الدولة العميقة] قد توقف عن دعمهم.

أصبحت الطبقة الحاكمة بشكل عام وببطء- النخبة التجارية وسوى ذلك- أكثر انتقاداً لعائلة راجاباكسا، ولكن سريلانكا تفتقر لطبقة رأسمالية مستقلة مثل تلك الموجودة في الهند مثلاً. الطبقة الحاكمة في سريلانكا كمبرادورية رأسمالية إلى حد كبير ولم تتحكم أبداً بشكل كامل بسلطة الدولة خدمة للمصالح الرأسمالية. بدلاً من ذلك، تفاوضت دائماً مع من هو في السلطة. وهذا الأمر لا يشكل مسألة أساسية في هذه اللحظة لأنها متفقة مع السياسات الاقتصادية للحكومة وهي مؤيدة لاتفاقية مع صندوق النقد الدولي المقترحة. مع ذلك، إذا اتخذت التظاهرات منعطفاً أكثر راديكالية من الناحية الاقتصادية ورفعت مطالب تهدد مصالحها، عندها سنضطر إلى الانتظار حتى نرى ما إذا كانت على استعداد لقبول، على سبيل المثال، بتحسين الرعاية الاجتماعية.

ي.ب.: هل هناك سوابق في تاريخ سريلانكا لحجم الحركة الحالية؟

أ.ك.: تاريخياً، حصل ما هو مشابه للحركة الحالية في سريلانكا سميت “هارتال” العظيمة عام 1953- وهي كلمة تستعمل لوصف الإضرابات الجماهيرية واحتجاجات العصيان المدني في شبه القارة الهندية- والتي حصلت بعد سنوات قليلة على استقلال البلاد من البريطانيين وعند نهاية الحرب الكورية. أدت الحرب إلى طفرة في أسعار المطاط، الأمر الذي أفاد صناعة المطاط وسمح للبلاد باستيراد الغذاء، والذي كان الاستيراد الرئيسي وقتها. ولكن، مع نهاية الحرب، وقعت البلاد في أزمة خطيرة نتيجة الخلل في ميزان المدفوعات، كما يحصل في الأزمة الحالية. أوصى البنك الدولي والبنك المركزي السريلانكي بأن تخفض الحكومة الدعم عن الأرزّ، وهذا ما حصل، فتزايدت الأسعار 3 مرات تقريباً بين ليلة وضحاها من 25 سنت إلى 70. أدى ذلك إلى نشوب أكبر حركة احتجاجية في تاريخ البلاد. فارتعب مجلس الوزراء لدرجة أنه اجتمع على متن بارجة حربية بريطانية. استقال رئيس الحكومة، الأمر الذي أدى إلى حصول تحول سياسي واقتصادي نقل البلاد بعيداً عن الغرب باتجاه حركة دول عدم الانحياز. وقتها، كانت البلاد تنتج 25 بالمئة من حاجتها للأرز. وهو الغذاء الأساسي، لكن الأزمة سرعان ما أرغمت الحكومة على تغيير سياستها. طوال 25 سنة، باتت سريلانكا مكتفية ذاتياً عبر انتاجها لـ 90 بالمئة من حاجتها من الأرز، على الرغم من التزايد السكاني وقتها.


ي.ب.: ذكرت أن الاحتجاجات يمكن أن تتوسع لتضم المزيد من العمال والحركة النقابية، بالتالي من المحتمل أن تصبح أكثر راديكالية. هل من خطر لاتجاه النظام نحو اليمين المتطرف أو الجيش لإعادة فرض سيطرته على الأمور؟

أ.ك.: أعتقد أننا دخلنا الآن في أزمة طويلة جداً، والتغييرات السياسية قد تكون كذلك. ما يقلقني هو أننا نشهد تأرجحاً لصالح المعارضة الليبرالية، والتي تعتبر سياساتها كذلك نيوليبرالية جداً. إذا كانوا سيضعون أعباءً أكبر على الناس، فقد نشهد تحولاً نحو اليمين القومي في سنة أو سنتين. هذه المرة قد لا تكون عائلة راجاباكسا في السلطة، ولكن بعض الديماغوجيين الشعبويين أو الفاشيين الآخرين الذين يمكنهم تعبئة الجيش والقوى السياسية الشوفينية الأخرى.

ي.ب.: ما هو الأثر المحتمل للاتفاقية مع صندوق النقد الدولي؟ هل ستؤدي إلى موجة أخرى من التقشف؟

أ.ك.: لقد بدأت موجة جديدة بالفعل من التقشف. من أحد الأمثلة هو طلب صندوق النقد الدولي بتعويم عملة البلاد الروبية، وهذا ما حصل الآن. وهذا ما أدى إلى انخفاض شديد في قيمة العملة من حوالي 200 روبية للدولار إلى 350 حالياً. ما أدى إلى زيادة كلفة الاستيراد والتي نُقلت على عاتق المستهلك. والنتيجة أن أسعار الوقود قد تضاعفت، وأسعار الخبز كذلك، وتزايد سعر الغاز المنزلي 3 مرات. طلب صندوق النقد الدولي السيطرة على التضخم عبر رفع أسعار الفائدة، وهذا ما فعلته الحكومة- فقد ضاعفتها إلى نسبة 14 بالمئة منذ شهر ونصف الشهر، وذلك أدى إلى الحد من الائتمان الممكن للمزارعين. الأصول التي يستعملها المزارعون في الريف أو الطبقة العاملة في المدن في حالات الطوارئ هي مجوهراتهم، فرُفعت الفائدة على رهن هذه السلع بقيمة 25 بالمئة. لذا سيؤدي ذلك إلى نزع ملكية عدد كبير من الناس غير القادرين على الزراعة، وقد خسروا كذلك مجوهراتهم. الحكومة شديدة الوضوح في أنها تريد تحقيق التوازن في الموازنة عبر تخفيض الإنفاق وعبر الضرائب، ما يعني هو زيادة الضرائب غير المباشرة، من بينها الضريبة على القيمة المضافة. وهذا ما يؤدي إلى إلقاء المزيد من العبء على الفقراء والعمال. وقد تحضّر هذا المسار فعلياً، فقد أرسل وزير المالية التعاميم إلى كل الإدارات الحكومية يطلب فيها وقف كل المشاريع العامة وخفض الدعم حيث يمكن.

ي.ب.: ماذا عن التنافس الاقتصادي بين الصين والهند للسيطرة على سريلانكا؟

أ.ك.: طوال العقد الماضي، كانت سريلانكا بيدقاً بيد اللعبة الجيوسياسية، بالتالي أعتقد من المهم الأخذ بعين الاعتبار مقاربة شاملة معتمدة على الاقتصاد السياسي. يشير العديد من الناس إلى الصين والهند باعتبارهما مؤثرين خارجيين في سريلانكا، ولكن، هناك مستوى كبير من الاستثمارات الصينية في البلاد، إضافة إلى استثمارات هندية كذلك. أكثر من ذلك، عبر النفوذ الاقتصادي بشكل أساسي تلعب الجيوسياسة دوراً. مع ذلك، لعبت الأسواق الرأسمالية العالمية دوراً مماثلاً في إيقاع البلاد في دوامة من الاقتراض التجاري. حوالي 60 إلى 70 بالمئة من صادراتنا تتجه نحو أوروبا والولايات المتحدة، وهذا ما يعطي الغرب نفوذاً، خاصة بسبب اتفاقيات التجارة التفضيلية. يستمر الكثير من المعلقين بالحديث عن “فخ الديون الصينية”، ولكن إذا نظرنا إلى ديون سريلانكا الخارجية، نجد أن 10 بالمئة منها هي للصين. كذلك، حوالي 10 بالمئة أخرى لليابان. مع ذلك، 40 بالمئة من الديون الخارجية هي ضمن سندات سيادية مقترضة من الأسواق الرأسمالية العالمية. إذاً، أحاجج أنه هناك 3 جهات مؤثرة بشكل أساسي في العمل- الغرب وأسواقه المالية، الهند والصين. بالطبع، هذا التنافس الجيوسياسي ليس جديداً. لطالما كانت سريلانكا ضمن المجال الأمني الهندي. عندما عادَتْ سريلانكا الهند، وقعت مشاكل لها. أحد الأمثلة على ذلك هو ما حصل في المرحلة الأولى من الصراع العرقي في سريلانكا، فقد دعمت الهند مقاتلي التاميل بقوة.


إن دور الصين حالياً هو أكبر بكثير مما كان عليه قبل عقود. وجاء نفوذها الأساسي بفعل استثماراتها في مشاريع البنية التحتية الكبيرة. ماهيندا راجاباكسا، خلال ولايته الرئاسية بين عامي 2010 و2015، كان قادراً على خلق مستويات مرتفعة من النمو مترافقة مع تدفقات لرأس المال الصيني والغربي.

لا يمكن للهند على الإطلاق أن تكون بحجم استعداد الصين للاستثمار، ولكن طوال السنة المنصرمة، تقدمت عن طريق ترتيب مقايضات العملات وخطوط الإئتمان للواردات، ما يساوي ما كانت تفعله الصين. في هذا المسار، ربحت الهند موافقة الحكومة السريلانكية على استثمارات الشركات الهندية. نزع الشرعية عن عائلة راجاباكسا جعل موقف الصين صعباً لأنها كانت قريبة جداً منها. مع ذلك، أبقت الهند خياراتها مفتوحة، وهي مستعدة للعمل سواء مع راجاباكسا أو المعارضة. قد تبدو الهند في وضع أقوى من الصين بما خص سريلانكا.

يعزز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي من قوة الغرب، وقد أبدت الصين اعتراضها على اتخاذ سريلانكا هذا الاتجاه. وهذا الأمر ليس مفاجئاً، لأن إعادة هيكلة الديون ستمشل كذلك الديون الصينية وستفقد الصين البعض من رؤوس أموالها بهذا المسار. لذا، ما زال الوضع متأججاً، خاصة لأننا لا نعرف أرضية للهبوط الآمن من الأزمة الاقتصادية هذه. يعتقد الناس أن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي سيعيد كل شيء إلى حالته الطبيعية في غضون 6 أشهر. ولكن حجم الأزمة والظروف الاقتصادية العالمية هي ضخمة لدرجة أنني أعتقد أنه سيكون صعباً جداً على سريلانكا العودة إلى سابق الحال والاستمرار في الاقتراض التجاري حتى تتمكن من التخلص من ديونها. أعتقد أننا ننظر إلى السيناريوات حيث سنبقى متعثرين داخل هذه الأزمة الاقتصادية لمدة 5 إلى 10 سنوات. كيف سيكون أثر الجيوسياسة في سريلانكا هو أيضاً عملية متفاوتة ولا يمكن توقعها.

السردية المهيمنة الآتية من الاقتصاديين المهيمنين والكلاسيكيين الجدد تقول إن كل شيء بدأ مع غوتابايا راجاباكسا إثر التخفيضات على الضرائب بعد انتصاره في الانتخابات الرئاسية. هم يركزون على العجز المالي، الذي تزايد بعد خفض الضرائب الذي دخل موضع التنفيذ في كانون الأول/ديسمبر عام 2019. مع ذلك، في الواقع، ترتبط هذه الأزمة بحساب التجارة الخارجية، وقد تزايدت لبعض الوقت. أود المحاججة أن هذا يعود إلى اللبرلة الاقتصادية والمشروع النيوليبرالي الذي أطلق في أواخر الـ 1970ات. حيث دفع مؤيدوها إلى لبرلة التجارة وقابلية تحويل حساب رأس المال، ما جعل البلاد أكثر اعتماداً على الاقتصاد العالمي لناحية التجارة والتمويل. (3) أنجزنا اتفاقين مع صندوق النقد الدولي في تلك الفترة، مع انسحاب سريلانكا من حركة عدم الانحياز باتجاه الفلك الأميركي. وهذا ما أدى قيام نموذج اقتصادي يعتمد على التصدير مع مناطق التجارة الحرة وسوى ذلك.

ي.ب.: أنت تقول إنه خلال الأزمتين الاقتصادية والسياسية السابقتين حاولت النخبة زيادة الانقسام العرقي في سريلانكا، هل يشكل ذلك أي خطر اليوم، وما هو البديل؟



أ.ك.: نعم، ، إنه خطر، لكنه ليس فورياً. مع ذلك، إذا لم تعالج الأزمة الحالية من خلال إغاثة الناس، فقد يظهر نظام أكثر إثارة للخلاف. هناك خطر من أن تخلق النخبةُ كبشَ فداء، كما فعلت بعد نهاية الحرب الأهلية عام 2009 عندما حرضت المشاعر بين السنهاليين بطريقة شعبوية وإسلاموفوبية ضد المسلمين. وقد جاء ذلك في سياق الخطاب الإسلاموفوبي الذي كان يتزايد في أنحاء العالم، وله صلات بما جرى في ميانمار والشوفينية الهندوسية في الهند. في كل الأوقات، جرى اعتبار المسلمين مسؤولين عن الأزمة الاقتصادية في سريلانكا.

أعتقد أن الكثير يعتمد على الدور الذي يمكن أن تلعبه النقابات العمالية، وخاصة في ظل غياب حركة سياسية ذات رؤية تقدمية. في الماضي، كانت سريلانكا قادرة على طرح قيادات جديدة بسرعة قياسية في بعض اللحظات، استناداً إلى العلاقة بين النقابات العمالية والطبقة العاملة والمزارعين والصيادين.

هناك سؤال كبير، ما يمكن فعله في ظل دولة شديدة المركزية. هناك نقاشات رامية إلى إلغاء منصب الرئاسة التنفيذية- بعد كل شيء، إذا كانت هذه الأزمة ستطول أكثر، فمن مصلحة العمال النضال من أجل توزيع الصلاحيات واللامركزية. في ظل هذه الأزمة، هذا النوع من التغييرات السياسية سيكون مهماً لأنه يساعد على الحفاظ على الحركة. يمكن أن يساعد ذلك في منع نظام آخَر من استغلال الأزمة للاستيلاء على السلطة ومن ثم استعمال القوة المركزة للدولة للقضاء على الحركة الشعبية.

خلال هذا النوع من الأزمات، تملك سريلانكا تاريخاً ليس فقط في تغيير الدولة من جهة سلطتها القمعية، إنما كذلك، لناحية الرعاية والتقديمات الاجتماعية. لذا، خلال الـ 1930ات والـ 1940ات مررنا بأزمة اقتصادية حادة فتحت الطريق أمام اعتماد سياسة التعليم المجاني والرعاية الصحية المجانية والمواد الغذائية المدعومة. قد يكون المطلب الأساسي اليوم هو عكس العقود الأربعة الأخيرة من السياسات النيوليبرالية التي أدت إلى تزايد انعدام المساواة، عبر اعتماد سياسة الرعاية الاجتماعية والضرائب على الثروة وإعادة توزيعها. حجم الأزمة الحالية يمكن أن تدفع إلى تغييرات كبيرة للاقتصاد السياسي في البلاد.

الهوامش:

1.https://timesofindia.indiatimes.com/world/south-asia/ongoing-protests-are-an-arab-spring-for-sri-lanka-exclusive-interview-with-former-pm-of-sri-lanka-ranil-wickremesinghe/articleshow/90625513.cms

2. للمزيد من كتابات كاديرغامار:


www.epw.in/journal/2022/18/perspectives/political-economy-crisis-sri-lanka.html

3. قابلية تحويل حساب رأس المال هي قدرة المستثمرين على إجراء معاملات تبادل العملة المحلية بالعملة الأجنبية والأصول. تسمح مثل هذه السياسة بتدفق كبير لرأس المال. الهند لديها حالياً سياسة جزئية لتحويل حساب رأس المال، ما يعني أن كمية العملة والأصول التي يمكن للمستثمرين الهنود شراؤها قليلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة منذ عقود.. -إسرائيل- تخرج من قائمة أفضل عشر وجهات ل


.. ما مصير صفقة تبادل الرهائن؟.. وهل يتجه نتنياهو للعمليات الع




.. الذكاء الاصطناعي يقتحم سباق الرئاسة الأميركية .. فما تأثير ذ


.. نتنياهو يطالب بمزيد من الأسلحة.. وبلينكن: نحاول تضييف الفجوا




.. منع إسرائيل المشاركة بمعرض يوروساتوري للأسلحة بفرنسا بقرار ق