الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 1

علي دريوسي

2022 / 9 / 9
الادب والفن


صعد إلى إحدى عربات القطار المسافر من محطة القطارات الرئيسية في مدينة آخن إلى مدينة دورتموند في مقاطعة "نورد راين فيستفالن" في ألمانيا. حركة الناس في المساء بطيئة، العربة فارغة إلا من بضعة مسافرين جلسوا متفرقين وقد أمسك أغلبهم في يده كتاباً. كان يومه متعباً أمضاه بالقراءة الجافة. للقراءة أنواعها ونماذجها وسرعاتها، منها تلك القاسية البطيئة المُضنية ومنها تلك المرنة السريعة الخفيفة، منها التحليلية الإبداعية ومنها الترفيهية الانتقائية.

بحثَ بعينيه الذكيتين عن تقاسيمَ وجوه فيها من المرونةِ والطيبة ما يكفي كي يتشجع مسافر على محادثة أصحابها، وهو الذي يعلمُ تماماً عدم رغبة الناس هنا بالحديث إليه أو إلى غيره من الغرباء أو أهل البلد الأصليين بعد يوم عملٍ مضنٍ، لمح امرأة جالسة في مقعدٍ مزدوجٍ، مشى باتجاهها، اقتربَ منها وجلس قبالتها.

نظر صوبها خلسةً، لم تعره انتباهاً، احتار بأمره، أصدر ضجيجاً مفتعلاً علّه يلفت انتباهها، لم تحرك ساكناً، نهض، وضع حقيبته على الرف المعدني فوق المقعد، لفّ رجلاً على رجلٍ وراح يتأمّلها، كانت ترتدي فستاناً أسود أنيقاً يغطي جسدها المكتنز من أعلاه إلى أسفله، يغطي كتفيها وذراعيها وركبتيها، ربطت شعرها الطويل الكثيف، ارتدت نظّارة بإطارٍ سميك أحمرَ اللّون وانغمست بقراءة كتاب.

على المقعد قربها ثمّة كيسٌ زهري اللّون أنيقٌ التصميم، وحقيبة يدوية مملوءة بأشياءٍ لا يعرف كنهها سواها، أنفها جميل، شفتاها عذبتان، من خلف نظارتها استطاع أن يلمح لون عينيها الأخضرَ الزيتوني، نهض من جديد، أنزل حقيبته اليدوية، وضعها جانبه، فتحها، أخرج كتاباً، تنحنح، لم تعره انتباهاً، فتح الكتاب وشرع بالقراءة.

نظرت إليه بعد برهة، سألته: عمّ تقرأ؟
ابتسم منتصراً وأجابها بفوقيةٍ: كتاب علمي اختصاصي، وأنت ماذا تقرئين؟
ـ قصصاً خفيفة عن الحب والنساء والعذاب والعزاء.
استراح كتابها في حضنها، رفعت نظارتها، وضعتها فوق شعرها الخرنوبي، بانت عيناها الواسعتان، أعجبته، دفش كتابه جانباً، دنا بجسده منها، لم يجد ما يسألها إلا: ما اسمك؟
ـ سابينه، وأنت هل لك اسم؟
ـ إبراهيم. وأردف بحشريةٍ: ومن تكونين؟
ـ صاحبة شركة مهمة للترجمة والعلاقات العامة.
مدّت أصابعها إلى حقيبتها وأخرجت بطاقة تعريفٍ بشخصها، قدّمتها له.
قرأ اسم الشركة واسمها، هزّ رأسه سعيداً وسألها متذاكياً: ولماذا تسافرين بالقطار في هذا الوقت المتأخر نسبياً؟
ـ كي أقرأ وأصادفك! وأنت؟ من أين أنت؟
- أنا من من المشرق العربي.
- شكراً لهذه المعلومة القيّمة. ما هو اسم بلدك؟ مدينتك؟
- أنا من سوريا، من مدينة مصياف، هل تسمعين بها؟
- سافرت إلى سوريا مع أخي وأصدقاء لنا في رحلة سياحية قبل سنوات.
- ما الذي زرته هناك؟
- زرت كل القلاع الأثرية التي تهمني: قلعة مصياف وقلعة أبو قبيس وقلعة المضيق وقلعة الرصافة وقلعة شيزر وقلعة العليقة وقلعة القدموس وقلعة الكهف وقلعة الخوابي.
- للأسف لم يتسنَّ لي خلال حياتي في سوريا أن أزور كل هذه المواقع دفعة واحدة، لكني ـ على الأقل ـ أعرف ما هو القاسم المشترك بينها.
ـ ماذا تعني بالقاسم المشترك؟
ـ لا شيء يستحق الذكر.
- ماذا تفعل في هذه الدنيا؟
- أعيش في آخن وأعمل في الجامعة.
- في الجامعة!؟ أين بالضبط؟
- في شارع بونت، معهد تصميم الآلات، البناء رقم 49.
- بالقرب من مؤسستي! إِذَنْ نحن جيران، بوسعك زيارتي في أقرب فرصة والتعرُّف على الشركة.
- شكراً للعرض، سأكون سعيداً باللقاء معك.
- لا داعي للشكر، قد نحتاج إلى خدماتك باللغة العربية.

كاد القطار يقترب من محطة "منشنغلادباخ".
نهضت من قعدتها، سحرته تفاصيل جسدها، قامتها، رائحتها، كان رأسه في تلك اللحظة موازياً لبطنها تماماً.
نظرت إليه مؤنبةً وقالت: تعرّفنا إلى بعض بما فيه الكفاية والآن أتمنى ألا تنظر إليّ حين أنزل من القطار وألا تلاحقني بعينيك، فهناك من ينتظرني. هل تفهم ما أعني؟
استغربَ إبراهيم رجاءها، احترم رغبتها صاغراً مدّعياً التّحضّر، خشيةَ خسارتها لا أكثر، ودّعته المرأة وطارت، بينما ظل هو صامتاً حالماً بوهج زيارتها في مقر الشركة.
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع