الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى النكبة الليبية - الحلقة الثانية

محمد حسن البشاري
(Mohamed Beshari)

2022 / 9 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


الحلقة الثانية
أما الجهة المقابلة لنا فكلها محلات كانت مؤجرة من عمر فخري المحيشي وبعد وفاته أستمر المؤجرون بدفع قيمة الإيجار زهيد القيمة إلى زوجته شقيقة الشاعر أحمد رفيق المهدوي إلى أن توفيت فأستمروا في سداد الإيجار إلى خادمهم الذي استمر بالإقامة في البيت الذي يقع خلف هذه المحلات إلى أن توفي فتوقفوا عن السداد ولا أدري إذا كان ذلك قبل أو بعد منع التجارة إلا أنهم بعد رفع الحظر عن التجارة في عام 1990 تقريبا توسعوا في المحلات بأخذ مساحات من البيت التي تقع خلف كل محل ولم يخطر ببال أحد منهم أن يتبرع لصيانة هذا البيت الذي يعتبر معلما مهما من معالم بنغازي العتيقة بما فيه المطبعة التي كانت فريدة من نوعها والتي أستجلبها المرحوم المحيشي في الاربعينيات بالإضافة الى ممتلكات شاعر الوطن الكبير أحمد رفيق المهدوي الذي عاش فيه إلى أن توفي ، وهذا البيت الكبير يشغل كامل المساحة بين شارع المحيشي وشارع الهوش (بودبوس) وأنتهز هذه الفرصة لدعوتهم لأن يقوموا بسداد الإيجار المستحق عليهم إلى الجهات ذات العلاقة بالعناية بالمدينة القديمة لغرض صيانة وإعادة بناء ما تهدم من هذا المعلم التاريخي الكبير.
ومن عادتي أن أصحو باكرا وأجلس على ناصية الزقاق فتصلني رائحة القهوة والشاي من مقهى بوبكر العمامي في شارع المحيشي الذي يفصل بين سوق الجريد وسوق بوغولة وأشاهد فتح المحلات شيئا فشيئا و أولهم من العادة يكون عبد الحفيظ النيهوم الذي يقوم بتشغيل الراديو فور فتحه للمحل فينبعث صوت فيروز الطري في الصباح ويقوم بكنسه وكنس المنطقة أمامه ورش المياه قبل وضع بعض البضاعة على باب المحل الخشبي إلى أن أشعر بأن الوقت قد حان لإستيقاظ الجميع فأعود إلى البيت لمشاركتهم في الإفطار الذي يكون عادة حليب بالشاهي والخبزة فقط لأشعر بالنشاط بعدها وأخرج للقاء الأطفال للعب الطقيرة أو التصاوير أو البطش أو الكرة حسب الموسم في شارع الهوش المقابل للزقاق أو في شارع المحيشي مع أبناء بوعشرين (الداحومي) فرج وحسين وجمال ومعتز وكثيرا ما نتسابق بإفراغ إطارات السيارات المركونة أمام مكتب المحامي محمد شمبش لينقدنا مبلغ عشر قروش على كل سيارة أو في الجلوس على ناصية أحد الشوارع الثلاثة وأفضلها دكة مقهى بوبكر العمامي عند زاوية السوق والتي يضع عليها فرشة عجمية طويلة على مقاس الدكة تماما والتأمل في الغادين والرائحين طوال اليوم من جميع الجنسيات ذكورا وإناثا وفي أحيان كثيرة عائلات بأكملها شقرأ وبيضاء وحمرأ تتجول بلباس يبين من أجسادهم أكثر مما يخفي وهم يأكلون السندوتشات والفاكهة ويشربون المياه والعصائر وهم يمشون دون توقف مندهشون مما يرونه في السوق من وفرة البضائع وجودتها ورخصها ونحن نتندر على لباسهم وقلة ذوقهم في الأكل على الملأ إلا أننا نعتبر ما يقومون به مقبولا لأن ثقافتهم تعتبره مقبولا ، ومن الغريب أن نكون في ذلك الزمن على مستوى من الوعي لا يبلغه الكثير من خريجي الجامعات في عصرنا ، منها حديث على دكة المقهى بوجود قانون يحدد عدد السيارات التي يمكن إستيرادها في السنة وذلك حسب سعة وقدرة الطرق والشوارع (بطبيعة الحال كنا نتحدث عن السيارات الجديدة ولم يخطر في بالنا إطلاقا أن ليبيا ستكون أكبر مستورد للسيارات المستعملة في العالم) وأيضا أذكر بأنني كنت أدافع بإستماتة عن حقيقة نزول الإنسان على القمر وبأنه ليس تمثيل أوفيلما أمريكيا كما يدعي الكثيرون من الكبار المتابعين للحدث على تلفزيون الرياني.
هذا كله كان قبل أن أبلغ سنة ثالثة إبتدائي التي في منتصفها ناداني جارنا المرح مصطفى أوحيدة طالبا مني أن اقرأ له صحيفة في تحدي لأحد الجيران الكبار الذي لم يستطع قرأتها فكان إكتشاف جديد بالنسبة لي بأنني أستطيع القرأة فبدأت بقرأة مجلات الأطفال المصورة الموجودة لدى أشقائي وطلبت من شقيقي أحمد أن يصحبني معه إلى المكتبة العامة فوعدني بعد أن أكمل السنة إلا أنه لم يفعل فذهبت منفردا وبدأت رحلتي مع مكتبة بنغازي العامة والمركز الثقافي المصري والتي كان في كل منهما قسم خاص بالأطفال ، ففي مكتبة بنغازي العامة كان في مدخلها وقسم الكبار كان معتما ومهيبا بداخلها لم أجرؤ على الدخول إليه إلا بعدما أكتفيت من مكتبة الأطفال وشعرت بأنني لم أعد أستمتع بما فيها من مجلات وكتب ، ويشاء الله أن يكون أول عمل لي في هذه المكتبة عام 1977 ضمن برنامج تشغيل الطلبة في الصيف لأكتشف كرت إشتراك القذافي و محمد الطيب بن سعود (بالصور الشخصية) خلف بعضهما حسب تسلسل الاسماء ، أما المركز الثقافي المصري فكان قسم الأطفال في الدور الأرضي وكان يركز على مجلدات سمير وميكي التي لم أستطع هضم وإستيعاب هذا التركيز عليهما حتى في هذه السن الصغيرة ولكن كانت هناك سينما تعرض الأفلام المصرية بالمجان أعتقد في مساءات يوم الأثنين كنت حريصا على متابعتها والمفارقة أن يكون هذا المركز الذي ساهم في النكبة الليبية منذ أحداث شهر يناير 1964 بقيامه بتوزيع صور عبد الناصر على المتظاهرين والذين رفعوها بدلا من صور الملك مما أدى الى حنق وغضب قوات البوليس التي رأت فيه إهانة للملك الذي يقدسونه فأطلقوا الرصاص وكان ما كان من أستشهاد البيجو وبن حريز والنقاز والتي أستغلها القذافي طوال فترة حكمه البغيض في التدليل على بطش النظام الملكي وأيضا كان وكرا للدسائس ضد النظام الملكي وكان يتردد عليه القذافي بانتظام كما شهد على ذلك السفير د. رفعت الانصاري في كتابه (حكايتي في تل أبيب) وعلى الرغم من ذلك فقد كان هذا المركز الثقافي أول من أستهدفه القذافي بعد أن ساءت علاقته مع النظام المصري في عهد السادات فأقفله.
وهناك ظاهرة تعليق أعلام الإستقلال يوم الجمعة أمام المحلات في السوق التي تغلق جميعها في فترة ما بعد الظهر ليتوجه أصحابها في المساء للترفيه عن أنفسهم في حضور مباريات كرة القدم وكثير منهم يلبسون الجرد مثل الوالد أو التحلق جماعات للإستماع اليها عن طريق الراديو أو دخول السينما بجرودهم أيضا أو التنزه أو حضور عقد القران الذي من العادة أن لا يتم إلا في يوم الجمعة أو غير ذلك من مناسبات ، هذه الظواهر الجميلة التي أختفت تدريجيا بعد الإنقلاب المشئوم.
وهناك شخصيات كانت ترد الى السوق من بعيد منهم أوهيبة من المرج الذي يقوم بحركات بهلوانية بالدراجة غاية في الروعة وكان يستمتع بدفع أنبوبة الغاز بالجري فوقها أو (واشرحلاها) أو (بكراعه عصبانة) أو (كوشي يا ليبيا) أو خلقهن الذي التقيت به أثناء عمله في جمارك رأس لانوف إلى آخر هذه الشخصيات الطريفة.
ومما تجدر الإشارة إليه بأن الكثير من أصحاب المحلات كانوا عصاميين حتى النخاع فقد كنت شاهدا على شباب من مختلف المدن والغالبية من غرب البلاد الذين بدأوا بفرش قطعة من النايلو في زاوية من زوايا السوق يعرضون عليها بضاعتهم ثم تحولوا إلى كروسة ثم إلى محلات ، بالإضافة إلى أن معظم المحلات يقوم بإدارتها أصحابها بالإستعانة بأبنائهم ولا يقومون بتشغيل أي عمالة بل أن الكثير ممن يسكن في الأزقة والشوارع المتفرعة من السوق تكون العائلة بالكامل في خدمة المحل بما فيها من نساء وأطفال تكون مهمتهم ترتيب البضاعة في المخزن الذي كان في العادة في البيت سواء في السقيفة أو في غيرها أما الذكور فكانوا يتبادلون الأدوار في البيع فمحل السنوسي بالة مثلا كان فيه أبناؤه فتحي وعلي وتوفيق وعز الدين و محل حبيب الكوافي فيه ابناؤه عبدالله وعبد الباسط وصلاح وجمال وكمال ومحمود أما البعض الآخر فقد يستعينون بالعمالة الليبية وليست الأجنبية ويكونون في الغالب من اليتامى والمعوزين الذين يتم تشغيلهم في أحيان كثيرة دون الحاجة إليهم ولكن تعاطفا معهم وكتبرير لمنحهم بعض النقود اللازمة لحفظ كرامتهم .
وفي الذكرى الأولى للثورة تم نصب قوس النصر في وسط ميدان البلدية وهو عبارة عن قوس من الحديد في أعلى منتصفه وُضع صقر قريش وتحته كتب الشعار الجديد (حرية ، إشتراكية ، وحدة) وعلى الجانبين علم الجمهورية العربية الليبية فأتى أحد الشباب الكبار وبال على الجانب الأيسر منه في إتجاه شارع عمر المختار فلاحظ ذلك أحد المتحمسين للثورة فنهره وشد إنتباه الجمهور فصرخ فيهم هذا الشاب ببعض الكلمات التي تهاجم الثورة وقياداتها وأعتقدت لأول وهلة بأنه سكران إلا أن شكله العام لم يدل على ذلك بالإضافة الى أن التوقيت كان ضحى وكان سريعا في الهرب ممن كانوا على وشك ضربه والقبض عليه وأتذكر بأنه كان ناصع البياض يلبس سروال وجاكة جينز وأدركت بأن هناك من يعارض هذه الثورة التي لا يجرؤ أحد على معارضتها حتى داخل البيوت.
وفي نهاية نفس الشهر (09/1970) خرجت من البيت باكرا والجميع نيام وكان المحل الوحيد المفتوح في السوق هو محل النيهوم الذي وجدت فيه الحاج والد حافظ النيهوم يستمع إلى الإذاعة المصرية في صمت وحزن وهي تعلن عن وفاة عبد الناصر فلم أعر الأمر انتباها كثيرا ورجعت للجلوس على ناصية الزقاق إلا أنني تذكرت بأن حادثة وفاة زعيم مثل عبد الناصر لا بد وأن تكون مهمة للوالد فدخلت إلى البيت لإبلاغه فوجدت الوالدة جالسة أمام الراديو وهي تنتحب بشدة فحمدت الله بأنني لم أكن السبب في حزنها الشديد بإبلاغها وأدركت بأن الوالد هو الذي أبلغها الذي لم يتأخر كثيرا فسافر الى القاهرة للمشاركة في جنازة عبد الناصر وكانت هذه رحلته الوحيدة إليها في كل حياته إلى أن توفي في عام 2016 وكل الرحلة تمت بالبر وأستغرقت 3 أيام ذهاب وعودة أي أنه لم يرى شيئا في مصر غير الجنازة التي كان في مؤخرتها والتي شارك فيها حوالي مليون إنسان.
وفي أحد الأيام تم تغيير لافتة (بنك روما) المجاور لنا في السوق بلافتة (مصرف الأمة)
وتابعنا مساجلات الصادق النيهوم مع أعضاء مجلس قيادة الثورة في الإتحاد الإشتراكي وندوة الفكر الثوري وأعتبرناه المعبر الحقيقي عن آراء وتطلعات الشعب الليبي إلى أن تم تعيينه في الاتحاد الاشتراكي فتعجبنا لقبوله بهذه الوظيفة التي لطخته إلى آخر حياته.
وبداء الأجانب في مغادرة بنغازي ومنهم عائلة مالطية كنا نعتبرهم (أعيال بلاد) كانوا يسكنون في شارع طرابلس في زاوية شارع فياتورينو كان أبنائهم الصغار: جيجي و ماريو وفريدي أصدقاء لنا بالإضافة الى الأخ الكبير لهم والذي كان يسكن في شقة منفصلا عنهم عند زاوية نفس الشارع مع شارع العقيب ويدعى (بينو)
وأذكر أن أول سلعة تختفي من الأسواق كانت مكرونة السباجيتي وكان الوالد يشتري تموين البيت من محل بن أحسونة الذي كان يبيع بالجملة ويقع في سوق الجريد أمام شارع العنيزات مباشرة وفي إحدى المرات أصطحبني لمساعدته في حمل التموين وجدنا الحاج/ أحميدة يونس يتبضع منه وكان مسئولا على تموين الجيش فسأله الوالد عن سبب إختفاء السباجيتي من الأسواق فقال له: "شلنا مكرونة قراجيط للتشاديين ردوها علينا وقالولنا نبو سباجيتي"
وأنقلب شعار الوحدة الى بغض وكره الناس للوحدة وخاصة مع مصر الشقيقة.
وسرت شائعات بأن القذافي كان يتجول متنكرا في السوق وقد سمعه بعض التجار مرة يقول: "كل واحد فاتح مصيدته ومقعمز قدامها" فأوجسوا خيفة وللأسف فقد صدق حدسهم عندما بدأ في التضييق عليهم بمختلف الوسائل بداية برفع شعار (شركاء لا أجراء) وإنشاء الشركة العامة للأسواق في عام 1979 وكانت أشدها تأثيرا تغيير العملة في نفس العام وإجبار جميع المواطنين على فتح حسابات في المصارف لإيداع أموالهم ومنحهم ثلاثة أيام فقط لتغييرها وتحديد الحد الأقصى بمبلغ 19 ألف دينار يتم صرف مبلغ ألف دينار منها نقدا والباقي يتم إيداعه في الحساب وتتم مصادرة كل المبلغ اذا ما كان المواطن يمتلك ما يتجاوزه وكان الكثير يتسآل عن معنى تحديد هذا الرقم ولا أجد تفسيرا له إلا نظرية رشاد خليفة الشهيرة حول معجزة الرقم 19 في القرآن الكريم والتي نشرتها مجلة العلم والايمان في النصف الثاني من السبعينات والتي تصدر في تونس وتمولها ليبيا والغريب في الأمر أنني أكتشفت بأن الكثير من العائلات الليبية لايملكون أية مدخرات لتغييرها وخاصة مبلغ الألف دينار على كل كتيب عائلة فيتبرعون بكتيباتهم لتجار السوق الذين يتلقفونها بكل سعادة وأستمرت معاناتهم إلى أن تم تسديد الضربة القاضية لهم ولإقتصاد البلاد بتحريم التجارة تماما في نهاية عام 1981 وبتهديم سوق الظلام عام 1985 والذي يشاء الله أن أحضره بالصدفة فقد بدأت العمل في رأس لانوف بتاريخ 01/01/1985 والتي هربت إليها من المآسي اليومية التي كنت أشاهدها في بنغازي لأنزل في إجازة حقلية في ذلك اليوم المشئوم مع زميلي سعيد العبار ونذهب اليه لنتفاجأ بوجود الكاشيك العملاق في شارع سيدي سالم وهو مادا ذراعه الهمجي نحو سقف السوق وبعض التجار يقومون بإخلأ محلاتهم من البضاعة ومنهم صديقي المرحوم ناصر شمسة الذي أومأ الي وهو على ظهر الكانتر التي يضع فيها بضاعته قائلا: "الله غالب"
يتبع/ ...
بنغازي / الجمعة 09/09/2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار


.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟




.. يديعوت أحرونوت: إسرائيل ناشدت رئيس الكونغرس وأعضاء بالشيوخ ا


.. آثار قصف الاحتلال على بلدة عيتا الشعب جنوب لبنان




.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض