الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بخطى طليقة - إضراب

عصمت منصور

2022 / 9 / 3
أوراق كتبت في وعن السجن


بخطى طليقة
إضراب
لم يكن أحد يعلم أن سجن عسقلان المركزي والواقع في مدينة عسقلان جنوب الساحل الفلسطيني وإلى الشمال من غزة، والذي كان في عهد الانتداب مقرا لقيادة الجيش البريطاني في المجدل/ عسقلان ومحيطها وصولا الى قيساريا، وقد خصص لاستقبال الوفود البريطانية الرسمية، سيشهد أول إضراب عن الطعام في تاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة، ليعد أهم حدث عاشته الحركة الاسيرة وتكونت بناء عليه.
في تموز 1970 وبينما رطوبة البحر تنخر عظام الأسرى وتتجمع فوق جلدهم تحت لباس السجن السميك، حدث الانفجار الاول، وشهدت ساحة عسقلان أول مواجهة منظمة بين الأسير والسجان، والتي استخدم فيها سلاح الأمعاء الخاوية لأول مرة.
من لم يكن يعرف أو يعترف بغير السلاح الناري كأداة للمنازلة، اضطر بعد سنوات قليلة من الإذلال والعيش في ظروف قاهرة الى البحث عن سلاح آخر، يعيد إليه بعض التوازن وينتشله من ربقة الاستعباد والإذلال التي وضعه أسره فيها.
سجن عسقلان هو أكبر وأول سجن اففتحه الاحتلال في نهاية الستينات من أجل احتواء الأعداد المتزايدة من المقاتلين والفدائيين الذي التحقوا بالثورة وحملوا السلاح.
تجريدك من سلاحك لحظة اعتقالك لم يكن عملا جسديا فقط، بل عملية مستمرة لا تنتهي إلا لحظة سقوطك بشكل كامل وإعلانك الاستسلام.
عملية طويلة يجري تنفيذها على مراحل، تبدأ عند محاصرتك وأسرك، وغالبا حين تكون مصابا أو دون ذخيرة بعد ساعات من الاشتباك، وتمر بمرحلة التحقيق وإعدادك لدخول السجن ب"حفل استقبال" تجرد فيه من ملابسك العسكرية ويتم رشك بعدها ببودرة للتعقيم، لتنظيفك ليس من الأمراض المعدية والجراثيم، بل من الأنفة والندية، ومن ثم تترك عاريا لبعض الوقت قبل ان ينهال عليك الجنود بالضرب المبرّح والشتائم، ثم يطلب منك ان ترتدي زي السجن السميك فاقع اللون، لتمكث منفردا عدة ايام.

بعدها يزجّ بك في زنزانة جماعية داخل السجن، لتنام على الارض، وتنصهر بين الأجساد الملقاة مثل حطب المحارق بجانب بعضها البعض.
لا داعي لأن تسأل ما المسموح وما الممنوع، فكل شيء ممنوع، ومفقود وغائب.
لا حبر ولا أقلام ولا أوراق أو كتب او إذاعات، لا فرشة، او لباسا نظيفا أو شمسا وهواء نقيا ولقمة لها مذاق أو طعم، حتى الحوار مع زميلك كان ممنوعا، ومسموح لك فقط ان ترتب مكان مبيتك عند العدد الصباحي الذي يكون في الساعة السادسة يوميا وان ترد بكلمة "سيدي" عندما يتم ذكر اسمك من قبل السجان.
مثل قطيع معد للذبح كان السجان يأتي كل يوم ليختار مجموعة من الأسرى، ويسوقهم أمامه للعمل في "السخرة" وخياطة خيام ومظلات الجنود الذين كنت تحاربهم وتشهر السلاح في وجههم عندما كنت انت والسلاح شيئا واحدا.
هل يقتلك أكثر أنك تعمل بالسخرة مثل رقيق مباع؟ أم أن عملك يخدم الجيش الذي كنت تحاربه وما زال يصب نيران مدفعيته المظللة بالخيمة التي نسجتها لقتل رفاقك؟
لن تعرف الجواب، لكنك ستكتشف أن الإنسان لا يمكن ان يتحول الى آلة، وان أشد لحظاته ضعفا هي أكثر لحظاته التي تتجلى فيها قوته الداخلية وإبداعاته.
سيرد اسم عمر القاسم في كل سيرة تكتبها عن السجن، وسيلمع نجمه في ظلمة الزنازين ودهاليز السجون وساحاتها، لكونه، الى جانب أنه ملاكم مفتول العضلات، مدرّس يتقن فن الإقناع والخطابة، ومقاتل يأبى الاستسلام، بل في كونه مفكرا وأول من حاول أن يصوغ قوانين تنظم حياة الحركة الاسيرة ووجودها.
من الإرهاصات التي مهدت للإضراب الأول البكر الذي شكل الرحم الذي ولدت منه الحركة الوطنية الأسيرة، التمرد ورفض العمل بالسخرة في سجن الرملة.
يكفي أن تتمرد مرة، أن ترفض وتكسر النمط، حتى تعرف لا محدودية القوة الكامنة داخلك، وحدود القوة لدى عدوك.
عندما تتمرد وتنتصر، لا يكتشفك عدوك، ولا تعيد صياغة الواقع بشكل مختلف وأكثر إنصافا وانسانية فقط، بل تكتشف ذاتك، ويكتشفك زملاؤك، وتصبح القائد الذي يدل على السلاح، ويعيد تسليح المجموعة التي يحررها من صفة القطيع، فقط لمجرد انه اكتشفه.
في المعارك التي تحدث في الظل، دون استعراض أو قوانين أو ضجيج، والتي تحكمها غريزة البقاء وبذرة الانسانية، والتي تكون فيها أسلحة الطرفين خلف الجفون وبين الضلوع، من الصعب أن تحكم من الذي انتصر ومن الذي هُزم، كما أن من الصعب أن ترسم خطّاً وتاريخا واضحين للمعركة، وكل ما يمكن ان تخرج به هو: قائد.
تكون مهمة هذا القائد ان يدير اللعبة ويخلق حالة من التوازن بين فائض الثقة والقوة التي اكتسبها من زملائه، وما بين فائض العداء والاستهداف الذي يوجهه عدوه نحو الجماعة من خلاله.
إنه سير خطر على حبل دقيق فوق حقل ألغام، ذلك أن انكسارك او تخاذلك او عدم معرفتك طبيعة وموعد الخطوة التالية، سيعني الارتداد إلى ما قبل الصفر وانتظار مخاض قد لا يأتي ليولد فيه ظرف ينتج قائدا، يكون مطالبا ان ينسي تجربة مرة أولا ، ويشق طريقا وعرا مليئا بالحفر ثانيا.
التمرد ضد عمل السخرة أوقف العمل لدى الجيش المحتل كليا، وهذا لم يحدث دون عقاب وقمع وعض على الاصابع، وقد يكون اهم ما أسفر عنه، انه انتج لأول مرة افكارا صلبة، انبثقت مثل أفق، واشرقت على أكبر عدد من الأسرى، وهي فكرة ان تحدي قوانين السجان ممكنة وانها غير ابدية وقابلة للكسر. كما انه انتج فكرة الاحتكام الى قائد او مجموعة قادة وتسليمهم دفة القيادة، والأهم من ذلك انه بهّت فكرة الاحتكام للأقوى عضليا او للأعلى رتبة عسكرية، او من كنت تعرفه بحكم السكن (الشللية والبلدية) والبحث من خلال الاحتماء به عن الحماية من الأسرى وصراعاتهم الداخلية.
هذه الظروف مجتمعة أنضجت سجن عسقلان كونه السجن الوحيد المركزي والذي تجمع فيه ما لا يقل عن 800 أسير من أصحاب الأحكام العالية.
سجن عسقلان شكلا مختبرا ومعملا لإنتاج الحركة الأسيرة، فهو كان كبيرا ومستقرا، ومن يدخله لا يخرج منه لأنه يضم أسرىً محكومين بأحكام عالية، وهو بذلك وفر كل العوامل المطلوبة لان يتأهل للقيام بالقفزة النوعية وخوض اول تجربة اضراب استمرت سبعة ايام فقط لكنها مثلت عملية انتقال بين حقبتين وعهدين.
في شهر تموز 1970 دخل الأسرى الفلسطينيون في سجن عسقلان أول إضراب جماعي عن الطعام ضد مديرية السجون.
كان الإضراب الأول مثل كل البدايات، دون ضجيج ومن دون تنظيم محكم، ومع كثير من التردد، ودون إعلان او أهداف واضحة، وكأنه تحول الى هدف بحد ذاته، ومع ذلك فأنه ورغم مشاركة ما نسبته ثُمن الأسرى تقريبا فقط، رسم معالم واضحة في تاريخ الأسرى وأرسى قوانين اصبحت مثل مرساة تشد الأسرى الى أرض صلبة هم من أنتجها.
سيقول من عايش تلك التجربة، اننا كنا في ذات الوقت الممثلين والجمهور والمتفرجين، ولم ندرك أننا نصنع معجزة صغيرة مخفية عن العالم في دهاليز سجن قريب من شاطئ البحر المتوسط.
سقط في ذلك الإضراب أول شهيد وهو عبد القادر ابو الفحم، وكأنه اراد ان يعمّد هذه اللحظة بدمه وان يقدم جسده ليحول هذه اللحظة الى ارتباط شخصي وعهد ممهور بالدم بين كل من شارك فيها بعدم التراجع.
لو لم يكن عبد القادر أبو الفحم المصاب برصاصات في الصدر، والمعرض للموت في كل لحظة، والذي أصرّ على خوض الاضراب، فلربما كان الاضراب حدثا عاديا.
فقد خلق عبد القادر من لحظة استشهاده أثناء تغذيته بشكل قسري عبر انبوب تغذية ادخل عنوة في رئتيه من قبل طواقم مديرية السجون، صدمة أربكت مديرية السجون، وهالة اسطورية وغضبا عارما ودعوة للثأر لدى كل الأسرى.
لم يسبق ان قتل أسير في معركة قبل ابو الفحم، وهذا الحدث الذي تحول الى أسطورة لم يضمن نجاح الإضراب بل صدم مديرية السجون التي ادركت ان آخر الحبل الذي تشده بيدها الحديدية، انما يلتفّ حول عنقها ويرتد عليها، وان اية حركة قوة زيادة، ستخلق حالة ضعف لا نهوض بعدها، وان حدود القوة المدججة بالفولاذ والقسوة والحقد تنتهي عند انفجار الإرادة الجماعية المدججة بالتضامن وروح التضحية والفداء.
وكأن الاساطير تأبى ان تحدث دون قرابين.
انتهى الاضراب مع ولادة أسطورته.
سبعة أيام حققت للأسرى الغاء كلمة سيدي التي كانوا ملزمين بقولها كلما خاطبهم السجان بهراوته او لسانه، كما انه وفّر لهم جلدة رقيقة بديلا عن البلاط العاري ليبيتوا فوقها ويقضوا ليلهم القلق والمضطرب، وتخفيف بعض الازدحام في الزنازين، والأجمل من ذلك كله هو إطلاق أقدامهم من القيد الخفي الذي حصر حركتهم في الساحة بالسير أسيرين أسيرين، دون التفات الى أي اتجاه عدا النظر الى الأمام.
الاختلاط في الساحة، وروح ابو الفحم التي بقيت تحلق فوق رؤوس الأسرى، وبروز أسماء قادة فرضتهم المعركة، جعل الساحة تبدو أوسع وتمارس وظيفة جديدة، هناك بدأت تنشأ العلاقات وتتكون بذرة العمل الجماعي والانتقال الى المحطة التالية التي شهدت انتكاسة، ودخول فترة مظلمة وطويلة اطلق عليها الاسرى اسم فترة "الانفلاش".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون في تل أبيب للمطالبة بعقد صفقة تبا


.. مجلس الحرب الإسرائيلي يجتمع لدراسة رد حماس على مقترح صفقة تب




.. حرب غزة: لا تقدّم في مفاوضات الهدنة.. حماس تتمسك بشروطها ونت


.. مظاهرات في تونس لإجلاء الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين




.. مصدر مصري رفيع المستوى: أحد بنود مقترح الاتفاق يتضمن عودة ال