الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المشروع المجتمعي الحضاري عند محمود أمين العالم

مجدي عبد الحافظ صالح
كاتب وأكاديمي ومترجم

(Magdi Abdelhafez Saleh)

2022 / 9 / 3
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


المشروع المجتمعي الحضاري عند محمود أمين العالم 

توطئة:
احتفينا في شهر فبراير من هذا العام بمئوية ميلاد المفكر الراحل الكبير محمود أمين العالم، الذي وُلد في 18 فبراير 1922 من القرن الماضي. لم يكن الرجل مفكرا عاديا ممن نعاين وجودهم على الساحة الثقافية اليوم، فيتوهجون فجأة ثم سرعان ما يخفت بريقهم وتألقهم. وهم الذين كانوا مثقفو اللحظة، أو الفرصة التي واتتهم مرتبطة بإحدى المناسبات. كان محمود العالم يجسد في شخصية واحدة: المفكر، والمثقف، والمناضل، والسياسي، والناقد، والثوري، والمبدع، والفيلسوف، والمنظِّر، والانسان مرهف الحس تجاه القضايا الإنسانية، والاجتماعية، والمهموم بقضايا الوطن والمواطن. كان شخصية تتمتع بشفافية الروح، وعمق النظرة والتحليل، مع تواضع العلماء، وبساطة الأسلوب والسلوك.
كان محمود العالم يهرب دائما من الأسلوب المقعر، ويلجأ إلى تبسيط اعقد واصعب المشكلات، مؤمنا بأن الفكرة الواضحة في ذهن صاحبها، يمكنه أن يبسطها لمستمعيه وقُرَّائه دون تكلف أو حذلقة أو بجمل وتعبيرات معقدة، إذ كان يريد أن يصل الوعي إلى الجميع باعتباره ليس حكرا على المثقفين وحدهم. هكذا كان بسيطا ومتحيزا للبسطاء والمهمشين، الذين شكَّلوا بوصلة تفكيره واهتماماته، ومن هنا جاءت نضالاته، في مجال السياسة، وفي مجال النقد والادب الملتزم، وفي مجال الابداع الشعري ( )، الذي ربطه تماما بطموحات الجماهير العريضة في حياة حرة وكريمة، تليق بالإنسان. من هنا جاء تألقه أيضا في مجال الفلسفة، والفكر، والثقافة وقضاياها التي حملها على عاتقه طيلة حياته بمصر، حرا وسجينا، ومع تجربته في مجلته الاثيرة على نفسه "قضايا فكرية"، أو حتى في منفاه الاختياري في باريس، حيث ألتقيته لأول مرة وجها لوجه، في أوائل ثمانينات القرن الماضي، ولم نفترق بعدها حتى بعد عودته لمصر، وربما حتى الآن، إذ صار محمود أمين العالم بالنسبة لي هو الأستاذ والأب، والصديق، والمثال، والقدوة.
مشروع محمود أمين العالم:
قبل أن أهم بكتابة هذه الاسطر بحثت في أوراقي القديمة المتصلة به، فوجدت محاضرات وتعقيبات ومناقشات واوراق وخطابات تبادلناها، وبينها ملخص لمحاضرة غير منشورة ألقاها في معهد اللغة والحضارة بباريس، الذي كان يديره الصديق أسامة خليل، وذلك في 17 مايو 1998. قدم محمود العالم في هذه المحاضرة مشروعه الفكري، الذي كان شديد الوضوح منذ البداية، وهو المشروع الذي بدأه برسالته في الماجستير عن الضرورة المنطقية والمصادفة، حيث أبدى حنينه لهذا العمل وتمنى أن يعود إليه مرة أخرى إذا سمحت له الظروف لاستئناف البحث من حيث انقطع، تحت ضغط الظروف والملابسات الواقعية قائلا: "إن هذا هو حلم حياتي، لكن لم تتح الظروف ذلك" ( ). واستطرد ربما تدفعني هذه الندوة لتحقيق هذا الحلم، عارضا لحكايته مع قضية الضرورة والمصادفة في اطارها النظري العلمي البحت، أي "الضرورة والمصادفة في الفيزياء الحديثة ودلالتها الفلسفية، وهي أطروحة الماجستير التي انتهى منها في عام 1953، وحصل بها على جائزة مصطفى عبدالرازق في الفلسفة، التي كانت تُمنح لأفضل رسالة جامعية، لذا على اثرها عُين في الجامعة، ثم تم فصله، وسجنه، الامر الذي أدى إلى انقطاع خيط تأملاته في موضوع المصادفة، وتوقف مشروعه الفلسفي والثقافي الذي كان ينوي استمراره، عندما سجل لرسالة الدكتوراه موضوعا آخر يستكمل من خلاله مسيرة تأملات مشروعه تحت عنوان "الضرورة في العلوم الإنسانية".
يذكر استاذنا العالم في هذه المحاضرة، بأنه في تلك الرسالة لم يتعامل مع التاريخ إلا في صفحاتها الأخيرة، مُذكّرا بقوله بعد أن استعرض مفهوم المصادفة في تاريخ الفيزياء منذ اليونان وحتى الفيزياء الموجية، بأنه كان يتوقع لمفهوم المصادفة هذا أن يصلح أساسا في إعادة النظر في ثلاثة من المفاهيم، التي يعتبرها أساسية في حياتنا وهي: مفهوم التاريخ، ومفهوم الحرية، ومفهوم الابداع. بل واعتبر أن هذه الصفحات الأخيرة تشكل الخطوط الرئيسية لمشروع فكري كان يزمع أن يكون مشروع عمره وحياته الفكرية. بل وتمنى أن يتمكن من استئنافه في دراسة معمقة يكون عنوانها: "الضرورة، الإمكان، الحرية". وأكد أن هذه النقاط لم يستطع أن يتناولها بشكل متكامل بعد. إلا أنه أردف بأنه قد تناول هذا الموضوع جزئيا في عدد من مجلته، التي أسسها عقب عودته للقاهرة من باريس في عام 1984 وظل يشرف عليها حتى توقف صدورها، وهي المجلة التي سبق لنا التحدث عنها "قضايا فكرية"، وكان محور هذا العدد (سبعون عاما على الحركة الشيوعية المصرية)، وذلك في تقديمه لهذا العدد بمقدمة عن التاريخ والضرورة، حيث قدم فيها نوعا من الربط بين مفهوم المصادفة في دراسته القديمة (في الماجستير) وبين التاريخ، محاولا أن ينقد النظرة الخطية للتاريخ لدى الماركسيين في مصر، وأن ينقد نظرية المراحل لدى ستالين، وأن يبين الطابع الإمكاني للتاريخ، حيث يرى أن تداخل العوامل والضرورات والاضافات في الواقع التاريخي، كثيرا ما يؤدي إلى نتائج مدهشة لا تحكمها فكرة الحتمية الميكانيكية الساذجة، ولكنها تسير وفقا لمفهوم المصادفة الموضوعية. هذا فضلا عن أن هناك بالإضافة إلى العوامل الموضوعية، حسبما يرى، عامل خطير في التاريخ وهو "الانسان" الذي يستطيع بوعيه بالضرورات أن يغير من مترتباتها، وأن يسيطر عليها. وهكذا كان الانسان حاضرا طيلة الوقت لديه، فالإنسان الواعي بما يحيط به من شروط وضرورات، وبفضل وعيه وحريته قادر دائما على تغيير مجرى التاريخ، عندما يسيطر على شرطه الإنساني ويدفع التاريخ إلى نتيجة غير متوقعة، بل ومدهشة.
الإرث الثقافي الذي تركه العالم لنا:
كان هذا هو المشروع الفكري الذي اعتبره محمود أمين العالم مشروعا مجهضا، لأنه لم يستطع في رأيه إنجازه، بفعل ضريبة انتمائه الاجتماعي وتحيزه للمهمشين، تلك الضريبة التي دفعها من أجل مواقفه تلك ولتمسكه بقيم حرية التعبير وبالكرامة الانسانية. مع هذا ما تركه لنا استاذنا من إرث ثقافي ومعرفي وفلسفي، يعوِّض آلاف المرات هذا المشروع، الذي اعتبره مجهضا. وعلى عكس ما رأى فسنجد في اعماله وكتاباته التي انجزها منهجيته الفلسفية، التي طبقها بحرفية ومرونة كبيرة، فلم يسلم موضوع يعالجه من نظرته التحليلية الكلية التي امدته بها الفلسفة، باعتبارها لديه هي "التي تهبنا النظرة الشاملة للحياة، التي تربط افكارنا واعمالنا وتعمم خبراتنا الإنسانية، كما تعمم نتائجنا العلمية" ( ). ولم تكن تلك الفلسفة لديه إلا وليدة الواقع المعيش، اكتسبها من خلال نشاطه اليومي وممارساته الحياتية، وكما يقول: "العمل والإنتاج والتمرس بالحياة قد أخذنا نصوغ لأنفسنا فلسفة عامة، نصوغ لأنفسنا نظرة شاملة للكون وللطبيعة وللإنسان وللتاريخ ونتخذها، سبيلا لدفع عجلة التقدم وإزالة العقبات من طريقنا" ( ).
الفلسفة والتأمل والتفكير لدى العالم:
لم يكن التفكير إذن لدى محمود أمين العالم تأملا فارغا أو بلا هدف، إذ كان يدرك أهمية النظرة الشاملة التي أكسبته إياها الفلسفة في الاسهام بتطور المجتمع، وفي هذا يقول: "نحن ندرك أنه بالنظرة الشاملة وبالفلسفة الموضوعية لا نزداد وعيا ومعرفة فحسب، بل نزداد كذلك قدرة على تطوير مجتمعنا البشري" ( ). لقد طوَّع الفلسفة التي آمن بها لاحتياجات الواقع، وجعلها من أجل خدمة الانسان، كما زاوج فيها بين العلم والعمل، والمشاركة المجتمعية الإيجابية، والتفاؤل بالمستقبل، عندما يقول: "هذه هي فلسفتنا الإنسانية المستمدة من واقعنا ووجداننا القومي، واحتياجاتنا الملحة، فلسفة موضوعية فيها بساطة وصفاء وتواضع، فيها الكلمة والانسان، فيها المعرفة والعمل، فيها جهدي وجهدك وجهود الناس جميعا، فيها احترام العقل البشري، واحترام العمل البشري، وفيها تفاؤل موضوعي غامر، بالمستقبل البشري" ( ).
لقد آمن محمود أمين العالم بفلسفة علمية موضوعية، تحترم العلم وتدرك الحركة الشاملة في الواقع المادي والبشري والتاريخي وقوانينه، تتسلح بالمعرفة لتغير العالم. عندما يقول: "وهي إلى جانب هذا لا تقتصر على مجرد المعرفة، بل تتسلح بهذه المعرفة العلمية المنضبطة، وبهذه التعميمات لتحقيق مهمة جديدة غير منفصلة عن مهمتها المعرفية هي مهمة تغيير العالم" ( )، وهي نفس المهمة التي أولاها ماركس للفلسفة، عندما وجد أنه قد حان الوقت لكي تتوقف الفلسفة عن تفسير العالم، من أجل تغييره. ولهذا السبب رفض كل فلسفة تخرج عن هذه الأهداف السامية.
موقفه من الوضعية المنطقية:
وكان موقفه ضد الوضعية المنطقية حاسما، عندما قام برفضها استنادا إلى أن منهج تحليلها الخالص "يعزل الظواهر عن سياقها الحي، ويحيلها أولا إلى عبارات لغوية، ثم يسعى للكشف عن الصدق فيها بالتحليل بدلا من ربط العبارة اللغوية بسياقها الاجتماعي والموضوعي، بدلا من اتخاذ النظرة التاريخية التأليفية" ( ). لقد عادى الوضعية المنطقية لبعدها عن المسألة الاجتماعية، إذ في رأيه أنها عملت على "تجريد الانسان المعاصر من أسلحته النظرية، التي يتسلح بها للقضاء على عوامل التخلف ولتوحيد صفوفه ودفع التاريخ البشري للأمام" ( )، وهو لهذا وسمها بأنها "فلسفة معادية للتطور". أكثر من هذا فرفضه للوضعية المنطقية استند أيضا إلى اخفاقها في تقدير النظرة الجمالية والأخلاقية، بفعل اغلاق فهمها عما يبعد عن الواقع الحسي من جهة، وعن التعابير الكلية من جهة أخرى واقتصارها على التحليل اللغوي منبت الصلة عن الواقع الاجتماعي الحي. من هنا وجد "أن الوضعية المنطقية قد فتشت (داخل التعابير اللغوية) فلم تجد ما يقابلها في الواقع الحسي من وقائع محسوسة جزئية محدودة، فحكمت عليها بأنها تعابير ذاتية. وسبب ذلك هو تلك النظرة التحليلية المغرقة التي تفصل الاحكام الأخلاقية والجمالية عن نسيجها الحي. فلو أنها نظرت إلى هذه الاحكام نظرة موضوعية تأليفية، وتعرفت عليها كوظيفة حية في مجال حي، لتكشفت قانونا موضوعيا للأخلاق ولأدركت أساسا موضوعيا للتذوق الجمالي" ( ).
موقفه من الفلسفة الوجودية:
وبنفس المعيار كان موقفه في رفض الفلسفة الوجودية، وبخاصة في شكلها الأول عند سارتر في كتابه "الوجود والعدم"، لأنه اعتبرها ذات توجه ذاتي مثالي، ووجد في مفهوم "الالتزام" عند سارتر خلوه من أي توجه، ذي طبيعة اجتماعية أو حضارية إنسانية عامة، بل فردية خالصة. كما رفض الحرية المطلقة عنده لخلوها من أية اهداف اجتماعية تصب في صالح الناس. كما أنه رأى أن القول بالحرية المطلقة ينتسب بالضرورة إلى الرؤية الرأسمالية، في اطار الواقع الإنساني والاجتماعي السائد. لذا تصدى لمن حاول تقسيم مفهوم الحرية عند سارتر على أساس مجرد، لأنه اعتبر أن تقسيم كهذا يعمل على إخفاء حقيقة الخلاف الموضوعي، إذ أن تقسيم المواقف والقيم بين قيم اجتماعية، وقيم دينية وقيم أيديولوجية، يعمل وكأن القيم الاجتماعية والدينية ليست ايديولوجية من ناحية واجتماعية من ناحية أخرى، كما أنه رأى أن القيم الأيديولوجية تحمل دلالات مختلفة داخل القيم الاجتماعية والدينية، وذلك لإخفاء رؤيتين أساسيتين: هما الرؤية الرأسمالية والرؤية الاشتراكية. كما تضمن نقده لسارتر أيضا المفهوم المثالي الأخلاقي للحرية عنده مثل: "حريتك عين وجودك"، "أنت حر لأنك موجود"، "الحرية ليست موضوعا وإنما هي مجرد وجود"، "أنت محكوم عليك بالحرية" ... وغيرها
وكانت لمحمود أمين العالم الشجاعة لتغيير موقفه من سارتر بعد كتابه "نقد العقل الجدلي"، الذي غيَّر فيه سارتر موقفه واصبح قريبا من الماركسية، أي كما يرى العالم، قريبا من الرؤية الاجتماعية المسئولة وليست الرؤية الفردية المطلقة السابقة.
موقفه من التنوير:
بنفس البوصلة كان موقف العالم من "التنوير" الذي وجده بأنه "ليس شيئا معلقا في فراغ، وليس وجاهة ثقافية، وليس عقلانية مجردة متعالية يتمتع بها نخبة من المثقفين فحسب" ( )، فلا ينبغي أن يكون التنوير إذن حبيسا لملكوت الذهن حيث اعتبره نقلة لحياة الناس على مستوى الرؤية والواقع، وفي مقابل التحديات المفروضة على الشعوب. ومن هنا يصبح التنوير الحقيقي والفعال لديه مشروعا متكاملا يتصدى للعقبات التي تعرقله بروح نقدية وثابة، تحقق في الواقع خطة للتنمية الشاملة في كل المجالات بحيث يتجذر في الواقع والوجدان. ولهذا اعتبر مشروع السد العالي "ليس مجرد مشروع تعميري (...) بل هو مشروع تنويري بامتياز، نقل العمال والفلاحين والمهندسين والباحثين والمديرين إلى مستوى عقلاني جديد، وإلى رؤية استراتيجية جديدة، في مشاركتهم لتغيير مجرى نهر، في اطار شبكة من الاعمال التخطيطية المتكاملة، وفي مواجهة تحدي شعبي لدول امبريالية كبرى" ( ). يمثِّل التنوير إذن لدى استاذنا قيمة حداثية كبرى لم يفصلها عن العمل (البراكسيس)، بل وربطها بنقلة نوعية للمساهمين فيها إلى مستوى ارقى مما كانوا عليه، عندما يربطون بأنفسهم العلم بالعمل، والتخطيط الاستراتيجي بالأمل، ويشعرون بمدى قوتهم التي استطاعت انجاز المعجزات (تغيير مجرى النهر)، ويقرون بأنفسهم بأهمية إعمال العقل والتخطيط، الذي استطاعوا بفضله الدخول في مواجهة وتحدي مع اعتى القوى العالمية، ومع ذلك قدرتهم على تحقيق الانتصار.
ولعل الاروع هو مطالبة استاذنا ببلورة موقف مجتمعي واع فاعل ونضالي، إضافة إلى ربطه بين التنوير الحقيقي والفعال وضرورة مواجهة السلبيات المجتمعية، على المستوى الوطني والقومي، في كل المناحي وعلى كافة الأصعدة والمجالات، من مظاهر التخلف والتردي والتبعية، شارعا في الوقت نفسه دعوته لضرورة تحقيق تغيير جذري في شتى الميادين: "السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتشريعية"، فالتنوير الذي ينشده لم يكن تنويرا شكليا أو مصطنعا، ولكنه تنويرا يلحقه بالجماهير الشعبية وبخطة اجتماعية مكتملة، ترتبط بخطط في التنمية والإنتاج والثقافة، وبتحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية، إذ كما يرى "لا تنوير حقيقي بغير خطة تنمية إنتاجية اجتماعية ثقافية شاملة، بغير تحرير للعمل الاجتماعي، بغير توفير العدالة للمواطنين، بغير اطلاق حرية التعبير والمشاركة الجماهيرية الديمقراطية في اتخاذ قراراتها المصيرية وفي تنفيذها ورقابتها. باختصار لا تنوير بغير تغيير مجتمعي انتاجي ذي بعد ديمقراطي وطني قومي، وإلا اصبح التنوير مجرد عملية نخبوية علوية" ( ).
ولم ينس استاذنا دور المثقف العربي ومهمته الكبرى في هذا التنوير، عندما وجه النقد لكتاب جابر عصفور عن التنوير، فعلى الرغم من اعترافه بأن كتاب عصفور قد طرق بجدية أبواب الإجابات الصحيحة لسؤال التنوير، إلا أنه اشترط "لكي يلج هذه الأبواب بحق، لا ينبغي أن يحبس نفسه في ملكوت الذهن المجرد فقط، بل لابد له أن يجعل من التنوير العقلاني الذاتي سلاحا للنقد الموضوعي والتغيير والتطوير المجتمعي الشامل. هذه هي المهمة الكبرى والفريضة المطلوبة من المثقف العربي" ( ). ولا ننسى ما قاله استاذنا العالم في مؤتمر أسوان، الذي انعقد بمناسبة زيارة سارتر مع سيمون دي بوفوار وبمشاركة الكاتب لطفي الخولي في حوار جماهيري مع سارتر، حول وضعية المثقف في مجتمعه السياسي، أي ألتحاقه بالحزب الحاكم من عدمه، حيث مال محمود العالم إلى فكرة أن وجود المثقف خارج التنظيم السياسي يجعله أشد فاعلية، مع ذلك يدعو العالم المثقف إلى الانتماء، ولكن الانتماء إلى الحرية أكثر من انتمائه لعضوية التنظيم المناضل.
موقفه من التراث:
يعتبر محمود أمين العالم واحدا من ألمع الاكاديميين المصريين، الذين اهتموا بعمق بالتراث. ولعل جهده شديد التميز يساير خطوات رواد النهضة العرب من أمثال: رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، ومصطفى وعلي عبد الرازق، ولطفي السيد، وطه حسين وغيرهم من منوري النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إذ طوَّر العالم منهجا عاما للبحث العلمي الذي يتناول التراث، كما ابتعد عن الانتقائية التي لازمت بعض مناهج دارسي التراث. وتعامل مع التراث بموضوعية فلم يتجاهله أو يهمل أهميته في أي وقت، ولم يقلل كذلك من قيمته. إذ كان واعيا بثرائه وتنوعه، ويدفع بمنهجية متفهمه لطبيعة البحث فيه، والتي تأخذ بعين الاعتبار كل الشروط الواجبة لتكوُّن التراث عبر التاريخ.
ولعل موقف محمود أمين العالم من التراث، كما اشرت في دراسة سابقة، أن أحد ابعاد تكاملية العالم ثلاثية الابعاد، فيما اطلقت عليه "نظرية التنوير الجدلي عنده"، إلى جانب "الواقع" و"الفكر" هو "التراث"، إذ يتأثر التراث عنده ببعدي الواقع والفكر، وهو تأثير وتأثر يرفض العالم أن يكون ميكانيكيا آليا، ولكنه جدليا. ومن هنا رفض استاذنا التأثيرات أحادية الجانب لأي ظاهرة، ولطالما عمل دائما على رؤية الظاهرة في كل أسبابها وتفسيراتها المتعددة، وهو الامر الذي جعله يهتم بالتراث عندما يقبله قبولا نقديا ويضعه داخل مشروعه الفكري، الذي اعتمد على التكاملية ثلاثية الابعاد، فجعل من التراث بُعدا أساسيا من تلك الابعاد الثلاثة، على أن نبحثه ونستوعبه ونتفهمه داخل سياقه التاريخي، دون أن ننكفأ عليه ونحبس أنفسنا داخله في عزلة عن واقعنا المعيش.
خاتمة:
كانت كتابات وأفكار واعمال محمود أمين العالم دائما وأبدا استجابة لحاجات الواقع الملحة والناس، وليست تعبيرا عن تأمل معلق في الفراغ كما رأينا، لذا فقد توسم دائما بأن تكون لكتاباته وظيفة عملية، بل ونضالية في قلب الواقع تستجيب دوما لحركة الحياة المتدفقة. فهي تحاور مجمل الأفكار الأخرى وتعمل على نقدها وتفنيدها أو تعميقها أو تجاوزها، وذلك قبل أن يطرح أفكاره على قاعدة فكرية جديدة وممهدة للفهم والاستيعاب. إذ تخلص محمود العالم تماما من الازدواجية، التي غلفت موقف اغلب المفكرين العرب على مستوى الفكر والسلوك وصولا للخطاب. وهنا انعكست أفكاره على حياته وسلوكه الشخصي، ومن ثم على انتمائه الحزبي، الذي كان دائما في قلب اليسار، محاولا أن يكون ذلك المثقف العضوي في مجتمعه على الدوام....
كان دائما هذا العقل النقدي الحاد الذي اتخذ من المشاغبة الفكرية، وسيلة لعيش الحياة إذ كان يطالب دائما تلاميذه ومحبيه أن "يشاغبوا ليصحوا.."، تمرد على الحياة دائما وأعطى لها المعنى والقيمة، كانت حياته هي بالفعل قصة حياته التي خطها بيديه، اتسمت بالوضوح والشفافية وابتعد عنها اللبس والغموض والازدواجية، لذا يصبح الاحتفاء الذي يليق بمئوية ميلاده هو أن نُفعِّل القيم التي أرساها، والاخلاق التي وضعها، ونتابع النضال الذي ابدعه...
سيظل محمود أمين العالم حي بيننا بإرثه الثقافي وبكتاباته واعماله، وبسيرته الحافلة بالعمل والنضال، فمثله لا يموت طالما إرثه باق، وطالما الواقع مازال في حاجة إلى الحرية، والأمل، والكرامة لكل انسان في المعمورة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجبهة اللبنانية تشتعل.. إسرائيل تقصف جنوب لبنان وحزب الله ي


.. بعد عداء وتنافس.. تعاون مقلق بين الحوثيين والقاعدة في اليمن




.. عائلات المحتجزين: على نتنياهو إنهاء الحرب إذا كان هذا هو الط


.. بوتين يتعهد بمواصلة العمل على عالم متعدد الأقطاب.. فما واقعي




.. ترامب قد يواجه عقوبة السجن بسبب انتهاكات قضائية | #أميركا_ال