الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموسيقار بليغ حمدى من الصعيد إلى العالمية

محمد حمادى
كاتب رأى حر مصرى

2022 / 9 / 17
الادب والفن


يعد الموسيقار بليغ حمدى واحدًا من أبرز الملحنين فى صناعة الموسيقى العربية، بدأ نجوميته مبكرًا وكان ارتباط اسمه بعمالقة الغناء العربى مجد عظيم وضع بليغ على القمة حتى رحيله فى سبتمبر سنة 1993 ،

رغم مولده فى شبرا بالقاهرة، ومعايشته منذ الطفولة وحتى الكبر حياة القاهرة بصخبها وكل تناقضاتها، فإن أصول الملحن الكبير بليغ حمدى الصعيدية، ونسبه الذى يعود إلى مركز طهطا بسوهاج، استطاعت أن تترك بصماتها فى روحه، التى ترجمها فى كثير من ألحانه، وربما ساعدت مربيته الصعيدية، عبر أغانيها التى غنتها له من التراث الصعيدى منذ الصغر، فى تنمية هذا الأثر لديه ، لغة أخرى خلقتها ألحان الموسيقار بليغ حمدى لتوازى، بل تصبح أكثر قوة من الكلمات، فقد استطاع الموسيقار الراحل أن يجسد ويترجم الرهبة التى عاشتها قرية الدهاشنة الصعيدية فى فيلم «شىء من الخوف»، بموسيقاه، لتجسد ألحانه تطور أحداث الفيلم، التى بدأت بالخوف والرهبة والصمت، ثم الغضب المكتوم، لتنتهى بالثورة، والتى خلقت للفيلم صوتاً وإحساساً كانا سبباً فى إنجاحه إلى جانب السيناريو والحوار.

كان للموسيقار الكبير الفضل فى نشر التراث الصعيدى، فاستطاع أن يجسد اللون الصعيدى فى ألحانه بشكل جذب كل من يسمعه له، فأدخل المزمار الصعيدى، والإيقاعات المتعلقة بالتراث الصعيدى، فى بعض الأغانى التى لحنها لعبدالحليم حافظ، كأغنية «أنا كل ما أجول التوبة يا بوى ترمينى المجادير يا عين».
وفى هذا السياق نشرت الإعلامية نهال كمال ذكرياتها مع الخال الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى فى صحيفة الدستور المصرية بعنوان " نهال كمال تتذكر العبقرى بليغ حمدى " :
( بدأت علاقة عبدالرحمن ببليغ حمدى قبل زواجنا بفترة طويلة، ولذلك كنت حريصة على أن أسأله عن سر هذا الارتباط الفنى والعاطفى الشديد الذى دام سنوات طويلة واستمر حتى آخر رحلة سافر فيها للعلاج فى باريس.
حكى لى عبدالرحمن أنه صار صديقًا لبليغ حمدى منذ أول لقاء بينهما فى عام ١٩٦٤.
حين قابله عند الأستاذ محمد حسن الشجاعى فى الإذاعة، فاحتضنه كأنه يعرفه منذ زمن طويل، فخرجا معًا وسارا معًا وحدّثه بليغ بحماس شديد عن أغنية «تحت السّجر يا وهيبة» التى أحدثت دويًا فى تلك الفترة، وفى أيام قليلة أبدعا «عدوية» و«بيتنا الصغير» و«وسّع للنور» و«آه يا ليل يا قمر» و«شباكين عَ النيل» و«آه يا أسمرانى اللون» و«أنا كل ما أجول التوبة» التى كانت سببًا فى الخلاف، فقد رأى عبدالرحمن أن تكون بصورتها الصعيدية الفلكلورية كما فى الصعيد، فى حين رأى بليغ أن يغلّفها بالرقة ويضع «الفلاتر المدنية» ويخلق جملة جديدة ليجعل الأغنية على شفاه أبناء المدن.
كذلك انحاز إلى جانب عبدالحليم فى معركة «أجول» و«أقول»، وتفاقم الخلاف بينهما إلى حد جعل بليغ يمسك عوده قائلًا: «عودى ده يخلق ألف أبنودى»!
ثم اعتذر فيما بعد عن هذا القول، وأدرك أنه أضاع وقتًا ثمينًا كان يمكن أن يثمر أغنيات كثيرة.
كنت أتعجب، كيف حدث الخلاف بين الخال وبليغ وهما الاثنان صعايدة. ويفسّر عبدالرحمن ذلك قائلًا:
«بليغ صعيدى من سوهاج وقد لا يكون عاش فى الصعيد وامتزج مثلى بترابه وربما لا يعرف منه أو عنه سوى اسمه، ولكنه كان دائم الحديث عن صباه وشبابه فى شبرا.
ولكن العجيب فى الأمر أنه كان يحمل فى داخله تراثًا موسيقيًا صعيديًا يمثل طبقة من طبقات عديدة تؤلف تكوينه الفذّ.. ولم أكن فى حاجة لأن أبذل جهدًا كبيرًا لإيقاظ الصعيد الموسيقى داخله.
أما سبب صدامى معه (فى بعض الأحيان) فإننى كنت صعيديًا قُحًا، وكان رقيقًا لدرجة مربكة، ولكنّ موسيقاه الصعيدية ألغت المسافات وخلقت الألفة، وأحسست أن الخلاف فى التكوينين ضئيل».
ويرى عبدالرحمن أن أغنية «الهوى هوايا» هى نغمات صعيدية خالصة اختفت تحت ستار عصرى من موسيقى «موزّعة» وأداء شيك. ولا ينسى صورة طلاب المدارس «المسطّحين» فوق عربة قطار يغادر قنا متجهًا جنوبًا، وهم يغنّون بصوت واحد هذه الأغنية كأنهم ورثوها عن أهاليهم، شأنها شأن أغنياتهم الفلكلورية. ويؤكد عبدالرحمن أن وجوده إلى جوار بليغ فترة شجعه على البوح والكشف عن ملامح الصعيدى ابن سوهاج الذى كان مختبئًا داخله.

ومن الغريب أن أغنية «الهوى هوايا» بدأت من جملة موسيقية لحّنها بليغ وأُعجب عبدالرحمن باللحن وقال لبليغ: «دى جملة دهب، لازم تبدأ بحاجة زى (الودّ ودّى)، (الهوا هوايا)».
فقفز بليغ قائلًا: «بس هى دى (الهوى هوايا)»!
الهوى هوايا أبنيلك قصر عالى
واخطف نجم الليالى
واشغلّك عقد غالى يضوى بأحلى الصبايا
أنا الهوى هوايا
أما التجربة الكبيرة التى خاضاها معًا فهى «شىء من الخوف»، وهو الفيلم الذى كتب حواره وأغانيه التى شدّت الفنانة الكبيرة شادية.
وطلب عبدالرحمن من بليغ أن يضع فى اعتباره أن تكون الموسيقى أقرب إلى السيمفونيات العالمية والغناء الملحمى، وبالفعل استطاع أن يضيف بعدًا آخر لنجاح الفيلم بالأغانى، وحين كان يُعرض الفيلم على إحدى الفضائيات كان يشاهده الخال من أول مشهد إلى آخر مشهد، وكان يردد مع الممثلين أدوارهم فقد كان حافظًا حواره عن ظهر قلب، وكان يقول:
«ماكانش ممكن أى حد حيعرف يكتب الحوار دا زيّى لأنى عشت الأجواء دى وأبويا كان مأذون شرعى».
من أهم الأغانى التى يعتز بها عبدالرحمن فى رحلته مع بليغ حمدى أغنية «موال النهار»، لأنها أول أغنية اعترفت بالهزيمة بعد نكسة ١٩٦٧، وحين كان يذهب إلى الدول العربية لإقامة أمسيات شعرية كان يُعرف بأنه «شاعر موال النهار»، كذلك أغنية «المسيح» التى غنّاها عبدالحليم فى لندن مرة واحدة لجمع التبرعات للمجهود الحربى، ومُنعت إذاعتها فى مصر لفترة طويلة، وقال الخال:
«حين اندلعت الانتفاضة كسرت الأغنية الأدراج وخرجت لتعبّر عن الجرح الفلسطينى»!
رنّت تراتيل الكنايس فى الخَلا
وصبح الوجود إنجيل على أرضها
«أغنية (المسيح)، لحن بليغ حمدى»
حين عاد بليغ إلى مصر بعد غياب «بعد انتهاء الأزمة القانونية التى أبعدته سنوات طويلة» كان يأتى إلى منزلنا مصطحبًا عوده لعمل ألحان جديدة لمطربين جدد أو لمحمد رشدى «وما زال عود بليغ حمدى موجودًا فى منزلنا حتى الآن»، وكانت آية الأبنودى فى تلك الفترة لم تتعدَّ أربع سنوات، وحين تسمع نغمات العود تأتى للجلوس إلى جانب الأستاذ بليغ، فيغنّى لها أغانى الأطفال، كما أهداها بيانو صغيرًا ما زالت تحتفظ به.
قد تكون الفترة التى شاهدتُ فيها الأستاذ بليغ فترة قصيرة، ولكنه كان دائمًا حاضرًا فى كلام عبدالرحمن وذكرياته.
وآخر مكالمة سمعنا فيها صوته كانت من المستشفى فى باريس، طلب منّا الدعاء له وأحسّ باقتراب النهاية، وقال: «ادّونى حقنة صعبة قوى وربنا يستر، ادعوا لى».
وبعدها بيوم وافته المنية ليعود جثمانه إلى أرض الوطن ويُدفن فى مصر.
ودّع عبدالرحمن بليغ قائلًا:
«تحية لك يا بليغ وأنت معى بالأمس، وتحية لك وأنت غائب لا تغيب».
وأقول لهما: تحية لكما وأنتما لا تغيبان. )

تعرض بليغ حمدي في حياته لأقسى أنواع الظلم والاحساس بالمرارة والانكسار، جاءته الطعنة من المعشوق الأول والأخير ومن حبه الدائم وجد نفسه متهما في قضية عبثية محاطا بأسوار الشك والظنون ثم العزلة وما أقساها من عزلة من الذين يعتقدهم أحباء وأصدقاء وتخلى عنه من أغدق عليهم بفنه وماله وعطاءه اللامحدود، غادر وطنا رغما لعل يجد في المنفي الباريسي مثوى يلجأ اليه ويحتمي فيه ويلوذ به من غدر الزمن ، كانت غربة قاسية تركت بصماتها على ملامحه وآثارها في قلبه المكلوم، لم يسأل عنه الا القليل، ولم يشفع له عند الحكم أنه بليغ ابن يوليو وابن أكتوبر وابن مصر، كيف تتخلى عنه السلطة في قضية ملفقة لفتاة ليل راحت ضحية أوهامها، يعود بعد حكم البراءة الى مصر لكنه عاد بليغ آخر وكأنه جاء ليحقق حلمه الأخير أن يحتضنه تراب الوطن فيموت بعدها بعام تقريبا وكأنها كانت عودة الوداع .
يكفي بليغ حمدي أنه مازال صاحب الرقم القياسي في الإنجاز والاعجاز الموسيقي الغير مسبوق، فهو الأعلى إنتاجا، فقد ترك أكثر من 3 آلاف لحن، وهو صاحب الألحان الأكثر تنوعا والأكثر توزيعا، لحن لكل مطربى مصر والعرب تقريبا من أم كلثوم إلى حليم وشادية وصباح ونجاة وعفاف راضى وفايدة كامل ومحرم فؤاد وهدى سلطان وحتى أحمد عدوية، علاوة على كبار الفنانين العرب مثل هانى شاكر وعلى الحجار و محمد عبده وطلال مداح وسميرة سعيد وعزيزة جلال وسعدون جابر وغيرهم .
بليغ حمدى ليس مجرد ملحن صعيدى مصرى فقط لكنه هو الموهبة الموسيقية التي أحدثت ثورة في الموسيقى الشرقية وحقق تطورا لافتا فيها من بعد عمالقة التلحين فى القرن العشرين أمثال سيد درويش والسنباطي ومحمد عبدالوهاب ، فهو أن يستحق أن يكون قطبا موسيقيا عالميا مثل بيتهوفن وفرانز شوبرت وغيرهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا