الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوهم الذي لا يتبدد

راتب شعبو

2022 / 9 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


مهما قيل في موضوع انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية التي كانت تدور في مداره، تبقى هناك حقيقة لا يمكن إنكارها أو التقليل من قيمتها، وهي أن الأحزاب الشيوعية في هذه البلدان، والحزب الشيوعي السوفييتي بشكل خاص، والسلطات الحاكمة باسم هذه الأحزاب، استسلمت، إلى حد كبير، لموجة التغيير دون اللجوء إلى العنف للدفاع عن سلطاتها. هكذا شهدنا في البلدان الشيوعية السابقة، ثورات ديموقراطية ملونة لم يكن الدم من ألونها.
يمكن البحث في تفسير هذا الواقع، ويمكن أن تختلف التفاسير، لكن لا يمكن إنكار الواقع ذاته. كما لا يمكن إنكار أن موجة التغيير السياسي التي غيرت وجه العالم عند منعطف القرن الواحد والعشرين، انطلقت اصلاً بمبادرة من قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي الذي سمح، بعد كل شيء، بوصول قائد ذي أفكار تجديد جذرية إلى منصب الأمين العام. والأهم من ذلك، أن الحزب وسلطات الدولة تقبلت هذه السياسات الجديدة وسارت معها، وإن بقدر من الإعاقات والاحتجاجات التي بلغت ذروتها في انقلاب آب/أغسطس 1991. لا أحد، بطبيعة الحال، يمكن أن يتوقع أن يمر التحول العميق الذي بدأه غورباتشوف دون مقاومة من جانب النظام القديم وما يستند إليه من وعي محافظ، وما ينطوي عليه من كتلة مصالح. وقد عرض غورباتشوف في كتابه "ثلاثة أيام هزت العالم" والذي يحوي مذكراته عن الانقلاب، محاولات التعطيل والعودة إلى الخلف التي واجهتها سياساته المبنية على ما سماه "التفكير الجديد"، طوال سنوات حكمه. غير أن كل هذه الإعاقات والمحاولات المحافظة كانت سلمية ولم تلجأ إلى العنف. أكثر من ذلك، إن غورباتشوف نفسه، وقد وجد، في لحظة معينة، أن نهجه يسير به إلى خسارة السلطة، لم يلجأ إلى العنف ضد خصومه السياسيين الذين جردوه من كل سلطاته.
الشيوعيون السوفييت هم من بدأ التجربة السوفيتية بكل جبروتها، وبكل ما انطوت عليه من جرائم وانجازات، وهم الذين فككوا هذه التجربة بأيديهم حين وصلوا بها إلى الحائط، بالقياس على الحيوية الاقتصادية والحياتية للنموذج الرأسمالي المقابل.
من بين الشيوعيين السوفييت خرج القادة الذين اتخذوا قرار حل الحزب الشيوعي، قادة شيوعيون تحولوا إلى معجبين بالنموذج الرأسمالي الأمريكي إلى حد التمثل، فسموا مبنى البرلمان الروسي "البيت الأبيض". ولا بد من التذكير بأن الإجراءات الديكتاتورية، مثل قرار حل السلطة التشريعية في البلاد دون أن يكون في الدستور مادة تخول الرئيس (بوريس يلتسن حينها) سلطة ذلك، وبأن العنف الأشد الذي مورس خلال فترة التحول العميق ذاك مثل اقتحام الجيش مجلس السوفييت الأعلى وقصف مبنى البرلمان بالدبابات، جاءت من طرف هؤلاء القادة وليس من قبل القادة المحافظين الذين تعرضوا للعنف والاعتقال وهم نواب الشعب. والأهم من ذلك، أن هذه الأحداث العنيفة التي بادر بها القادة الخارجون عن "الفكر الشيوعي"، لم تعقبها حرب أهلية كما كان يتوقع ويخشى الكثيرون، وأن عدد ضحايا القتال الذي دار في شوارع موسكو كان أقل من ضحايا تصادم قطارين. ولا نعتقد أن أحداً يجادل في أن الفضل في ذلك، أقصد في عدم اندلاع حرب أهليه، يعود إلى تسليم الشيوعيين السوفييت بضرورة التغيير، فلا شك أن من قصف البرلمان واقتحمه بالجيش، لم يكن ليتوانى عن قمع أي حركة مضادة تقف في مواجهته.
يمكن القول إن الانتقال شبه السلمي الذي شهده تفكك الاتحاد السوفييتي يعود أساساً إلى إدراك الشيوعيين انسداد السبيل أمامهم وضرورة التغيير الجذري، ويعود أيضاً إلى غياب الملكية الخاصة في الدستور ما منع نشوء طغمة حاكمة (تشابك كتلة مصالح اقتصادية مع السلطة السياسية) تدافع عن السلطة بشراسة.
في كل حال، هذا يقول إن "وهم" الشيوعية كان قد تبدد ولم يعد يغذي ما يكفي من القوة السياسية لمواجهة حل الحزب وقلب الاتجاه بالكامل.
لم يقتصر الأمر على "المركز الشيوعي" فقد بدأت الأحزاب الشيوعية في كل مكان من العالم تفقد طاقتها السياسية وقوتها. بعضها حافظ على حاله كبقايا عصر مضى، وبعضها تحول مع التحول في المركز لينضوي في عالم تحركه فكرة الديموقراطية. أما الشيوعيون الأفراد فقد أعادوا النظر في أفكارهم، وتحول معظمهم عن الفكرة الشيوعية، على الأقل تخلوا عن هذه الفكرة بصيغتها التي كانوا يؤمنون بها.
يقول هذا السرد، إن الفكرة النظرية السياسية يمكن أن تتحول إلى عقيدة، وأن تمارس على معتنقيها سطوة العقيدة، بما تنطوي عليه هذه السطوة من تقييد فكري وتعصب نفسي، ويمكن في لحظة ما أن تجعل من معتنقيها (يمكن أن نقول ضحاياها) وقوداً لحروب واسعة، فتحولهم إلى جنود بعقول ضيقة وعدوانية فظيعة. مع ذلك، هذه الفكرة قابلة للاضمحلال والتراجع، أو للتحول والتطور، على ضوء التجربة والواقع.
كما يقول هذا السرد إن المقارنة الشائعة بين العقيدة الشيوعية والعقيدة الدينية تغفل حقيقة حاسمة، هي أن الوهم الشيوعي قابل للتبدد، وقد تبدد في غضون التجربة، أما الوهم السياسي المبني على عقيدة دينية فإنه غير قابل للتبدد، ذلك أن مثل هذا الوهم يستند إلى عمق ميتافيزيقي يتجاوز الواقع، يجعل معتنقيه أتباع أبديين لا يجب أن يخامرهم الشك، ذلك أن اليقين المطلق في هذا العمق الميتافيزيقي يحد من تأثير فشل كل التجارب السياسية التي تستند إليه، ويحيله إلى العدم، ويدفع الأجيال المتلاحقة إلى مسعى لا نهائي، ومستحيل في الوقت نفسه، يصبو إلى تطبيق "التجربة الصحيحة" التي تستطيع نقل كمال الميتافيزيق إلى الفيزيق.
كل الأفكار والعقائد السياسية غير الدينية قابلة للتراجع مهما علت، لأنها محكومة، بعد كل شيء، إلى التجربة الواقعية، فالواقع فيها هو الحكم. أما في التجارب السياسية القائمة على دين ما، فإن الخلل يبقى في "التطبيق" وليس في الفكر، ويبقى الفكر السياسي الديني طبقة حية لا تكف عن تغذية مشاريع سياسية يكون فشلها حجة على التابعين وليس على المتبوع الثابت الذي يتحدى الزمن بوصفه وهماً لا يتبدد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صفقة أمريكية-سعودية مقابل التطبيع مع إسرائيل؟| الأخبار


.. هل علقت واشنطن إرسال شحنة قنابل إلى إسرائيل وماذا يحدث -خلف




.. محمد عبد الواحد: نتنياهو يصر على المقاربات العسكرية.. ولكن ل


.. ما هي رمزية وصول الشعلة الأولمبية للأراضي الفرنسية عبر بوابة




.. إدارة بايدن تعلق إرسال شحنة أسلحة لتل أبيب والجيش الإسرائيلي