الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار آخن 5

علي دريوسي

2022 / 9 / 19
الادب والفن


انتظر إبراهيم في اليوم التالي رسالةً منها توضّح فيها تفاصيل اللقاء، لم يصله شيء، ظهر يوم الجمعة وضّب حقيبة سفره وقرَّر المرور بمكتبها ومتابعة سفره إلى مدينة دورتموند القريبة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع أصدقائه هناك.
اِلْتَقاها في مكتبها بأجمل حلّتها، سحرته رائحتها، نظر بعينيه إلى علبة سجائرها، رمقته بحنان، أخرجت السيجارة الوحيدة المتبقية في علبتها، أشعلتها وقالت: لم يتبقَّ شيءٌ من سجائري لهذا اليوم.
اقترب منها، حاول أن يشمّ رائحة أنفاسها، رمت عليه من جديد نظرةَ رأفة ممزوجة بتسلّطٍ غريب، أعطته نصف السيجارة المتبقية ليدخنها.
تناولها شاكراً، دخّنها ثم سألها: ماذا قرَّرت لهذا المساء؟
ردّت على سؤاله بسؤال: وأنت؟ أين تعتزم الذهاب؟ أراك وقد جلبت معك حقيبتك.
ـ أردتُ أن ألتقيكِ وأتابع طريقي إلى أصدقائي في دورتموند.
ـ تستطيع فعل ذلك لكنّك ستمضي المساء في شقّتي، أليس كذلك؟ هناك من ينتظرك، سنتناول عشاءنا سويةً ثمّ تتابع سفرتك حيث تريد إن أحببت وإذا ما تأخرنا في السهرة وكنت راضياً تستطيع النوم في شقتي، لدي غرفة خاصة للضيوف.
أطفأت سابينه النور في مكتبها، أحكمت إغلاق أبواب شركتها وخرجت معه، مشيا صوب محطة قطار آخن.
**
بهيّة هي محطات قطارات الغرب. لها سحرها، أصالتها، غرابتها وظلمتها. هي محرك الانفعالات الاجتماعية والعاطفية النفسية في كل مدينة. حركة القطارات تعني الحياة والتواصل، التطوُّر والتقدُّم، الربط والارتباط بين المدن في البلد الواحد ومع البلدان اﻷخرى، حركة القطارات تعني احترام الشعوب لبعضها وتبادلها للثقافات. محطات القطارات هي من الأماكن الحميمة للتأمُّل والكتابة، للعشق والتّشرّد، للانتظار والنشوة. كان بإمكان الكاتب النمساوي جوزيف روت ـ كما يقول ـ أنْ يبقى في منزله بكامل الرضى وطيب الخاطر لسنواتٍ عديدة يقرأ ويكتب فيه دون أن يغادره لو لم يوجد هذا الاختراع المسمى محطة قطار التي أبت أن تحرمه متعة مراقبة البشر. كل أدباء الغرب عرفوا ولمسوا هذه الحقيقة وعلى رأسهم ليو تولستوي.

لمحطات القطارات أفلامها، قصائدها، حكاياتها، رواياتها، أقلامها، رومانسيتها، أحقادها، ذاكرتها، حوادثها، حنينها، أسرارها، خياناتها، عربداتها، أحزانها، أفراحها، دموعها، مخاوفها، فصولها، ثلجها، شمسها، مواعيد رحلاتها، جداولها، أرقام أرصفتها، مواقف دراجاتها، أغراضها، أعمارها، هياكلها المعدنية، وصلات براشيمها وبراغيها، أشكالها، سقوفها القرميدية، تصاميمها، أحجامها، أرصفتها، سككها، صرير حديدها، سلالمها، ألوانها، مقاعدها، حقائبها، أبوابها، نوافذها، إضاءاتها، لوحات إعلاناتها، قاطعو تذاكرها، مفتشوها، مسافروها، عابروها، جنودها، عشّاقها، مجانينها، عمالها، متسكعيها، حشَّاشيها، سجائرها، دورات مياهها، مخابزها، رائحة خبزها، خمّاراتها، رائحة خمّرها، مقاهيها، رائحة قهوتها، باقات زهورها وجنونها ... ولمحطات القطارات ساعات جدرانها المستديرة بمينائها الأبيض، بعقرب ثوانيها باللّون الأحمر وعقربي ساعاتها ودقائقها بالأسوّد.
**
في الطريق دمدم إبراهيم: لا أذكر أنَّنا تعلمنا في المدارس شيئاً عن معجزة بناء سكة حديد قطار بغداد-إسطنبول ولا عن سكة حديد الحجاز، كل ما حفظناه هو كلمات ثلاث: قطار الشرق السريع، لا لشيء إلا لأنّ جريمة أغاثا كريستي قد وقعت فيه. حكايات محطات القطارات في الشرق العربي حزينة جداً كحكايات الناس هناك. قطاراتنا متخلفة، فقيرة، بائسة، قذرة بشكل مرعب لا يصدّقه حتى الخيال! كل شيء يشير إلى التوقُّف والانفكاك والعزلة والموت. لم يفعل أولاد الحلال شيئاً لتحديثها، لم يفعلوا شيئاً أبداً إلا السرقة والنهب.
حاولت سابينه تخميد اضطرابه وإخراجه من دوامة حديثه المرهق لهما فقالت: الشخص الذي لم يذهب إلى المدرسة في حياته يستطيع أن يسرق شيئاً من عربة بضائع في قطار شحن، لكن من لديه شهادة جامعية يسرق محطة السكة الحديدية بأكملها، كما يقول ثيودور روزفلت، وهنا تكمن المصيبة، الحياة غير عادلة، لا يمكن تغييرها بالكلمات والانفعالات بل بالأفعال الإستثنائية الذكية.
**

بلغا محطة قطار آخن.
اشترت سابينه بطاقتها من الآوتومات، أما إبراهيم فقد حمد الله في سرّه لمجّانية رحلته، فالطالب له حرية التنقل في هذه المقاطعة الكبيرة، وهو يتمتّع بهذه العطيّة كطالب دكتوراه، بطاقة تسجيله الجامعي تكفل له السفر والتجوُّل مجاناً حتى في الضواحي البعيدة للمدينة، ابتسم في سره ممتناً لهذه المكاسب الصغيرة.
ـ يؤسفني أني نسيت! كان يمكن لي أنْ أصطحبكِ معي في السفرة مجاناً، فبطاقتي تكفل هذا اعتباراً من الساعة الثامنة عشر وطيلة الويك إند.
ـ لا عليك، لا داعي للتأسف.
في تلك الساعة عَلِم للمرة الأولى أنّ صديقته سابينه تسكن في مدينة "مورس". لم يتطفّل عليها بمزيد من الأسئلة، وصل القطار، أمطرت السماء، غزّا الخطو وصعدا إليه.
غمرته السعادة إذْ جلس بجانبها يدفّئ جسده من جسدها، تحادثا بأمورٍ شتّى، كلّما قالت شيئاً فاجأته بقدرتها على التكلم باللغة الفصحى وباستخدامها لتعابيرَ مجازية وحكم لا يقرؤها المرء إلا في صحيفة أو رواية.
أخبرته أنّ لها أخاً متزوجاً من امرأة روسية وأنهما يعيشان سويةً مع ابنتهما الوحيدة هنيلوري بين موسكو وبريطانيا وألمانيا. وأضافت بأن إبنة أخيها حالياً في ضيافتها وتفكر بتأسيس شركة صغيرة للاستشارات لمتابعة أعمال والدها وتقديم الخدمات لرجال الأعمال في الشرق العربي، وبأنها ترغب برؤيته والحديث معه والاستماع إلى نصائحه.
وصل القطار إلى محطته الأخيرة في "منشنغلادباخ"، من هناك توجّب عليهما تغيير القطار.
نظرت في ساعة يدها وقالت: ينبغي علينا أن ننتظر ثلاثة أرباع الساعة قبل مجيء القطار التالي، دعنا نتجوّل في محلات المحطة، أرغب أن أشتري شيئاً.
**
أطاعها إبراهيم ومشى إلى جانبها، سحبت عربة تسوُّق ودخلت إلى محلٍّ كبير يبيع المشروبات والقصص والمجلّات والكتب والهدايا والزهور والشوكولاتة والسجائر بكل أنواعها. دخل خلفها، راقبها، تابعها بعينيه الفضوليتين وهي تتسوّق، رآها تشتري جريدة، باقة زهر، ثلاث زجاجات خمرٍ غريبة الألوان، رآها تشتري نوعين محددين من الشوكولاتة، رآها تقترب من البائع، تحدّثه بهمس ثم تشتري كروز دخان فيه عشر علب من سجائر غارغويل، أخرجت من حقيبتها اليدوية كيساً قماشياً كُتب عليه بحروف لاتينية "لأجل البيئة"، وضعت ما اشترته داخل الكيس ثم ناولته لإبراهيم، دفعت الحساب، ودّعت البائع، اِقتربت من إبراهيم ومازحته: علينا أن نسترخي في نهاية أسبوع العمل، فالحياة قصيرة، بل أقصر من سيقان امرأة صينية ترتدي تنورة. لم يفهم شيئاً، لم يفهم سوى "بانهوف"، أي لم يفهم سوى محطة قطار، كما يقول الألمان، ومع هذا تمتم: وقد تصير الحياة أحياناً أطول من سيقان زرافة.
دارت في ذهنه آلاف الأسئلة، مرت في ذهنه آلاف الصور، حاول أن يبدو أمامها متماسكاً مثل رجل وُلِد في بلدها، وصل القطار الثاني، صعدا إليه، بكت السماء، علت أصوات ارتطام دموعها بزجاج نوافذ القطار، انتابه إحساسٌ غريبٌ بأنّه يسافر للمرة الأخيرة. جلس جوار جسدها الدافئ وهو يفكر بلوحة "العشاء ما قبل الأخير"، قبل اعتقاله ومحاكمته وصلبه عارياً على ضوء الشموع ورائحة السجائر والموسيقى، العشاء المشترك لثلاثة ظلال تعود لثلاثة أجساد جميلة، سيقدّم لهم خلاله خلاصة ما تعلمه في الحياة، ستكون جمعة الأسرار العظيمة، جمعة حافلة بغسل الأرجل والوعظ بالحب، ستكون جمعة الترتيل ثم الهروب نحو بساتين الزيتون والتين وغابات الحور والصنوبر.
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا