الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية لها طعم لايغادر ..

حمدى عبد العزيز

2022 / 9 / 23
سيرة ذاتية


من اجمل وابلغ العبارات التى ترددت امامى .. كانت عبارة ترددت فى فيلم شاهدته أكثر من مرة بعنوان (الإسطورة 1900) للمخرج الإيطالى المبهر جوزيبى تورناتورى
تقول العبارة التى وردت فى افتتاح الفيلم وعند نهايته :
((إنك لاتنتهي ، ولاترحل طالما أن لديك قصةً جيدةً ولديك إنساناً ترويها له ..))

وبصدق (لست مضطرا للقسم تأكيدا له) لم اعرف - عن قرب - أحداً يمتلك طاقة بشرية جبارة تتحدى ظروف صاحبها وتتفجر بالانتصار الإنساني قدرما عرفته متمثلاً في عم عبده زغلولة ..

عم عبده زغلوله
أو عبد الجواد زغلول .. كمااتذكر اسمه في دفتر الحضور الرسمي .. كان رجلاً نحيفاً قصير القامة ضرب البياض إحدى عينيه لذا كان إذا مانظر أو تفحص شئ فإنه كان يذر على عينه التي يرى بها ليرى بمايعوض عينه الأخرى التالى يدور بؤبؤها ويرتجف دون رؤيا ، وعلى مايبدو أن هذا قد رسم على وجهه القمحي خطوط حادة من التجاعيد أعطته ملامح القسوة والصرامة ، ومع ذلك كان يستطيع من آن لآخر أن يفرج عن ابتسامة تشعرك بطيبة راسخة وكامنة في هذا الرجل رغم ملامحه الظاهرة التى تذكرك بملامح أمراء حروب الأزمنة السحيقة ..
التي استغلها بعض أعيان إحدى القرى التي ارسله إليها بنك التسليف الزراعي كمشرف تعاوني يلقبونه بلقب (سفاح كرموز) ويستخدمون هذا اللقب في عشرات الشكاوى التي أرسلوها إلى إدارة بنك التسليف الزراعي ووزارة الزراعة يطالبون فيها بنقله من هذه القرية ..
طبعاً لم تكن هذه الشكاوى خالصة لوجه الله والوطن أو من أجل دفع ضرر أصاب الناس من وراء قدوم هذا العبده زغلولة إلى القرية بجلبابه الذي كان يرتدى فوقه بالطو وطاقيته الصوف التي تنسدل من تحتها على جبينه خصلة شعر المقدمة فتزيد من هيئته جديةً وحزماً وتضفي عليه المزيد من علامات الصرامة لتزيد من مهابته لدى الجميع ..

كانت هذه الشكاوى لأنه أوقف ماتمتع به بعض اصحاب المصالح من أعيان هذه القرية الكبيرة من محاباة وتسهيلات وانتقاء لأجود أنواع الأسمدة على حساب المغلوبين على أمرهم من الفلاحين الذين كانوا ينتظرون قبل قدوم عم عبده زغلولة ليأخذون مخلفات فرز الكبار سواء من الأسمدة أو البذور أو التقاوى فيحصلون على الأجولة المتهتكة أو أكياس الأسمدة التى نالت منها الرطوبة أو ينتظرون لساعات طويلة حتى يفرغ اصحاب المصالح ومحاسيب وأقارب المشرف التعاوني السابق من أخذ حصصهم ومايفوقها قليلاً أو كثيراً .. إلى أن قررت إدارة البنك نتيجة مخالفات ما في توزيع بذرة القطن في أحد المواسم الزراعية تغيير طاقم البنك وإرسال عم عبده زغلوله وحده مؤقتاً إلى جانب عمله في قريته الصغيرة بديلاً عن هذا الطاقم المكون من المشرف التعاوني ومساعده .
ولمن لم يعاصر أو يعرف عن وظيفة المشرف التعاوني التي لم تعد موجودة الآن .. فهي تقريباً كانت أهم مركز وظيفي في القرية المصرية مع وظيفة المشرف الزراعي ووظيفة موظف الرى وطبيب الوحدة الصحية ..
في منتصف حقبة السبعينيات كانت الجمعية الزراعية لاتزال هي مركز إدارة الحياة الزراعية بالنسبة لأهل أي قرية مصرية ، فالجمعية الزراعية كانت بمهام وزارات الزراعة والحكم المحلي والتموين وهيئات ووزارات ومؤسسات أخرى إذا مااقتضت الظروف في أي قرية مصرية .. كانت هي من تدير عملية تقسيم الأحواض الزراعية طبقاً لخرائط وزارة الزراعة ومن ثم تقوم بتحديد مشرف زراعي لكل حوض ويرأس الجميع المشرف الزراعي بالتنسيق مع مديرية الزراعة ، ومن مكتب المشرف الزراعي تعلن كشوف الدورة الزراعية قبل كل موسم زراعي لتحدد ماسوف يزرعه الفلاحون ومن ثم تقوم الجمعية الزراعية بعمل كشوف البذور والتقاوى والسماد والمبيدات والعلاجات المختلفة وترسلها إلى بنك التسليف الذى يقوم بدوره وعبر مشرفه التعاوني بتوزيعها ، كذلك تدار من هذا المكتب داخل مبني الجمعية الزراعية المعاينات التي تحدد نوع الاحتياجات الخاصة للتربة من محسنات أو معالجات أو أسمدة إضافية كذلك المعاينات التي يترتب عليها تكاليف مقاومة الآفات والحشائش وتطهير المصارف والترع وتقرير نسبة مايدفعه كل مزارع حسب مساحته وزراعته مضروباً في قيمة ماقدم له من خدمات طوال الموسم الزراعي .. إلي آخره
باختصار كانت الجمعية الزراعية هي مركز الحياة بالنسبة للفلاح وبالتالي كان موظف الزراعة وموظف بنك التسليف في القرية هو شخص له من الاهتمام والأهمية وربما القوة والسطوة أحياناً ماللكبار والوجهاء من قيمة وحضور ..
وكانت وظيفة المشرف التعاوني التي شغلها عم عبده زغلوله الذي لم يكن أفندياً يرتدي القميص والبنطلون والجواكت وماشابه ذلك من ملابس البهوات والأفندية الذين كانوا يهبطون على القرية من المركز المدنى أو يخرجون من القرية إلى المركز المدني بحكم التعلم والتوظف في هذا المركز في اعداد قليلة ومعروفة لجميع سكان القرية .. كانت وظيفة المشرف التعاوني من اهم الوظائف بالنسبة لفلاحي القرية المصرية ..
فالمشرف التعاونى هو الذى يقوم من مكتبه الثابت في الجمعية الزراعية كمندوب لبنك التسليف بإدارة مخازنه الملحقة بمبني الجمعية الزراعية وهو من يأمر أمين مخازنه المعاون له بتوزيع مابها من بذور وتقاوي وأسمدة ومخصبات ومحسنات تربة حسب مايوجد ببطاقة حيازة كل فلاح طبقاً لكشوف الحصر المحصولي سواء المزمع زراعته أو المنزرع فعلاً على الطبيعة ..

كذلك هو من كان يقوم بتسليم (السلف المالية) التى في حوزته كعهدة من البنك إلى الفلاحين وفقاً لمقتضيات خدمة زراعة محاصيل الدورة الزراعية ، كذلك فهو من كان يتولى عملية دفع مقدمات اثمان المحاصيل المسلمة من الفلاحين للدولة عقب نهاية كل محصول ، وكذلك الأثمان النهائية بعد التسلم النهائي للمحصول ، ثم صرف ماينتج عن فروقات تقييم جديد للمحاصيل أو حوافز جديدة مقدمة من الدولة لأنواع بعينها من المحاصيل التي كان يأتي القطن على رأسها ..
لك أن تتخيل بعد ذلك حجم الطوابير التي كانت تقف أمام المشرف التعاوني كل يوم وحجم الطلبات والتوسلات والوسائط التي تقف أمامه بمايجعل لهذه الوظيفة من أهمية وهيبة ويجعل من صاحبها مركز قوي بشري مهاب في القرية ..
ولما كان أحد أبناء العائلات الكبرى في هذه القرية التي ذهب إليها عم عبده زغلوله منتدباً من بنك التسليف الزراعي كان يقوم بوظيفة المشرف الزراعي تكاثرت شكاوى الفلاحين من محاباته لأقاربه ولبعض العائلات في توزيع بذرة القطن ووصلت الشكاوى لجهات أعلى فتم نقله هو ومساعده إلى مركز آخر ، وعلى أثرها انتدب بنك التسليف عم عبده زغلوله مؤقتاً كمشرف تعاوني لهذه القرية مع احتفاظه بمسئولياته كمشرف تعاوني في قريته لحين صدور قرارات البنك الرئيسي بتعيين الطاقم الجديد وهي عملية كانت تستغرق ماهو ليس أقل من ثلاثة أشهر وربما أكثر ..
وسيندهش الكثيرون حينما يعرفون أن عم عبده زغلوله هذا الذي يجلس وأمامه الأوراق المحملة بالأرقام والحسابات المعقدة وفي يده القلم ونظارة القراءة لم يكن يحمل أي شهادة تعليمية ، ولن يندهش الذين عاصروا مرحلة الستينيات والسبعينيات لأنه عندما قامت الدولة بتأميم تجارة القطن في ستينيات القرن الماضي عوضت تجار القطن بأن عينتهم في وظائف داخل الاتحاد التعاوني والجمعيات الزراعية وبنك التسليف الذى كان تابعاً لوزارة الزراعة ، ففتحت المجال معهم لأبناء القرى الذين كانوا يعملون كوسطاء تجاره أو كعمال للتجار الكبار أن يدخلوا ضمن وظائف الجمعيات وبنك التسليف طالما كانوا ينجحون في مجرد اختبار القراءة والكتابة دونما أي اشتراط للحصول علي أي من الشهادات الدراسية ، ثم أن بنك التسليف نفسه عندما شرع في نشر فروعه في الأقاليم والمراكز والقرى المصرية اضطر إلى ان يستعين بعمالة الجمعيات الزراعية من الكتبة الذين كان من بينهم من لم يكونوا يحملون أية شهادات دراسية اللهما ربما الإبتدائية أو الإعدادية ..

ومع ذلك كان عم عبده زغلولة نابغة في عمله لدرجة أنه بمجرد أن ينتهي من تقفيل يومياته وضبط حسابات اليوم علي ماتبقي من محتويات المخازن وعهد نقدية يقوم متأبطاً حقيبته الجلدية المنتفخة بدفاتره وأوراقه راكباً إلى إدارة البنك في المدينة لتسوية مالديه ثم يجلس بين موظفي الحسابات ليتبارى معهم في حل أعقد العمليات الحسابية في وقت لم تكن فيه الأجهزة الالات الحاسبة قد دخلت الخدمة في بنك التسليف الذي كان يعتمد على الدفاتر المطولة واقلام الكوبيا والتي كانت هى فقط ماتتوافر للمحاسبين وكتاب الحسابات والصرافين في بنك التسليف ..
رغم حرب الشكاوى المجهولة التي شنها أصحاب المصالح الشهيرة (إنقذونا من سفاح كرموز) تم عم عبده زغلولة مهمته فى القرية التي ارسلوه فيها وعاد إلى التفرغ في عمله بقريته الصغيرة التى كانت تنحصر مابين هامش المدينة ومابين القرى الكبيرة ، وكقرية هامشية كانت تتسم بمساحات الأراضي الزراعية المفتتة الملكية بحيث يندر أن تجد فيها من يملك أكثر من ثلاثة أفدنة بينما كان غالبيتها من المزارعين يمتلكون ماهو أقل ، ولأن زمامها كان عبارة عن لسان يحده النيل من الناحية الرئيسية فكان قسم كبير من فلاحيها يعتمدون علي زراعة مساحات صغيرة تبدو كشرائط أرضية خضراء على شاطئ النيل وكانت تسمى (كنارات) جمع (كناره) وكانت هذه الكنائر أو الكنارات لاتزرع سوى الخضروات ، وكان عم عبده زغلولة هو نجم هذه القرية وفارسها الأول ورجل خدماتها ليس فقط لأنه كان مشرفها التعاوني ، لكنه كان قد تعود أن يحمل علي كاهله بحكم طبيعة عمله وكونه أبناً من أبناء القرية البسطاء هموم جيرانه واصدقائه في. القرية ولذلك صار عضواً في لجنة الاتحاد الاشتراكي في القرية (قبل حله في منتصف سبعينيات القرن الماضي) وهذا قد زاده اهتماماً بكل شئون قريته وأهلها ..
بالتأكيد سيسأل البعض عن مدي درايتي بهذه الأخبار ومن ثم درايتي بعم عبده زغلولة ، وسأحكي لكم قصتي مع عم عبده زغلولة والتي ربما ستساعدكم في التعمق أكثر في طبيعة شخصية هذا الرجل الإستثنائية الخارقة رغم بساطته المادية والإجتماعية ..
قادتنى هذه العبارة إلى تذكر أحد الشخصيات التى لم تمارس أى نوع من المبارحة لذاكرتى رغم مرور عشرات السنين على رحيلها الجسدى عن عالمى ..

.. بعد أن انتصفت السبعينيات بعامين كنت قد قطعت دراستي واكتفيت بالثانوية العامة نتيجة وفاة والدى وعدم وجود مورد مادي لمواصلة تعليمي أنا وباقي اخوتي الخمسة اللذين كانوا يصغرونني بسنوات متفاوتة ومتراوحة وكان قدري أن أكون أكبرهم فاقدرهم على تحمل المسئولية وتفاصيل أخرى سأتوه عن الموضوع الأصلي إذا ماواصلت سردها الآن .
المهم أنني قد تقدمت بالثانوية العامة للعمل في بنك التسليف ودونما مزيد من التفاصيل قد قبلت وتم تعييني في غضون شهرين من طلبي هذا رغم أنني ثانوية عامة أدبي لكن تصادف أن البنك في طور التوسع وقتها كان يبحث عن موظفين ، ولم تكن هناك مشكلة بطالة ضاغطة على سوق العمل ثم أنه يبدو أن رئيس مجلس إدارة البنك وقتها قد ترفق بحالي عندما وقفت أمامه حاملاً أوراقي قائلاً له أنا والدي الله يرحمه كان يعمل في البنك قد توفى وأنا سحبت أوراقي من مكتب تنسيق الجامعات وأريد أن أعمل لأرعى والدتي واخوتي ولدى إعفاء مؤقت من التجنيد لأنني عملت كشف عائلة ..

كنت أحد موظفين جديدين في بنك التسليف ، الأول كان اسمه حسن وكان يحمل مؤهلاً أعلى هو البكالوريوس وأنا الذي كنت احمل الثانوية العامة فاستدعى مدير البنك حسن أولاً وقام بتوجيهه للعمل مع عم عبده زغلوله مساعداً فخرج حسن غاضباً وقام بتناول ورقة فلوسكاب من أحد الزملاء وهو يصيح

- (بقي أنا خريج الجامعه ومعايا شهادة بكالوريوس يودوني اشتغل تحت إيد راجل خريج محو أميه؟
مش مهم هااعيد تقديم ورقي للقوي العامله وهااكتب رغباتي على مكان تاني غير بنك التسليف ..)

كتب حسن استقالته ، وعلمت بعدها بسنوات أن إدارة القوى العاملة قد وظفته كإدارى في التأمين الصحي بعد رفض أن يعمل مع عم عبده زغلوله لفترة ربما أرادها مدير العمل ان تكون فترة تدريب وتأهيل وصقل خبرات ..
وجاء دوري أنا فقبلت العمل مع عم عبده زغلولة دونما أي تبرم أو اعتراض .. رغم أن البعض من الزملاء كان قد همس بأذني بحكاية (سفاح كرموز) إلا أنني لم أكن امتلك لاقوة ولاترف الرفض .. لم اكن أملك سوى التشبث بالوظيفة التي حصلت عليها ..
ذهبت مع عم عبده زغلوله الذي نظر إلى دونما إبداء أي مشاعر عاطفية وبمنتهي الجدية قائلاً
- اسمع ياابني
الساعه تمانية الصبح بالظبط الاقيك عند باب الجمعية الزراعية .. تمانيه وخمسه لأ .. أنت هاتشتغل مع عبده زغلوله .. عاوز تتعلم تسمع كلامي كويس ، مش عاوز يبقي ذنبك على جنبك ، ياللا روح أنت دلوقتي عشان تييجني بكره في الجمعية ..
في الثامنة تماماً من صباح اليوم التالي كنت اقف علي باب الجمعية الزراعية للقرية والذي كان مغلقاً في انتظار أن يفتحه عم عبده زغلوله ، فوجدت فتاة صغيرة تقترب مني وتسألني
- الأستاذ حمدى؟
عمك عبده زغلوله بيقولك هوه مستنيك في البيت وعاوزك تيجي معايا دلوقتي ..
كانت المهابة التي أسقطها عم عبده زغلوله داخلي يوم أمس كفيلة بأن أذهب مع الفتاة الصغيرة دونما أي تساؤل .
كان الوقت شتاءً
، كان شتاءً قارساً
وكنت أعاني من قصور في الدورة الطرفية الدموية يجعل أطرافي تتجمد عند تعرضي للبرد ويصبح لونها متراوحاً مابين الأزرق والأصفر الباهت
ادخلتني البنت الصغيرة التي اتضح لي أنها أبنة عم عبده زغلوله الذي كان جلساً وسط أولاده وبناته وزوجته ، سلمت علي عم عبده زغلوله الذى قال لي
- أقعد
قلت سأنتظرك في الخارج عند الجمعية
فصاح في أو بمعني أدق شخط في في لهجة آمرة قائلاً
- باقولك أقعد
جلست إلي جوار عم عبده زغلولة حيث كان يجلس مع أولاده وزوجته علي الأرض المغطاة بقطع فرو الأغنام فوق (الكليم) الذى هو عبارة عن سجادة كانت تنسج من وبر الأبل والخراف في أنوال مدينة (فوه) تلك المدينة القديمة الصغيرة التي تقع على شاطئ النيل المقابل للشاطئ الذي تقع عليه قرية عم عبده زغلوله الذي أمسك بكفي وهاله درجة برودتهما وتجمدهما فسألني كيف اتعامل معهما وكيف سأمسك القلم وأعمل بهما ، فاخبرته بأن كل هذا سينصرف بمجرد التدفئة فطلب من زوجته التي كانت تجلس أمام وابورين من الغاز مشتعلين أحدهما كبير عليه إناء اللبن والآخر صغير يرتكز عليه غلاي شاي كبير كانوا يسمونه (بكرك) وبجوارهما أبرمة الأرز الصغيرة الخارجة من فرن الأمس والتي تبات في الفرن المتطفئ بعد العشاء أو يوقد من أجلها الفرن بعد صلاة الفجر خصيصاً للإفطار .. طلب منها عم عبده زغلوله أن تضع الوابور المشتعل على بكرك الشاي أمامي مباشرةً وشخط في بصرامة أقل في هذه المرة
- يالا قرب إيدك من الوابور ودفيها
في حين قمت أنا بتقريب كفي من النار واشتغلت بعملية فركهما ثم بسطهما بالقرب من حرارة النيران حتي شعرت بدبيب سريان الدماء في الأوعية الدموية لأطراف يدي ، وحل الإحمرار محل اللونين الأزرق والأصفر اللذان كانا يهيمنان عليها ، وبدأت اشعر بأصابع قدمي تدب فيهم الحياة على اثر اقتراب وابور الجاز مني ، وهممت بالاستئذان للإنصراف إلى الجمعية ، فإذا بعم عبده زغلولة يكرر شخطته
- أقعد ..
مش هاتقوم إلا ماتفطر معانا
رددت عليه شاكراً بأنني تناولت فطوري في المنزل .. رد بحسم وكأنه لم يستمع إلي من الأساس
- اقعد
انت هاتشتغل معايا ، وانا اللي يشتغل معايا لازم احط ف رقبته دين العيش والملح .. ياطلع ابن ناس وتمر فيه العيش والملح ، ياطلعت مايستاهلش .. واستأنف
- حطي الأكل ياحاجه ، وحطي قدام الاستاذ حمدي برام رز وصبيله عليه لبن سخن عشان يدفيه ..
احسست بخليط من الإختناق وقلة الحيلة والخجل وفقدان العزم على مواجهة هذا السياق الغير منطقي بالنسبة لي في مواجهة هذا الرجل الذي فاجئني بصورة آدمية مربكة وبنمط من السلوك والكلمات أربكت ردودي عليه فامتثلت لهيبته وتناولت معه ووسط وأولاده وزوجته الإفطار وبعد أن ناولتني الحاجة أم صبحي زوجته كوب شاي كبير باللبن اعقبته بكوب شاي ساده صغير ضمن أكواب الشاي الصغيرة التي دارت على الجميع ، تناول عم عبده عبائته السوداء على كتفه بالرغم من أنه يرتدي بالطو فوق الجلباب ، ثم تناول عصاته الخيرزان ذات المقبض العسلي الداكن بدوائره الصغيرة الغائرة وحمل حقيبته المنتفخة بالدفاتر وهم واقفاً وقائلاً
- يالا بينا نتوكل على الله؟
رددت
- ونعم بالله ، وقمت معه وسرنا إلى الجمعية ، وعندما وصلنا تناول مفاتيحه وفتح باب مقر مندوبية بنك التسليف واشار إلى كرسي إلى جوار مكتبه خشبي آمراً إياى بالجلوس ومتابعة كل مايكتب وكل مايفعل ، بعد أن بدأ بكلمات كأنه يضعها كخطوط لأساسيات تدشين بدء العمل ..
- كلنا عيش وملح مع بعض
وقعدتك وسط عيالي ف داري وبقيت واحد منهم
هنا بقي في الشغل مافيش مواعيد رسميه ، إحنا هانشتغل لغاية مايخلص الشغل انشالله الساعه واحده الصبح..
وهكذا ظللت لإسبوع لاافعل شيئاً سوى متابعة قلمه ثم بدأت أساعده في توزيع مقررات الأسمدة والتقاوي علي الفلاحين كل حسب حصته المقررة في كشف يسلمني أياه كلما فرغ منه ، ويومياً عند الظهيرة كانت ابنته تأتي بصينية نحاسية عليها ارغفة ساخنة وغموس يتراوح مابين الجبن والقشدة وعسل النحل وبعض الخضروات ، وأصر كل مرة على أنني لااشعر بالجوع وأنني سآكل فالبيت فيكون رده
- كل
مافيش بيت .. قلتلك احنا بنتأخر ف الشغل ..
وبعدين انت بقيت واحد من ولادي .. عاجبك ولامش عاجبك؟
فأرد عليه
- لاطبعاً عجبني ياعم عبده ، وده شرف ليا طبعاً ..

قرية (سنبادة) التي انتدبني إليها بنك التسليف الزراعي كمساعد لعم عبده زغلولة قرية صغيرة تفصل بينها وبين مدينة المحمودية شركة مشروع توليد كهرباء العطف ، والتي تقع عند نقطة بداية تدفق مياه النيل (فرع رشيد) في بداية مجرى ترعة المحمودية ولذلك فهي تعتمد على المياه في توليد الكهرباء ، وقد تغير اسمها فيما بعد إلى محطة توليد كهرباء المحمودية بينما ظل اسمها الدارج الذي يعرفه الناس في المحمودية حتي وقت قريب به هو (المشروع) وكذلك جانباً من مصنع غزل القطن التابع لشركة كفر الدوار ، وربما كان هذا الجوار كان سبباً في توظف كثير من أبناء هذه القرية كعمال وكموظفين في الشركة والمصنع ، فكانوا يخرجون من الوردية ليستبدلوا الأڤرولات بالجلاليب ، ويقومون بزرع قراريطهم الصغيرة أو مايحوزون من قطع الكنارات المنتشرة بطول حافة النيل ، حيث كانت تطل هذه القرية الصغيرة على نهر النيل (فرع رشيد) لتبدو كما لوكانت قد تمددت طولياً في حضن مياه النيل ، وكان منهم من يأتي إلى الجمعية بالأڤرول مرتدياً طاقيته ، وهذا مااضفي على طبيعة أهل القرية سمات خاصة يتسمون بها عن باقي الأرياف فهم هادئون منظمون قليلاً ماتجد بينهم المتعالي أو المتعجرف أو الحاد الطباع ، وربما كان وجودهم في حضن النيل سبباً من أسباب طباعهم الهادئة وكرههم لافتعال المشاكل والصراعات التي كانت تحتدم في بعض القري مابين العائلات بسبب تشابك حدود حقل مع آخر أو مشاية أو قناية ماء أو خلاف على حصة تدوير الكباس (الساقية التي كان يتم تدويرها بالبهائم لتروي الغيطان) لدرجة أنه لايوجد في ذاكرة الناس في كامل مركز المحمودية التابعة إليه قرية (سنبادة) أية حوادث أو قضايا شهيرة يمكن تداولها عبر تاريخ هذه القرية النائمة في حضن النيل ..
كانت ثقة عم عبده زغلولة في الاعتماد على قد تزايدت وكف عن تلقيني دروس العمل ويبدو قد قرر الانتقال إلى تدريبي وصقلي من خلال أن تقسيم العمل بيننا ومباشرة التجربة والخطأ أمام ناظريه ومباشرته .
أنا أفتح الجمعية صباحاً وهو يتوجه إلى بنك التسليف الذى كان قد اسند إليه مندوبية إلى جوار سنبادة في قرية أخرى تسمى (اللوية) نظراً لظروف ترقية مندوبها إلى وكيل بنك قرية مع بدء نظام بنوك القرى الزراعية وكان يذهب إليها يومين في الإسبوع كان يعتمد علي فيهما ، فتأتي أيام التسويق التعاوني التي تقتضي العمل المتواصل من الصباح المبكر لتمتد إلى مابعد العشاء كان عم عبده زغلولة يذهب إلى البنك ليستلم كشوف مقدمات الأثمان للمحاصيل التي سلمها المزارعون ، وكذلك كشوف نهائيات أثمان المحاصيل بعد فرزها وتقييمها بمعرفة لجان التسويق المختصة ويستلم العهد المالية المترتبة على هذه الكشوف من استحققات وكان نظام البنك يقتضي أن نقوم بتسليم هذه المبالغ لأصحابها المزارعين وفقاً لكل استحقاق محصولي تم توريده على ان تسلم الكشوف والتوقيعات وأن تسوى العهد في صباح اليوم التالي مباشرة ، كانت الجمعية الزراعية تمتلئ عن آخرها بالمزارعين لدرجة أننا كنا بالكاد نتنفس الهواء من شباك جانبي يطل على مكتبينا المتجاورين في الغرفة ، لم يكن بيننا وبين هذا الإزدحام أية فواصل غير حدود المكتب الذى كانت تستند عليه بعض أيادي المتزاحمين التى لم تكن تتراجع إلاإذامانفخ عم عبده نفخته المعتادة نفخته المعتادة ، وخبط على مكتبه بكفيه فيتراجع المزدحمون خطوة للوراء ، وكنت عندما أصيح في الواقفين (ياجماعه مايصحش كده ، أدونا فرصه ننده على الأسامي) كان ينظر إلى ويدوس بقدمه على قدمي المجاورة لقدمه قائلاً (مالكش دعوه بيهم .. انده الأسامي انت بس وسيبنى أن أنظمهم) ..
لم يكن ينطق بعد إطلاقه لنفخته وخبطة كفيه علي مكتبه سوي كلمة (وبعدين؟) فيتراجع الواقفون خجلاً ، لم يكن يسمح لأي أحد بطلب استثناء يسبق به دور أحد آخر ، إلا في حالات كبار السن الذين لايستطيعون التحمل أو العجائز وكان يخصص الساعات الأولى للقبض للسيدات والرجال العجائز فقط ، بعد أن أكون أنا قد قرأت على رؤوس الأشهاد الحاضرين أسماء من ورد أسمائهم في كشوف الاستحقاقات لكي ينصرف من لم يرد أسمه من أول النهار والحاضر. كان يبلغ الغائب فيأتي ، وهكذا ..
كنت اتولي التحقق من شخصية المزارع عبر بطاقته الشخصية وآخذ توقيعه وأتلو على عم عبده المبلغ المستحق له بالجنيه والقرش والمليم وهو يدون في كشفه المسطر لهذا الغرض ويقوم بتسليمه المبلغ لنطابق الكشفين بد انتهاء تسليم الاستحقاقات ونقوم بالعمليات الحسابية ونطابق كشوف العهدة علي المنصرف من المبالغ تارة والمتبقي منها تارة أخرى ..
كان عم عبده يحرص على أعطاء كل مستحق حقه ولايهمل كسر الجنيه ، كان يصيح فيمن يحاول الإنصراف اكتفاءً بصحيح المبلغ من جنيهات
- جرى إيه ياسي (يذكر اسمه)
انت هاتبقشش عليا ولاإيه
ثم ينهره قائلاً خد باقي فلوسك
كان يشترط على موظف خزينة البنك أن يسلمه ضمن مايسلمه من عهدة مايقترب من مائة جنيها تتراواح مابين فئات القرش والخمسة قروش والعشرة قروش وإذا لم يكن ذلك كان يعطيني مائة جنيهاً عند الإنصراف لأقوم بتحويلهم إلى فئات القروش المعدنية من تجار الجملة في المدينة على أن آتي بهم في صباح اليوم التالي
كان يقول لى عندما نجلس آخر النهار
- أنا عارف انك ابن ناس وواثق فيك
بس عاوز اقولك حاجه حطها حلقه ف ودانك طول العمر أوعي تخلي حد يكسر عينك بفتفوتة أو حتي بمال الدنيا ، ولو ف يوم ممعاكش أجرة السكه استلف أو خدها مشي ، وماتبصش لعهدتك أو لأي فلوس من حد ..
وقتها عرفت لماذا كانت الناس في سنبادة تحرمه وتهابه ، وكيف تتسامح مع نفخاته في ووجوههم وكيف تتفهم صرامته ، ولاتضمر تجاهه إلامشاعر الإجلال والمودة ..
عندما بدأنا نتسامر على المقهى
قال لي :
- أسمع دول ولاد بلدي ، ناس طيبين ذي ماانت شايف بس أنا لو اشتغلت بالعواطف الدنيا هاتخرب مني ، والقادر هاياخد حق اللي مش قادر
ظننت للحظة ما أن عم عبده زغلولة يهتم بالسياسة والعمل العام لأنه كان يسعي مع الساعين من قريته لأي مصلحة خدمية حكومية تعود على القرية بخير .. قال لي عندما سألته عن علاقته بالعمل العام
- أسمع
أنا آخر حاجه فاكرها إنهم حطوني عضو في لجنة وحدة الاتحاد الاشتراكي عندنا ، ومن بعد مااتحل الاتحاد الاشتراكي ، مارحتش أي حزب وماليش دعوه بالسياسة خالص ولابحبها ، أنا راجل على قدي وعندي ولاد ومش غاوي بهدله وقلة قيمه وكلام فاضى ..
بهذا القول قطع عم زغلولة كل هواجسي حول أنه يقوم بدوره الإجتماعي في القرية لقناعة سياسية ما أو تحيناً لفرصة تبوء مكانة ووجاهة سياسية ، وتأكدت أن المسألة تعود في الأساس لطبيعته وتركيبته الإنسانية الفريدة .. اكتشفت أنه يفعل مايفعله إرضاءً لذاته وحفاظاً على توازن داخلي وراحة نفسية ..
كان الشئ الوحيد الذي لايخجل عم عبده من الاعتزاز الشديد به هو قدرته على حل أعقد المسائل الحسابية لدرجة أنه في أيام استخراج الميزانيات الحسابية للبنك كان يتطوع بنفس شغف صبي يسافر إلى دار سينما أو لمباراة كرة قدم ، ويقوم بالمبادرة بالعمل في ضبط الميزانية رغم أن هذا لم يكن عمله ولم يطلب منه أحد ذلك على الإطلاق ، ولكن رئيس وموظفي الحسابات كانوا يحتفون بقدومه لمساعدتهم لثقتهم أنه يستطيع حل أعقد المسائل شأنه شأن موظفي البنك الذين يحملون مؤهلات محاسبية عليا وخبرة في الحسابات ..
ساعتها لم تكن هناك أجهزة رقمية أو الات حاسبة ، وكانت كل العمليات الحسابية تتم يدوياً .
، ولااكذب لو قلت أنني كنت أندهش من قدرته على استخراج ناتج جمع عمود من الأرقام بطول صفحة مستطيلة في أقل من دقيقة ، كنت أراه وهو يشمر كم جلبابه ويذر على عينه ويدني وجههه من الأرقام فيمرر طرف إبهام يده التي تحمل القلم الرصاص وماان ينتهي مرور إبهامه على عمود الأرقام حتي يضع ناتجها ، وقليلاً ماكان المراجع يصحح ورائه خطأً ما ..
ربما كان لدى عم عبده زغلولة نزوعاً داخلياً يحاول التأكيد عليه دائماً دونما أن يصرح به وهو أنه الفلاح ذو الطاقية والجلباب الواسع الأكمام التي يسخر منها أبناء البندر ويستهين كبار أفندية المدينة بمن يرتديهما يستطيع أن يقتحم عالم هؤلاء الأفندية وأن يتفوق عليهم فيماهم يعتقدون أنهم فقط الأهل للمقدرة والذكاء والألمعية العقلية طالما كانوا يرتدون قمصاناً وبناطيل وجواكت وكرافتات ويشخطون في الفلاحين ويتعاملون معهم باستعلاء أجوف وباطل ..
أما أنا .. فقد قررت أن اتعلم منه كل مايمكن أن اتعلمه ، وهذا مانفعني كثيراً فيما بعد ..
لم تدم مدة خدمتي مع عم عبده كثيراً فقد حدث في شتاء 1978 أن أعلنت اتفاقيات كامب ديفيد وكنت وقتها عضواً في حزب التجمع فتم تكليفي بتوزيع بيان الحزب المعارض لكامب ديفيد في مدينة المحمودية ، وكان أن تم القبض علي متلبساً (بتوزيع منشورات تحض على قلب نظام الحكم وهدم الدولة وترويج أشاعات وبيانات كاذبة) طبقاً لما قاله لي وكيل النيابة الذي حقق معي وأمر بحبسي على ذمة قضية أمن دولة ، وبعدما خرجت من السجن قرر البنك نقلي إلى قرية بعيدة على أطراف المحمودية وبحيث أشغل وظيفة كاتب شئون إدارية ومطبوعات وأرشيف وهي وظيفة هامشية كان الغرض منها إبعادي عن أي تعامل مع الجمهور بناء على طلب الجهات الأمنية ..
ولكن هل توقفت حكايات عم عبده ومآثره المدهشة عند هذا الحد ..؟
سأحكي لكم ...


عند الإفراج عني وعودتي إلى المنزل أحضرت أمي مظروفاً احتفظت به في عناية في الباترينة الزجاجية للنملية التي كانت تتصدر صالة البيت وتستند على جدارها المواجه لباب الشقة .
، لم يكن المظروف مدوناً عليه كحال مايستخدم عادةً من المظروفات ، لكنه كان يشي بوضوح أن داخله أوراقاً نقدية ، وقبل أن أسألها عمن أتي به ابلغتني بأن أحدهم كان يرتدي جلباباً وبالطو ناولها الظرف بعد دخولى السجن بأيام ، وأبلغها أنه زميلي في العمل وأنه يدعى عم عبده وأنه أبلغها بأن هذا المظروف يحمل أمانة كانت لدي عنده ، وأنه قال ذلك وهو يقف على باسطة السلم رافضاً الدخول وأنه انصرف مسرعاً معتذراً لها عن عدم تلبية دعوتها له بالتفضل لتناول واجب الضيافة ..
قمت بفتح المظروف وأنا على يقين أنني لم أعط عم عبده شيئاً وماتركت له أية آمانات ليردها إلي وكانت المفاجأة أن وجدت داخل المظروف مبلغ مائتي جنيهاً وهو مبلغ كبير جداً في هذا الوقت ويساوى مبلغ راتبي مضروباً في أربعة أو خمسة أشهر في وقتها .
في عصرية اليوم التالي دسست المظروف في جيبي وسارعت إلى بيت عم عبده الذى سلم علي واحتضنني وقال ممازاحاً :
- إيه اللي جابك عندي أنت عاوز تشبهني ولاإيه .. الله يخرب عقلك .. داانت ياابني طلعت خطر وانا مااعرفش .. انت عرفت انهم نقلوك؟
مددت يدي إلى جيبي واخرجت المظروف واضعاً أياه على الترابيزة التي أمامنا بعد أن ارتشفت كوب الشاى الذى طلبه لي من الحاجة أم صبحي زوجته التي انصرفت بعد أن سلمت علي واطمئنت على أحوالي .
، وكان أن التفت إلي عم عبده وكأن شئياً قد أفزعه ثم بعد أن ألقي نظرة باردة غير مكترسة علي المظروف نظر ثانية إلي قائلاً :
- بتاع إيه ده
فقلت له أن هذا هو المظروف الذى تركه لأمي في المنزل وشكرته وابديت له مدي امتناني لهذا الجميل الكبير ... فقاطعني بعد أن ربع يديه قائلاً :
- وإيه لزوم الكلام ده
بقي جاي مخصوص عشان كده ؟
.. ماكانش العشم يااستاذ حمدي
قاطعته قائلاً
- أنت أول مره تقولي بيني وبينك يااستاذ حمدي ودي حاجه تزعلني
فرد بدوره :
- ياعم حمدي أنت اللي بتزعلني دلوقتي أولاً أنا ليه ميت جنيه بس في الفلوس دي هاخدها لماتقبض ، وثانياً الميت جنيه التانيه دي من زمايلك لموها من بعض بس حلفوني مااجيب سيره لحد وانت كمان ماتجيبش سيرة لحد لحسن تودينا ف داهيه .. تنهدت ووقعت في حيرة من أمري .. ثم وجدتها ، وقلت له
- خلاص تاهت ولقيناها
الميت جنيه اللي اتلمت دي ماينفعش ترجع احنا متعودين كزملا نلم من بعض لأحد حد بتحصله حاجه ، بس الميت جنيه بتعاتك تاخدها ، ورجوته واقسمت بأغلظ القسم له أن يأخذه
فرد وهو يمد يده لتناول المظروف قائلاً ..
- خلاص هاخد فلوسي ياسيدي ، بس اوعي تحرجني مع زمايلك وترجع المبلغ اللي اتجمع .. وبعدين الأيام جايه وياما هاتساهم معانا ..
بالطبع علمت بعدها أنه هو من بادر وطرح الفكرة على زملائي الموظفين بالبنك في سرية شديدة وهو من اقترح أنصبة المساهمات وماإلى ذلك ، وهذا ماجعلني فيما بعد وبعد أن ذهبت إلى مكان عملي الجديد أن اقترح على زملائي أن نؤسس صندوق زماله نضع فيه مساهمة شهرية من كل زميل بخمسة جنيهات بحيث يكون هناك رصيد دائم عند حدوث أي مناسبة أو حدث عند أي زميل يستدعي أن نساهم فيه بمبلغ أو هدية أو ماإلى ذلك ، وكانت هذه الفكرة مفتاحاً لعمل وجهد تطور إلى أن دفع بي زملائي في إحدى انتخابات النقابات إلى عضوية مجلس إدارة اللجنة النقابية للبنك ، وهذا موضوع له تفاصيل أخرى ليست مهمة الآن ، ولكن الأهم هو ماكان لعم عبده زغلولة من سيرة حافلة بالأفعال التي رسخت داخلي دروسا من أهم دروس العمر وبأبوية تنوعت مابين الصرامة والحسم والشهامة والمودة ، بمثابرة وإصرار فلاح مصري يراكم مايفعله في جهد ومثابرة دون شكوي من ثقل الجهد وعناء الشقاء ، ودونما اعلان أو ادعاء ودونما تطلع لبطولة أوجاه أوسلطان أو تسلط على البشر ..
بالتأكيد
كان يتبرم أحياناً من عدم استيعابي لبعض المسائل ، وتضايق من عدم سماعي لبعض نصائحه الخاصة بالبعد عن السياسة ووجع القلب
كما كان يقول ..
لكنه حتي بعد أن توفي قبل النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي ، ظل حياً داخلي يلقي علي بدروسه الناصحة ويدوس بقدمه على قدمي ويضغطها بقوة كلما اخطأت في مسار ما من مسارات الحياة ..
_____________________
الأسكندرية
فى سبتمبر 2022








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في معرض البندقية


.. الهجوم على رفح أم الرد على إيران.. ماذا ستفعل إسرائيل؟




.. قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في المحادثات بين إسرائيل وحماس


.. إسرائيل تواصل قصف غزة -المدمرة- وتوقع المزيد من الضحايا




.. شريحة في دماغ مصاب بالشلل تمكّنه من التحكّم بهاتفه من خلال أ