الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان جزيرة الحور

طلال حسن عبد الرحمن

2022 / 9 / 15
الادب والفن


رواية للفتيان





جزيرة الحور







طلال حسن



شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ ابانوغاك

2 ـ سِدنا

3 ـ بينيا













" 1 "
ــــــــــــــــــ
عاد الصياد ابانوغاك من الصيد ، كما يأتي في غالب الأحيان ، قبيل غروب الشمس ، فسحب قاربه المصنوع من جلد الكاريبو على رمال الشاطىء ، بعيداً بعض الشيء عن ماء البحر، واتجه إلى بيته القريب ، وقد حمل في سلته ما اصطاده من السمك .
ومن بعيد ، لمح ابنته الحورية الصغيرة بينيا ، تجلس عند باب البيت ، لكنها وعلى غير عادتها ، تطلعت نحوه صامتة ، ولم تجرِ إليه وقد غمرها الفرح ، وتحمل عنه سلة السمك ، الذي اصطاده من البحر .
أهي متعبة حوريته الصغيرة ، أم مريضة ، أم .. ؟ من يدري ، ربما دلال البنيات الحلوات ، وفي هذه الحالة ، فمن حق حلوته الحورية الصغيرة بينيا أن تتدلل ، فلمن يليق الدلال إن لم يكن لمثلها ، عينان زرقاوان ، وشعر ذهبي ، وبشرة في بياض الثلج .
واقترب ابانوغاك من حوريته الصغيرة ، حاملاً سلة السمك ، وتباطأ في سيره ، متظاهراً بالتعب الشديد ، وهو يقول : حوريتي الصغيرة ، ساعديني .
ولسبب لا يعرفه ، تقدمت منه بفتور ، وأخذت منه سلة السمك ، وحملتها بشيء من الصعوبة ، وسارت معه إلى داخل البيت ، ووضعتها جانباً ، ونظر ابانوغاك إليها ، وقال : حوريتي ..
وقاطعته الحورية الصغيرة ، دون أن تلتفت إليه وقالت : دعني أنظف السمك اليوم وحدي .
لم يرتح ابانوغاك لنبرة الحزن التي في صوتها ، واحتج قائلاً برفق : لا يا حوريتي ، أنتِ مازلتِ صغيرة ، على مثل هذا العمل .
وردت الحورية الصغيرة قائلة : كلا ، لم أعد صغيرة ، لقد تجاوزت الخامسة من عمري .
ومدّ ابانوغاك يده ، ومسد على شعرها الذهب ، وقال : اكبري يا حوريتي ، وسأترك تنظيف السمك لكِ ، وكذلك إعداده للطعام أيضاً .
ولاذت الحورية الصغيرة بالصمت ، فأخذ ابانوغاك السمك إلى الخارج ، ونظفه قرب شاطىء البحر ، ثم شوى بعضه على نار الموقد ، ووضعه على السفرة ، وهتف بالحورية الصغيرة : هيا يا حوريتي ، لابد أنكِ جائعة مثلي ، تعالي نأكل .
وجلست الحورية الصغيرة كالعادة قبالته ، لكنها على غير العادة ، لم تمد يدها إلى الطعام ، ودس ابانوغاك لقمة في فمه ، وقال متلذذاً : آه ما أطيب هذه الطعام ، مدي يدكِ الحلوة ، وتذوقيه .
وبدل أن تمدّ الحورية الصغيرة يدها ، وتتذوق الطعام ، رفعت عينيها الزرقاوين الجميلتين إليه ، وقالت بصوت لم يسمعه منها من قبل : أبي ، أخبرني ..
وانتبه ابانوغاك إلى نبرة في صوتها ، لم يسمعها فيه من قبل ، فتظاهر بالمرح ، وقال : سأخبرك بكل ما قالته لي السمكة حين اصطدتها ، كلي أولاً .
وقالت الحورية الصغيرة بشيء من المرارة : أرجو أن تكون قد حدثتك عن أمي ..
ولاذ ابانوغاك بالصمت ، وقد تباطأ في مضغ اللقمة في فمه ، فتابعت الحورية الصغيرة قائلة : لكل الأطفال الذين أعرفهم أمهات يحببنهم ويرعينهم و ..
وصمتت لحظة ، ثم تساءلت : من هي أمي ؟
وتوقف ابانوغاك عن تناول الطعام ، ورمق الحورية بنظرة سريعة ، ثم نهض ، وهو يقول : تناولي طعامكِ ، أنتِ صغيرة ، وبحاجة إلى الطعام .
وفتح الباب ، ومضى نحو شاطىء البحر القريب من البيت ، وجلس على الرمال محدقاً في القمر ، وهو يخرج من أعمق البحر ، والماء يقطر منه ، وتناهى إليه وقع أقدام خفيفة على الرمال ، إنها حوريته الصغيرة ، لم يلتفت إليها ، وأحس بها تجلس إلى جانبه ، ثمّ تمد يدها الصغيرة ، وتلمس ذراعه ، وتقول : بابا ..
ومدّ ابانوغاك يده ، وربت على يدها الصغيرة ، وردّ عليها قائلاً : نعم ، يا حوريتي .
وتابعت الحورية الصغيرة قائلة : مرت ببيتنا هذا اليوم ، عند منتصف النهار ، امرأة عجوز ، لم أرها يوماً في الجوار ، وكنت جالسة بالباب ..
والتفت ابانوغاك إليها ، وحدق فيها على ضوء القمر ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فتابعت الحورية الصغيرة قائلة : فاقتربت مني ، وحدقت فيّ ، ثم قالت ، أنتِ لا تشبهين أحداً من أهل القرية ، عيناك زرقاوان ، وشعرك كالذهب ، وبشرتك ببياض الثلج ، لابدّ أنكِ لستِ من هذا العالم الذي أعرفه .
وحدقت الحورية الصغيرة في ابانوغاك ، ثم قالت : أنا لا أشبهك ، يا بابا ، وأنت تشبه أهل القرية تماما .
فقال ابانوغاك : إنني واحد منهم .
فتساءلت الحورية الصغيرة : أنا مختلفة ، لماذا ؟
ولاذ ابانوغاك بالصمت ، فتابعت الحورية الصغيرة قائلة : تلك العجوز ، قالت لي ، قبل أن تختفي فجأة كما ظهرت : يبدو أن أمكِ من أعماق البحر .
ونهض ابانوغاك ، وأخذ بيد الحورية الصغيرة ، وقال : الوقت متأخر ، وحان وقت النوم ، لنعد إلى الكوخ .
ونهضت الحورية الصغيرة ، ومضت مع أبيها إلى البيت ، وأوت إلى فراشها ، وسرعان ما استغرقت في النوم ، لكن ابانوغاك لم ينم ، وكان هناك ما يشغله .
ماذا عليه أن يفعل ؟
هل يكتم الحقيقة عن حوريته الصغيرة ؟
ولكن إلى متى ؟
إنها الآن صغيرة ، ومع ذاك بدأت تتساءل ..
لكنها ستكبر ، مع مرور الزمن ، وستلح على أن تعرف الحقيقة ، حقيقة أمها ..
أهي تشبه نساء القرية ، أم أنها مختلفة عنهن ، و لماذا هي بهذا الشكل ؟
ثم إذا أراد أن يقول لها الحقيقة ، فماذا يقول لها ؟
وماذا يكتم عنها ؟
وحوريته مازالت صغيرة ، لم تتجاوز الخامسة من عمرها ، يا للحيرة ، و .. واستغرق في النوم .








" 2 "
ــــــــــــــــــ
تراءت لابانوغاك جدته العجوز ، وتذكر حكاياتها الجميلة ، التي كانت تحكيها له بصوتها المتميز الرقيق ، رغم أنها كانت قد تجاوزت التسعين من عمرها .
وذات يوم ، جلس إلى جانب جدته ، وقال لها : جدتي ، أرجوكِ ، احكي لي عن حور البحر .
وابتسمت الجدة ، ومدت يدها الشائخة ، وربتت على رأسه الكث الشعر ، وقالت : بنيّ ابانوغاك ، أنت مازلت صغيراً على مثل هذه الحوريات .
ومال ابانوغاك على جدته ، وقال بصوت أشبه بالهمس : ماما تقول لي ، عندما أطلب منها أن تحدثني عن حوريات البحر ، إن الحوريات خرافة ، لا وجود لها إلا في حكايات جدتك .
ونظرت الجدة إليه بعينيها السوداوين الشائختين ، وقالت بصوتها الشائخ : دعكَ من أمكِ ، يا ابانوغاك ، حوريات البحر موجودات ، وقد تصادف واحدة منهن ، ذات يوم ، وسترى كم هنّ جميلات .
وقد رأى ابانوغاك إحدى الحوريات فعلاً ، ولكن بعد أن كبر ، وناهز العشرين من العمر ، وكانت جدته العجوز قد رحلت ، ورحل بعدها أبواه ، وطوال هذه الفترة ، لم ينسَ حكايات جدته عن حور البحر، وكانت حاضرة معه في أحلامه ، كما وصفتها له جدته ، ليلاً ونهاراً .
وأرق ابانوغاك ذات ليلة مقمرة ، ولم يشأ أن يبقى متمدداً في فراشه ، فخرج من البيت ، وسار حتى الشاطىء ، حيث مركبه المصنوع من جلد الكاريبو ، وعلى ضوء القمر ، لاحت له من بعيد الجزيرة الصغيرة ، التي أسمتها جدته جزيرة الحور .
وابتسم ابانوغاك بشيء من الحنان ، حين تذكر أمه ، وهي ترد على ما قالته جدته عن الجزيرة الصغيرة بقولها : هذه من خرافات جدتك ، وهي في الحقيقة جزيرة الفقمات وليست جزيرة الحور .
ومن أعماقه انبثق صوت ، لم يعرفه تماماً ، أهو صوت جدته ، أم صوت أمه ، أم صوت حورية من حوريات الجزيرة الصغيرة ؟
ومهما يكن من أمر ، فقد وجد ابانوغاك نفسه يدفع قاربه إلى البحر ، ويجذف بهمة ، متوجهاً إلى الجزيرة الصغيرة ، التي أسمتها جدته جزيرة الحور .
ووصل بقاربه الجزيرة الصغيرة ، وسحب القارب قليلاً فوق رمال الشاطىء ، ووقف يتأمل الجزيرة على ضوء القمر ، أهي جزيرة الفقمات ، كما قالت أمه ، أم كما قالت جدته ، جزيرة الحور ؟
وسار ابانوغاك متوغلاً في الجزيرة ، وعيناه المتشوقتان تبحثان عن حورية من الحوريات التي تحدثت عنها جدته ، وبدأ حماسه يفتر ، فليس فوق الجزيرة الصغيرة غير الرمال والصخور ، وأمواج البحر ، تلطم أطرافها من جميع الجهات .
وتوقف محبطاً ، وهمّ بالذهاب إلى القارب ، والعودة به إلى البيت ، حين وقعت عيناه على جلد أشبه بجلد سمكة كبيرة ، واقترب من الجلد الملقى على الصخور ، وحدق فيه ملياً ، وقد ظنه أول الأمر سمكة كبيرة ، ألقتها أمواج البحر على الصخور ، أو أنها هاربة من قرش ضخم ، أو من حوت الاوركا القاتل .
وحانت منه نظرة إلى الشاطىء القريب ، ووقف مذهولاً ، وقلبه يخفق بشدة ، فعلى ضوء القمر ، رأى ما يشبه فتاة شابة ، مستلقية على الرمال ، وكأنها مستغرقة في نوم عميق .
وفكر أنها ربما حورية من الحوريات ، اللاتي حدثته جدته عنهن ، حسناً ، فليمازح هذه الحورية ، حتى لو كان هذا المزاح ثقيلاً بعض الشيء ، فمدّ يده بسرعة ، والتقط الجلد ، وأسرع به إلى قاربه ، ومن ثم انطلق يجذف مبتعداً عن الجزيرة .
وحالما وصل إلى البيت ، فتح خزانة أمه القديمة ، التي كانت تضع فيها ثيابها وحاجياتها ، وأزاح بعض الثياب ، ووضع جلد الحورية فيها ، وأغلق الخزانة ، ثم أوى إلى فراشه ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .
وقبيل الفجر بقليل ، أفاق ابانوغاك على باب البيت يُطرق ، ففتح عينيه اللتين يثقلهما النعاس ، وفكر أنه ربما كان يحلم ، فمن يمكن أن يطرق بابه ، في هذا الوقت من الليل .
لكن الباب طُرق مرة أخرى ، الأمر إذن ليس حلماً وإنما حقيقة ، يا للإزعاج ، من يدري ، لعل الأمر خطير ، فتحامل على نفسه ، ونهض من الفراش ، ومضى مترنحاً إلى الباب ، ومدّ يده وفتحه ، و ..
وتوقف مذهولاً ، حين رأى أمامه الحورية ، كما رآها متمددة على الشاطىء ، أم أنه يحلم ؟ وحدق فيها ملياً ، ثم تساءل : من أنتِ ؟
وحدقت الحورية فيه بعينيها الزرقاوين الجميلتين ، وقالت : أنا .. سِدنا ..
وتمتم ابانوغاك مذهولاً : سِدنا !
فقالت الحورية بصوت متعب للغاية ، وهي تتأمله : أعطني جلدي ؟
وتمتم ثانية ، ولعله نسي الأمر كله : أي جلد ؟
فردت الحورية ، وهي مازالت تتأمله ، وهي تكاد تتهاوى على الأرض : رأيتك تأخذه على ضوء القمر ، حين كنت متمددة على الرمال .
وتأوهت الحورية ، وهي تترنح ، وتكاد تتهاوى على الأرض ، فمدّ ابانوغاك يديه ، وأسندها وهو يقول : يبدو أنك متعبة جداً ، ادخلي عندي حتى ترتاحي .
ودخلت الحورية ، وهي تستند على ابانوغاك ، وقالت بصوتها المتعب : أردت أن آخذ جلدي ، وأعود إلى الأعماق ، لابد أن أبي وأمي قلقان عليّ الآن جداً ، آه يا للبرد ، لقد بقيت طويلاً في العراء .
وقادها ابانوغاك إلى فراشه ، ومددها فيه برفق شديد ، ثم دثرها بفراشه الدافىء ، وقال : سأشعل النار في الموقد ، وستدفأ الغرفة تماماً .
وأغمضت الحورية عينيها الزرقاوين الجميلتين ، فقال لها ابانوغاك : نامي قليلاً ، وسترتاحين .











" 3 "
ـــــــــــــــــــ
أفاقت الحورية سِدنا ، صباح اليوم التالي ، ورآها ابانوغاك تفتح عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وترنو بهما إليه ، وتقول بصوت عذب : طاب صباحكَ .
فاعتدل قليلاً ، وقال : طاب صباحكِ .
وصمت لحظة ، ثم نهض من مكانه ، وهو يقول : لابدّ أنكِ جائعة الآن ، لقد أعددتُ لك طعاماً لذيذاً ، كانت أمي تعده لي ، كلما تريد أن ترضيني .
لم تلتفت سِدنا إلى دعوته ، واعتدلت في الفراش ، وقالت : أريد أن تعطيني جلدي .
ولاذ ابانوغاك بالصمت لحظة ، ثم ردّ عليها قائلاً : كلي أولاً ، وارتاحي بعض الوقت ، ولكِ أن تطمئني ، جلدك في مكان أمين ، وسأعيده إليكِ .
وأبعدت سِدنا الفراش عنها ، وهبت ناهضة من مكانها ، وقالت : لا أريد أن آكل ، أعطني جلدي .
واقترب ابانوغاك من الخزانة ، وقال لسِدنا : وضعته في مكان أمين ، في هذه الخزانة ، وهي خزانة أمي ، لأحفظه لك من العبث .
وتطلعت سِدنا إليه ، وقالت : لو كان الأمر كذلك ، ما أخذته دون علمي .
وغالب ابانوغاك ابتسامته ، وقال : في الحقيقة ، أردت أن أراك من مسافة قريبة .
وردت سِدنا قائلة : كدت تمرضني ، عدا قلق والداي بسبب غيابي ، الذي لا يعرفون له سبباً .
ولاذ ابانوغاك بالصمت لحظة ، ثم نظر إليها ، وقال : إنني آسف ، سامحيني .
وقالت سِدنا : أعطني جلدي .
وفتح ابانوغاك الخزانة ، وأبعد بعض الثياب القديمة ، ثم أخرج الجلد ، وهو يقول : ها هو جلدكِ ، كلي أولاً ، ثم خذي جلدك ، ولكِ أن تفعلي ما تريدين .
ومدتِ سِدنا يدها ، وتناولت الجلد ، ثم نظرت إلى ابانوغاك ، وقالت : سآخذ جلدي ، وأذهب إلى تلك الجزيرة الصغيرة ، ومن هناك أغوص إلى وطني ، عليّ أن أطمئن أمي وأبي في أسرع وقت ممكن .
ونظر ابانوغاك إليها ، وقال : هذا حقك ..
واتجه نحو الباب ، وأضاف قائلاً : تعالي أقلك بقاربي ، إلى الجزيرة الصغيرة ، التي كنت فيها .
لم تنبس سِدنا بكلمة ، ولم يغير هذا من ضيقها ، ففتح ابانوغاك الباب ، وخرج من البيت ، ومضى نحو القارب ، فسارت سِدنا في أثره صامتة ، وقال ابانوغاك دون أن يلتفت إليها : كنت أتمنى في الحقيقة ، لو تبقين يوماً أو عدة أيام ..
والتفت إليها ، وحدق فيها ، ثم تابع قائلاً : كنت سأعرفكِ بحياتنا ، وسبل عيشنا ، وكنت سترين فتيات في عمرك ، وتعرفين حياتهن وآمالهن .
وردت سِدنا باقتضاب : أنت تنسى أنني لا أنتمي إلى عالمكم ، وأنني من عالم الأعماق .
ووصل ابانوغاك إلى الشاطىء ، فدفع القارب إلى البحر ، وأمسكه بيده والأمواج تراقصه ، وقال لها : تفضلي ، اصعدي يا سِدنا .
وصعدت سِدنا إلى القارب ، فصعد ابانوغاك في أثرها ، واتخذ مكانه فيه ، وأمسك المجذافين ، وراح يجذف متجهاً بالقارب نحو جزيرة الحور .
ونظرت سِدنا إلى ابانوغاك ، وراحت تتأمله صامتة ، ثم قالت بنبرة هادئة : أنت تسير ببطء .
ونظر ابانوغاك أيها ، وابتسم لها ، وقال : أنت في الحقيقة .. محقة .
وبنفس النبرة الهادئة ، قالت سِدنا ، وهي مازالت تتأمله بعينيها الزرقاوين الجميلتين : أنت متعمد في هذا ، لا تقل لي إنك متعب .
وابتسم ابانوغاك ثانية ، وقال : لا ، لن أقول ذلك ، أنا لست متعباً .
وصمت لحظة ، ثم أضاف قائلاً : إنني أحاول إبقاءك معي ، أطول مدة ممكنة .
ونهضت سِدنا واقفة في القارب ، وقالت : مهما يكن ، فقد وصلنا الجزيرة ، حيث كنت البارحة متمددة على الشاطىء ، في ضوء القمر .
وتوقف ابانوغاك بالقارب ، وتطلع إليها ، وقال : لن أنسى هذه اللحظات التي بقيتِ فيها معي أبداً ، إنها ستعيش معي حتى النهاية ، وليتها تدوم .
ونظرت سِدنا إلى البحر ، وبدا وكأنها تأثرت بعض الشيء من كلامه ، وغاصت بعينيها الزرقاوين الجميلتين إلى أعماقه ، وقالت : نحن لا ننتمي إلى عالم واحد ، إن عالمينا مختلفان .
وتنهد ابانوغاك ، وتمتم قائلاً : للأسف . .
وصمت ابانوغاك لحظة ، ثم قال : لو تعلمين ، إنني أحلم بكِ ، منذ طفولتي ، عندما كانت جدتي العجوز تحدثني عن الحوريات .
والتفتت سِدنا ، ونظرت إلى الجزيرة ، كأنما كانت تقاوم مشاعر داهمتها ، ولا تريد أن تؤثر فيها ، وقالت : من هناك أخذت جلدي ، وذهبت به إلى بيتك .
ونظر ابانوغاك إليها ، وقال : لكني لم أنكره ، ولم أحاول إخفاءه عنكِ ، وقد أعدته لكِ صباح اليوم ، حالما طلبتيه مني .
وردت سٍدنا بنبرة هادئة : نغم ، وقد عاملتني معاملة طيبة ، ووضعتني في فراشك ..
ونظرت إليه بعينيها الزرقاوين الجميلتين ، وقالت له : مهما يكن ، فأنا أشكرك يا ..
وقال ابانوغاك : اسمي ابانوغاك .
وقالت ثنية : أشكرك ، يل ابانوغاك .
وابتسم ابانوغاك لها ، وقال محاولاً تمالك نفسه : بل أنا أشكرك ، فقد أتحت لي الفرصة لأن أرى أجمل حورية ، من حوريات الأعماق .
ونظرت سِدنا ثانية إلى البحر ، وقالت : آن لي أن أذهب ، يا ابانوغاك ، وداعاً .
ثم قفزت من القارب إلى البحر ، وغاصت إلى الأعماق المعتمة ، وقبل أن تختفي فيها ، تمتم ابانوغاك بنبرة دامعة : وداعاً .











" 4 "
ــــــــــــــــــــ
عاد ابانوغاك إلى بيته ، وقد كاد النهار أن ينتصف ، وجذف قاربه ببطء شديد ، فوق مياه البحر الهادئة ، بعد أن ودع الحورية سِناد ، التي غاصت إلى عالمها الغامض ، الذي في الأعماق .
وحين وصل الشاطىء القريب من بيته ، نزل من القارب ، وسحبه بعيداً عن الماء ، وأقبل عليه جروه ، الذي يذكره بأمه ، التي اختطفها ذات ليلة عاصفة ذئب شرس ، وفتك بها في الغابة .
وتركه ابانوغاك ينبح ، ويبصبص بذيله الكث ، كما يريد ، لكنه لم يلتفت إليه ، ولم يُعره أي اهتمام ، ودخل إلى البيت ، وأغلق الباب وراءه ، والجرو الصغير ينبح ، وكأنه يناديه ، ويتوسل إليه .
وبدل أن يشعر ابانوغاك ببعض الراحة ، وقد وصل إلى بيته ، ازداد ضيقه وحزنه ، وخاصة عندما وقع نظره المتعب ، على فراشه المبعثر ، الذي نامت فيه الحورية سِدنا طوال ليلة أمس ، ولعل رائحتها المميزة مازالت في ثناياه ، تذكره بها .
وأبعد نظره عن الفراش المبعثر ، ليقع هذه المرة على الطعام ، الذي أعده لها ، لعلها تأكل معه ، أو تأكل منه وحدها ، لكنها لم تمدّ يدها إليه ، وتأكل منه لقمة واحدة ، رغم أنه يعرف أنها كانت جائعة .
وتناهى إليه من الخارج ، صوت جروه ينبح منادياً له ، لابد أنه جائع ، فأخذ بعضاً من الطعام ، وجلس بباب البيت ، يأكل منه بدون شهية ، ويلقي بعضه إلى جروه الصغير ، الذي كان يقف أمامه فرحاً ، وهو يبصبص بذيله الكث ، ويتلقف ما يرميه إليه من الطعام .
وطوال ذلك اليوم ، لم يفكر ابانوغاك ، أن يذهب إلى الصيد في البحر ، رغم أن ما بقي عنده من الطعام ، ربما لا يكفيه إلى يوم غد ، هذا إذا أراد أن يأكل عند منتصف النهار ، أو بعد غروب الشمس ، وهذا ما لم يفكر فيه ابانوغاك لحظة واحدة .
وبعد منتصف النهار ، أراد أن يخرج من البيت ، ويتجول بين بيوت القرية ، أو يقوم بزيارة أحد الأقارب أو الأصدقاء ، ويقضي بعض الوقت معهم ، لكنه بدل ذلك كله ، ارتمى فوق الفراش ، الذي نامت فيه ليلة البارحة الحورية سِدنا ، وقد أغمض عينيه المتعبتين ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .
وأفاق ابانوغاك ، وقد حلّ الظلام ، إنه الليل ، وقد نام ساعات طويلة ، فنهض من فراشه متكاسلاً ، وخرج من البيت ، فاستقبله جروه بنباح فرح ، وهو يبصبص بذيله الكث ، لكنه لم يلتفت إليه ، ومضى نحو الشاطىء ، حيث قاربه يجثم على الرمال ، ولحق به الجرو ، وهو مازال ينبح ، فالتفت إليه ، دون أن يتوقف ، وأشار بيده ، ثمّ قال له : اذهب ، واجلس قرب الباب .
وتوقف الجرو في مكانه حزيناً ، وقد نكس ذيله الكث ، ثم استدار ببطء ، ومضى محبطاً ، وقد صمت تماماً وجلس على مقربة من باب البيت ، وهو يتابع ابانوغاك بعينين منكسرتين حزينتين .
وجلس ابانوغاك على رمال الشاطىء ، والأمواج تزحف إليه بين حين وآخر ، وتوشك أن تلمس قدميه ، وتنهد بحزن عميق ، حين تراءت له الحورية سِدنا ، وهي تقف عند الفجر تقريباُ بباب بيته ، وكادت عيناه تدمعان ، وصوتها يتردد في سمعه : وداعاً .
ولِمَ وداعاً ، يا سِدنا ؟
لِمَ وداعاً بهذه السرعة ؟
الحياة قصيرة ، وعمر الشباب أقصر ، أقصر حتى أكثر من الربيع ، في هذه البقاع الشديدة البرودة من العالم ، هذا ما كانت تقوله جدته العجوز ، ويا لها من امرأة عظيمة ، لم يرَ من تشبهها ، أو تماثلها في فكرها ، طوال سني عمره القاحل .
وتراءت له جدته ، من بين الأمواج ، التي يضيؤها القمر بنوره الشاحب ، تنظر إليه بعينيها الشائختين المحبتين ، فقال لها : جدتي ، لقد كدت أحصل على الحورية ، التي طالما تحدثتِ عنها ، لكنها سرعان ما مضت عائدة إلى الأعماق ، وقالت لي ، وداعاً .
وكأن هذا الخبر ، الذي سمعتهّ الجدة العجوز منه ، لم يسرّها مطلقاً ، فغاصت هي الأخرى إلى الأعماق ، وتلاشت شيئاً فشيئاً حتى اختفت تماماً .
ونهض ابانوغاك من مكانه ، واتجه نحو البيت ، ومن بعيد نهض الجرو متردداً ، ونبح كأنه يختبر ردّ فعله ، لكنه عاد إلى مكانه محبطاً ، عندما لم يلتفت إليه ابانوغاك ، ولاذ بالصمت حزيناً ، حتى أوشك ابانوغاك على الدخول إلى البيت .
وتوقف ابانوغاك عند الباب ، عندما سمع جروه ينبح بصوت غاضب مرتفع ، فاستدار نحوه وإذا به يرى واحداً من أصحابه ، يريد الاقتراب منه ، وهو يحمل إناء فيه قطعة من اللحم .
فنهر ابانوغاك قائلاً : كفى أيها الأحمق ، كفى ، عد إلى مكانك ، إنه جارنا .
وتوقف الجرو عن النباح ، واستدار ببطء ، ثم عاد إلى مكانه ، ونظر الرجل إليه مبتسماً ، والإناء بين يديه ، وقال بلهجة مازحة : جروك مازال صغيراً ، يا ابانوغاك ، لكن لا بأس ، إنه جرو قوي و شجاع ، وسيعرف الجيران مع الزمن .
وتقدم ابانوغاك منه ، وقال مرحباً : أهلاً ، أهلاً ومرحباً بجاري العزيز ، كنت أجلس على رمال الشاطىء ، أتأمل القمر .
وضحك الرجل ، وقال : تزوج ، يا ابانوغاك ، ولن تحتاج أن تجلس على الشاطىء لتتأمل القمر ، بل ستجلس في بيتك تتأمل قمرك الدافىء .
وابتسم ابانوغاك مدارياً حرجه ، ونظر إلى قطعة اللحم ، التي يحملها صاحبه ، وقال : يبدو لي أنكم اصطدتم فقمة ضخمة هذا اليوم .
فقدم صاحبه قطعة اللحم ، وقال : لا ، هذا ليس لحم فقمة ، وإنما لحم قرش .
وأخذ ابانوغاك قطعة اللحم ، وقال : أشكرك .
وضحك صاحبه ثانية ، وقال ، وهو يمضي مبتعداً : تزوج ، وستطبخ لك زوجتك ، ومهما كان طبخها ، ستقول كما نقول نحن المتزوجون المدجنون ، آه كم هو لذيذ هذا الطعام .







" 5 "
ـــــــــــــــــــ
عند حوالي منتصف الليل ، والقمر يطل بدراً من سماء صافية مليئة بالنجوم ، أفاق ابانوغاك على باب بيته يُطرق ، ولا يدري لماذا ذكره هذا الطرق ، بطرق الحورية سِدنا ، قبيل فجر أمس الأول ، عندما جاءته إلى البيت ، وهي شبه منهارة .
وأنصت ابانوغاك ملياً ، فهذا التقارب بين طرق الليلة وذاك الطرق ، ربما ليس عبثاً ، و .. من يدري ، لعل الأمر كله حلم ، فالحورية سِدنا غاصت إلى الأعمق ، وقالت وداعاً ، و ..
وطرق باب البيت مرة أخرى ، يا للعجب ، إنها نفس طرقات الحورية سِدنا ، وهو لا يمكن أن يكون نائماً يحلم ، أم أنه في حلم داخل حلم يتمناه دون جدوى ، ومهما يكن فقد تحامل على نفسه ، ونهض من فراشه الدافىء ، ومضى مترنحاً إلى الباب ، وفتحه .
وشهق ابانوغاك مشدوهاً ، وقلبه يخفق بشدة ، هذا حلم ، حلم مستحيل ، لا يمكن أن يحدث إلا داخل حلم ، وفتح عينيه يحدق جيداً ، إنها الحورية سِدنا نفسها ، مرتدية جلدها الشبيه بجلد السمكة ، كلا ، لابدّ أنه يحلم ، لقد مضت بإرادتها ، وقالت له .. وداعاً .
وسمعها تتمتم : ابانوغاك ..
وشهق قائلاً : سِدنا !
وابتسمت الحورية له ، وقالت : نعم ، سِدنا .
وظلّ ابانوغاك جامداً في مكانه ، فقالت الحورية سِدنا ، وهي تدخل من الليل : يبدو أنك لن تقول لي ، ادخلي ، لا عليك ، أنا سأدخل ، فهذا بيتي .
وصمتت لحظة ، ثم خاطبت ابانوغاك قائلة ، دون أن تلتفت إليه : أغلق الباب .
وعلى الفور ، مدّ ابانوغاك يده ، وأغلق الباب ، وكأنه يخشى أن تختفي من أمامه ، والتفت إليها ، وقال بصوت متحشرج : لكنكِ قلتِ .. وداعاً .
وتطلعت الحورية سِدنا إليه ، ثم قالت بصوت هادىء لم يعهده منها من قبل : هذا خطأ مني ، يا ابنوغاك ، والعودة عن الخطأ فضيلة ، فالزوجة العاقلة المحبة ، لا تقول لزوجها وداعاً أبداً .
وتمتم ابانوغاك مذهولاً : زوجها .. !
فقالت الحورية سِدنا : هذا ما قالته لي أمي ، عندما عدتُ إلى الأعماق ، ورويت لها كلّ ما جرى بيني وبينك ، وهي مثل جدتك العجوز ، امرأة حكيمة ، وأنا أصغر أبنائها وبناتها ، وأحبهم إليها ، وأكثرهم دلالاً .
ولاذ ابانوغاك بالصمت ، وقد غمره الذهول ، وبدا للحورية سِدنا ، أنه لم يفهم ما قالته تماماً ، فتابعت قائلة بنفس الصوت الهادىء الصابر : لم أعد إليك بإرادتي فقط ، فقد قالت لي أمي ، عودي إلى زوجكِ .
وصمتت الحورية سِدنا لحظة ، وابانوغاك يحدق فيها وهو مازال مذهولاً ، ثم تابعت قائلة : ما دمتِ قد نمت في فراشه ليلة واحدة ، فأنت زوجته ، والزوجة يجب أن تكون إلى جانب زوجها ، مهما كانت الظروف ، هذا ما قالته لي أمي ، وأنا أحترم جداً كلّ ما تقوله أمي ، وأعمل به ، هذه هي عاداتنا وتقاليدنا .
وصمتت ثانية ، ثم قالت وكأنها تحاور أمها : لكنه ، يا أمي ، وقاطعتني أمي قائلة ، أنتما زوجان ، أنتِ زوجته ، وهو زوجكِ ، إلا إذا لم يوافق زوجك على استمرار هذا الزواج لسبب ما .
ولاذ ابتوغاك بالصمت حائراً ، أمام نظراتها المتسائلة المنتظرة ، فقالت الحورية سِدنا : قل شيئاً ، يا ابانوغاك ، فأنا الآن عندك ، وبين يديك ، ويجب أن أعرف موقفك مني ، فأنا ..
وابتسم ابانوغاك مرتبكاً ، ثم أشار إلى قطعة اللحم ، التي أهداها له صاحبه في أول الليل ، وقال : إذا كنتِ جائعة ، يا سِدنا ، سأطبخ لك قطعة اللحم هذه .
وحدقت الحورية سِدنا في قطعة اللحم ، ثم رفعت عينيها الزرقاوين الجميلتين ، ونظرت إلى ابانوغاك وقالت مترددة متوجسة : أخشى أن تكون قطعة اللحم هذه ، يا ابانوغاك من لحم الفقمة .
وردّ ابانوغاك قائلاً : كلا ..
وتساءلت الحورية سِدنا : أكيد ؟
فردّ ابانوغاك قائلاً : طبعاً .
ونظرت الحورية سِدنا إليه ، ثم قالت : لحم الفقمة محرم عندنا ، في عالم الأعماق ، نأكل كلَ أنواع اللحوم البحرية عدا لحم الفقمة .
ونظر ابانوغالك إليها متسائلاً ، فقالت الحورية سِدنا : تقول أمي ، نحن من أصول سلالات الفقمات ، التي انقرضت منذ آلاف السنين ، ولهذا فنحن نحرم قتلها ، أو تناول لحومها ، مهما كانت الظروف .
ومدّ ابانوغاك يده ، وأخذ قطعة اللحم ، وأدناها من الحورية سِدنا ، وقال لها : قطعة اللحم هذه ليست من لحم الفقمة ، وإنما من لحم القرش .
وأبعدت الحورية سِدنا نظرها عن قطعة اللحم ، ونظرت إلى الفراش ، وهي تكاد تتثاءب ، وقالت : مهما يكن ، الوقت متأخر ، وأنا متعبة جداً ، وأريد أن أنام .
وتململ ابانوغاك مرتبكاً ، وقبل أن يتفوه بكلمة ، تمددت الحورية سِدنا في الفراش ، وتدثرت بالغطاء ، وهي ترنو إليه بعينيها الزرقاوين الجميلتين ، وقالت : تعال نم أنت أيضاً ، فالصبح مازال بعيداً .
وتراجع ابانوغاك بصورة لا إرادية ، وهو يتمتم : لا .. لا .. نامي أنتِ ، لقد نمت الليلة مبكراً ، وأخذت كفايتي من النوم ، نامي أنت وارتاحي .
وأغمضت الحورية سِدنا عينيها ، وقالت : كما تشاء ، سأنام الآن ، وإذا نعستَ ، فيمكنك أن تنام ، إن الفراش واسع جداً ، ويتسع لأكثر من واحد .
وراح ابانوغاك يحدق فيها مذهولاً ، لكنه في أعماقه كان فرحاً جداً ، وأمام عينيه المذهولتين الفرحتين ، أغمضت الحورية سِدنا عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وسرعان ما راحت تغط في نوم عميق .













" 6 "
ــــــــــــــــــــ
أفاقت الحورية سِدنا ، صباح اليوم التالي ، في وقت مبكر ، واعتدلت في فراشها ، وقد فتحت عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وابتسمت بحنان ، حين رأت ابانوغاك ، متكوماً على نفسه ، في طرف الفراش ، وقد تدثر بغطاء خفيف ، لا يكاد يقي من البرد .
فنهضت بهدوء ، ودثرته بالغطاء الدافىء ، الذي كانت تتدثر به ، ثم نظرت إليه مبتسمة ، وقالت في نفسها : المسكين ، ترك لي دثاره الدافىء ، ونام هنا في طرف الفراش ، بهذا الدثار الخفيف .
واستدارت منصرفة بهدوء ، إلى إعداد طعام الفطور ، من قطعة لحم القرش ، التي أهداها له صاحبه ، يوم أمس في أول الليل .
وعلى روائح البهارات المنعشة ، التي ذكرته بأمه ، أفاق ابانوغاك من النوم ، وقد زايله البرد ، الذي كان يشعر به ، قبل أن تدثره سِدنا بالدثار الدافىء ، وعرف السبب ، حين رأى الدثار الدافىء فوق دثاره الخفيف القديم .
وتناهت إليه حركة خافتة داخل البيت ، فاعتدل في فراشه ، ونظر حوله ، وإذا الحورية سِدنا ، تجلس أمام الموقد ، والنار تستعر فيه ، وهي تعد الطعام .
وأزاح ابانوغاك الدثارين عنه ، وهبّ ناهضاً ، ويبدو أن الحورية سِدنا شعرت به ، فالتفتت إليه ، وقالت مبتسمة : طاب صباحك ، يا ابانوغاك .
وحدق ابانوغاك فيها متسائلاً : ماذا تفعلين ؟
واتسعت ابتسامة الحورية سِدنا ، وهي تنظر إليه بعينيها الزرقاوين الجميلتين ، وردت قائلة : أظن أنني قلتُ ، طاب صباحك ، يا ابانوغاك .
فابتسم ابانوغاك مرتبكاً ، وقال : طاب صباحك ..
وصمت لحظة ، ثم قال : لقد أيقظتني هذه الروائح الذكية ، التي تثير الشهية إلى الطعام ، والتي لم أشمها ، إلا عندما كانت أمي على قيد الحياة .
وأشارت الحورية سِدنا ، إلى مجموعة من الأواني الصغيرة ، التي كانت لأمه ، وقالت : تقول أمي ، وهي طباخة ماهرة ، الطعام لا يكون لذيذاً إلا بالبهارات .
وبنبرة يشوبها بعض الحزن ، قال ابانوغاك : هذه بهارات أمي ، وكان أبي يحبها كثيراً .
وتساءلت الحورية سِدنا مازحة ، وهي تغالب ابتسامتها : كان يُحب البهارات أم ..
وردّ ابانوغاك مبتسماً : كلاهما .
والتفتت الحورية سِدنا إلى الطعام ، وراحت تقلبه ، وهي تقول : وهذا ما ستراه في طعامك منذ الآن ، فالزوجة الناجحة المحبة ، تعرف كيف تسعد زوجها ، هذا ما قالته لي أمي قبل أن أعود إليك ، آه أمي .
ولاذ ابانوغاك بالصمت ، وقد غمرته الفرحة ، فتابعت الحورية سِدنا قائلة : اجلس إلى السفرة ، الطعام سيجهز خلال بضعة دقائق .
وجلس ابانوغاك إلى السفرة ، وروائح البهارات المشهية تملأ أنفه ، وسرعان ما صبت الحورية سِدنا الطعام في طبقين ، وضعت أحدهما أمام ابانوغاك ، ووضعت الآخر قبالته ، وجلست مبتسمة ، وهي تقول : هيا ، تذوق طعامي ، وستعرف أنني طباخة ماهرة .
وتذوق ابانوغاك الطعام ، ثم رفع عينيه ، ونظر إلى الحورية سِدنا ، وعيناها الزرقاوان الجميلتان تتطلعان إليه ، منتظرة رأيه ، فهزّ رأسه ، وقال : آه ما ألذّ هذا الطعام ، لن أشبع من تناوله هذا اليوم .
وابتسمت الحورية سِدنا ، وقالت متسائلة : هذا اليوم فقط ، يا ابانوغاك ؟
فقال ابانوغاك مبتسماً : وكلّ يوم ، بل العمر كله .
وارتفع من الخارج نباح الجرو ، وكأنه شمّ رائحة الطعام ، فراح يطالب بحصته فيه ، ورفع ابانوغاك رأسه ينصت إليه ، وهمّ أن يتكلم ، لكن الحورية سِدنا سبقته قائلة : حصته موجودة ، فليطمئن .
وانهمك ابانوغاك بتناول طعامه متلذذاً ، فرمقته الحورية سِدنا بنظرة خاطفة ، وهي تأكل ، وقالت : حين أفقت صباح اليوم ، رأيتك تنام في طرف الفراش .
وتوقف ابانوغاك عن تناول الطعام ، لكنه لم يرفع عينيه إليها ، وقال : ليلة البارحة ، عندما أتيت ، كنت متعبة جداً ، وأردتك أن تنامي مرتاحة .
ورفعت الحورية سِدنا عينيها الزرقاوين الجميلتين إليه ، وقالت : لكن هذا الفراش ليس لي وحدي ، كما أنه ليس لك وحدك ، إنه لنا نحن الاثنان .
ومرة ثانية ، لم يرفع عينيه ، وينظر إليها ، وقد لاذ بالصمت ، فتابعت الحورية سِدنا قائلة : لو رأتني أمي ، نائمة وحدي في الفراش ، وأنت تنام بعيداً ، وفي دثار خفيف ، لقرعتني و ..
وصمتت الحورية سِدن ، فرفع ابانوغاك عينيه إليها ، وقال : ولو رأتني أمي ، لربما لم ترضَ عني ، الفراش فعلاً ليس لأحدنا فقط .
وبعد أن فرغا من تناول طعام الفطور ، أخذت الحورية سِدنا بقايا الطعام ، وخرجت بها من البيت ، وقدمتها للجرو الصغير ، الذي راح يلتهم الطعام ، وهو يبصبص بذيله الكث فرحاً .
وحين عادت الحورية سِدنا إلى البيت ، والإناء فارغ في يدها ، رأت ابانوغاك يتأهب للخروج ، فتوقفت قبالته ، وعيناها الزرقاوان الجميلتان تلتمعان ، وقالت : إلى أين أنت ذاهب ، يا ابانوغاك ؟
وغاص ابانوغاك في عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وقال : اليوم تناولنا في الإفطار لحم قرش ، من صنع حوريتي ، ومن صنعها أيضاً سنتعشى لحم سمك لذيذ ، سأذهب الآن ، وأصطاده من البحر .
وتملك الحماس الحورية سِدنا ، فقالت : دعني أرافقك ، يا ابانوغاك ، فأنا صيادة سمك ماهرة .
وابتسم ابانوغاك لها ، وقال بصوت رقيق : الصيد عندنا للرجال فقط ، أما المرأة فلها عالم البيت كله ، من طبخ ، وتنظيف ، وخياطة الثياب ، و .. إنجاب الأطفال .
وتمتمت الحورية سِدنا ، بصوت غامض ، يشوبه بعض الخوف والحزن : الأطفال .. آه .
ومال ابانوغاك عليه ، وقال : أريد طفلاً منكِ .
ولاذت الحورية سِدنا بالصمت ، فاتجه ابانوغاك إلى الخارج ، فقالت الحورية سِدنا بصوت لا يكاد يُسمع : الطفل حلم كبير ، لكن هذا الحلم قد يكون .. كابوساً .. يرافق المرء مدى الحياة .





" 7 "
ـــــــــــــــــــ
مرت أيام وأسابيع وأشهر ، وابانوغاك يراقب الحورية سِدنا ، وينتظر منها كلمة ، تدخل الأمل والفرحة إلى قلبه المتعطش للمزيد من الفرح ، لكن الكلمة المثيرة للفرح ظلت مؤجلة ، وانتظاره طال ربما أكثر مما ينبغي ، أو هذا ما كان يشعر به .
وجاءت اللحظة المنتظرة ، ربما تأخرت قليلاً ، لكنها جاءت ، وجاء معها الأمل والفرح الغامر ، كانت العاصفة الثلجية تعوي في الخارج ، لتعوِ بقدر ما تشاء ، فالحورية سِدنا تجلس عند الموقد ، الذي تستعر فيه النيران ، وإلى جانبها يجلس ابانوغاك .
ونظرت الحورية سِدنا إلى ابانوغاك ، وهي تحاول أن تكتم ابتسامتها الفرحة ، وقالت : يبدو أنك تشعر بالبرد الشديد ، يا ابانوغاك .
ورغم شعوره بالبرد ، ردّ ابانوغاك عليها قائلاً : لن أشعر بالبرد ، رغم العاصفة الثلجية ، التي تعوي في الخارج منذ الصباح ، مادمتِ إلى جانبي .
واقتربت الحورية سِدنا منه ، وقالت وهي تغالب ابتسامتها الفرحة : سأسألك سؤالاً ، ينسيك العاصفة الثلجية ، حتى لو كنت في وسطها .
وحدق ابانوغاك فيها متشوقاً ، وقال : يا له من سؤال ، يبعث على الدفء الشديد ، اسألي ، أنت تشوقينني ، هيا اسألي ، يا حوريتي .
ومالت الحورية سِدنا عليه ، وسألته قائلة : لو خيرت الآن ، بين مولود طفل أو طفلة ، يمكن أن يهل بعد حوالي تسعة أشهر ، فماذا تختار ؟
وشهق ابانوغاك دفئاً وفرحاً ، وهتف متسائلاً : سِدنا .. حوريتي .. أتعنين أنكِ ؟
وردت الحورية سِدنا قائلة ، والفرحة تتراقص في عينيها ، وفوق شفتيها الورديتين : نعم ، أعني ما فهمته .
ومدّ يديه المتلهفتين الفرحتين ، وأخذ الحورية سِدنا إلى صدره ، وهو يقول : طفل أو طفلة ، لا فرق عندي ، المهم إذا كانت طفلة ، أن تكون تشبهكِ .
ووضعت الحورية سِدنا رأسها ، المكلل بتاج من الشعر الذهبي ، على صدره ، الذي يخفق في أعماقه قلب تغمره الأفراح ، ولاذت بالصمت .
وخيل إليه ، في لحظة ما ، أنه سمعها تتنهد بشيء من الحزن ، لكنه بالتأكيد لم يسمعها ، وهي تقول في نفسها ، أرجو أن لا تتحقق نبوءة أمي .
ومرت الأيام سريعة ، رغم البرد ، والعواصف الثلجية ، وأحياناً شحة الطعام ، وخلال هذه المدة ، كان ابانوغاك يتوغل بقاربه في البحر ، ويصطاد ما يتيسر له من الأسماك ، التي تحب تناولها الحورية سِدنا .
وكان يتجنب المرور بجزيرة الحور ، حيث تتواجد الفقمات عادة ، إنه في أعماقه يتمنى أن يصطاد فقمة ، فهو مغرم بلحمها منذ البداية ، لكن ما العمل ، وحوريته سِدنا ، تحرم أكلها ، بل ولا تريده أن يصطادها ، لأي سبب من الأسباب ؟
وفي الليل ، يجلس ابانوغاك قرب الموقد ، الذي تستعر فيه النار ، وتشيع الدفء في جوانب البيت كلها ، وإلى جانبه تجلس حوريته سِدنا ، يحدثها عن حياته ، حين كان أبواه على قيد الحياة ، ومن جهتها ، كانت الحورية سِدنا ، تحدثه بدورها عن حياتها في الأعماق ، وعن أمها وأبيها ، وتبتسم حين تتحدث عن مشاحناتهما ، وخاصة عندما تقدم بهما العمر .
وذات ليلة هادئة ، تمددت الحورية سِدنا إلى جانب ابانوغاك ، وقد اقترب الشهر التاسع الموعود ، لكنها كانت على غير المتوقع صامتة ، تغشي عينيها الزرقاوين الجميلتين ، سحابة من الحزن والخوف ، ورمقها ابانوغاك بنظرة سريعة ، وقال بنبرة مازحة : يبدو أنكِ خائفة من اليوم الموعود ، يا سِدنا .
فابتسمت ابتسامة حاولت أن تمسح عنها إمارات الحزن ، وقالت : نعم ، إنني خائفة من هذا اليوم .
فمدّ ابانوغاك يده نحوها ، وراح يربت برفق على شعرها الذهبي ، وقال : هذا طبيعي على ما أعتقد ، إنه مولودكِ الأول .
فلاذت الحورية سِدنا بالصمت لحظة ، ثم قالت غريب : لا ، أنا خائفة من شيء آخر ، قالته لي أمي ، قبل أن آتي إليك تلك الليلة .
وصمتت الحورية سِدنا ، وانتظر ابانوغاك أن تتابع كلامها ، لعله يعرف على الأقل ما قالته لها أمها ، قبل أن تأني إليه تلك الليلة ، لكن دون جدوى ، ونظر إليها ، وإذا هي تغط في نوم عميق .
وفي اليوم التالي ، خرج ابانوغاك لصيد السمك في البحر ، دون أن يشير إلى الحديث ، الذي دار بينهما الليلة الماضية ، وإن كان ذلك الحديث ، لم يفارق ذهنه طول النهار .
وحتى عندما عاد من الصيد ، قبل غروب الشمس ، وقد اصطاد عدة سمكات ، لم يتفوه بكلمة مع حوريته سِدنا ، حول هذا الموضوع ، وترك الأمر لها ، ولم يعرف ما قالته لها أمها إلى النهاية .
وذات صباح ، وقد مرّ على حديثهما الأخير عدة أيام ، خرج ابانوغاك إلى البحر كالعادة ، وعاد مع غروب الشمس ، وقد اصطاد عدة سمكات ، من النوع الذي تحبه حوريته سِدنا ، ودفع الباب ، وهو يهتف : حوريتي .. سِدنا .. تعالي .
وعلى غير العادة ، لم تردّ حوريته سِدنا عليه ، وبالتالي لم تسرع إليه ، وتأخذ الأسماك منه ، فراح يتلفت حوله ، ويناديها قائلاً : سِدنا ، أين أنتِ ؟
وبدل أن يسمع حوريته سِدنا ترد عليه ، جاءه صوت بكاء طفل حديث الولادة ، ونظر إلى مصدر الصوت ، وإذا بمولود ملفوف بأقمطة ، أعدتها له منذ أشهر الحورية سِدنا ، وخفق قلبه فرحاً ، ولكن قلقاً أيضاً ، فها هي فرحته .. المولود ، لكن أين الحورية سِدنا ؟
وترك ابانوغاك المولود يبكي في الأقمطة ، ومضى إلى الخارج ، يبحث عن الحورية سِدنا ، فلعلها خرجت من البيت لسبب من الأسباب ، فيراها هنا أو هناك ، وتوقف يتلفت حوله ، وصراخ المولود يأتيه من الداخل ، لا فائدة ، لقد اختفت الحورية سِدنا ، وتركت له الفرحة التي وعدته بها ، لكنها انتزعت منه السعادة التي عرفها بحضورها في بيته ، طوال فترة وجودها .






" 8 "
ـــــــــــــــــــ
وصلت أولى إشعاعات شمس الصباح ، إلى ابانوغاك متسللة إليه ، عبر الكوة الصغيرة ، فاعتدل في فراشه ، ونظر إلى فراش الحورية الصغيرة ، التي عادة ما تكون في مثل هذا الوقت ، مستغرقة في نوم عميق ، وهتف بها بنبرة هامسة منغمة : حوريتي الصغيرة ، بينيا ، أفيقي ، لقد أفاقت الشمس .
لكن حوريته الصغيرة .. بينيا ، وعلى غير العادة ، لم تردّ ، ولم يأتِه منها ردّها الصباحيّ الدائم : أوه .. دعني ، يا بابا ، لا شأن لي بالشمس ، لتفق كما تشاء ، إنني لم أشبع من النوم بعد .
ونهض ابانوغاك من فراشه ، وهو يهتف بنفس النبرة المنغمة : انتهى الليل ، وجاء النهار ، وسأعد لي ولحوريتي الصغير بينيا ، ألذّ طعام في العالم ، لا تأكل منه غير الحوريات الصغيرات .
وأعد ابانوغاك الطعام ، على النار التي أشعلها في الموقد ، ثم انحنى على فراش الحورية الصغيرة ، وهو يقول : الطعام يحييكِ ، حوريتي الصغيرة بيتيا ، ويقول لك ، سأبرد ، وأفقد طعمي اللذيذ ، إذا لم تنهض الحورية الصغيرة بينيا ، وتأكل مني فوراً .
لم تنهض الحورية الصغيرة بينيا ، بل ولم تتململ وتتذمر ، على عادتها كلّ يوم ، فمدّ ابانوغاك يديه ، ليرفعها من فراشها وهو يقول : سآتي .. سآتي إليك .. وانتزعك من النوم ، الذي لا يريد أن يفلتكِ ، وآخذك عنوة إلى الطعام ، الذي تحبينه ..
وأزاح ابانوغاك الفراش قليلاً ، ليمد يديه كالعادة ، وينتزعها من النوم ، لكن .. الحورية الصغيرة بينيا ، لم تكن موجودة في مكانها ، وخفق قلبه خوفاً وقلقاً ، عجباً ، أين هي ؟ أين الحورية الصغيرة بينيا ؟
وتلفت حوله ، وقد استبد به القلق ، الحورية الصغيرة بينيا ، هي ابنة الحورية سِدنا ، وكما اختفت سِدنا فجأة ، فقد تختفي حوريته الصغيرة .. بينيا أيضاً ، وبذلك تحل الكارثة ، وأي كارثة ، يا للويل .
وهبّ من مكانه ، متلفتاً حوله وقلبه يخفق بشدة ، إنها ليست في الداخل ، قد تكون في مكان ما خارج البيت ، هذا إذا كانت لم تختفِ ، وأسرع إلى الخارج ، وتوقف متلفتاً حوله ، وهتف : بينيا .. بينيا .. بينيا .
وكفّ ابانوغاك عن الهتاف ، حين لمح آثار قدميها الصغيرتان ، متجهة إلى البحر ، فجرى مسرعاً في أثر قدميها ، وقلبه يخفق بشدة ، لكنه هدأ قليلاً ، حين رأى حوريته الصغيرة بينيا تجلس على الشاطىء ، جامدة لا تبدر منها أية حركة .
وتقدم ابانوغاك منها ، وقلبه يخفق بهدوء واطمئنان ، وجلس إلى جانبها ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فالتفتت إليه ، وقالت : بابا ..
ونظر ابانوغاك إليها ، متوغلاً في عينيها الزرقاوين الجميلتين ، فتابعت بينيا قائلة : لا أظنّ أنك تناولت طعام الإفطار ، يا بابا ..
فردّ ابانوغاك قائلاً بصوت هادىء : أنت تعرفين ، يا حوريتي الصغيرة بينيا ، أنني لن أتناول الطعام ، مهما كنت جائعاً ، إلا وأنتِ معي .
ولاذت الحورية الصغيرة بالصمت لحظة ، ثم نظرت إليه بعينيها الزرقاوين الجميلتين ، وقالت وكأنها تنظر إلى أعماق بعيدة : بابا ..
وردّ عليها ابانوغاك قائلاً : نعم ، حبيبتي .
وتابعت الحورية الصغيرة قائلة ، وعيناها مازالتا تنظران إلى الأعماق البعيدة : ليلة أمس ، ربما حوالي الفجر ، رأيتُ ماما في المنام .
وابتسم ابانوغاك لها ، رغم تأثره الشديد ، وقال بصوت راح يفقد هدوءه : لكنكِ ، يا حبيبتي بينيا ، أنتِ لم تري ماما من قبل .
فقالت الحورية الصغيرة : أنت قلت لي مراراً ، أنني أشبهها في كل شيء ، لها نفس عيني الزرقاوين ، والبشرة التي بلون الثلج ، والشعر الذهبي ، أليست هذه ماما التي حدثتني عنها ؟
وهزّ ابانوغاك رأسه ، وقال : نعم ، إنها هي .
فقالت الحورية الصغيرة :هذا ما رأيته في المنام .
ولاذ ابانوغاك بالصمت ، ولم يردّ عليها بكلمة واحدة ، فنظرت الحورية الصغيرة إلى البعيد ، وتابعت قائلة في صوت حالم : قلتُ لها ، ماما ، إنني أنتظركِ ، فقالت لي ، لا عليكِ يا بينيا ، لن يطول انتظاركِ .
وصمتت الحورية الصغيرة بينيا ، وبدا لابانوغاك وكأنها تنتظر ، فنهض من مكانه ، وقال : هيا يا حوريتي الصغيرة ، لابد أن أتناول طعام الإفطار معكِ الآن ، لقد حان أوان ذهابي إلى الصيد .
ونهضت الحورية الصغيرة ، وسارت إلى جانب أبيها ، وقالت بصوت هادىء : سأتناول طعام الإفطار معك ، يا بابا ، لكن بشرط .
وابتسم ابانوغاك لها ، وقال : حسناً ، اشرطي .
ورفعت الحورية الصغيرة عينيها إليه ، دون أن تتوقف ، وتابعت قائلة : الشرط هو ..
وصمتت لحظة ، وقالت : لا تقل لا ..
وابتسم ابانوغاك لها ، وقال : لن أقول لا ، حسناً ، ما هو شرطكِ ؟ قوليه ، وسترين أنني لن أقول لا .
فقالت الحورية الصغيرة : شرطي أن تأخذني بقاربك هذا اليوم ، لأصطاد السمك معك من البحر ، هذا شرطي ، لقد وعدتني ، فلا تقل لا .
وتوقف ابانوغاك ، وردّ عليها قائلاً : ولكنكِ أنتِ بنت صغيرة ، يا حوريتي ، وأنا أخاف عليكِ ، إنه البحر ، وأمواجه أحياناً تكون عالية ، و ..
وتوقفت الحورية الصغيرة بدورها ، وقالت : لا عليك ، يا بابا ، لن أخاف مادمتُ معك .
وهزّ ابانوغاك رأسه ، وقال : كلا ، لا أستطيع .
فعقدت الحورية يديها فوق صدرها ، وقالت بعناد : اذهب إذن ، يا بابا ، وتناول طعام الإفطار وحدك ، ثم اذهب إلى الصيد .
وأطرق ابانوغاك مفكراً ، ثم اندفع نحو الحورية الصغيرة ، وأخذها بين يديه القويتين ، ومضى بها نحو البيت ، وهو يقول : آه منكِ ، أنتِ تعرفين ، أنني لا أستطيع تناول الطعام وحدي ..
وقالت الحورية الصغيرة : أنت تعرف شرطي .
وردّ ابانوغاك قائلاً : نعم ، أعرفه .
وقالت الحورية الصغيرة متسائلة : عدني أولاً .
فردّ ابانوغاك ، وهو يدخل بها البيت : أعدكِ ، وأنا كما تعلمين ، أفي بوعدي دائماً .


" 9 "
ــــــــــــــــــ
أعدّ ابانوغاك طعام الإفطار ، وجلس إلى السفرة ، فجلست الحورية الصغيرة قبالته ، وأخذت قطعة من الطعام ، ووضعتها في فمها ، ثم نظرت إلى أبيها ، وقالت : لقد وعدتني .
وضحك ابانوغاك ، وقال : وأنا عند وعدي .
وراحت الحورية تأكل بحماس حتى شبعت ، ثمّ نهضت ، وقالت : لقد شبعت ، هيا حان وقت الصيد .
وترك ابانوغاك الطعام ، ربما قبل أن يشبع ، ونهض بدوره ، وأخذ شبكة الصيد ، وسبقته الحورية الصغيرة إلى السلة ، فاختطفتها من أمامه ، وقالت : دعِ السلة لي ، أنا سأحملها ، وسأملؤها بالسمك .
ومضى ابانوغاك إلى الخارج ، وأغلق باب البيت ، بعد أن لحقت به الحورية الصغيرة ، والسلة بين يديها ، وسار نحو قاربه ، فلحقت الحورية الصغيرة به ، وقالت : سترى ، يا بابا ، كم سنصطاد اليوم من السمك ، وستتوسل بي لأخرج معك غداً وفي كلّ يوم .
ودفع ابانوغاك القارب إلى البحر ، وهتف بحوريته الصغيرة قائلاً : هيا يا حوريتي ، اصعدي إلى القارب ، ولنبدأ رحلة اليوم ، وسنرى ما سنصطاد .
وركضت الحورية الصغيرة بينيا ، وسلة السمك بين يديها ، وصعدت إلى القارب ، وصعد ابانوغاك في أثرها ، واتخذ مكانه من القارب ، وراح يجذف ، ونظرت الحورية الصغيرة إليه ، وقالت ضاحكة ، إذا تعبت ، يا بابا ، سأجذف بدلاً منك .
وضحك ابانوغاك فرحاً ، وقال : سأدربك على التجذيف أيضاً ، وأجعل منكِ مجذفة بارعة .
وهتفت الحورية الصغيرة : وعد !
فردّ ابانوغتك : نعم ، وعد ، وسأفي به قريباً .
وهبت الحورية الصغيرة من مكانها ، ووقفت وسط المركب ، وهتفت بأعلى صوتها : ماما ، تعالي بسرعة ، سأكون صيادة سمك ماهرة .
وتوقف ابانوغاك بالقارب في عرض البحر ، ولاحت الجزيرة الصغيرة من بعيد ، وتطلعت الحورية الصغيرة إليها ملياً ، ثمّ تساءلت : تلك الجزيرة الصغيرة ، ما اسمها ، يا بابا ؟
وتطلع ابنوغاك إلى حيث تنظر حوريته الصغيرة ، فخفق قلبه بشدة ، فقد ذكرته تلك الجزيرة بحوريته الجميلة ، وردّ قائلاً : تلك الجزيرة اسمها ، يا حوريتي بينيا .. جزيرة الحور .
وابتسمت الحورية الصغيرة ، وقالت : تلك جزيرتي إذن ، عليكَ أن تأخذني إليها يوماً ، يا بابا ، أريد أن أراها ، وأتجول في أرجائها .
ونظر ابانوغاك إليها ، وقال : حسناً ، يا حوريتي ، سآخذك يوماً إليها ، ونتجول فيها أنا وأنتِ .
وتنهدت الحورية الصغيرة ، وهي مازالت تتطلع إلى الجزيرة الصغيرة ، وقالت : آه ليت هذا اليوم قريب ، إنني حورية ، ومن حقي أن أتجول في جزيرتي .
وأمسك ابانوغاك شبكة الصيد ، وتأهب لإلقائها في البحر ، وهو ينظر إلى الحورية الصغيرة ، وهتف بها : حوريتي ، تهيئي ، حان وقت صيد السمك .
وأمسكت الحورية الصغيرة بالسلة ، وقالت : هيا ، ارمِ الشبكة ، لابدّ أن نملأ هذه السلة بالسمك .
ورمى بانوغاك الشبكة ، وراقبها ومعه الحورية الصغيرة ، وهي تغوص في الماء ، وراح ينتظر ، وهو يقول : والآن سنسحب الشبكة ، ونرى ما فيها .
وسحب بانوغاك الشبكة بهدوء ، وراحت الحورية تراقبها ، وهي تخرج من الماء شيئاً فشيئاً ، وتنهدت متضايقة محبطة ، حين خرجت الشبكة بكاملها ، وهي خالية تماماً من الأسماك .
وأمسك ابانوغاك بالشبكة ، ورمق الحورية الصغيرة بنظرة خاطفة ، ثم قال : آه يبدو أن السمك قد رآكِ ، وخاف منك ، فلاذ بالفرار .
وهتفت الحورية الصغيرة غاضبة : تباً للسمك ، بابا ، ارمِ الشبكة ثانية ، لن يفلتوا منّا .
ورمى ابانوغاك الشبكة ثانية وثالثة وعاشرة ، لكن النتيجة كانت واحدة ، لا أسماك في الشبكة ، وبعد منتصف النهار ، تظاهر ابانوغاك بالتعب ، وقال لحوريته الصغيرة : بينيا ، حوريتي ، يبدو أننا لن نصطاد اليوم شيئاً من السمك .
وصمت لحظة أمام نظرتها المحبطة الحزينة ، ثم تابع قائلاً : حوريتي الصغيرة ، هذا يحصل أحياناً ، لا عليكِ ، سنأتي غداً ..
وصاحت الحورية الصغيرة : كلا ..
وتابع ابانوغاك قائلاً : بنيتي ، لدينا ما نأكله اليوم ، سنأتي غداً ، أنا وأنت ، في وقت مبكر ، ونفاجىء السمك ، ونصطاد الكثير منه .
وضربت الحورية القارب بقدمها ، وقالت بإصرار : لن أعود اليوم من البحر ، دون أن أصطاد ولو سمكة واحدة ، بابا هذا يومي الأول .
ولاذ ابانوغاك بالصمت لحظة ، ثم نظر إلى حوريته الصغيرة ، وقال : لكن الأسماك ..
وقاطعته الحورية الصغيرة قائلة : ارمِ الشبكة إلى البحر مرة أخرى ، يا بابا .
وتنهد ابانوغاك ، متظاهراً بالتعب الشديد ، وقال : إنني متعب جداً ، يا حوريتي .
ونظرت الحورية الصغيرة إليه ، وقد هدأت قليلاً ، ثم قالت : حسناً ، ارمها للمرة الأخيرة .
وتحامل ابانوغاك على نفسه ، متظاهراً بالتعب الشديد ، ورفع شبكة الصيد ، وبكل ما لديه من قوة ، رماها إلى الماء ، وراقبتها الحورية الصغيرة ، وهي تختفي شيئاً فشيئاً في أعماق البحر .
وانتظرت الحورية الصغيرة متلهفة ، وابانوغاك ينظر إليها بطرف عينيه ، ثم قال لها : لن أسحب الشبكة من البحر ، حتى تأمرينني بذلك .
ورمقته الحورية الصغيرة بنظرة سريعة ، ثم نظرت إلى الأعماق ، حيث غاصت الشبكة ، وقالت : لن نتعجل هذه المرة ، لننتظر بعض الوقت .
ولم ينتظر ابانوغاك طويلاً ، فقد هتفت به الحورية الصغيرة سريعاً قائلة : اسحب الشبكة ، الآن .
وعلى الفور ، سحب ابانوغاك الشبكة ، من أعماق البحر ، وفجأة وثبت الحورية الصغيرة ، وهي تصيح فرحة : باب ، انظر ، سمكة ، سمكة كبيرة .


" 10 "
ـــــــــــــــــــــ
عاد ابانوغاك وحوريته الصغيرة بينيا ، بالقارب من حيث أتيا ، ومعهما السمكة التي اصطاداها ، بالرمية الأخيرة للشبكة في البحر .
وحين وصلا إلى الشاطىء ، نزل ابانوغاك من القارب ، وأنزل حوريته الصغيرة بينيا ، ثم سحب القارب بعيداً عن الماء ، كما يفعل دائماً .
وأخذ السمكة من القارب ، وهمّ أن يمضي بها إلى البيت ، فاقتربت الحورية الصغيرة منه ، وأخذت السمكة ، وقالت : بابا ، اذهب أنت إلى البيت ، سأنظف أنا السمكة هنا ، ثم ألحق بك إلى الداخل .
وتوقف ابانوغاك مندهشاً ، وابتسامة فرحة تبرق فوق شفتيه ، وقال : حوريتي ، أنت مازلتِ صغيرة على مثل هذه الأعمال .
فتطلعت الحورية الصغيرة إليه ، بعينيها الزرقاوين الجميلتين ، وردت قائلة : لقد ساعدتك هنا ، في تنظيف السمك أكثر من مرة ، ثمّ إن هذه السمكة من صيدي ، ولن ينظفها أحد غيري .
وهزّ ابانوغاك رأسه ضاحكاً ، واتجه إلى البيت ، وهو يقول : حسناً سأسبقك إلى داخل البيت ، وأشعل النار في الموقد ، لكي نشوي أنا وأنتِ هذه السمكة .
والتمعت عينا الحورية الصغيرة بالفرح ، وقالت بصوت مرتفع : سأتعلم كيف تشوى الأسماك ، وعندئذ ستكون هذه مهمتي أنا في البيت .
واقترب ابانوغاك من باب البيت ، وهو يغالب ابتسامته ، مما قالته الحورية الصغيرة بينيا ، وتوقف على مقربة من الباب ، وقد اختفت ابتسامته من فوق شفتيه ، فقد بلغت أنفه ، رائحة يعرفها جيداً ، يا للعجب .
أهو يحلم ؟ هذه رائحة كعك ، كانت تخبزه حوريته سِدنا ، وقد أعجبه هذا الكعك جداً ، وقد قالت له ، عندما خبزته له للمرة الأولى ، هذا الكعك كانت تخبزه أمي ، وكان أبي يحبه جداً .
وهنا اندفع إليه جروه الصغير ، ويبدو أنه كان نائماً في مكان قريب ، وراح ينبح فرحاً ، ويبصبص بذيله الكث ، فنهره ابانوغاك قائلاً بصوت خافت ، مشيراً له أن يمضي : صه أيها الأحمق ، اذهب بعيداً .
وصمت الجرو الصغير ، وقد نكس ذيله الكث ، وعاد من حيث أتى ، والتفت ابانوغاك إلى باب بيته ، الذي تتسرب منه ، على ما يبدو ، رائحة الكعك ، أيعقل هذا ، أم أنّ الأمر مجرد وهم .
واقترب ابانوغاك من الباب ، مستنشقاً رائحة الكعك الشهي ، المتسرب من الداخل ، ودفعه بهدوء ، وتقدم إلى الداخل ، وكلَ حواسه مستنفرة ، وتوقف مذهولا ، حين وجد نفسه وجهاً لوجه مع الحورية سِدنا .
وابتسمت له الحورية سِدنا ، وقالت : ابانوغاك ، أعرف أنك لم تذق هذا الكعك ، الذي تحب أكله كثيراً ، منذ فترة طويلة ، طويلة جداً .
ووقف ابانوغاك جامداً ، دون أن يتفوه بكلمة ، فمدت الحورية الصغيرة يدها إليه بكعكة ، مازالت روح النار تسري في ذراتها ، وقالت : تذوقها ، وسترى أنها نفس الكعك الذي كنت أخبزه لك .
وتحرك ابانوغاك ، ومدّ يده ، وعيناه لا تفارقان عينيها الزرقاوين الجميلتين ، وأخذ الكعكة منها ، ورفعها إلى فمه بهدوء ، وقضم قطعة صغيرة منها ، فابتسمت له الحورية سِدنا ، وقالت : أرأيت ؟ إنه نفس الكعك .
وهزّ ابانوغاك رأسه ، وتمتم : نعم ، إنه نفس الكعك ، والحقيقة .. إنه ألذّ .
ولاذ ابانوغاك بالصمت ، وهو مازال يحدق في عينيها ، فاقتربت الحورية منه ، وتمتمت : ابانوغاك ..
ومن غير أن يحول ابانوغاك عينيه عنها ، قال : لا أعرف بالضبط ، لماذا اختفيت ، يا سِدنا ، وتركت لي حوريتي الصغيرة .
ودمعت عينا الحورية سِدنا ، لكنها لم تحر جواباً ، فتابع ابانوغاك قائلاً : طالما فكرت ، وأنتِ بعيدة عني ، وعن ابنتنا بينيا ، أن ما قالته لك أمك ، قبل أن تأتـي إليَ للمرة الأولى ، كان هو السبب .
وسالت دمعتان من عيني الحورية سِدنا ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، وابانوغاك مازال يحدق فيها ، فتساءل بصوت خافت : أهذا هو السبب ؟
وهزت الحورية رأسها ، ثم قالت ، دون أن تمسح الدموع عن وجنتيها : نعم .
وتساءل ابانوغاك : ماذا قالت لكِ أمكِ ؟
فنظرت الحورية سِدنا إليه من خلال دموعها ، وقالت : حثتني أمي على العودة إليك ، وقد قالت لي ، أنتِ فيك شيء من الإنسان ..
وصمتت لحظة ، ثم تابعت قائلة : لكني أخشى ، أنك إذا حملتِ ، ووضعت مولوداً ، أن تضعي معه ، بعيداً عنكِ ، هذا الجزء من الإنسان .
وهنا دُفع الباب ، وهلت الحورية الصغيرة ، والسمكة بين يديها الصغيرتين ، وهي تهتف فرحة : بابا ، نظفت السمكة ، هيا نضعها في ..
وصمتت الحورية الصغيرة ، وقد تعلقت عيناها الزرقاوان الجميلتان بالحورية سِدنا ، وسقطت السمكة من بين يديها ، وهي تتمتم : ماما..
وردت الحورية سِدنا مذهولة : نعم ، ماما .
والتمعت عينا الحورية الصغيرة ، وقالت : عرفتُ أنكِ ستأتين اليوم ، فقد رأيتك ليلة البارحة في المنام ، وناديتكِ صباح اليوم ، فأتيتِ ..
وأسرعت الحورية سِدنا إليها ، وقد مدت يديها ، واحتضنت الحورية الصغيرة ، وهي تقول بصوت دامع : لقد سمعتكِ من الأعماق ، فأتيت .
ومدت الحورية الصغيرة يديها ، وطوقت بهما عنق الحورية سِدنا ، وهي تقول بلهفة : ماما .. ابقي معنا هنا .. ولا تتركيني وحدي .
وراحت الحورية سِدنا ، تقبل وجنتيها وشعرها الذهبي ، وتنظر إلى ابانوغاك ، الذي يقف دامع العينين ، وهي تقول : لن أتركك ، يا حوريتي الصغيرة ، ولن أترك بابا أيضاً ، مهما كانت الظروف .


5 / 7 / 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال