الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في المجموعة القصصية شواطئ الغربة

فاطمة عبدالله سلامة

2022 / 9 / 12
الادب والفن


قراءة في المجموعة القصصية شواطئ الغربة للكاتب الليبي خالد خميس السحاتي.
خالد السحاتي كاتب و باحث و قاص ليبي يكتب المقالة الأدبية والثقافية والسياسية والقصة القصيرة والأقصوصة، وهو عضو في هيئة التدريس بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بنغازي/ليبيا.
تحتوي هذه المجموعة من حيث العدد على ستة نصوص من نوع الأقصوصة، وسبعة وعشرين نصا من نوع القصة القصيرة جدا .
والعنوان (شواطئ الغربة) هو الخيط الذي يجمع هذه النصوص بفكرة واحدة، ففي بحور الحياة تتلاطم القصص وتمخر العباب وتمضي نحو الشواطيء فترسو في النهاية على شواطئ الغربة و تعدد أوجهها ودلالاتها فهي الضياع والخراب والخوف والموت والوحدة، تيمة واحدة تدور في كل الاتجاهات كالإعصار يجمع في دورانه السريع كل ما يصادفه من هذيان وتيه و غربة وألم واختناق وموت وكل مكونات الدوامة النفسية وما يتداخل فيها وعالمها المليء بالعزلة والوهم، تتعمق تلك الدلالات بالتكرار ، تكرار اللفظ وتكرار المعاني وتكرار المقاطع، فإذا سقطت نصوص هذه المجموعة وتكسرت شظايا وقمنا نلملم ما سقط وتهشم لنصنع حكاية أو حكايات أخرى فلن يصعب الأمر علينا وسنعيد بناء القص الدرامي بسهولة ولربما نوجد نصوصا أخرى ترسو على شواطئ الغربة.
شواطئ الغربة عدا عن أنه اسم هذه المجموعة القصصية فهو عنوان أحد نصوصها الداخلية.
بتقنية المشهد ، يذكرنا الراوي بالمقطع السينمائي ، ينتقل من غرفة الضيوف حيث تجلس شخصية القصة الرئيسية إلى الغرفة المجاورة حيت الزوجة وطفليه يتناولون طعام الغداء .
انتقال من وحدة إلى أخرى ضمن المشهد الواحد بين المرئي و المسموع فالفوضى تعم المكان حيث يجلس و صوت الزوجة تناديه ليتناول طعامه ، لا يجيب .
بين الواقع و ألمانيا ( تأبط ذراع الوهم المرتعش و علق في دائرة مغلقة لا مخرج منها، بدا وحيدا ككائن تائه في كواكب النسيان ) .
لغة السرد موحية غنية بالدلالات تقدم تعويضا عن أحداث أخرى كثيرة .
ومن القراءة الداخلية للنص يتولد لدينا أن بطل القصة كان شخصا مرموقا يلتف حوله الأصحاب و الأهل و الأصدقاء و في لمحة من التحليل النفسي لاختيار صاحب القصة قلما باللون القرمزي نجد أنه محب و صاحب عاطفة قوية ، يحب الحياة و يتحمس للاستمتاع بها و هؤلاء الأشخاص بسبب طبيعتهم العاطفية غالبا ما يأخذون الأمور على محمل الجد فيصعب عليهم تقبل حقيقة الأمور إذا ما تغيرت حولهم، فربما كان هذا الشخص صاحب منصب أو مال و تجمع حوله أصحاب المصالح ثم انفضوا من حوله و تفرقوا عند أول محطة توقف فيها قطار الزمن فقد انتهت مصالحهم عنده (ذهبت وعود الأصدقاء وأصواتهم ومكانتهم وأمنياتهم أدراج الرياح و لم يعد أحد يسأل عن أحد) .
ربما تبدلت أحواله بسبب وضع عام يسود بلده الأمر الذي اضطره للهجرة ، تشتت الأهل و الرفاق .
غارقا في ذكرياته و ما آل إليه حاله و في مشهد آخر تقطع عليه زوجته شروده بزوبعة تثيرها احتجاجا على الفوضى والأوراق المبعثرة .
حين تهدأ زوبعتها تجلس بجانبه نادمة تقول له في هدوء : كفاك طرقا لأبواب الماضي! يمزق أوراقه ، يشتت شملها (يستخدم الكاتب مفردات تدل على الفراق والغربة ويسقطها حتى على الجماد)، يكسر قلمه القرمزي ويخرج بحثا عن جزيرة نائية يرسو مركبه المحطم عليها، يتذكر طفليه وحبه لهما يبتسم بألم (ويغادر إلى هناك حيث لا تعبث أمواج التشظي بقوارب الكادحين) .
بخاتمة مفتوحة ينهي الكاتب قصته فهل انتحر أم عاد إلى طفليه؟ .
إنها الغربة وعدم تقبل التغيير فشعور الغربة هو أن تعرف و تبصر الحقيقة وترفضه ويكون لديك الوعي بالزمن و تتوجه نحو الماضي .
الحاضر غريب
نلاحظ أن زمن القصة محدد بوقت طعام الغداء وبالرغم من ذلك تلقي القصة حزمة ضوئية أسطع على زمن مضى.
القصة الافتتاحية (خربشات صبيانية) يلتقط الكاتب واقعا و بصوت الراوي العليم ومن خلال شخصية المعلمة يشيّد قصته بفنية حكائية وفضاء وحدث له حيز التكثيف والإيجاز واللقطة المنتقاة .
معلمة فصل لأطفال صغار في إحدى المدارس ، تنشغل طوال الوقت بحقيبتها الرمادية و مساحيق تجميلها والنظر في مرآتها متغافلة عن أداء واجبها ، بل و تزعجها فوضى الأطفال و عدم انضباطهم فتضرب بالعصا الطاولة لتثير الرعب في نفوسهم و تشغلهم بتسميع ما يحفظون من جداول الضرب دون متابعة منها .
تتسلل ، تتركهم إلى معلمات أخريات يجرين حوارات عديدة، دون أن يدركن أنهن يقمن بخيانة الأمانة.
حقيبة المعلمة الرمادية المليئة بشتى ألوان مساحيق التجميل تكون مثار فضول الأطفال فيأخذون زينتها ويلونون وجوههم وجدران فصلهم، ويكسرون النافذة، يهرع المدير بعد سماع تهشم الزجاج فيقع المدير الغير متوقع حضوره على وجهه في فخ نصبه التلاميذ للمعلمة حيث تتعثر قدماه بحبل مربوط أسفل الباب،

تنسحب المعلمة حاملة حقيبتها الرمادية إلى غير رجعة.
في سطور قليلة يخبرنا الكاتب أن التعليم مهمة خطيرة ملقاه على عاتق من يتصدون لها، يطرح الكاتب قضية مهمة حية لنبضات أوطاننا و جراحاته التي هي من صنع أيدي أبنائه حين لا يكونون على قدر كاف من تحمل المسؤولية و الالتزام و الإخلاص و التفاني في العمل بل و التخلي عن المثل و القيم والإيمان بعمق الواجب .
هذا هو جوهر غربة مجتمعاتنا في هذا العصر .
تتعدد الأصوات السردية عند الكاتب، فتكون بين الضمير الغائب (الراوي العليم) الذي يعرف كل شيء عن الأحداث وتطورها، وبين الضمير المتكلم وفي أحايين أقل ضمير المخاطب .
مزج في القصة الواحدة ضمائر متعددة.
وكلما كانت النصوص موغلة في الغربة ساد فيها الضمير المتكلم أو السارد الشخصية ليعمق التوتر وشعرية القص بإغراقه في الغنائية عبر الذاتي .. و هنا تتواتر الجمل الواصفة مهيمنة على النص ..فهو وصف أوسع من سرد الأحداث وتتبع التحولات كما في متاهات التشظي وفزع الكوابيس بالرغم من أنهما قصص قصيرة جدا .
(فزع الكوابيس ) عنوان ملتبس في حد ذاته وشرحه وتفسيره فبين جمال الغروب والجدة ومغزلها القديم وشرود الغزلان ورصيف الغربة، وصمت الأشواق وأحلام طفولة بائسة .. تجربة على مستوى نسج القص بالشعر حيث لا حدث فعليا ولكن يوجد صراع، صراع ينتج غربة و تيها وضياعا، فيتدفق الكلام على شكل صور نفسية مؤلمة فيها الكثير من الغنائية المأسوية بكتابة سردية في خراب يوازي خراب النفس البشرية.
(متاهات التشظي) عنوان من مفردتين ونصوص هذه المجموعة تتكون من مفردة واحدة أو مفردتين، وهذا النص ينطوي على ذاته، ويضغط على المتلقي لأجل تعميق التأمل وتتبع الحمولات و يضمر الحكاية إن وجدت.حيث هو أقرب إلى قصيدة نثرية بعنوانه و الجو العام لدلالاته .
(تجليات الأقدار) حيث بساطة اللغة بما يناسب الشخصية الساردة التي بالكاد يجيد كتابة اسمه ممهورا ببصمة إصبعه اذا أراد التوقيع، الغربة هنا ملحقة بالموت نفسه ، فبعد الدوران في كابوس العزلة والصمت والوحدة و الخوف و البرد و فقدان الدفء الإنساني يأتي الموت و الموت أيضا بطل الغربة في قصة (طيف) ففي غمرة انشغاله في أمور حياته اليومية يظهر له طيفها .
شخصيات القصص غير محددة الأسماء أو الهوية، شخصيات ذكورية وبعض الشخصيات النسائية كأم وزوجه أو حبيبة دون اسم و معلمة .
في قصة (لعنة الكلمات) يقدم الكاتب وصفا للشخصية ولا يعطيها اسما سوى ( كبير القبيلة ) حينا وحينا آخر الزعيم .
أنسن الكاتب الأشجار والنباتات والأشياء فجعل نبتة الزعتر في نص (ندم) تتكلم وتسأل شجرة الكرز وشجرة الكرز تجيب النبتة، وجعل للدبابة عيونا تحملق بها وللحقل جسدا وأطرافا و تتطاير أشلاؤه ممزقة بعد إصابته بالقذائف ،و ليس هذا فقط بل أن نبته الزعتر تعرف الحقيقة لاحقا وتشعر بالندم أي أنها تعي وتحس .
في نص ( زخات ) تتكلم الغيمة و ترد عليها النبتة العطشى بثقة وإيمان وتوكل .
الأحداث في المجموعة تقع في إطار الزمان والمكان اللذين يتواجدان في وعي الإنسان صانع الحدث حيث تمثل حركته ماهية الزمان والمكان، وتتنوع الأحداث حسب تنوع الزمان والمكان، في أغلب القصص القصيرة جدا الزمن النفسي هو المسيطر على أجواء القص، ويتسم بالانتظار حيث يبدو الزمن طويلا لا نهاية له، كما في نص (ضجيج الصمت) حيث يقول الكاتب: أمسك بتلابيب حارس الزمن الكسول، الزمن لا يحرس، فالزمن مر أو يمر والحارس ينبغي أن يكون كائنا ساهرا على شيء مادي والزمن ليس بمادة، وما يؤشر عليه الزمن ليس المستقبل ولا الحاضر إنما لحظة مرت وهذا الحارس كسول بطىء الحركة لا يسمح للزمن بالمغادرة ويريد أن يبقيه واقفا مكانه ، ينوء بحمله سنوات طويلة.
تتجلى إشكالية الزمن في النص التالي انتشاء، وفي هذا النص مستويان من الزمن الحاضر ( متسمر على مقعده الهزاز) والزمن الماضي قبل ثلاثين عاماً حيث الشباب والعمل والعطاء والحيوية وتمتد لتصل اللحظات المأساوية على مقعد هزاز يطالع ألبوم صور تكريمه في عيد المعلم بعيون متعبة فرقعة الزمن هنا كما أشار إليها الكاتب: بين لحظة فرح مختلسة و محطات الحزن الممتدة .
هنا يهيمن الماضي ويفرض نفوذه فيكون الحاضر مرفوضا و تتكون غربة الزمان والوحشة والعزلة وفراغ النفس وأمام هذا الفراغ تهيمن أيضا لغة شعرية غامضة حينا ومباشرة أحيانا.

يلتحق بالاتساع الزمني للمجموعة فضاء أيضا، فكل حدث أو تذكر أو فعل في الزمن يحدث في مكان ما، وهذا الفضاء في نصوص كثيرة عام غير محدد المكونات ولا صفات له يؤدي وظيفة عابرة فلا موقع محدد يحدد أي مكان فيه ولا وصفا داخليا ولا شي يطبعه بالواقعية، وهذا الفضاء العام المبهم يكرس عزلة الشخصيات و غربتها فهو فضاء عمل (غرفة الصف) فضاء إيواء (غرفة الضيوف) ، والمكتبة، والقرية، والشارع، والبحر والشاطىء والرصيف، والحديقة.
الصراع و جبروت الطغاة وما بين الشمس والظل منطقة وسطى محايدة لما يريده المرء فبين القبول بالظلم والقهر وبين التحرر في بلادنا العربية منطقة ضبابية مليئة بالفوضى والعدوان تحيلنا قصة (لعنة الكلمات) إلى الثورات العربية التي قامت بهدف التخلص من الأنظمة الغاشمة، و هي قصة واقعية بدأ الكاتب برسم الشخصية الطاغية من الخارج وطريقة حديثها وتصرفاتها وبواعث السيطرة والتسلط لديها ، وصاغ الواقع السارد في القبيلة وخارجها القائم على العدوان والتشريد والقتل، وارتكزت القصة على شرعية الأخذ بالثأر في المجتمعات القبلية حتى طال رأس السلطة، وفي تحول عجيب عمت الفوضى وعدم الاستقرار وانعدام الأمن، ذلك أن ما حدث جاء دون تخطيط فالرغبة الأكبر كانت التخلص من الطاغية.
بما تستطيع أن تحمله القصة القصيرة من أحداث وحبكة ورقعة زمنية وتقنية مرر الكاتب خطابه وما يراوده من أفكار سبقت الثورة الليبية بعامين بناء على إحساسه بالتحولات السياسية والاجتماعية وإيمانه بأن هذه النتيجة حتمية .. أية غربة أفظع من هذه الغربة تعيش القمع تحت سوط العذاب تخشى على نفسك وأهلك ومالك من كلمة صداها يجز الأعناق.
وصراع آخر في قصة أخرى تمثل نوع من أنواع الغربة وتضارب المبادئ في نسيج قصصي لحالة ترتفع فيها حدة الحاجة وتتحدى الأخلاق والقيم.فتأتي رنة الهاتف من داخل المحفظة على الكرسي تنقذ بطلنا من خاطر ألح عليه بعنف أن يمد يده ويسرق ما اعتقده محفظة مليئة بنقود تفك كربته وتفرج همومه، حقيقة ضعف الإنسان أمام المادة خاصة وإن كان له بها حاجة ملحة.
غربة تلو الغربة ، حيوات مضطربة يشوبها التوتر والعديد من الانفعالات والصيحات التي قد لا تسمع ولا ترى في خضم الأمواج الهادرة العنيفة فمن سيرى الدمعة ومن سيسمع الشهقة أو يلمح الحسرة وتتلقفه اللهفة في شواطئ الغربة ولكل غربته؟! تقول هذه المجموعة القصصية الكثير و أكثر مما تتسع له صفحاتي المتواضعة تلك .
وفي عودة إلى الصفحات الأولى للمجموعة نجد الكاتب يهدي هذا العمل إلى وطنه الحبيب ليبيا (أرض البطولات والأمجاد في الماضي والحاضر).
ثم في الصفحة التالية تقديم الأديب الليبي الكبير سالم علي العبار.. أديب وقاص ورئيس تحرير صحيفة (أخبار بنغازي). ثم يتحدث الكاتب خالد السحاتي في صفحة أخرى تحت عنوان على سبيل التقديم عن مجموعته القصصية ويتقدم بالشكر إلى الأديب سالم علي العبار والفنان التشكيلي د.معتوق أبو راوي الذي أهداه بعضا من أعماله التشكيلية الرائعة رافقت نصوص هذا العمل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد