الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غريب هو وجودنا على هذه الأرض

محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)

2022 / 9 / 13
الطب , والعلوم


البرت اينشتاين

ترجمة محمد يوسف

غريب هو وجودنا هنا على الأرض. يأتي كلٌّ منَّا في زيارة قصيرة، دون أن يدري لماذا، لكنه يبدو وكأنه يحدس غاية ما.

غير أن ثمة شيئًا واحدًا نعرفه فعلاً من وجهة نظر الحياة اليومية: الإنسان هنا من أجل غيره من البشر – وبخاصة من أجل أولئك الذين تتوقف سعادتُنا على ابتسامتهم وهنائهم، وكذلك من أجل النفوس المجهولة التي لا تحصى و التي نرتبط بمصيرها برباط من التعاطف. أدرك مرات عديدة كلَّ يوم إلى أيِّ حدٍّ حياتي الداخلية والخارجية مبنية على كدِّ نظرائي البشر، الأحياء منهم والأموات، وإلى أيِّ حدٍّ ينبغي أن أبذل قصارى جهدي بصدق لكي أعطي بالمقابل بمقدار ما أخذت. وغالبا ما تتكدر راحة بالي مرارًا بالإحساس المُغِمِّ بأني أخذت أكثر مما ينبغي من عمل بشر آخرين.

لا أعتقد بأننا نستطيع أن نتمتع مطلقًا بأية حرية بالمعنى الفلسفي؛ إذ إننا لا نعمل تحت الضغط الخارجي وحسب، بل وبالضرورة تحت الضغط الداخلي. لقد انطبعتُ في شبابي بعبارة شوبنهاور التي يقول فيها : "بمقدور الإنسان قطعًا أن يفعل ما يريد أن يفعله، لكنْ ليس في وسعه أن يحدد ما يريد" وتمنحني العزاء كلما واجهت صعوبات الحياة أو كابدتُ مشقاتها. وهذه القناعة تولد التسامح المستدام؛ إذ إنها لا تُجيز لنا أن نأخذ أنفسنا أو غيرنا على محمل الجدِّ أكثر مما ينبغي: إنها بالأحرى تؤدي إلى التحلِّي بحسِّ الفكاهة.

يبدو لي أن تفكُّرُ المرء بلا انقطاع في علَّة وجوده أو في معنى الحياة بعامة، من وجهة نظر موضوعية، هي ضرب من الحماقة المحضة. ومع ذلك يعتنق كلُّ واحد منا مُثُلاً معينة يسترشد بها في إلهامه وأحكامه. والمُثُل التي تبدَّتْ لي على الدوام وأترعتْني بفرح الحياة هي الخير والجمال والحق. أما اتخاذ الراحة أو السعادة هدفًا فلم يستهوِِيني قط؛ إذ أن القطيع من الماشية وحده يكتفي بمنظومة أخلاقية قائمة على هذا الأساس.

و لولا حسُّ التعاون مع كائنات تشبهني ذهنيًّا في السعي إلى ما لا سبيل إلى بلوغه أبدًا في الفنِّ والبحث العلمي لكانت حياتي خاوية. و منذ الطفولة ازدريتُ الحدود المطروقة التي كثيرًا ما تقف عائقا أمام الطموح البشري. فالممتلكات، والنجاح الخارجي، والشهرة، ورغد العيش – كانت تستحق بنظري الاحتقار دومًا. أعتقد أن طريقة حياة بسيطة ومتواضعة هي الأفضل للجميع و الأفضل لكل من الجسم والعقل.

لقد قادني اهتمامي الشَّغوف بالعدالة الاجتماعية والمسؤولية الاجتماعية دومًا إلى تبايُن عجيب مع قصور واضح في الرغبة بالاختلاط المباشر بالرجال والنساء. فأنا حصان مخصَّص للعمل المنفرد، ولا أصلح للعمل المترادف أو الجماعي. لم أشعر بحاجة قط من صميم قلبي للإنتماء لبلد أو لدولة أو لحلقة أصدقائي أو حتى لأسرتي نفسها. فهذه الروابط ترافقت دائمًا باستعلاء غامض، وطلبُ الانكفاء على نفسي يتنامى على مرِّ السنين.

إن مثل هذا الاعتزال مرير أحيانًا، لكنني لست نادمًا على انقطاعي عن تفهُّم غيري من البشر وعن تعاطفهم. لا ريب في أن ذلك يُفقِدُني شيئًا ما، لكنني أستعيض عنه باستقلالي عن أعراف الآخرين، وآرائهم، وأحكامهم المجحفة، ولا يشوقني أن أقيم راحة بالي على مثل هذه الأسُس الواهية.

مثالي السياسي الذي أؤمن به ويسكنني هو الديموقراطية. فكلُّ امرئ يجب أن يُحترَم كفرد، لكن بدون أن يُتَّخذ أحدٌ وثنًا. وإنه لمن سخريات القدر أنني غُمِرتُ بكلِّ هذا الإعجاب والتقدير اللذين لا داعي لهما ولا أستحقهما. ولعلَّ هذا التملُّق ينبع من رغبة الجمهور غير المحققة في فهم بضعة الأفكار التي طرحتُها بقدراتي الواهنة.

أعلم علم اليقين بأنه لكي يتمَّ بلوغ غاية معينة لا مندوحة أن يقوم شخص واحد بالتفكير والقيادة ويتحمل معظم المسؤولية. لكن المقادين ينبغي ألا يُساقوا مثل القطيع، بل ينبغي أن يُسمَح لهم باختيار قائدهم. ويبدو لي أن التمييزات الفاصلة بين الطبقات الاجتماعية تمييزات زائفة؛ فهي، في التحليل النهائي، تقوم على القوة. وأنا مقتنع بأن الفساد يلحق بكلِّ منظومة عنف استبدادية؛ إذ أن العنف يجذب الدونيين لا محالة. لقد برهن الزمن أن الطغاة المرموقين الكبار يَخْلِفُهم الأرذال.

لهذا السبب فقد عارضت بحدة دائمًا أنظمةً كالتي توجد في روسيا أو في إيطاليا اليوم. فالشيء الذي أساء إلى سمعة النماذج الأوروبية للديموقراطية ليست النظرية الأساسية للديموقراطية نفسها – التي يفترض بعضهم أنها الملومة – بل اختلال قيادتنا السياسية، بالإضافة إلى الخاصية اللاشخصية للتكتلات الحزبية.

أعتقد أن أولئك الذين يعيشون في الولايات المتحدة قد عثروا على الفكرة الصائبة. فالرئيس يُنتَخَبُ لمدة معقولة من الزمن ويخوَّل ما يكفي من الصلاحية لكي يستوفي مسؤولياته على النحو السليم. أما في نمط الحكم الألماني، من ناحية أخرى، فأحب رعاية الدولة الأوسع للفرد حين يمرض أو يكون عاطلاً عن العمل. فما هو قيِّم حقًّا في معمعة الحياة وليس الأمَّة، فيما أقول، بل الفردية الخلاقة والقابلة للتأثُّر، الشخصية – مَن ينتج النبيل والسامي، بينما يبقى عموم القطيع عليل الفكر كليل الهمة وعديم الشعور.

يقودني هذا الموضوع إلى نسل ذهنية القطيع الأخسِّ ذاك – الجيش الكريه. فالرجل الذي يستمتع بالسير في الطابور ويطرب للاصطفاف على ألحان الموسيقى ينحطُّ إلى ما دون ازدرائي؛ فقد نال دماغَه الجسيم عن طريق الخطأ – إذ إن الحبل الشوكي كان سَيَفي بالغرض وأكثر. هذه البطولة المطواعة، هذا العنف عديم المعنى، هذا التشدُّق اللعين بالوطنية – ما أشد احتقاري لها! الحرب منحطة وسافلة، وخير لي أن أقطَّع إربًا من أن أشترك في مثل هذه الفِعال.

يجب ان تمحى مثل هذه الوصمة في جبين الإنسانية بلا تريُّث . فأنا من حُسْنِ الظنِّ بالطبيعة الإنسانية بحيث أعتقد أنها كانت ستُبادُ منذ أمد بعيد لولا أن سليقة الأمم أُفسِدَتْ إفسادًا منظَّمًا عِبر المدرسة والصحافة لأغراض تجارية وسياسية.

أجمل شيء في وسعنا أن نختبره هو السر المبهم. إنه منبع كلِّ فنٍّ وعلم حقيقيين. فمَن يستغرب هذا الانفعال، مَن لم يعد يقدر أن يتوقف مندهشا ويقف منخطف الرَّوْع، أحرى به أن يموت :عيناه مغمضتان نحو الاستبصار لسرِّ الحياة، مع أنه يقترن بالخوف، فأنشأ الدين كذلك. إن معرفة أن ما يستعصي علينا موجود حقًّا، متجلِّيًا بوصفه الحكمة الأسمى والجمال الأبهر اللذين يمكن لمَلَكاتنا الكليلة أن تدركهما في أكثر صورهما بدائية وحسب – هذه المعرفة، هذا الشعور، هو من التديُّن الحقيقي مركزُه. بهذا المعنى – وبهذا المعنى فقط – أنتمي إلى صفوف البشر المتديِّنين القانتين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الغاية من وجود البشر
عبد الحميد عبدالمجيد ( 2022 / 9 / 14 - 06:12 )
انها نفس الغاية من وجود الاسماك و الضفادع و الاسود و الدببة و الخراف الخ
فاستمرار الاسماك في التكاثر و التغير المستمر و لو 1 بالمليار في كل مرة عن اسلافها ادى الى تكوين الضفادع بعد ملايين السنوات
و تكاثر و تغير الضفادع المستمر ادى الى تكوين الدببة و القردة الخ
و تكاثر و تغير هذه بدورها ادى الى تكوين البشر الحالي
اذا استمر الحال هكذا فان تكاثر و تغير البشر ايضا المستمر .. يمكن ان يؤدي الى تكون كائن اخر قد يشبه البشر او قد لا يشبه البشر لكن سيتمتع بامور اخرى غير الوعي
فكما ان الوعي الموجود في الضفادع اقل بكثير من الوعي الموجود في البشر
فالكائن الجديد الذي سيظهر بعد الاف او ملايين السنوات من الان .. لا بد و انه سيكون اكثر وعيا بكثير من البشر الحالي
او كما ان بعض اسماك القرش تستشعر التيارات الكهربائية الضعيفة من بعد كيلومترات .. و الانسان الحالي لا يشعر بمثل هذه التيارات الضعيفة
فان الكائن الجديد يمكن ان يحوز ببعض الامكانيات الجديدة و ليس الوعي وحده
و احترامي
..

اخر الافلام

.. الصحة العالمية: الجائحة التالية مسألة وقت.. وهناك تعديلات قا


.. إدمان الإنترنت.. يهدد الصحة الجسدية والعقلية




.. إلى أين يقودنا إدمان الإنترنت؟


.. نازحة في غزة تغني بصوت شجي وتجذب تفاعلا واسعا على منصات التو




.. ابتداءً من 5 يونيو | المملكة المتوحشة | ناشونال جيوغرافيك أب