الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 3

علي دريوسي

2022 / 9 / 14
الادب والفن


رجع إلى الغرفة وأقفل الباب، جلس قبالتها، رفعت ساقيها وأرختهما فوق فخذيه، مدّت يديها إلى حقيبتها، أخرجت منها علبة تبغٍ معدنية فاخرة بأناقتها وغليون تدخين أنثوي التصميم ماركة "غارغويل" وسألت:
ـ أتأذن لي أن أدخّن في غرفتك؟
ودون أن تنتظر إجابته استأنفت:
ـ الحياة قاسية، علينا أن نسترخي، الإنسان الطبيعي لا يعمل في المساء، بل يتمتع، الإنسان يكافئ نفسه في المساء على عملٍ قام به في النهار.
كان كمن فقد النطق والقدرة على قول كلماتٍ بلغةٍ أجنبية، كان حائراً، لم يفهم سؤالها، فهو يدخّن في الغرف منذ بزوغ الشعر تحت إبطه، ارتبك قائلاً:
ـ بالطبع تستطيعين، فأنا دخّنت في مكتبك أيضاً.
فتحت غطاء العلبة الفاره، كانت مؤلفة من حجرتين، في الحجرة الأولى تبغ، وفي الثانية كمية قليلة من مسحوق أبيض اللون، حشرت قليلاً من التبغ في تجويف الغليون وفوقه رشّت بقايا الشيء الأبيض، حرقته، استنشقته، أخذته، فتحت ساقيها أكثر، نظرت إليه، سألت بعينيها الدائختين:
ـ أترغب أن تجربه؟ إنه قرارك وحريتك، لا أنصحك به الليلة، لديك على الطاولة علبة سجائري، تستطيع أن تمد يدك وتأخذ منها ما ترغب، ليست ثقيلة.
تحرك الشرقي العنيد فيه، كبّر رأسه وقال:
ـ بل سأفعل مثلك، أتسمحين أن أجرّب غليونك؟
ـ تفضل، لا تسحب بشدة، خذ نَفَسَاً خفيفاً، هذا يكفي في المرة الأولى.
غضب الشرقي في رأسه، سحب الدخان بكل طاقته إلى جوفه وكأنّه يتحدّاها.
ابتسمت، نهضت، همست:
ـ لست سهلاً أيّها الشرقيّ الخبيث.
دفعته إلى السرير، انتفض الشيطان من جوفها، دخلت فيه، ليسقطا معاً في جنة الجسد.
شارفت الساعة على الرابعة صباحاً، نظر إليها بعينين هائمتين مخدّرتين راجيتين رائحة تبغها مجدَّداً، دفّأته بجسدها وهمست بأذنه:
ـ يكفي ما تناولتَه، انتهى ما كان في جعبتي لهذا اليوم من مخصصات.
فجأةً بَرد جسدُه، تسارعت نبضات قلبه، ارتعد من هذا الإحساس المفاجئ، ضمّها أكثر:
ـ دفئيني، لا تتركيني لوحدي، أحتاج هواءً ساخناً.
نهض متوتراً، فتح النافذة على مصراعيها، استنشق هواءً بارداً.
ـ كم أرغب بالصراخ في وجه القباحة، في وجه الدم والقتل والتشويه والفقر والتجويع والرعب والخوف والتهجير والقلق والترقب.
ـ والآن ما العمل؟
ـ لا أعرف، اسألي فلاديمير لينين. ألسنا نهوي بشكلٍ مستمر؟
ـ فريدريش نيتشه. ومن بعدنا الطوفان.
ـ مدام دي بومبادور. أتعلمين أنّ هذه المقولات الثلاث تُعتبر من أهم معالم ومميزات الدرب الأساسية التي يتسم بها هذا العصر الجديد الذي نعيشه عالمياً؟
مشت عاريةً باتجاه النافذة المفتوحة على سكن الطلاب وعنفوانهم، وضعت يديها على إفريز النافذة، نظرت للبعيد المعتم وهمهمت كمن يخاطب نفسه:
ـ صدق مارميلادوف، لم يعد هناك طريق آخر يقصده العشّاق إلا الانتحار.
ـ ما الذي تفكرُ به امرأة شابة تقفُ أمام نافذة بيضاء مفتوحة على مصراعيها في بناية طلابية عالية؟
ـ ربّما ستطير مثل فراشات غارسيا ماركيز الصفراء، ربّما ستحلِّق عالياً جداً جداً كإمرأة تنشر غسيل غارسيا على سطح بيت العائلة في يومٍ غائم.
ـ لعلّها تتكلم مع طالبٍ وسيمٍ على الرصيف المقابل من النافذة، شابٌ تعتريه الحيرة، يقفُ أمام الخمّارة الطلابية الليلية، ولا أحد يراهُ سواها.
ـ بل لعلّها ترغب أنْ تسمعَ روّاد الخمّارة أسفل النافذة يهمسون: ثمة امرأة مشطورة شطرين بالنافذة.
ـ كأني قرأت شيئاً مشابهاً، في إشارة لزواج الوعي من اللاوعي.
ـ قد يكون الفرنسي أندريه بريتون!
ـ لعلّ الواقفة خلف النافذة مجرد اِمرأة شرقيّة منشغلة بترتيب الطناجرِ والمَقَالي في مطبخها الصغير في قرية منسية وهي تغمغم: ما مّر عام وليس في الشرق جوع.
ـ لقد تأخر الوقت.
ـ على الانتحار أم على الرحيل؟
ـ على الاثنين معاً.
أخرجت علبةً زجاجية من حقيبتها، وضعت بضع قطرات منها على منديلٍ نظيف ومسحت به ما بين فخذيها.
طلبت تاكسي، قبّلته وغادرت.
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع