الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المادية التاريخية تزودنا بمنهج وتطبيق للتفسير التاريخي الصحيح

خليل اندراوس

2022 / 9 / 17
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية



ابراز ماركس وانجلز للعلاقات الاقتصادية، العلاقات الانتاجية، بوصفها العلاقات الرئيسية والحاسمة من بين العلاقات الاجتماعية العديدة قد مكنهما من صياغة مفهوم التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية وهو من اهم المفاهيم الاساسية للمادية التاريخية.
ان التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية هي مجموع الظواهر والعمليات الاجتماعية (الاقتصادية والايديولوجية والعائلية والمعيشية والخ) القائمة على اسلوب معين تاريخيا لانتاج الخيرات المادية. ان تطور المجتمع هو عبارة عن الحلول الحتمى لتشكيلة اجتماعية اقتصادية اكثر تطورا محل أخرى قديمة وتتجسد الحركة التقدمية للتاريخ البشري في الانتقال من التشكيلة المشاعية البدائية إلى التشكيلة العبودية ثم الاقطاعية، ثم الرأسمالية واخيرا إلى التشكيلة الشيوعية. وبوضع المادية التاريخية برهن ماركس وانجلز ان الجماهير الشعبية الشغيلة هم الصناع الحقيقيون للتاريخ.
ينتج الشعب بعمله كل القيم المادية الضرورية للناس ويشكل عمل الملايين من بسطاء الناس الاساس الضروري لحياة المجتمع وتطور البشرية، ومن اعظم افضال ماركس وانجلز كذلك انهما كثفا الجدلية الموضوعية للتطور الاجتماعي وبنتيجة ذلك لم يعد التاريخ تجميعا فوضويا لوقائع غير مترابطة بل اتخذ شكل عملية قويمة متكاملة تجري بموجب القوانين الجدلية، ان موضوع المادية التاريخية هو دراسة المجتمع وقوانين تطوره، وهذه القوانين موضوعية أي مستقلة عن وعي الانسان تماما كقوانين تطور الطبيعة ومثلها مثل قوانين الطبيعة يمكن معرفتها ويستخدمها الانسان في نشاطه العملي، والى جانب هذه السمات المشتركة توجد هناك فروق جوهرية بين قوانين الحياة الاجتماعية وقوانين الطبيعة وتعكس قوانين الطبيعة فعل قوى عفوية عمياء، بينما تظهر قوانين التطور الاجتماعي دائما من خلال افعال الناس ككائنات واعية تضع لنفسها اهدافا معينة وتعمل على تحقيقها.
لا تدرس قوانين الحياة الاجتماعية من جانب المادية التاريخية وحدها بل كذلك من جانب العلوم الاجتماعية الاخرى – الاقتصاد السياسي، التاريخ، علم الجمال، علم التربية وهلمجرا.. لكن جميع هذه العلوم تدرس مجموعة معينة فقط من الظواهر الاجتماعية وتتناول المجتمع من أحد جوانبه فقط دون ان تعطي فكرة عن عملية التطور الاجتماعي ككل على سبيل المثال يدرس الاقتصاد السياسي العلاقات الاقتصادية او الانتاجية بين الناس ويهتم التاريخ بتطور المجتمع في مختلف العصور ومختلف البلدان ويقتصر علم الجمال على مجال الفنون وهكذا. وخلافا لعلوم المجتمع المحددة تدرس المادية التاريخية اهم قوانين التطور الاجتماعي لهذا تقدم المادية التاريخية تفسيرا علميا وماديا جدليا لظواهر الحياة الاجتماعية، وهي تعالج كذلك المسائل العامة الهامة للتطور التاريخي كالعلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي واهمية الانتاج المادي في حياة الناس واصل ودور الافكار الاجتماعية والمؤسسات المناسبة لها، كما تساعدنا المادية التاريخية في فهم دور الشعوب والافراد في التاريخ وكيف نشأت الطبقات وكيف ظهر كل من الصراع الطبقي والدولة ولماذا تحدث الثورات الاجتماعية وما هي اهميتها بالنسبة للعملية التاريخية وعدد آخر من المسائل العامة لتطور المجتمع. والذي يجعل العملية الاقتصادية اساسية في التطور الاجتماعي هو ان اتجاه العملية الاقتصادية يمكن تفسيره بعبارات القوانين الاقتصادية. وما ان ندرك هذه القوانين حتى يصبح التطور الاجتماعي بأسره كل التفاعل المعقد الهائل قابلا للتفسير – على الاقل في خطوطه العامة اما الافكار والمؤسسات تتطور على اساس الاقتصاد وليس لها تطور مستقل وكما اعلن ماركس وانجلز في "الايديولوجية الالمانية" انها.. "ليس لها تاريخ، ليس لها تطور، لكن الناس اذ يطورون انتاجهم المادي وعلاقاتهم المادية يغيرون معها وجودهم الواقعي وتفكيرهم ومنتجات تفكيرهم".
وهكذا فطالما اعتبرت الافكار العامل المحدد في تطور المجتمع فان من المستحيل التوصل إلى أي تفسير علمي للتطور الاجتماعي أي تفسيره على ضوء قوانين التطور لأنه اذا درست الافكار والدوافع المتغيرة التي تعمل في الحياة الاجتماعية بذاتها كمجال مستقل فان من المستحيل ان نكتشف أي قوانين كلية تنظمها. ولن نكتشف القانون الكلي للتطور الاجتماعي الا حينما نستدير إلى الاساس الاقتصادي – وهذا القانون هو ان الناس يدخلون في علاقات انتاج تتوافق مع قوى انتاجهم وعندئذ فان التطور الذي يبدو عارضا للايديولوجية والدين والسياسة وما اليها يندرج في اطار ويجد تفسيره. قال لينين في "من هم اصدقاء للشعب" ان ماركس: "كان اول من وضع علم الاجتماع على اساس علمي بإرسائه لمفهوم التكوين الاقتصادي للمجتمع كمجموع لعلاقات الانتاج وبإرسائه حقيقة ان تطور مثل هذه التكوينات عملية من عمليات التاريخ الطبيعي". ومضى لينين يوضح ان ماركس في كتابه رأس المال لم يحلل باستفاضة فحسب التركيب الاقتصادي الرأسمالي وقوانين تطوره بل اوضح كيف تنشأ في توافق مع تطوره انماط محددة للوعي.
فبعد ان توصل ماركس في اربعينيات القرن التاسع عشر إلى مفهوم المادية التاريخية العام مضى يطبقه ويطوره ويتحقق منه.

من هنا نستطيع ان نقول بان المادية التاريخية تزودنا بمنهج للتفسير التاريخي وتتضح صحتها بتطبيق هذا المنهج على الحالات المحددة، وتبين انها قادرة حقا على تفسيرها.

من هنا نستطيع ان نقول بان عملية الانتاج الاجتماعي هي العملية الاولية لكل حياة اجتماعية وهي "اولية" بهذا المعنى بالتحديد: ان الحياة الاجتماعية تبدأ بها، وانها موجودة باستمرار طوال كل حياة اجتماعية وان أي نشاط اجتماعي آخر او علاقة اجتماعية أخرى لا يمكن ان تحدث ما لم تستند إلى هذا النشاط الاولي هذه العلاقة الاجتماعية الاولية، ومن هذا الطرح مضى ماركس لصياغة فرض عام يتألف من عدة قضايا مترابطة يمكن ان يقال انها تشكل معا قانونا عاما للتطور الاجتماعي والخطوط العريضة لهذا الطرح هي:
1- لكي يقوم الناس بالانتاج لا بد ان يدخلوا في علاقات انتاجية وتتصل هذه العلاقات بملكية وسائل الانتاج وبأسلوب توزيع المنتجات وهي تحدد في مجموعها التركيب الاقتصادي للمجتمع.

2- يدخل الناس في علاقات الانتاج وبذا يرتبطون في تنظيم اقتصادي في استقلال عن أي قرار واع وانما في توافق مع طبيعة قواهم الانتاجية وبعبارة أخرى فان الناس الذين يعتمدون في معيشتهم على تقنيات انتاجية معينة ينشئون علاقات ملكية – وفي النهاية علاقات طبقية – ملائمة لهذه التقنيات وعلى سبيل المثال: ستعيش قبيلة صيد بدائية الحياة الاجتماعية للشيوعية البدائية، وحين تستأنس الحيوانات ستتجه القطعان إلى ان تكون ملكية عائلات معينة داخل الجماعة، وحين استخدمت الآلات التي تعمل بالطاقة للمرة الاولى فقد كان ذلك باعتبارها مملوكة للرأسماليين الذين يستخدمون العمل المأجور وهكذا.
3- وعندئذ ستنشأ مؤسسات اجتماعية – ومعها نظم سائدة من الافكار – تتوافق مع التركيب الاقتصادي للمجتمع وسيكون من شأنها ان تخدم سير اسلوب الانتاج السائد، وعلى سبيل المثال: لا يكاد يمكن لقبيلة بدائية ان يكون لها جمعية تشريعية او جيش دائم او قوى بوليسية او جامعات، ومن الناحية الاخرى فان مثل هذه المؤسسات لازمة لاستمرار المجتمع الرأسمالي الحديث ولا تنشأ مثل هذه المؤسسات وما يتجاوب معها من ايديولوجيات الا حين يوجد اساس اقتصادي معين.
وتكون هذه القضايا الثلاث مفتاح تفسير كيفية سير التطور الاجتماعي وكيف تنشأ وتتغير مختلف السمات التاريخية للمجتمع ففي توافق مع قوى انتاجية معينة تظهر إلى الوجود علاقات انتاجية معينة وفي اطار هذه العلاقات الانتاجية تتطور في النهاية قوى انتاجية جديدة، وعندئذ ينشأ وضع تبدأ فيه علاقات الانتاج القديمة تشكل على حد تعبير ماركس – "قيودا" امام مزيد من تطور الانتاج، ويكون من الضروري حينئذ ان تتغير علاقات الانتاج ويتغير معها كل "التركيب العلوي" من الافكار والمؤسسات، وهكذا فان المادية التاريخية الجدلية تفترض قانونا للتبعية المتبادلة بين الانتاج وعلاقات الانتاج والتركيب العلوي الاجتماعي من المؤسسات والافكار. لكن في نفس الوقت علينا ان نؤكد "بان الاقتصاد لا يخلق شيئا جديدا" لكنه يحدد الطريقة التي تتغير بها مادة الفكر القائمة وتزداد تطورا" (ف. انجلز: رسالة إلى س شميدت في 27 اكتوبر 1890).
وهكذا فان الامر ذا الاهمية الاساسية في تطور الافكار والمؤسسات هو انها ليس لها تطور مستقل وانما تخلق على اساس الاقتصاد المعين وتظل هناك دائما مشكلة تفسير خصائص تطور الافكار والمؤسسات في كل بلد معين واي دور تلعبه في كل فترة بعينها من تاريخه، ولا يمكن ان تحل هذه المشكلة بالصيغ العامة وحدها وانما فحسب على ضوء الوقائع ذاتها.

ان مفعول القوانين التي تدرسها المادية التاريخية لا يسري في نفس المجال الواحد فبعضها يفعل في جميع مراحل تطور المجتمع. من بين هذه القوانين مثلا القانون القائل بأن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي والقانون القائل بان اسلوب الانتاج هو الذي يحدد تطور المجتمع. ويفعل البعض الآخر من القوانين في مراحل معينة من تطور المجتمع فقط ومن هذه القوانين قانون الصراع الطبقي الذي يسري مفعوله فقط في المجتمعات المنقسمة إلى طبقات متعادية. ولدى دراسة المجتمع تصوغ المادية التاريخية ايضا المقولات او المفاهيم المناسبة التي تعكس اكثر جوانب التطور الاجتماعي عمومية وجوهرية، ومن هذه المقولات مثلا "الوجود الاجتماعي" "الوعي الاجتماعي"، "اسلوب الانتاج"، "البناء التحتي"، "البناء الفوقي"، "التقدم الاجتماعي" وكثير غيرها.
ان قوانين ومقولات المادية التاريخية بمجملها هي التي تعطي الصورة المتجانسة المكتملة عن التطور الاجتماعي، كتب ماركس يقول: "لا يمكن ان يزول تشكل اجتماعي قبل تطور جميع القوى المنتجة التي يمكن ان يشتمل عليها ولا تنشأ شروط انتاج عليا قبل تفتح امكانيات وجودها المادية وسط المجتمع القديم" (اسهام في نقد الاقتصاد السياسي 1859) وهذا لا يعني تهميش دور البشر بما هم من وعي وفعل، فالبناء الفوقي للمجتمع من وعي وفكر وفعل له علاقة جدلية مع الاساس الاقتصادي للمجتمع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصريح الأمين العام عقب المجلس الوطني الثاني لحزب النهج الديم


.. رسالة بيرني ساندرز لمعارضي هاريس بسبب موقفها حول غزة




.. نقاش فلسفي حول فيلم المعطي The Giver - نور شبيطة.


.. ندوة تحت عنوان: اليسار ومهام المرحلة




.. كلمة الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي العمالي الرفيق جمال