الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما وراء الأفق... تأملات في مجموعة (وراءَ هذا الغموض تتكورُ قناديلي راعشةً) للشاعرة رحمة عناب./ بقلم : د. كريم عبد الحسين الربيعيّ

رحمة عناب

2022 / 9 / 11
الادب والفن


تلفت هذه المجموعة الشعرية القارئ الى ملاحظتين واضحتين، وهما:
إن الأديب المنتج لها أنثى، ويمكنك بسهولة أن تتعرف الى ذلك من اللغة الأدبية الشفافة التي كتبت بها فضلا عن القرائن اللغوية التي تدلك على ذلك.
وثاني الملاحظتين أنك من خلال لغتها يمكن أن تجزم أن الأديبة هي من بلاد اغتصبت وجثم على صدرها المجرمون الذين عاثوا في أرضها (أي أرض الأديبة) فسادا، وما ذلك الا بسبب (الالتزام) الذي اختطته لنفسها منهجا، فالاديبة ملتزمة بقضايا مجتمعها في أعلى درجات الالتزام؛ إذ إن ألفاظها أفصحت عن ذلك، فتجد الألفاظ التي شاعت في ظل القضية الفلسطينية، والتي طغت على الاستعمال الاعلامي والادبي والسياسي وفي كل المحافل الاخرى بادية واضحة، ولكن للابداع دخلا في توظيفها، فهنا الأديبة أخذت هذه الألفاظ التي كانت مطروحة في الطريق كما قال الجاحظ قديما، ووظفتها توظيفا شعريا رائعا وأفصحت من خلالها عن هويتها وعن قضايا مجتمعها، فلن يعجزك التعرف الى ذلك لوضوحه وبيانه عن هذا المعنى.
فالاديبة من خلال التزامها لم تشارك هموم شعبها ومجتمعها فحسب، بل هي كانت تحمل همَّ الوطن على طول خريطته دون استثناء بقعة واحدة منها، فنثرت ألفاظها هنا وهناك فكان الوطن الجريح المستباح في كل تجلياته حاضرا بين عيني الأديبة، فانظر الى تلك الألفاظ التي شاعت في هذه المجموعة ولك مثالا منها وهي كلمة (التشريد) التي ترد في قولها: (أمَّة تسلقت سلالم التشريد) وانظر الى جمال تعبيرها، وكيف وظفت تلك المفردة، وكأن تلك الأمة صارت – على خلاف الاخرين – تسير في طريق الضياع بعد أن ضاع وطنها، وليس لها غير التشريد نهاية وغاية، وألفت نظر القارئ الى أن استعمال لفظة التشريد فيها من الدقة التي تصف حال ذلك الوطن، فليس هو (نزوح)؛ لأن النزوح بعده عودة، والتشريد لا عودة بعده، حتى صارت (العودة) عند الانسان العربي المشرد حلما، تقول رحمة عناب: (خمسونَ خريفاً وقيظُ أنين العودةِ يقضُّ عروشَ الحُلمِ). والتشريد ليس له وطن إلا المنافي، ولهذا تقول: (أنوثة حديقة يشربها الصقيع يدلّل قلقاً يستظلّ شرفات المنافي بمواسمه الشاتية).
ومن ألفاظها التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالتشريد (اللجوء) و(اللاجئ)؛ إذ تقول: (تفيضُ أَنهارُ الكرامةِ، تستحيلُ أمواجاً عاتية تَلتَهِمُ سفينةَ اللّجوء، لاجئٌ في خيمةٍ يقتاتُه بردٌ يتقاسمُه آخرَ قطرة دفءٍ) واللجوء ليس وراءه استقرار، بل هو بحث دائم عن وطن، وتستنزفه (الخيام) التي يفقد معها الانسان كرامته، وينسى بها طعوم الحياة الجميلة، ومن ألفاظها (الانتفاضة) التي تجيش كالمرجل في نفس ذلك الشعب المشرد، تقول: (وثكلى صدحت بأوتار الخوف تبحث عن طفولة هاربة تلتقطها يد دثّرها زغب الانتفاضة لتحتمي بفكّ الفراغ)، والانتفاضة تنتهي بالشهادة إذ تقول: (فاكهة السوق ترمق سيل رعب مَنْ فرّوا تنزّ مسكاً ينذر بالشهادة) الشهادة التي خلفتها (المذبحة) فتقول: (وركام المباني يؤنس أشلاء الليل يؤرّخ المذبحة)، وحتى الصور التي توظفها أو تقترضها تقصدها قصدا، فصورة العذراء التي ألجأها المخاض الى جذع النخلة لم تغب عن بال الشاعرة، فتقول: (شفتاك حبتا رطب جنيتان كلّما هززت جذع الأمنيات تساقط في حضن أحلامي جنين سومريّ ينبجس معجزة) فكأنها تومئ الى موطن الحدث وهو وطن المشردين.
وصورت ذلك المغتصب بأجمل الصور من حيث اللغة الشعرية، وأقبح الصور من حيث ما يناسب واقع ذلك المغتصب، فكيف عبرت عنه وصورته؟ فقد وصفته بـ(السلاحف) إذ تقول: (عندما اشتهت سلاحف هتلر الزحف إلى غزّة كانت قد عبّدت مسالكها بطاغوت الكراهية) وما ينطوي عليه ذلك الوصف من احتقار له، وفي موضع آخر تصف ذلك المغتصب بـ(الجراد) الذي حصد سنابل الوطن أي خيراته فكيف يمكنك أن تتصور أن الجراد لم يُبق شيئا، فهو من عادته أنه يجرد كل ما على الارض، فيحيلها الى خراب وهو كذلك، بل هو لم يحصد تلك السنابل فحسب بل حصد من زرعها ومن هي تعود اليه، تقول: (يبكي خضرة َسنابل وطنٍ حصدَه جرادٌ أرْعَن....).
وحاولت الأديبة أن توظف في موضع آخر أسطورة أو رمزا من أسطورة فكانت موفقة في اختيارها وفي توظيفها، فتقول:

(الشموخ يتلوّى بسمّ الهزيمة يتأمل الأجساد العارية مِنْ خلف بوابات خضراء يتغشّاها الموت جباهُ نور تدنو وكارتا فيلوس تقرعه اللعنة يبعثر طلقات شعواء على حصون السلام)، و(كارتا فيلوس) هو حارس يهودي لعن على لسان المسيح و يمثل الاثم الاكبر الذي ارتكبه اليهود في الاسطورة اليهودية، ومازال هذا اليهودي يرتكب الآثام ففي كل يوم يقتل طفلا، ويهدم بيتا، ويحرق سنبلة لما يحن حصادها...
وهناك الكثير الذي ذكر في هذه المجموعة الشعرية للشاعرة رحمة عناب تستحق وقفة ودراسة تأملية، لا تتناسب مع هذه العجالة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا