الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات ومعلومات تصحيحية موثقة عن أذاعة صوت الشعب العراقي الاولى في كوردستان العراق

سالم جورج

2022 / 9 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


المقدمة
منذ عدة سنوات وأنا أرغب بالكتابة عن إذاعة صوت الشعب العراقي التابعة للحزب الشيوعي العراقي وهي الأولى في جبال كوردستان، وأن أنشر مجموعة صور كنت قد صورتها تشمل أجهزة الإذاعة وموقعها الأول واحتفظت بها لسنوات طويلة ولا زالت معي حتى الآن.
قبل ما يقرب من تسعة اعوام علمت بأن رابطة الأنصار الشيوعيين العراقيين تسعى لتوثيق الكفاح المسلح للأنصار الشيوعيين ضد النظام الدكتاتوري عبر إنتاج فلم وسلسلة أجزاء لهذه الفترة التي تمتد بين عام 1979 – 1990 بمبادرة من عضو الرابطة النصير علي رفيق وأنصار أخرين.
أخبرت رفاق رابطة الأنصار في هولندا بأني أمتلك صوراً لأجهزة الإذاعة ومعلومات واسعة عنها، طلبوا مني إرسال الصور لهم، ترددت في البدء لأني كنت أرغب أن أكتب موضوعاً موثقاً عن الإذاعة وأنشر تلك الصور سَويتَا. ولكن بإلحاح من النصير علي رفيق أرسلت الصور لهم على أمل أن يجري لقاء معي أتكلم فيه عن المهمة التي كلفت بها من قبل الحزب ومجريات العمل لتنفيذها، حدد موعد اللقاء في قاعة بمدينة لاهاي وعندما حضرت طلب مني أن نخرج إلى الشارع لتصوير وتسجيل اللقاء وأن لا يتجاوز الخمس دقائق، طلبت أن يكون التسجيل داخل القاعة وأن يعطى لي وقت أكثر ولكن رفض الطلب، أضطررت للموافقة رغم أن وضعي الصحي والجو البارد والوقف يتعبني، إضافة إلى أن اختصر ما كنت مهيئا له مما خلق لدي نوع من الأرتباك في الحديث وكيفية أختصارهُ.
شاهدت الحلقات 55 – 56 – 57 من فلم ذاكرة الأنصار، وكانت تشمل الحديث عن إذاعة صوت الشعب العراقي، وما يهمني من هذه الحلقات هو الحديث عن الإذاعة الأولى والمنشورة صورها، لقد أعطي وقتاً طويلاً للحديث لأنصار عملوا في الإذاعة فيما بعد ولم يواكبوا بدايات العمل وصعوباتهُ ومشاكلهُ وخاصة استلام ونقل الإذاعة وإيصالها الى منطقة بيتوش وكان الطاقم الفني الأول يتكون من الرفاق الأنصار عادل مخلص، صارم، ابو نادية، الشهيد عمار. وتم إغفال دور هذه المجموعة من الأنصار سوى خمسة دقائق أعطيت لي، لم أتمكن من توضح أمور كثيرة.
لهذا قررت أن أكتب كتوثيق وتصحيح لبعض الكتابات والمقالات عن الإذاعة الأولى للحزب الشيوعي العراقي في جبال كوردستان العراق، وأن أرد بشكل خاص وعلمي على ما ورد في كتاب "مذكرات بهاء الدين نوري" وكتاب "مذكراتي" – احمد باني خيلاني حول أمور فنية خاصة بتشغيل الإذاعة وهم بعيدون كل البعد عنها ويوجهون اللوم لي حول توقف البث ودون ذكر التقصير والتباطئ من قبل قيادة الحزب في ناوزنك في توفير متطلبات مواصلة عمل الإذاعة. سأوضح مجمل هذه الأمور من خلال عدة فقرات تشمل:
1 – نبذة تأريخية مختصرة عن بث إذاعة صوت الشعب العراقي.
2 – نبذة مختصرة عن عملي ونشاطي الحزبي والسفر إلى موسكو للدراسة.
3 – اللقاء بالرفيق عزيز محمد سكرتير اللجنة المركزية في موسكو وحديث عن الاذاعة.
4 – الانتقال إلى شقة خاصة تحوي على أجهزة الإذاعة.
5 – الدراسة والتدريب بشكل نظري وعملي على أجهزة الإذاعة والبث الإذاعي.
6 – معلومات علمية عن أجهزة الإذاعة والبث الإذاعي.
7 – إنهاء الدراسة والتدريب واستلام أجهزة الإذاعة وتهيئتها لإرسالها إلى كوردستان.
8 – السفر إلى سوريا وإشكالية استلام الإذاعة ونقلها الى كوردستان.
9 – سفري إلى كوردستان والوصول إلى قاعدة ناوزنك في سوران، وانتظار وصول الإذاعة.
10 – البحث عن موقع لنصب أجهزة الإذاعة.
11 – أختيار قمة جبل نؤرري في منطقة بيتوش.
12 – وصول الإذاعة إلى قاعدة ناوزنك في سوران بحالة سيئة نتيجة عدم نقلها بشكل صحيح.
13 – نقل الإذاعة إلى بيتوش، وبناء مقر وغرفة الإذاعة على قمة جبل نؤرري.
14 – البدء بالبث التجريبي.
15 – إكمال تجهيزات وحاجيات الإذاعة .
16 – البدء بالبث الاعتيادي (الرسمي).
17 – شراء مولد كهربائي غير مطابق للمواصفات المطلوبة، وبدون أخذ رأي الهيئة الفنية.
18 – اللقاء بالرفيق عزيز محمد في ناوزنك.
19 – السفر إلى طهران لشراء المولد الكهربائي.
20 – البدء من جديد بالبث الإذاعي.
21 – السلطات الأمنية لنظام صدام حسين تكشف موقع الإذاعة، ونقل الإذاعة إلى مكان اَخر.
22 – نقل الإذاعة من بيتوش إلى نوكان، ومحاولة مواصلة البث الإذاعي.
23 – الذهاب إلى بشتاشان لاختيار مكان جديد للإذاعة.
24 – وصول الصمامات الإلكترونية الجديدة إلى ناوزنك وإبلاغي بذلك، وتعذر الذهاب إلى هناك.
25 – عودة بث الإذاعة في ناوزنك.
26 – نقل الإذاعة إلى بشتاشان ومواصلة البث إلى قرار تفجيرها.
27 – استشهاد الرفيق عمار – سمير كامل يوسف عضو الهيئة الفنية للإذاعة على يد مسلحي اَوك.
28 – الخاتمة


1 – نبذة تأريخية مختصرة عن بث إذاعة صوت الشعب العراقي:
تلعبُ الإذاعة دوراً إعلامياً كبيراً ومهماً لا بل أهم وسيلة إعلامية، لأنها تصل إلى كل البيوت والأماكن، وتحقق مهام يصعب تحقيقها عبر وسائل الإعلام الأخرى في ظروف العمل السري، وتمارس مهامها في تحريض وتثقيف الجماهير، ولهذا كانت موضع اهتمام الحزب الشيوعي العراقي بها في نشر سياسته وأهدافه في النضال ضد النظام الدكتاتوري المتسلط على رقاب الشعب العراقي وإقامة نظام ديمقراطي يضمن حقوق وحرية الجميع بالتساوي.
كانت أول إذاعة للحزب عام 1964 بعد انقلاب 8 شباط الأسود وتبث برامجها من صوفيا عاصمة بلغاريا ومارست الدور التحريضي ضد الهجمة الفاشية الشرسة على الحزب وقادته، واطلق عليها اسم إذاعة صوت الشعب العراقي، وكلف بإدارة شؤونها عضو اللجنة المركزية مهدي عبد الكريم بعد نقله من موسكو إضافة إلى أعضاء اَخرين ومن ضمنهم الدكتور صفاء الحافظ. استمر بثها إلى عام 1970 وتوقفت بقرار من المؤتمر الثاني للحزب.
في أوائل عام 1981 وللمرة الأولى يمتلك الحزب إذاعة خاصة به وتبث من جبال كوردستان وبنفس الاسم السابق "إذاعة صوت الشعب العراقي" ...وفي الفقرات التالية سنتكلم عنها.
2 – نبذة مختصرة عن عملي ونشاطي الحزبي والسفر إلى موسكو للدراسة:
كان انتمائي للحزب الشيوعي العراقي ليس بتأثير عاطفي او علاقات صداقة وأنما تأثراً بصمود وتضحيات الشيوعيين من أجل تحقيق مصالح الشعب العراقي والأهم نضالهم من أجل المساواة بالحقوق والواجبات للجميع بغض النظر عن الانتماء القومي والديني والطائفي، وهذا ما دفعني للعمل بنشاط واسع داخل تنظيمات الحزب وصولاً لقيادة تنظيمات جامعة السليمانية، وبعد تخرجي من كلية العلوم قسم الفيزياء، طلبت مني اللجنة المحلية في السليمانية التفرغ للعمل الحزبي، وافقت على ذلك وبقيت في مدينة السليمانية متفرغاً حزبياً، وبعد فترة أبلِغتُ بالسفر إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة لمدة سنتيين في المدرسة الحزبية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي في موسكو. كان هذا في خريف عام 1977 في فترة الجبهة الوطنية بين الحزب الشيوعي وحزب البعث. وصلنا إلى موسكو وكان معي رفاق اًخرون وتم استقبالنا من قبل الرفاق السوفيت. أخذونا إلى فيلا كبيرة معزولة في ضواحي موسكو قضينا فيها مدة اسبوع. أجريت لنا خلال هذه الفترة فحوصات طبية عامة وإطلاعنا على بعض المعلومات الخاصة بالدراسة. وطلب منا أن يختار كل واحد اسماً مستعاراً لضرورات العمل السري، اخترت أنا اسم عادل مخلص. هذا قبل انتقالنا إلى سكن خاص بالمدرسة الحزبية. أكملت الدراسة الحزبية صيف عام 1979 وفي هذا العام وصلت العلاقات بين الحزب الشيوعي وحزب البعث إلى الأسوأ. بدأت بحملة واسعة من الاعتقالات والإعدامات للشيوعيين العراقيين. نتج عنها هروب أعداد كبيرة من الرفاق إلى كوردستان وإلى خارج العراق. مع هذه المحنة التي حلت بالحزب كان القرار بشن الكفاح المسلح من جبال كوردستان العراق وتشكيل فصائل الانصار المسلحة وحث الرفاق على الالتحاق بها.
في صيف عام 1979 سافر الرفاق الذين أنهوا دراستهم معي إلى سوريا ومن ثم إلى كوردستان العراق، وبقيت أنا في موسكو بطلب من اللجنة الحزبية في المدرسة.
3 – اللقاء بالرفيق عزيز محمد سكرتير اللجنة المركزية في موسكو وحديث سري عن
الإذاعة:
في تلك الفترة من صيف 1979 أتصل بي المسؤول الحزبي لمجموعتنا في المدرسة الحزبية الرفيق أبو لينا (محمد النهر). وأخبرني بأن الرفيق سكرتير الحزب عزيز محمد طلب اللقاء معي في مقر إقامته بفندق اللجنة المركزية في موسكو. حدد موعد اللقاء وذهبت إلى هناك وأنا لا أعلم ما هو الغرض من اللقاء. أخبرت الاستعلامات في الفندق بذلك وبعد لحظات جاء الرفيق عزيز محمد واصطحبني إلى غرفته. بدأ حديثهُ عن الأوضاع في العراق والتطورات الأخيرة وممارسات البعثيين ضد الحزب. ثم عرج إلى تشكيلات فصائل الأنصار وعن صعوبات البداية بالكفاح المسلح. استعان وهو يتحدث بتجربة الثوار الكوبيين وبداياتهم البسيطة وكيف انتصروا. وبعيدا عن المواقف السياسية، فالرفيق عزيز محمد يمتاز بالتواضع والطيبة واسلوبه الممتع والمقنع في الحديث.
وقبل نهاية اللقاء، أبلغني أني سأكلف بمهمة بمنتهى السرية، لا يجب أن يعلم بها أحد بما فيهم أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب. والمهمة تخص قرب استلامنا لإذاعة من قبل الرفاق السوفييت، لكننا لن نستلمها منهم بشكل مباشر، بل عبر إحدى المنظمات الفلسطينية بعد الاتفاق معهم. وفهمت السبب وراء هذا الطريق المتعرج للتسليم والاستلام، أنه يخص العلاقات الجيدة التي تربط النظام العراقي بالاتحاد السوفييتي. بالتالي لا يرغب السوفييت بخلق إشكالية معه، هذا إضافة إلى الخلافات التي كانت واضحة داخل اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب حول مشروع الكفاح المسلح. كما حدثني عن الإذاعة واهميتها الإعلامية للحزب، وان المهمة المكلف بها ليست سهلة. توجب عليِ بذل كل الجهد لإتقان التعامل مع الإذاعة وخاصة أنها ستكون في مناطق جبلية نائية. كذلك أخبرني أني سأنتقل إلى مكان خاص وسأتلقى فيه الدراسة والتدريب الفني على تشغيل واستخدام الإذاعة التي سنستلمها وتنقل إلى كوردستان، ولسرية الموضوع يتوجب علي أن أخبر الرفاق في المدرسة الحزبية بمغادرتي للاتحاد السوفيتي. كما واخبرني بان الرفيق سهيل الزهاوي (ماموستا كمال) سيلتحق للدراسة والتدريب معي وكان هذا مبعث ارتياح لي لأن الرفيق سهيل صدِيق من ايام الجامعية ودرسنا بنفس القسم (الفيزياء) وعشنا في سكن واحد، ووصل الى موسكو بعدي للدراسة في المدرسة الحزبية لمدة سنتيين وسكنا في مكان واحد، ولكن في لقاء اَخر أخبرني الرفيق عزيز محمد بأن الرفيق سهيل سوف لن يلتحق وسيواصل أكمال دراسته في المدرسة الحزبية، وسوف يأتي رفيقين فيما بعد من الجزائر للدراسة والتدريب معي.


4 – الإنتقال إلى شقة خاصة تحوي على أجهزة الإذاعة:
بعد يومين من اللقاء مع الرفيق عزيز محمد أبلغت بالانتقال من المدرسة الحزبية إلى مكان اَخر في موسكو. وصلت سيارة فولكا سوداء ونقلتني إلى شقة في منطقة خاصة من عدة عمارات سكنية، بدت لي أنها تابعة لوزارة الدفاع السوفيتية. هذا ما لاحظته من وجود كثير من الضباط برتب عسكرية عالية، إضافة إلى وجود استعلامات في الطابق الأرضي لكل عمارة.
دخلت إلى الشقة وكانت كبيرة الحجم، فيها عدد من الغرف وصالتين كبيرتين وفي إحداها توجد طاولتين كبيرتين وضعت عليهما أجهزة الإذاعة. تتكون من أربعة أجزاء وبدل الهوائي العالي الارتفاع وضع مصباحا كبيرا في شباك الغرفة وحسب ما اتذكر قطره حوالي 20 سم وطوله حوالي 30 سم لايضيء وإنما يرسل الموجات الإذاعية ومرتبط بالمرسلة.
في نفس اليوم من وصولي إلى الشقة وصل الرفيقيين الأخريين من الجزائر. تعرفت عليهم. كانا قادر (هيوا) والأخر للأسف لا أتذكر اسمه الاَن، لأنه لم يعود معنا إلى كوردستان. ذكر أنه مريض ونقل إلى المستشفى ولا علم لي بأخباره بعد ذلك. الاثنان كانا قد درسا في جيكوسلفاكيا واختصاصهما هندسة مدني ولا علاقة لهم بالأجهزة الكهربائية والإلكترونية. وكان ذهابهما إلى الجزائر بعد إكمال دراستهما لغرض العمل. واعتقد تم ارسالهم بناءً على علاقات شخصية، أريد القول أن الرفيقين لم يستفادا من دراستهما ولا من التدريب. كان عليهم إرسال رفاق باختصاص هندسة كهرباء أو فيزياء وكان هناك الكثير منهم متواجدين سواء في الجزائر أو في دول أخرى.
كانت تأتي إلى الشقة كل صباح امرأة تجلب لنا الأكل من فندق اللجنة المركزية توصلها سيارة من هناك، وتبقى معنا إلى المساء لتهييء وجبات الأكل وترتيب الشقة.
كما وكان الرفيق عزيز محمد يزورنا بأستمرار، ويطلع على مجريات الامور ويطلعنا على آخر الأخبار والاوضاع في العراق وخاصة عن حركة الأنصار في كوردستان، وكان يبدي اهتمامهُ بموضوع الإذاعة.
5 – الدراسة والتدريب بشكل نظري وعملي على أجهزة الإذاعة والبث الإذاعي:
في صباح اليوم التالي من وصولي إلى الشقة وحوالي الساعة التاسعة قدم شخصان، أحدهما مهندس متخصص بالأجهزة الإلكترونية والإذاعية واللاسلكية تابع لوزارة الدفاع السوفيتية والأخر مترجم روسي يترجم من الروسي إلى العربي وبالعكس. بدأ المهندس المختص بإعطاء معلومات عامة حول الإذاعة وعن برنامج الدراسة والتدريب الذي سيشمل: محاضرات نظرية في مجال الإلكترونيات تخص أجهزة الاذاعة. ومحاضرات حول البث الإذاعي عبر الموجات الكهرومغناطيسية وانعكاسها عبر طبقات الجو ومعلومات حول التسجيل والإخراج الإذاعي. أما منهاج التدريب فقد تضمن شرحا عن أجهزة الإذاعة المتكونة من أربعة أجزاء:
1 – جهازالسيطرة (lortnoC)
2 – جهاز الطاقة العالية (egatloVhgiH)
3 – جهاز تعديل الترددات (rotaludoM)
4 – جهاز الإرسال "المرسلة" (rettimsnarT)
وكانت هناك شروحات وافية لمهمة كل من هذه الأجهزة، إضافة إلى الدوائر الكهربائية والإلكترونية المتكون منها وكيفية ربط الأجهزة مع بعضها. ومن ثم نقوم بتشغيلها والتدرب على طريقة البث من داخل الشقة التي نسكن فيها وعبر مصباح كبير خاص يعوض عن الهوائي العالي كما ذكرنا سابقا.
وشملت الدراسة والتدرب على طريقة التسجيل والبث عبر جهاز السيطرة، و كذلك الإخراج الإذاعي.
وابلغنا الاستاذ المختص أن لا نشغيل الإذاعة حين لا يكونون معنا. لأنهم حين يتواجدون يكونون قد أبلغوا الأجهزة الأمنية والعسكرية المختصة بذلك وهولاء سيكونون على علم بالموجات الإذاعية التي تستلمها أجهزتهم.
كانت الدروس تستمر من الساعة العاشرة صباحا الى الساعة الثالثة عصرا، ولمدة حوالي الشهر والنصف، كانت المدة المقررة أطول من ذلك ولكن بذلت الجهود لاختصارها، كنت أطلب من الأستاذ المختص أن اخرج من الغرفة ويحدث بعض الإعطاب المختلفة في الأجهزة بشكل متعمد، لأدخل وأقوم بإصلاحها وإعادة تشغيل الإذاعة بوقت قصير. ثم نكرر هذه الطريقة لعدة مرات، لضمان تطوير قدراتنا الفردية بالاعتماد على النفس في حالات العمل في ظروف الطوارىء والتقلبات والأحداث غير المتوقعة.
في احد الأيام تم أخذنا بسيارة إلى معسكر للجيش في ضواحي موسكو وفي ساحة المعسكر جلبت إذاعة شبيهة بالتي في الشقة. والأجهزة موضوعة داخل حقائب ثخينة مغلفة بغلاف من النايلون وفوقها قماش ثخين (جادر) خاكي اللون، للحفاظ عليها من الصدمات وتسرب الماء إلى داخلها.
كانت مهمتنا التطبيقية إزالة الأغلفة وإخراج الأجهزة وربط الكابلات ونصب الهوائي وإيصال أسلاكه بالمرسلة. والوقت المعطى لنا ربع ساعة. ومن ثم نفككها من جديد ونعيد تغليفها كما كانت ايضاً خلال ربع ساعة. كررنا هذه العملية مرات عدة حتى نفذنا المهمة بشكل صحيح وقمنا بالبث ضمن الوقت المعطى لنا (ربع ساعة).
هكذا تكون مهمة الإذاعة قد وضعت على عاتقي بشكل رئيسي، الأمر الذي جعلني أطلب وبإلحاح أحياناً من الاستاذ المختص المزيد من المعلومات، كما وأطرح عليه الكثير من الأسئلة المبنية على تخيلي للظروف التي من المفترض أني سأعمل من داخلها، في عراء الطبيعة والانقطاع عن سبل الدعم والاسناد من أي مكان. في النهاية تعلم مهارة الاعتماد على النفس بشكل كامل. وفي احد اللقاءات مع الرفيق عزيز محمد ذكر لي أن الاستاذ اخبره بأني اطلب مواضيع اكثر من البرنامج المقرر فرد عليه بأن يزودني بكل المعلومات التي اطلبها، كما وكانت لنا زيارة لمتحف علمي خاص بأجهزة الاتصالات الإذاعية واللاسلكية في موسكو.
6 – معلومات علمية عن أجهزة الإذاعة والبث الإذاعي:
الإذاعة التي تم استلامها من الحزب الشيوعي السوفيتي مهداة إلى الحزب الشيوعي العراقي هي من نوع " لونا " تبث بطاقة 500 واط (اذا عملت الأجهزة بشكل سليم) وتحتاج إلى طاقة 3000 واط وجهد 220 فولت لتشغيل الأجهزة، وتتكون كما أسلفت من أربعة أجهزة إضافة إلى الهوائي وصندوق المواد الاحتياطية. وهي إذاعة عسكرية زود الاتحاد السوفيتي بها الكثير من حركات التحرر، كبيرة الحجم نوعاً ما، أما وزن مجموع أجزائها حسب ما اعتقد حوالي 185 كغم.
السبب في كبر حجمها عائد لاعتماد دوائرها الكهربائية على صمامات إلكترونية زجاجية، إضافة الى أشباه الموصلات ( ترانزوستورات و دايودات، ... ). كما ويوجد في جهاز تنظيم الترددات صمامين الإكترونيين زجاجيين كبيرين وكذلك في جهاز الإرسال، وكل صمام يبلغ طوله حوالي 12 سم وقطر حوالي 6 سم، ووظيفة هذه الصمامات أنها تقوم بتضخيم الإشارات والترددات وإرسالها بطاقة عالية، ولتنفيذ هذه المهمة توجد داخل كل صمام فتيلة تسخين تولد حرارة عالية، ولتبريد هذه الصمامات توجد مراوح كهربائية داخل كل جهاز . وعموما كانت الأجهزة الإذاعية منذ تصنيعها الأول وحتى أعوام السبعينات من القرن الماضي (واعتقد لحد الآن) والتي تبث بطاقة عالية تعتمد على الصمامات. وهذه الصمامات أكثر جزء في أجهزة الإذاعة قابلة للاستهلاك وتسبب توقف عملها، ولذلك يجب توفير مجموعة احتياط منها.
على العموم، كانت الإذاعة رغم كبر حجمها ووزنها، من النوع الجيد وتبث بصوت عالي الوضوح، ويفضل الصوت الرجالي على الصوت النسائي لاختلاف ترددات الصوت بين الاثنين. كانت غير معقدة وسهلة التصليح، أجزائها نادرة العطب ما عدا الصمامات المذكورة في جهازي تعديل الترددات والمرسلة.
وكان يوجد مع الإذاعة كتاب توضيحي لجميع الأجهزة وأجزائها مع خرائط او مخططات للدوائر الكهربائية والإلكترونية داخل كل جهاز، مما يسهل عملية الصيانة وإصلاح الإعطاب عند حدوثها.


هنا شرح وتوضيح مختصر عن عمل كل جهاز:
1 – جهازالسيطرة (lortnoC):

جهاز السيطرة أخف الأجهزة وزناً حوالي 25 كغ، ويحتوي على مؤشر لقياس ذبذبة الصوت، ومورس للاتصال وبث الشفرات السرية، اضافة إلى مكان لربط الميكرفون لإستخدامه للبث المباشر، ومكان لربط جهاز التسجيل لبث البرنامج الإذاعي الذي يتم تسجيله، إضافة إلى مكان خاص لسماعة الأذن لسماع ومراقبة التسجيل وكيفية بثه.
2 – جهاز الجهد العالي (egatloVhgiH):

هذا الجهاز هو الأثقل من بين الأجهزة يبلغ وزنه حوالي 50 كغ لاحتوائه على محولات ثقيلة تولد جهد عالي، يصل إلى حولي 14000 فولت.


3 – جهاز تعديل الترددات (rotaludoM):

يبلغ وزن هذا الجهاز حوالي 35 كغ، يعمل على جعل ترددات الموجات الكهرومغناطيسية عالية تتراوح بين 3 ميكاهيرتس إلى 30 ميكاهيرتس أي بطول 10 م إلى 100م وهذه حدود ترددات الموجة القصيرة، كما ويقوم هذا الجهاز بتحميل او تركيب الموجة الصوتية ذات التردد المنخفض على الموجة الحاملة (الكهرومغناطيسية) ذات التردد العالي، وبذلك تتكون إشارة تحمل المعلومات المطلوب إرسالها.
4 – جهاز الارسال " المرسلة " (rettimsnarT):

يبلغ وزنه حوالي 35كغ يستلم الإشارة المعدلة من جهاز تعديل الترددات ومن ثم يتم تحديد التردد الذي سترسل به عبر الهوائي، ويتم هذا عبر كرستالات عديدة ومختلفة الترددات المسموح بها للبث الإذاعي عالمياً، توضع أحدها في فتحة خاصة بها في واجهة المرسلة، وتوجد على الواجهة بكرات لتنظيم عمل الجهاز (وهذا واضح في الصورة أعلاه) وتستخدم أيضا عند حدوث تشويش على البث بتغير جزئي صغير للتردد ضمن التردد المثبت.
توجد في أعلى المرسلة فتحة تحتوي على قطبين لربط أسلاك هوائي البث.


5 – الهوائي (annetnA) :
لاتوجد صورة فوتوغرافية للهوائي، أضع هنا رسمين تقريبيين لشكلين لإمكانية نصبه:

هنا رسمان لإمكانية نصب هوائي الإذاعة، ولكل منهما مدى بث يختلف عن الاَخر، في الرسم (1) على شكل Ʌ مدى البث إلى الأمام والخلف أقل من الرسم (2) أم الأطراف فيكون مدى البث أبعد من الرسم (2) الأفقي على شكل ꓔ، ولهذا تم أختيار الشكل Ʌ لأن البث يغطي معظم أراضي العراق، ومن ناحية أخرى سهولة نصبه ولا يحتاج الى اعمدة جانبية. إلى جانب الرسمين يوجد مخطط توضيحي لمدى البث لكل منهما.
الهوائي مربوط بالمرسلة ويبث بطاقة 500 واط، وتعتبر طاقة عالية بالنسبة الى الإذاعات المتحركة أو السرية. وتنطلق من الهوائي موجات كهرومغناطيسية محملة بالبث الإذاعي وتكون على شكل موجات أرضية وموجات منعكسة من طبقة الايونوسفير.
الموجات الأرضية يصل مدى انتشارها إلى حوالي 100 كم اذا لم يعترضها حواجز كالأبنية و طبيعية مثل المرتفعات والجبال، وبعدها تأتي المنطقة الميتة وتمتد إلى حوالي 200 كم ومن ثم تأتي المنطقة التي يتم تغطيتها بالبث الإذاعي من خلال إنعكاس الموجات (الإذاعية) الكهرومغناطيسية مُباشراً من طبقة الأيونوسفير وذلك على بعد حوالي 300 كم من هوائي الإذاعة وهذه تغطي مسافة تمتد الى حوالي 1000 كم.
هوائي الإذاعة له أهمية في تحديد المناطق المراد إيصال البث إليها، من خلال أختيار المكان الصالح لنصبه. فإذا كنا في منطقة جبلية يفضل أن يكون على مكان مرتفع للاستفادة من الموجات الأرضية، أما إذا كانت في واد ومحاط بجبال فلا ضمان لوصول البث إلى الأماكن ما خلف الجبال ويبقى الاعتماد على الموجات المنعكسة على هذه الجبال بشكل فوضوي لايمكن حسابها، وقد يصل البث إلى هذه الأماكن أو لا يصل، وهذا يتطلب تغير مكان الهوائي، وإتباع أسلوب التجربة للحصول على البث المطلوب.
كما ذكرنا بث إذاعتنا على ترددات الموجة القصيرة المنعكسة من طبقة الأيونوسفير والتي تبعد عن سطح الأرض حوالي 400 كم وتمتد إلى حوالي 800 كم، ويكون ترددها من 3 ميكاهيرتز الى 30 ميكاهيرتز. وأفضل وقت للبث هو بعد غروب الشمس، لأن أشعة الشمس تزيد من تأين طبقات الجو فتصبح طبقة الستروتوسفير من طبقتين متأينتين هما D و E، وطبقة الأيونوسفير من طبقتين متأينتين لغاز النيتروجين وغاز الأوكسجين وهما F1 و F2 ، فهذا التأين وهذه الطبقات الإضافية تقوم بإمتصاص كمية كبيرة من طاقة هذه الموجات وتسبب ضعف البث.
7 – إنهاء الدراسة والتدريب واستلام الإذاعة وتهيئتها للإرسال إلى كوردستان:
بعد حوالي شهر ونصف أنهينا الدراسة والتدريب، وتوجب علينا التهيؤ للسفر إلى سوريا ومن ثم إلى كوردستان. وفي اليوم الأخير طلب مني الأستاذ الذي تولى تدريسنا استلام الإذاعة وتغليفها بشكل كامل بجميع الأغلفة المذكورة سابقاً، فقبل ذلك طلبت من الأستاذ تبديل صمامات الطاقة العالية الموجودة في جهاز تعديل الذبذبات وجهاز الإرسال، لأننا استهلكنا جزءاً من عمرها أثناء التدريب ولصعوبة الحصول عليها مستقبلاً، وهي أكثر جزء في الإذاعة قابلة للعطل رغم وجود أربعة صمامات احتياط. وافق الأستاذ على الطلب وفي اليوم التالي جلب أربعة صمامات جديدة وقمنا بتبديلها، غلفنا الإذاعة بشكل جيد بالأغلفة الثلاثة المذكورة، لترسل إلى كوردستان عبر سوريا.
وقبل سفرنا إلى سوريا أخبرنا الرفيق عزيز محمد بالبقاء لعدة أيام، سنذهب خلالها لزيارة جمهورية بيلاروسيا وجمهورية لتوانيا انا والرفيق هيوا. رافقنا في هذه الزيارة المترجم الروسي الذي كان معنا خلال الدورة التدريبية، وصلنا بالقطار الى مدينة مينسك عاصمة جمهورية بيلاروسيا السوفيتية هذه المدينة بنيت من جديد حيث دمرت بشكل كامل خلال الحرب العالمية الثانية على يد النازيين الألمان، زرنا في هذه الجمهورية عدد من معسكرات الاعتقال النازية، واطلعنا على أساليب التعذيب البشعة، حيث فقدت بيلاروسيا ربع سكانها في هذه الحرب، كما وزرنا قرية "ختين" الخالية من البيوت والناس حيث أباد النازيون الألمان سكانها بالكامل بطريقة بشعة، بحشرهم داخل بيوتهم الخشبية وأغلقوا بيبانها وسكبوا عليها الوقود وأحرقوهم وهم أحياء وكانوا من نساء ورجال واطفال ...، وبعد انتهاء الحرب قامت السلطة في بيلاروسيا بتحويل القرية إلى متحف يذكر الأجيال القادمة ببشاعة الحرب وتخليداً للضحايا حيث وضعوا مكان كل بيت أحرق نصباً عبارة عن لوح فيه أسماء ساكنيه. في مدخل القرية يوجد نصب فيه شعلة النار الخالدة ويصدح منه صوت عال لنبضات قلب تدق بأستمرار. في هذه الجمهورية تشكلت أولى فصائل الفدائيين (الأنصار) لمقاومة الاحتلال النازي، حيث زرنا متحفاً يجسد بطولاتهم وأساليب نضالهم ضد العدو المحتل. بعد قضاء ثلاثة أيام في بيلاروسيا توجهنا بالسيارة إلى مدينة فيلنوس عاصمة ليتوانيا السوفيتية التي تبعد ساعتين ونصف، وزرنا فيها أيضا معسكرات الاعتقال النازي واطلعنا على أساليب التعذب والقتل التي مورست ضد سكان هذه الجمهورية. كانت هذه الزيارة لهاتين الجمهوريتين والتعرف على صمود وتضحيات وأساليب نضال الأنصار الشيوعيين ضد المحتل النازي، بمثابة تهيئة نفسية لنا قبل التحاقنا بفصائل الأنصار الشيوعيين العراقيين في جبال كوردستان. بعدها عدنا إلى موسكو للتهيىء للسفر إلى سوريا.
8 – السفر إلى سوريا وإشكالية أستلام الإذاعة ونقلها إلى كوردستان:
قبل يوم من سفرنا إلى سوريا أنا والرفبق هيوا، زارنا الرفيق عزيز محمد وسلمني رسالة ملفوفة بحيث أصبحت صغيرة الحجم وهي طريقة تستخدم في ظروف العمل السري لنقل الرسائل، وأخبرني أن أخفيها بحيث لا يتم كشفها في المطارات وخاصة في سوريا، وأخبرني أن أذهب إلى مكتب المحامي موريس صليبي في ساحة المرجا في دمشق وأخبره بأني وصلت من موسكو واحمل رسالة من الرفيق عزيز محمد إلى الرفيق كريم أحمد عضو المكتب السياسي وأن يحدد موعد للقاء به.
بعد وصولنا إلى دمشق ذهبنا إلى ساحة المرجا واستأجرنا غرفة في أحد فنادقها، في اليوم التالي خرجنا للبحث عن مكتب المحامي موريس صليبي، ووصلنا إلى العنوان المطلوب والتقينا به وأخبرتهُ بما ذكرهُ لي الرفيق عزيز محمد، وحدد اليوم الثاني للقاء بالرفيق كريم أحمد في مكتب المحامي وتم اللقاء وسلمتهُ الرسالة وبعد قراءتها أخبرني بأن الإذاعة قد وصلت إلى سوريا وقد حجزتها السلطات السورية مع كمية كبيرة من السلاح من ضمنها سلاح مضاد للطائرات، وأعتقد أن الإذاعة والسلاح سلم إلى إحدى المنظمات الفلسطينية وعبر هذه المنظمة يسلم إلى الحزب في سوريا، ففي تلك الفترة من عام 1979 كانت معظم المنظمات الفلسطينية مساندة للحزب وضد النظام العراقي منها منظمة التحرير الفلسطينية-فتح ، والجبهة الديمقراطية ، والجبهة الشعبية ، ..... .
طرح علي الرفيق كريم أحمد فكرة الذهاب إلى لبنان للتدريب على استخدام السلاح، فأخبرته أنه سبق لي أن تدربتُ على السلاح وإني ارغب بالذهاب إلى كوردستان والالتحاق بفصائل الأنصار، وهناك أنتظر وصول الإذاعة، وتم الاتفاق على ذلك.
اخبرني الرفيق كريم احمد بأن الرفيق سليم اسماعيل (أبو عواطف) عضو اللجنة المركزية سيتصل بنا لترتيب أمور السفر، وتم اللقاء به واستمرت اللقاءات تقريبا كل يوم وفي عيادة الدكتور نبيه رشيدات في شارع ركن الدين، وأوضح لنا بأننا سنغادر سوريا إلى منطقة سوران في كوردستان العراق عبر تركيا، فيتوجب علينا أن نأخذ الفيزا التركية، ومن القنصلية التركية في مدينة حلب وليس من السفارة التركية في دمشق لبعض الصعوبات والمحاذير. ذهبنا إلى حلب وحصلنا على الفيزا التركية وعدنا إلى دمشق والتقينا بالرفيق أبو عواطف فعرفنا على رفيق اَخر اسمه ناصر يكون كمرافق ودليل ويوصلنا إلى منطقة سوران وقد سبق له أن أوصل رفاق إلى هناك.
9 – سفري إلى كوردستان والوصول إلى منطقة سوران، وانتظار وصول الإذاعة:
في أوائل شهر كانون الأول 1979 غادرنا دمشق بسيارة تكسي إلى باب الهوى على الحدود السورية التركية خضعنا للتفتيش ومن ثم أخذنا سيارة تكسي أخرى إلى مدينة كازعنتاب ومن هناك استقلينا الحافلة إلى مدينة "واَن" وصلنا صباح اليوم التالي إلى هناك وذهبنا إلى فندق في المدينة صاحبه أحد اعضاء حزب كوك الكوردي في تركيا وهو حزب يساري ماركسي سري وله علاقات تعاون وتنسيق مع الحزب الشيوعي العراقي ويساعد الحزب في إيصال الرفاق إلى إيران، وفي تلك الفترة كانت أحكام عرفية في تركيا على أثر الاضطرابات التي حدثت هناك. وعلى أثر هذه الأوضاع تم أخذنا إلى بيت ريفي خارج المدينة في منطقة شبه معزولة وبقينا هناك حوالي الأسبوع جالسين في غرفة وممنوع علينا الخروج، وعند وصولنا إلى هذا البيت أخبرنا الشخص المسؤول عن البيت وهو احد أعضاء حزب كوك بأن ممثل العلاقات معهم من الحزب الشيوعي العراق في المنطقة سيأتي لزيارتنا لشرح بعض الأمور، وعندما أتى هذا الرفيق وأذا به الرفيق آزاد كان معي في المجموعة التي غادرت العراق للدراسة الحزبية في موسكو ودرسنا في نفس المجموعة وعشنا في نفس السكن فكانت مفاجئة لم أتوقعها، فالرفيق آزاد يجيد اللغة التركية إضافة الى اللغة الكوردية والعربية واعتقد لهذا السبب أرسل لهذه المهمة.
أوضح لنا الرفيق آزاد بان الطريق لعبور الرفاق إلى العراق عبر المثلث التركي الإيراني العراقي وعن طريق دفع مبلغ من المال للجندرما الاتراك كارشوا للسماح بالعبور وكان هذ الطريق أكثر سهولة وأقرب، ولكن نتيجة للأوضاع الحالية وحالة الطواريء في تلك الفترة تم تبديل الجندرما ولم يتم الاتفاق مع هولاء الجدد وقبل أيام من وصولنا تم اعتقال مجموعة من رفاقنا كانت تحاول العبور من ضمنهم الدكتور ناظم الجواهري (د.دلشاد) ولكن أعضاء حزب كوك قاموا بتحريرهم من الجندرمة التركية. ولهذا السبب أصبح هذا الطريق صعبا، ويجب علينا البقاء إلى أن يتم إيجاد طريق آخر. وبعد حوالي الأسبوع أخبرنا الرفيق آزاد بأن الرفاق في كوك عثروا على طريق اَخر وسيتولون نقلنا إلى إيران، وفي أحد الأيام مساءً أتت سيارة جيب ونقلتنا إلى قرية نائية بالقرب من الحدود التركية الإيرانية واسمها "خراب سورك"، وعندما حل الظلام أخبرونا بالتحرك لعبور الحدود إلى إيران سيرا على الأقدام وعبر مناطق جبلية ورافقنا احد أعضاء كوك واستمر السير حوالي أربع ساعات وكان الطقس باردا ومعظم الجبال تملؤها الثلوج، وصلنا إلى قرية إيرانية مسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكوردستاني الإيراني. وسلمنا الشخص الذي رافقنا من كوك لهم ليتولوا نقلنا إلى مدينة مهاباد. استمر تنقلنا بين القرى الكوردية الإيرانية ومعظمهُ كان سيرا على الاقدام عبر جبال مليئة بالثلوج، كما وكانت تجري في هذه المناطق معارك بين الحزب الديمقراطي الإيراني والسلطة الحاكمة، وفي بعض الأحيان نضطر للسير ليلاً، استمرت رحلتنا أكثر من ثلاثة أسابيع للوصول إلى مدينة "مهاباد"، قبل وصولنا إلى مهاباد وفي إحدى القرى كان مقر للحزب الديمقراطي الكوردستاني العراقي والمسؤول عنه ملازم علي استقبلنا وأوصى أحد البيشمركة التابعين لهم ان يرافقنا ويوصلنا باحدى سياراتهم الجيب إلى مهاباد .
وعند وصولنا إلى مدينة مهاباد اتصل الشخص الذي رافقنا برفاقنا في الحزب وأوصلنا اليهم، بقينا في مدينة مهاباد على ما أعتقد يوميين أخذنا خلالها قسط من الراحة ولأول مرة نستحم منذ مغادرتنا سوريا وأشتريت راديو صغير ترانزيستور باناسونك لسماع ومتابعة الأخبار، بعد ذلك توجهنا إلى مدينة "سردشت" الإيرانية بالسيارة، ومن ثم انتقلنا بسيارة أخرى إلى مدينة صغيرة اسمها "بيوران"، ومن هذه المدينة توجهنا سيراً على الأقدام عبر طرق جبلية وعرة تملؤها الثلوج إلى الحدود العراقية وبعد حوالي أربع ساعات وصلنا إلى منطقة ناوزانك، في هذه المنطقة متواجدة مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني وقياداتهُ من ضمنهم مقر جلال الطالباني وأعضاء مكتبهم السياسي ومقرات الحزب الشيوعي العراقي وبعض من قيادتهُ ومنهم توما توماس (أبو جوزيف)، احمد باني خيلاني (أبو سرباز)، عمر علي الشيخ (أبو فاروق)، فاتح رسول (أبو آسوس)، يوسف حنا (أبو حكمت)، ....
وادي ناوزنك تتوزع على جانبيهِ مقرات الحزب الشيوعي ومقرات الاتحاد الوطني الكردستاني ويفصل الجانب العراقي عن الجانب الإيراني نهر صغير (ريبوار) يكون بمثابت الحدود بين البلدين .
التحقت بالفصيل الرابع المسمى فصيل بغداد، وكانت الحياة بدائية، لا وجود للكهرباء فالإنارة ليلاً تتم عبر فوانيس نفطية ولفترة محدودة لشحة النفط وكذلك الطبخ والتدفئة في الشتاء عبر الحطب، ومهمة جمع الحطب تقع على عاتق الرفاق بالذهاب وقلع الاشجار وتحطيبها وجلبها.
بقيت في الفصيل أنتظر من سيتصل بي ويخبرني عن وصول الإذاعة لعدم تمكني من الاستفسار عنها لسرية الموضوع وحسب ما أخبرني به الرفيق عزيز محمد.
الفصيل الرابع كان يضم مجموعة من الرفاق الفنانين، النحات مكي حسين (أبو بسيم) والرسام التشكيلي الشهيد معتصم عبد الكريم (أبو زهرة) والخطاط والمصمم صفاء حسن (أبو الصوف) ومجموعة أخرى من الرفاق الأنصار الرائعين والمتميزين بنشاطهم وحيويتهم.
سأنحرف هنا قليلا عن الكتابة حول الإذاعة في وقفة استذكار للشهيد معتصم عبد الكريم، تعرفت عليه في الفصيل الرابع المسمى فصيل بغداد وربطتني به علاقة صداقة قوية، فهو انسان هاديء طيب الأخلاق والسلوك وذو روح نضالية عالية، وفنان تشكيلي رائع، في احد الأيام استلمنا أنا وهو قطعتي قماش لخياطة بدلة عسكرية كوردية لكل منا، وذهبنا سويتا إلى خياط في قرية "قاسم رش" واتفقنا معه على أن نستلم البدلتين بعد حوالي أسبوعين، وعدنا إلى الفصيل، وبعد يومين أخبرني الشهيد معتصم بأنه أبلغ بالذهاب في مفرزة إلى مناطق السليمانية وطلب مني أن أذهب معه في هذه المفرزة فذهبت إلى المسؤول العسكري عن تهيئة المفرزة الرفيق أبو سربست وأبديت له رغبتي بالذهاب مع المفرزة ولكنه اعتذر عن ذلك لاستكمال عدد الرفاق، وعند تحرك المفرزة ودعنا الرفاق وتوادعنا أنا والشهيد معتصم وكان الوداع الأخير، فبعد ثلاثة أيام على ما أتذكر من مغادرة المفرزة وصلنا خبر الهجوم على المفرزة من قبل الجيش في قرية قزلر وقد استشهد مجموعة من الرفاق الأنصار ومن ضمنهم الرفيق معتصم، كانت بالنسبة لي صدمة مؤلمة ولا يمكنني أن أنسى هذا الانسان الطيب، وعندما ذهبت لاستلام البدلتين من الخياط لم اتمالك حزني فسالت الدموع من عيني، عدت إلى قاعدة ناوزنك وسلمت بدلة الشهيد معتصم إلى المكتب العسكري...المجد والخلود والذكر الطيب للشهيد معتصم عبد الكريم.

انتقلت فيما بعد للعمل مع مجموعة (أو حضيرة) الاتصالات السلكية واللاسلكي وكان المسؤول عن عمل هذه المجموعة الرفيق فرنسيس حنا (أبو شاخوان) سبق له أن عمل في الجيش العراقي عامل اتصالات لاسلكية وكان أحد المناضلين في الحزب الشيوعي العراقي وساهم مع أنصار الحزب في معركة جبل هندرين عام 1966 التي أحرز فيها مقاتلي الحزب أنتصاراً باهراً ضد الهجوم الذي شنه الجيش العراقي. وضمت مجموعة الاتصالات إضافة إلى الرفيق أبو شاخوان كل من الرفيق سالم بهنام المالح (سربست) والرفيق سامان أحمد بانيخيلاني (زمناكو) والرفيق هوشيار (طارق). وقد حصلت مجموعة الاتصال بعد انتصار الثورة الإيرانية في شباط عام 1979 من معسكر مهاباد بالتعاون مع الحزب الديمقراطي الكوردستاني في إيران على العديد من الأجهزة اللاسلكية وأجهزة الولك تولك وأجهزة تيلفون سلكية عسكرية تشحن يدوياً ومولدات للطاقة الكهربائية إضافة إلى مواد أخرى، وجلبت إلى قاعدة ناوزنك وزودت قواعد الحزب في بهدنان وكوستا وغيرها بالأجهزة اللاسلكية والتي لعبت دوراً هاماً بالاتصال بين القواعد وتبادل المعلومات، كما وربطت بعض فصائل الأنصار في ناوزنك بأجهزة التلفون السلكي يدوي الشحن، كان للرفيق أبو شاخوان دور كبير في هذا المجال لخبرته الواسعة في نصب وتشغيل هذه الأجهزة وتدريب الرفاق على استخدام الأجهزة اللاسلكية والإرسال عبر المورس وكان يعد الشفرات السرية التي تستخدم للإرسال عبر المورس وتغير ها بين فترة واخرى لسريتها وعدم كشفها. عملت مع هذه المجموعة، واتفقت مع الرفيق أبو شاخوان على فتح دورة لتعليم بعض الرفاق ممن لديهم اهتمام في هذا المجال تشمل دروسا نظرية وعملية، وكان ذلك في فصل الصيف عام 1980، في هذا الفصل انتقلت معظم الفصائل من ناوزانك إلى كاني زرد ونصبت لها الخيام للسكن، وكذلك مجموعة الاتصالات نصبت خيمة على مرتفع كاني بوق ضمن منطقة كاني زرد بالقرب من خيمة فصيل القيادة، كما وجهزنا خيمة واسعة للدورة التعليمة وتم اختيار الرفاق لها، وأن يقوم الرفيق أبو شاخوان بشرح عمل الأجهزة اللاسلكية والتدريب على استخدام المورس في الإرسال، وأن أقوم أنا بإعطاء دروس نظرية عن الموجات اللاسلكية (الكهرومغناطيسية) وانتقالها عبر طبقات الجو واختيار تردداتها وغيرها من المعلومات عن البث اللاسلكي. ولكن قبل أن تبدأ الدورة وبتاريخ 9-07-1980 قصفت طائرات النظام العراقي وبشكل متواصل المنطقة مما دعانا إلى الانتشار نهاراً وعدم التجمع وبذلك ألغيت الدورة . كانت مجموعتنا ضمن فصيل القيادة وفي أحد الأيام كنا جالسين لتناول الغداء مع رفاق الفصيل وكان جالس معنا الرفيق فاتح رسول (أبو آسوس) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي فذكر أمام الرفاق، بأن الحزب حصل على إذاعة وهي في طريقها للوصول إلى ناوزنك وأنها إذاعة كبيرة وقوية ويصل بثها إلى البرازيل. استغربت لهذا الحديث من أين له مثل هذه المعلومة الغير صحيحة لأن بث الإذاعة الاعتيادي حوالي 1000 كم، بقيت ساكتاً التزاماً بسرية المهمة إلى أن يتصل بي أحد الرفاق القياديين.
10 – البحث عن موقع لنصب أجهزة الإذاعة:
في شهر ايلول 1980 اتصل بي الرفيق أحمد باني خيلاني (أبو سرباز) والرفيق عمر علي الشيخ (أبو فاروق) وكلاهما أعضاء في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، واخبروني عن قرب وصول الإذاعة ومن الضروي أختيار وتهيئة المكان لنصبها. خرجنا سويتاً لاستكشاف المنطقة في ناوزنك وتوﮊلة ونوكان وكل هذه المواقع تقع في منطقة واحدة على الحدود العراقية الإيرانية ومحاطة بسلسلة جبال وخاصة جبل مامند شاهق الارتفاع وخلفه وعلى عدة كيلو مترات تقع مدينة قلعة دزه ورانية، لم أعترض على نصب الإذاعة في أي مكان ولكن كان لابد لي أن أوضح لهم مسائل علمية حول موجات البث الإذاعي وتأثير الموانع الطبيعية على انتقال الموجات الإذاعية الكهرومغناطيسية، فذكرت لهم أن سلسلة الجبال هذه قد تمنع وصول البث إلى المدن والقرى التي تقع خلفها وخاصة قلعة دزه ورانية لأن البث الإذاعي إلى مسافة 100 كم يعتمد على الموجات الارضية وليس على الموجات المنعكسة من الجو أي من طبقة الآيونسفير المضمون وصول بثها على بعد 300 كم، فالموجات الارضية لايمكن حساب او ضبط المناطق التي سوف تصلها أو لا تصلها في هذه الطبيعة الجغرافية لأنها تعتمد على انعكاساتها الفوضوية ما بين الجبال والعوارض الأخرى، ولكن هذه الامور الفنية لم يفهمها الرفيق أبو سرباز كما وكنت اخشى من عدم سماع الإذاعة في المناطق القريبة وكيف أوضح هذه الأمور العلمية لأناس صعب عليهم فهمها وسيكون اللوم منصب على المسؤول عن نصبها وتشغيلها. ذكر لي الرفيق أبو سرباز بأن إذاعة الاتحاد الوطني الكوردستاني (اَوك) في هذه المنطقة، فأوضحت له بأنهم اختاروا المكان الملائم لأذاعتهم بعد تجريبها بعدة اماكن، كما وسبق لي ان زرت إذاعة اوك لغرض مساعدتهم بأمور فنية، وكانت أجهزة صغيرة الحجم ودوائرها الإلكترونية تعمل بشكل كامل بأشباه الموصلات ولديهم مرسلة أخرى احتياط، وحسب ما هو معلوم في سنوات السبعينات وأوائل الثمانينات مثل هذه المرسلات الإذاعية لا تتجاوز طاقة الإرسال فيها اكثر من 150 أو 200 واط وصغيرة الحجم ويمكن نقلها باليد، في حين إذاعتنا ترسل بطاقة 500 واط وأجهزتها كبيرة الحجم ووزنها ثقيل ويصعب نقلها من مكان إلى اخر، الاتحاد الوطني الكردستاني يركز في بثه الإذاعي على مدن وقرى كوردستان فيكون نصب هوائي الإرسال على هذا الاساس، أما بالنسبة إلى إذاعة صوت الشعب العراقي للحزب الشيوعي هو إرسال بثها إلى كوردستان وجميع مناطق العراق، ولهذا أقترحت البحث عن مكان أفضل مرتفع ومفتوح بعض الشيء، لضمان إرسال البث إلى معظم الأماكن كما وأوضحت للرفاق أبو سرباز وأبو فاروق بأن البث الإذاعي على بعد حوالي 300 كم وإلى ما يقرب من 1000 كم أو أكثر مضمون ولا توجد أي مشكلة إذا نصبت الإذاعة في أي مكان لأنه يعتمد على انعكاس الموجات الإذاعية من طبقة الآيونسفير وليس على الموجات الأرضية او السطحية والجبال والعوارض الطبيعية لا توثر عليها، ولكن المشكلة هي ايصال البث إلى مناطق كوردستان والأماكن القريبة ومنها قلعة دزه ورانية والسليمانية وأربيل كما تم ذكرهُ. أقتَرحت على الرفاق أبو سرباز وأبو فاروق أن نبحث خلال هذه الفترة إلى أن تصل الإذاعة عن مكان أفضل قد يكون في منطقة كوستا، فاعترض الرفيق أبو سرباز على ذلك وذكر لي أن الاذاعة يجب أن تكون بالقرب من قيادة الحزب لإيصال الأخبار، فأوضحت لهم أن موضوع اهتمامي ومهمتي هو إيصال صوت الإذاعة إلى أوسع مناطق العراق، وسيكون مع الإذاعة جهاز لاسلكي لأستلام الاخبار وهيئة اعلام لصياغة الاخبار ومختلف المواضيع وتهيئتها للتسجيل والبث.
11 – اختيار قمة جبل نؤررى في منطقة بيتوش:
بعد يومين من هذه الجولة أخبرني الرفيق أبو سرباز بأن الرفيق بهاء الدين نوري (أبو سلام) عضو اللجنة المركزية الآن في منطقة بيتوش وعثر على مكان للإذاعة على قمة جبل يعتقد أنه جيدة، وأن اذهب إلى هناك لأطلع عليها، في اليوم التالي تحركت مع مجموعة من الرفاق الأنصار من ناوزنك إلى بيتوش واستغرق الطريق حوالي خمس ساعات،التقيت في بيتوش بالرفيق بهاء الدين نوري ورفاق اَخرين، وفي اليوم التالي ذهبنا أنا والرفاق بهاء الدين نوري وسيد توفيق (عضو لجنة الأقليم) ومحمود ديكتريوف (المسؤول العسكري) إلى قمة جبل نؤررى استغرق الطريق حوالي الساعتين، جبل نؤررى شاهق الارتفاع مقابل جبل زرتك ويطل على قرى بيتوش ودولكان وآشكان، كانت القمة مستوية ومفتوحة على فضاء واسع وتقع في الجانب الإيراني على الحدود العراقية ويفصل الحدود نهر الزاب، ومن على القمة يمكن مشاهدة جبل أزمر القريب من مدينة السليمانية.
استفسر مني الرفيق بهاء الدين نوري عن ملاحظاتي حول القمة فذكرت له وللرفاق الاَخرين أن القمة جيدة من الناحية الفنية ومضمون وصول البث إلى معظم مدن وقرى كوردستان مع ضمان وصوله إلى وسط وجنوب العراق، ولكن هناك جوانب أخرى هي الجانب الأمني والجانب المعيشي. من الجانب الأمني أجابني الرفيق محمود ديكتريوف انظر هناك على قمة جبل أزمر معسكرا للجيش العراقي ومن خلال الناظور شاهدت المعسكر والجنود والسيارات العسكرية بوضوح، فسألته كمْ يبعد المعسكر عننا قال لي حوالي 5 كم فقلت له أن قذيفة مدفع هاون تصل إلينا فأجاب نعم مدفع هاون عيار 82، فعقبت على ذلك بإمكانية أن تقصف الطائرات المكان ويمكن لطائرات الهليكوبتر أن تقوم بالإنزال على القمة. بالإضافة إلى هذه المخاطر تبرز مشكلة توفير ظروف المعيشة لا توجد عين ماء قريبة وفي الشتاء تملأ الثلوج الكثيفة قمة الجبل. ومن خلال النقاش قال لي الرفيق بهاء الدين نوري ما دام المكان صالح للبث سنحل الأمور الأخرى وأيده بذلك الرفيق سيد توفيق، فذكروا لي بأنهم سيجلبون عدة قطع من سلاح الدوشكا ومدافع الهاون وسيجلبون فصيل حماية للإذاعة ثابت من رفاق مقاتلين جيدين يحافظون على سرية المكان. أما بالنسبة إلى الماء فتوجد عين ماء على بعد حوالي 300 متر أو أكثر نزولا من القمة وسيوفرون لنا حيوان (بغل) وجلكانات لجلب الماء من العين، فبعد طرحهم هذا ورغبتهم العالية في أن يكون مكان الإذاعة على قمة جبل نؤررى ما دامت صالحة للبث الإذاعي. وبذلك كان لا بد لي أن أخضع لرغبة الأكثرية وأن أفكر في أمور تضمن سلامة المكان وأجهزة الإذاعة، فطرحت عليهم أن تكون غرفة الإذاعة تحت الأرض وعلى عمق حوالي ثلاثة أمتار وعرض مترين وطول ثلاث أمتار وتحفر في الجدران حجر (روازين) بحجم أوسع بعض الشيء من كل جهاز وأن تسند الغرفة والروازين بالأخشاب وجذوع الأشجار حفاظاً من انهيار وسقوط الأتربة ومن ثم تغلف بنايلون سميك، وتوضع الأجهزة في الروازين حمايتاً من القصف، وفوق جهاز الإرسال تكون فتحة في السقف لخروج الأسلاك المتصلة بالمرسلة والهوائي. والهوائي يرفع عند البث عندما يحل الظلام ومن ثم يتم إنزاله لكي لا يتم كشف المكان من قبل الجيش العراقي، وحددنا مكان غرفة الإذاعة وغرفة الفصيل ولاحظنا قلة الاشجار في القمة والاشجار الموجودة لا يمكن قلعها ولهذا يجب قطع الاشجار من أسفل الجبل أي المناطق المجاورة للقرية وتصعيد جذوع الاشجار المقطوعة إلى القمة. بعد الاتفاق على هذه الامور عدنا إلى قرية بيتوش وفي اليوم التالي غادرت بيتوش مع مفرزة من الرفاق الأنصار إلى ناوزنك.

من على قمة جبل نؤررى وتظهر في الوادي قرية بيتوش
12 – وصول الإذاعة إلى منطقة ناوزنك في سوران بحالة سيئة نتيجة عدم نقلها بشكل
جيد:
ذكر الرفيق جلال الدباغ (أبو محمود) في إحدى حلقات مسلسل "ذاكرة الأنصار" الحلقة 56 : ( عندما كنا في القامشلي قمنا بإرسال الإذاعة عبر دمشق – القامشلي ومن ثم إلى بهدنان ومن ثم إلى سوران. قدمت سيارة إلى القامشلي تحمل جهاز الإذاعة وكانت موضوعة أسفل حمولة من الجص، وآتى سائق الشاحنة من حلب وعند نقطة تفتيش أراد احد الحرس ضرب قضيب حديد في الجص لمعرفة محتويات الشاحنة، وتوقفوا عن التفتيش كي لا يتوسخوا خاصة كانت الريح شديدة... ).
أوصل الرفاق الأنصار التابعين لمفرزة الطريق بين القامشلي في سوريا وقاطع بهدينان في كوردستان العراق أجهزة الإذاعة إلى مقر القاطع (للأسف لم أتمكن من الحصول على أسماء رفاق المفرزة، للاستفسار منهم عن طريقة نقلها من القامشلي إلى بهدنان والمشاكل التي صادفتهم ). كان في تلك الفترة في قاعدة بهدنان الرفيق والصديق سهيل الزهاوي (ماموستا كمال)، وبناءً على طلبي زودني بالمعلومات الاَتية: إن الإذاعة وصلت إلى قاطع بهدينان في أوائل شهر أكتوبر 1980 أي بعد الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت بتاريخ 22-09-1980 ، وقد طلب منه الرفيق توما توماس (أبو جوزيف) عضو اللجنة المركزية للحزب أن يفتح الأجهزة ويقوم بتشغيلها، ولكن الرفيق سهيل أعتذر عن ذلك وذكر له أنه غير مكلف بتشغيلها ولم يتلقى التدريب عليها.
كان قرار الحزب أن تصل أجهزة الإذاعة إلى منطقة ناوزنك. وهنا أوثق مهمة نقل الإذاعة من سوريا إلى ناوزنك من خلال أحاديث وكتابات الرفاق الذين ساهموا وكانوا على صلة بها. لقد كتب الرفيق فيصل الفؤادي مقالة بعنوان "أيام مفعمة بالحب و الأمل ..(16)" في الموقع الألكتروني للحزب الشيوعي العراقي بتأريخ 22 آذار 2017 ويذكر بأن النصير حميد الموسوي (أبو مازن- او أبو نغم) كتب له رسالة يتحدث فيها عن جلب الإذاعة فيقول: (...كلفت بقيادة مفرزة مكونة من مجموعة تضم أكثر من عشرين رفيقاً وكان من ضمن هؤلاء رفاق ملتحقون جدد علينا إيصالهم إلى مقراتنا في هيركي وكوسته، وكذلك مجموعة من الأسلحة. وأبلغني الرفيق الراحل توما توماس وهو القائد العسكري لقاطع بهدنيان وهو يكلفني بأن شيئاً ثميناً جداً سيرسله الحزب مع هذه المجموعة. ولم يكن يعلم أحد بهذا الشيء سوى الذين أوصلوا المفرزة وهم مفرزة الطريق وسوف يكون معي رفيق واحد منهم هو الرفيق أبو وسن. المهمة صعبة وتستوجب الحيطة والحذر إنها أول إذاعة تصل من الخارج إلى الحزب. كان معنا أيضا الرفيق الشهيد أبو كريم وكذلك الرفيق أبو تحسين. وقد رافقاني قبلها في بعض المفارز لكي يتدربوا على هذا الطريق الرابط بين بهدنيان وهيركي وكوسته إضافة إلى اكتسابهم الخبرة في شد البغال. لقد قمت بتكليف أبو تحسين في قيادة البغل الذي يحمل جهاز الإذاعة. وتعرضت المفرزة إلى ظروف جوية صعبة تخللها ضباب كثيف وأمطار إضافة إلى الظلام الدامس مما تسبب بفقداننا أثر الطريق، مما أدى بالرفيق أبو تحسين أن يضغط على البغل بالصعود بالقوة إلى القمة، والمعروف لدينا إذا فقدت الطريق لا تضغط و لا تستمر بضرب البغل لأنه لا يسير بالطريق الخطأ..! وفعلا أنتحر البغل ورمى بنفسه مع الجهاز من منتصف القمة إلى القاع ليموت. ولما كنا أنا والرفيق أبو وسن فقط نعرف ما يحمله هذا البغل فقد صعقتنا الحيرة. على أية حال نزلت مع مجموعة من الرفاق لمتابعة البغل وجدناه فارق الحياة منتحراً !!!! قمنا بفك الحبال وصعدنا بالجهاز إلى القمة، قررنا المبيت في نفس المكان إلى الصباح إلى أن يتضح لنا الطريق وفعلا عرفنا الطريق في الصباح الباكر وأستأجرنا بغلا اَخر من قرية أروش القريبة منا وانطلقنا إلى هدفنا. لم يهدأ لي بال، وكذلك بعض الرفاق وهم قلة الذين عرفوا بأن البغل الذي انتحر كان يحمل إذاعة الحزب، إلى أن وصلنا إلى مقر هيركي حيث قمت مع الرفيق أبو وسن بفتح الصندوق الذي في داخلهِ الإذاعة وقد شاهدنا المفاجئة أن الإذاعة سليمة ولم يمسها شيء وذلك بفضل الاحتياطات اللازمة التي أتخذها المصدر لمثل هذه الظروف. لقدتعاون الرفاق على حمل الإذاعة من الوادي إلى القمة وبذلوا جهودا غير طبيعية. ......ثم جاء رفاق من منطقة سوران / ناوزنك مام اسكندر ومجموعة من الانصار للمساعدة على ايصالها لأنها غالية لنا جميعا...." ).
منذ أن بدأت أكتب عن الإذاعة كنت أبحث عن توثيق لعملية نقلها من سوريا إلى بهدنان ومن ثم إلى هيركي وكوستا وبعدها إلى ناوزنك، لا أنكر دور الرفاق الأنصار الأبطال الذين تحملوا حجمها وثقلها وصعبات هذا الطريق الطويل عبر جبال ووديان وعيره وفي فصل تكثر فيه الأمطار، ولكن هنا أعقب على ما ورد في مقالة الرفيق فيصل الفؤادي نقلا عن الرفيق أبو مازن وأبو وسن عندما وصلوا إلى هيركي وفتحوا جهاز الإذاعة بعد أنتحار البغل وسقوطه في الوادي، وأنه بشكل سليم ولكنهم لم يكونوا على علم بما حدث في اجزائه الداخلية وهذا صعب عليهم ملاحظتهُ، وسأتطرق اليه لاحقاً في هذه الفقرة.
وبعد وصولهم إلى هيركي وكوستا وأخذ قسط من الراحة تحركة مفرزة إلى ناوزنك تضم الرفاق الأنصار مام إسكندر ومام خدر وماموستا رزكار (سامي المالح)، حاولت الاتصال بالرفيق مام إسكندر عبر الرفيق ماموستا أكرم قادر للاستفسار منه عن الصعوبات التي صادفتهم في نقل الإذاعة، ولكن أبلغني بأن وضعه الصحي سيء وقد فقد الذاكرة وفيما بعد توفي له الذكر الطيب ِلمواقفهِ البطولية، حاولت الاستفسار من الرفيق ماموستا رزكار وهو صديق قديم من ايام الجامعة وقد أكد لي المعلومات التي ذكرتها وطلبت منه أن يكتب لي أكثر حول ذلك لكونه كان ضمن المجموعة التي أوصلت الإذاعة إلى ناوزنك، ولكنه للأسف اهمل الموضوع رغم تكرار طلبي. ومن خلال الاتصال تلفونياً مع الرفيق سعيد شابو (كامران) وكان وقتها في منطقة كوستا، ذكر لي: بعد الحرب مع ايران وصلت من قاطع بهدنان إلى قاطع كوستا مفرزة كبيرة من الرفاق الأنصار مع عدد من البغال المحملة بأجهزة الإذاعة وكمية كبيرة من السلاح شملت مضادات الطائرات (الستريلا) ودوشكات وكلاشنكوفات ومسدسات ... وغيرها، وصادفت المفرزة العديد من المعوقات والمتاعب ، وبعد أيام تحركة مفرزة كبيرة من كوستا إلى ناوزنك تضم مجموعة من الرفاق الأنصار منهم مام إسكندر، ماموستا رزكار، حسن خدر، أبو فيروز، ملا عمر، ملا عثمان، كاكه شيخ، ... واَخرين، وكان مع المفرزة سبعة بغال ثلاثة منها تحمل أجهزة الإذاعة والأربعة الأخرى تحمل الاسلحة.
في ناوزنك كنت أبحث عن رفاق مختصين في مجال الكهرباء والإلكترونيك، طلبت من ماموستا رزكار (سامي المالح) وهو خريج قسم الفيزياء كلية العلوم ودرسنا سويتا وعشنا في بيت واحد اثناء الجامعة أن يكون معي في الإذاعة، ولكنه رفض ذلك وذكر لي انهُ يرغب في التحرك مع المفارز في القرى والاقضية الكوردية وهو يجيد اللغة الكوردية والعربية والسريانية. كما والتقيت برفيق اَخر لا أتذكر اسمه من أهالي القوش وهو خريج كلية الهندسة قسم الكهرباء وطلبت منه أن يعمل معي في الإذاعة ولكنه اعتذر ايضا وذكر لي أنه سوف يذهب إلى منطقة بهدنان لكونه من القوش ويكون بالقرب من مدينته وأهله.
قبل أيام من وصول الإذاعة التحق بفصائل الأنصار الشيوعيين في ناوزنك رفيقان وصلا من الجزائر وأختصاصهما هندسة كهرباء وهم أبو نادية وأبو تغريد. أبو نادية خريج كلية الهندسة قسم الكهرباء جامعة البصرة وعمل في البصرة ومن ثم سافر إلى الجزائر نتيجة الملاحقات التي شنها النظام الدكتاتوري ضد الشيوعين وعمل في مجال اختصاصه، أبو تغريد أيضا سافر وعمل في الجزائر، كما وأنظم الينا الرفيق الشهيد عمار (سمير كامل يوسف)وهو خريج كلية الهندسة بغداد قسم كهرباء هرب بعد تخرجهُ إلى إيران وبقى عدة أشهر فيها ومن ثم التحق بفصائل الأنصار الشيوعيين في ناوزنك
(والرفيق عمار استشهد في احداث بشتاشان في آيار 1983، كان رفيق هاديء الطبع وذو خلق عالي، الذكر الطيب والمجد والخلود للشهيد عمار). وبذلك أصبح لدينا كادر مختص جيد للتعامل مع الإذاعة.
في أواسط شهر كانون الأول عام 1980 وصلت المفرزة المتوجهة من كوستا إلى ناوزنك حاملة أجهزة الإذاعة على ثلاث بغال إلى مقر حضيرة اللاسلكي، كان الوقت مساءً . أنزلنا الأجهزة وأدخلناها في الغرفة، وعندما شاهدتها صدمتي الحالة التي وصلت بها وأصابني القلق من أن تكون اعطاباً قد أصابتها، لقد قمنا في موسكو بوضع كل جهاز داخل شنطة عسكرية ثخينة ومن ثم وضعناهم داخل أكياس نايلون سميكة لمنع دخول الماء اليها، وأضفنا غلاف ثالث من قماش سميك خاكي اللون (جادر) يغلف كل جهاز ويربط القماش بشكل جيد من خلال أشرطة من نفس القماش. ولكن وصلت الإذاعة إلى ناوزنك في داخل شنط وغير مغلقة أو محزومة بشكل جيد وتظهر الأجهزة من خلالها وبدون أكياس النايلون والجادر. وعندما أخرجنا الأجهزة من الشنط لفحصها، لاحظناها مبللة ومصابيح الإنارة الليلية على واجهة الأجهزة قد دخلها الماء فقمنا بتنشيفها، فتحت صندوق قطع الغيار الاحتياط ولاحظت أن الصمامات الإلكترونية الخاصة بجهاز الإرسال وتعديل الترددات مكسورة،. أصبحت في حالة قلق شديد، طلبت من الرفاق المتواجدين في حضيرة المخابرة سربست، زمناكو، طارق، أبو نادية، أبو تغريد وعمار مساعدتي في ربط الأجهزة وتجربة تشغيلها، خرجت من الغرفة أبحث عن مكان لربط هوائي الإذاعة، عثرت على شجرتين متقابلتين وعلى مسافة تسمح بربط الهوائي بينهما للبث لفترة قصيرة، فبعد ربط الأجهزة والهوائي ومن ثم ربط جهاز الطاقة العالية بالمولد الكهربائي قمت بتشغيل الأجهزة فعملت بشكل يبعث على الاطمئنان بعض الشيء، واستلم الرفاق في ناوزنك البث وكان لمدة حولي 10 دقائق، ومن ثم قمنا بفك الربط بين الأجهزة وأعدنا وضعها في الشنط المخصصة لها.
13 – نقل الاذاعة إلى بيتوش، وبناء مقر وغرفة الاذاعة على قمة جبل نؤررى:
بعد يومين حسب ما أعتقد غادرنا ناوزنك إلى بيتوش أنا وأبو نادية وأبو تغريد وعمار وهيوا وكان معنا الرفيق أبو سلام (بهاء الدين نوري) ورفاق أنصار اَخرين لنقل الإذاعة إلى هناك بعد أن حملناها على البغال واستغرق الطريق إلى بيتوش أكثر من خمس ساعات مشياً على الاقدام. وعند وصولنا تعرفنا على الرفيق صارم (رحيم حزام) الذي التحق بمقر الأنصار الشيوعيين في بيتوش بعد هروبه من ملاحقات النظام الدكتاتوري وكان طالب في الجامعة التكنولوجية-بغداد، في المرحلة الثالث كلية الكهرباء. وكان من ضمن الرفاق الموجودين في المقر رفاق أكراد من منطقة هورمان تم جلبهم للمساهمة في بناء مكان الإذاعة.
تم الاتفاق على أن نبدأ العمل في اليوم التالي في قمة جبل نؤررى بحفر غرفة الإذاعة وبناء غرفة الفصيل وملحقات السكن، توجهنا صباحا إلى القمة مع عدة العمل وكان عددنا حوالي عشرون رفيق. اعترض الرفيق أبو سلام (بهاء الدين نوري) على مشاركة الرفيقين أبو نادية وأبو تغريد، استفسرت منه عن سبب عدم مشاركتهم، فذكر لي أنهم وصلوا قبل فترة قصيرة ومتعبين والعمل في القمة صعب، فبعد إكمال البناء وعند نقل أجهزة الإذاعة إلى القمة سوف يأتون معكم.
قبل الصعود إلى القمة تم الاتفاق على أن تكون ثلاثة مجاميع من الرفاق، المجموعة الأولى تصعد إلى القمة وتبدأ بحفر غرفة الإذاعة والمجموعة الثانية تبقى في أسفل الجبل وتقوم بقطع الأشجار والمجموعة الثالثة تقوم بنقل جذوع الأشجار المقطوعة إلى القمة، وتضم المجموعة الثالثة الرفاق عادل مخلص وأبو سلام وسيد توفيق ومحمود دكتريوف وأحمد رجب ودكتور دلشاد (د.ناظم الجواهري) وصارم والشهيد عمار وهيوا وماموستا رزكار وأبو هناء ورفاق اَخرين من العرب والكورد، وكانت جذوع الأشجار ثقيلة وكل جذع يحمله ثلاث أو أربع رفاق ويستغرق الصعود إلى أعلى القمة حوالي أكثر من ساعة حسب ما اتذكر، وكنا نعاود النزول والصعود لحمل جذع اَخر، كان العمل متعباً. واستمرت أعمال تهيئة غرفة الإذاعة والفصيل والمطبخ أكثر من أسبوع، وبعد إكمال بناء غرفة الإذاعة أصبح سقفها بمستوى الأرض وحفر نفق للدخول والخروج منها، وأسندت جدران الغرفة والروازين بالأخشاب، ومن ثم غلفت بالنايلون تحفظا من انهيار الأتربة، وفي وسط الغرفة وضعت مدفئة (صوبا) كبيرة تعمل على الحطب.
أخبرني الرفيق أبو سلام (بهاء الدين نوري) بأن الرفيق أبو تغريد متعب نفسياً وطلب مساعدتهُ للسفر خارج كوردستان. الرفيقين أبو نادية وأبو تغريد خريجي هندسة كهرباء وكانا يعملان في الجزائر باختصاصهما، وبناء على قرار حزبي التحقا بفصائل الأنصار، بعد أن أعطى لهم المسؤول الحزبي هناك صورة إيجابية غير صحيحة وتفائل عالي وهمي عن وضع الأنصار في كوردستان، وأن النظام الدكتاتوري سيسقط قريباً، مما دفعهم للانصياع للقرار الحزبي ولكن عند وصولهم إلى كوردستان العراق إصطدما بواقع يختلف عن الصورة التي نقلت إليهم، فالرفيق أبو تغريد لم يتحمل هذا الأسلوب والظرف المعيشي لفصائل الأنصار، أما الرفيق أبو نادية بقى معنا وساهم في نصب وتشغيل الإذاعة رغم عدم قناعته بالأسلوب الذي مارسهُ الحزب للضغط على الرفاق وإرسالهم إلى كوردستان، وذكر في احد المرات، لو بقينا في الجزائر نعمل وندفع نسبة من راتبنا كما كنا اليس أفضل للحزب من مجيئنا إلى كوردستان. نعم أنا أتفق مع هذا الرأي، والأسلوب الذي اتبعهُ الحزب كان خاطئاً في إجبار الرفاق للذهاب إلى كوردستان ومحاسبة من يرفضون الالتحاق بفصائل الأنصار، كان المفروض على الحزب أن يوضح للرفاق حقيقة الأوضاع، وأن يذكر لهم أنه لم يبقى أمامنا أسلوب للتعامل مع النظام الحاكم سوى الكفاح المسلح ويحتاج ذلك إلى إقامة قواعد للرفاق الأنصار المقاتلين في كوردستان للتحرك داخل العراق فمن يرغب بالإلتحاق يبلغ منظمته الحزبية، أفضل من الأسلوب الذي اتبعتهُ المنظمات الحزبية في الخارج من عكس صورة وردية عن حياة الأنصار والوضع السياسي في العراق وان النظام على حافة السقوط.
بعد إكمال أعمال البناء في قمة جبل نؤررى قمنا بنقل أجهزة الإذاعة إلى القمة، وذهبت أنا ومجموعة من الرفاق الأنصار إلى ناوزنك لجلب مولد كهربائي، سبق وان جربنا تشغيل الإذعة بواسطته عند وصولها، وطلبت من الرفيق أبو شيخوان أخذه بشكل مؤقت إلى أن يتم شراء مولد كهربائي اَخر بقدرة أعلى، لأن هذا المولد قديم تم جلبه من معسكر مهاباد الإيراني وتم أستخدامه سابقاً لفترة طويلة، ويولد قدرة مقدارها 3 كيلو واط إذا كان جديداً ولكنهُ مستخدم لفترة طويلة وقد أنخفضت قدرتهُ، والإذاعة تعمل بقدرة 3 كيلو واط، ولذلك فأن استمرار عمل المولد غير مضمون، فطالبنا بشراء مولد اَخر.
أوصلنا المولد الكهربائي من ناوزنك إلى قمة جبل نؤررى ووضعناهُ في غرفة محفورة تحت مستوى الأرض بعمق حوالي متر وطول متر ونصف وعرض متر، وعلى محيط الغرفة في الأعلى وضعنا أكياسا من الرمل وبينها فتحات للتهوئة، وسقف متحرك من الخشب والنايلون، فعند تشغيل المولد يرفع السقف وعند الانتهاء من تشغيله يعاد، والسبب هو احتراق الوقود وتوليد أول أوكسيد الكاربون وزيادتهُ تقلل من كمية الاوكسجن في الغرفة، فتسبب توقف المولد عن العمل ولهذا قررنا أن يكون السقف متحركا ويموه بأغصان الأشجار ويرفع أثناء التشغيل.

غرفة المولد الكهربائي للإذاعة
بعد إكمال كل شيء وقبل البدء بالبث التجريبي احتاجينا إلى مسجل كاسيت لكون المسجل الملحق بالإذاعة يعمل من خلال بكرة كبيرة يتم عليها تسجيل البرنامج، فطلبت من الرفيق بهاء الدين نوري كونهُ المسؤول الإعلامي والمشرف على عمل الإذاعة، أن يجلبوا لنا مسجل كاسيت، فكلف الرفيق سيروان (أحمد رجب) بالسفر إلى سردشت في إيران لشراء المسجل، وبعد يومين جلبهُ الينا.
اكتملت معظم الاحتياجات الفنية الأولية للبدء بالبث التجريبي، أما من ناحية حماية المكان والرفاق لم تكن مكتملة حسب ما تعهد الرفاق بهاء الدين نوري ومحمود ديكتريوف وسيد توفيق، فقد نصبت قطعة واحدة من سلاح الدوشكا لا تعمل بشكل جيد (تتوقف أثناء الرمي)، تم تشكيل فصيل للحماية والاعمال المعيشية للإذاعة يتكون حسب ما أتذكر من حوالي 15 نصير ليس جميعهم منتمين للحزب وبعضهم لم يتم انتقاؤهم من الأنصار الجيدين، ومثال على ذلك ..التحق أحد الأشخاص من قلعة دزه بقاعدة بيتوش ومن ثم أرسل للالتحاق بفصيل الإذاعة وبقى معنا لفترة ومن ثم سحب إلى مقر بيتوش وفي أحد الأيام تشاجر مع أحد الأنصار وفي الليل أثناء حراسته قام بأبعاد أحذية الأنصار عن باب غرفة النوم ودخل إلى الغرفة ورمى بالرصاص من خلال بندقية الكلاشنكوف النصير الذي تشاجر معه وارداه قتيلاً وهرب مع البندقية ولم يتم العثور عليه، وكان بعض أنصار الفصيل يتم استبدالهم باستمرار. كل هذا كان مخالف لما تعهد به الرفاق المسؤوليين في الحفاظ على سرية الاذاعة واختيار رفاق أنصار جيدين للفصيل ويكونوا ثابتين وأن يزود الفصيل بأسلحة جيدة، لم يتحقق شيء من هذا.
الحياة المعيشية في قمة جبل نؤررى صعبة مع الثلج الكثيف والبرد الشديد وهذا ما أثار تعجب واستفسر أهالي القرى المحيطة بالجبل، ماذا يفعلون الشيوعيين في القمة؟ أن الدببة لا تقاوم البرد هناك. ولكننا بإرادة وتصميم المناضلين قاومنا هذه الصعوبات. وإضافة إلى ذلك كانت صعوبة الحصول على الماء، فتوجد عين ماء على بعد حوالي 300 متر، فكٌنا نأخذ جلكانات ونملؤها بالماء ونجلبها بأيدينا إلى القمة، وعندما يكون الثلج كثيفا ويصعب علينا الذهاب إلى عين الماء نضطر إلى أن نملأ التنك (حاويات معدنية) بالثلج ونضعها على الصوبا لأذابته ونحصل على الماء.
كان الثلج في الشتاء يتساقط بكثافة ويملأ نفق الخروج والدخول إلى غرفة الإذاعة، فكنا نضع مسحاة (كرك) داخل الغرفة وعند الخروج منها نقوم بتنظيف الممر (النفق) بها. وصعوبة اخرى هي التعامل مع هوائي الإذاعة، وكما تم الاتفاق على أن يرفع الهوائي أثناء البث عند الغروب ومن ثم يتم إنزاله بعد الانتهاء، وذلك لعدم كشف المكان وخاصة من قبل معسكر الجيش العراقي القريب، والهوائي يبلغ طوله حوالي 8 امتار، وعندما يكون منزلا على الأرض ومع تساقط الثلج يدفن عمود الهوائي والاسلاك مع حبال الإسناد تحتهُ، كان معظم أنصار الفصيل يساهمون في إخراج الهوائي من تحت الثلج وتنظيفه ومن ثم رفعه وربط حبال الإسناد وأسلاك البث، وبعد الانتهاء من البث يتم إنزاله.
تم تشكيل هيئة الإعلام تقوم بتحرير البرامج والأخبار والتعليقات ومؤلفة من أربع رفاق بشكل مؤقت وهم بهاء الدين نوري (أبو سلام) وافراسياب شاويس (حمه رشيد) وعواد ناصر وتحسين محمد خليل (أبو دلشاد) وأحمد رجب (سيروان).
الهيئة الفنية تكونت من الرفاق عادل مخلص (سالم جورج) وصارم (رحيم حزام) وعمار (سمير كامل يوسف) وأبو نادية ومهامها نصب أجهزة الإذاعة وتشغيلها وصيانتها وتسجيل وإخراج البرنامج الإذاعي ومن ثم القيام بِبثهِ.
وتتكون هيئة إذاعة الأخبار والتعليقات أي المذيعين من الرفاق – القسم العربي : عواد ناصر وأبو بشير – القسم الكوردي: أبو دلشاد وشاخوان (هاشم كوجاني) وسيروان (أحمد رجب).

الهيئة الفنية للإذاعة: من اليمين الى اليسار الشهيد عمار، أبو نادية، صارم، عادل مخلص
14 – البدء بالبث التجريبي:
في أوائل عام 1981 بدأنا بتشغيل الإذاعة ببث تجريبي نبث خلاله أغاني فيروز، وبعد أيام بدأنا نبث أغاني مرسيل خليفة ومن ضمنها أغنية أناديكم أشد على أياديكم ... للشاعر الشيوعي الفلسطيني توفيق زياد، وكنا نكررها عدة مرات لكلماتها وتلحينها الحماسي. استمر البث التجريبي إلى شهر آذار بأنتظار أن تكتمل وسائل الحماية بجلب اسلحة يمكن من خلالها حماية المكان.. وشراء مولد جديد بقدرة عالية يضمن تشغيل الإذاعة بشكل جيد، كما وأرسلنا صمام الكتروني عاطل كنموذج للصمامات الإلكترونية العاطلة وكتبت ورقة معلومات توضيحية ولصقتها عليه ونصها هو: "هذا نموذج للصمامات العاطلة ولم يبقى لدينا غير الصمامات الموجودة في الأجهزة الغير مضمون استمرار عملها.. نرجو بأسرع وقت جلب مجموعة منها، مع العلم انها لا تباع في الاسواق فيجب طلبها من المصدر او الاستفسار من المنظمات الفلسطينية اذ كانت موجدة لديهم". – وكما تم ذكرهُ سابقاً في معلومات عن أجهزة الإذاعة، فالصمامات الإلكترونية العاطلة كبيرة الحجم يبلغ طولها حوالي 12 سم وعرضها 6 سم وبداخلها الواح معدنية مرتبطة بأسلاك وفتيلة تسخين، وموجود صمامين في جهاز تعديل الترددات وصمامين في جهاز الارسال، واربعة اخرى احتياط موجودة في صندوق قطع الغيار الاحتياطية، ونتيجة نقل أجهزة اللإذاعة على ظهر البغال من القامشلي في سوريا إلى بهدنان في العراق وإلى كوستا ومن ثم إلى ناوزنك وبعدها إلى بيتوش. وكما اوضحت ومن خلال المعلومات التي حصلت عليها من الرفاق الأنصار الذين صاحبوا نقلها من بهدنان إلى ناوزنك بأن الأجهزة سقطت من على ظهر البغال عدة مرات، وأن احد البغال سقط في الوادي مما ادى إلى موتهُ. – عندما فتحنا صندوق قطع الغيار الاحتياطية لاحظنا أن الصمامات المذكورة معظمها مكسور زجاجها وعاطلة لا تصلح للتشغيل وبقى لدينا الصمامات الموجودة داخل الأجهزة وعملها غير مضمون، ولهذا السبب طالبنا بالأسراع بجلب بديل عنها.
15 – أكمال تجهيزات وحاجيات الإذاعة:
أرسلنا الرفيق عمار إلى طهران لشراء بعض احتياجات الإذاعة، منها مثبت الجهد - الفولتية (أستبليزر) وأجهزة منفصلة صغيرة لقياس الفولتية والامبيرية وتردد التيار الكهربائي (الهيرتز) إضافة إلى لوحتين خشبية لتثبيت هذه الأجهزة عليها. جلب الرفيق عمار كل الاحتياجات المطلوبة، وبالتعاون بين أعضاء الهيئة الفنية قمنا بتثبيت هذه الأجهزة على اللوحتين لمراقبة عمل المولد وتشمل كل لوحة على ثلاث أجهزة قياس للفولتية والامبيرية وتردد التيار. وضعت لوحة مراقبة عند المولد ومربوطة بكابل خروج التيار من المولد وكابل اَخر يمتد من لوحة مراقبة المولد إلى غرفة الإذاعة ومربوط بجهاز تثبيت الفولتية (أستبليزر) ومن ثم إلى لوحة المراقبة ومنها كابل إلى الإذاعة وبالتحديد جهاز الفولتية العالية.


في أعلى الصورة الجانب الايسر تظهر لوحة مراقبة عمل المولد


16 – البدء بالبث الاعتيادي (الرسمي):
بعد فترة طلب مني الرفيق بهاء الدين نوري بأن نكتفي بالبث التجريبي ونبدأ بالبث الرسمي بأسم الحزب الشيوعي العراقي وأن نعلن أسم الإذاعة وهو "صوت الشعب العراقي". فقلت له كيف نبدأ بالبث بأسم الحزب وهو معارض للسلطة وأنتم لم توفروا أبسط سبل الحماية كما تعهدتم عند اختيار المكان، وإذا بدأنا بالبث سيكون الموقع معرضاً للقصف، فأصر الرفيق على ان نبدأ، فلم اكرر اعتراضي لقناعتي بأنه لم يحدث أي تطور مستقبلاً .. وإلى متى ننتظر.
بدأ البث بصوت المذيع عواد ناصر بصوت عالي الحماس – هنا صوت الشعب العراقي صوت العمال والفلاحين ... – ومن ثم باللغة الكوردي بصوت حماسي ايضاً للمذيع شاخوان (هاشم كوجاني). ومن ثم بدأ بث البرنامج المعد والمسجل وتتخلله الأغاني الثورية باللغة العربية والكوردية، وقد حدد نصف ساعة لكل لغة، ويبدأ البث يومياً عند الساعة السادسة مساءاً.
يقوم بأعداد البرنامج الإذاعي الذي يتم قرأتهُ وتسجيلهُ وأذاعتهُ الرفيق بهاء الدين نوري (أبو سلام) وكان يكرسهُ بالحديث عن انشقاقات الحزب وخاصةً راية الشغيلة ولعدة حلقات وباللغتين العربية والكوردية. استغربت من طرح وإذاعة مثل هذا الموضوع الذي لا يجذب اهتمام عامة الناس، و أن وقت البث محدد بنصف ساعة للعربي ونصف ساعة للكوردي. اقترحت على الرفيق أبو سلام أن تكون المادة التي تبث تشتمل على مواضيع تحريضية توضح للجماهير الجرائم التي يرتكبها النظام الدكتاتوري وترفع من غضبهم وثوريتهم، إضافة إلى بث و نشر البلاغات عن العمليات المسلحة لفصائل الأنصار. لم يتجاوب الرفيق أبو سلام مع هذا المقترح، كان ردهُ أن اهتم بالأمور الفنية للإذاعة فقط، رد مؤلم وشعرتُ كأني موظف في دائرة حكومية وليست عضو في الحزب لهُ حق أن يقترح وينتقد بموضوعية ... أستمر التسجيل والبث للموضوع الذي يرسله الرفيق أبو سلام حول انشقاقات الحزب وراية الشغيلة لمدة ثلاثة أيام وتوقف إذاعته بعد أن وصلت رسالة من قيادة الحزب في ناوزنك واعتراضهم عليهِ ومطالبتهم بإيقافه.
كنا نستلم من هيئة الاعلام التابعة للإذاعة البرنامج الذي سوف يبث صباح كل يوم ويشمل على العمليات المسلحة لفصائل الأنصار والاخبار والتعليقات مكتوبة باللغتين العربية والكوردية، ونقوم بتسجيل البرنامج على شريط المسجل التابع للإذاعة ونستخدم مسجلات الكاسيت لبث الموسيقى والاغاني، ونقوم بتسجيل البرنامج العربي من خلال الرفاق المذيعين عواد ناصر وأبو بشير والبرنامج الكوردي الرفاق المذيعين أبو دلشاد (تحسين محمد خليل) وشاخوان (هاشم كوجاني).
كانت تصلنا أخبار سارة عن استلام بث الإذاعة بوضوح في مناطق واسعة من كوردستان رانيه ، قلعة دزه ، السليمانية ، ... وغيرها .ووصلتنا اخبار عن استلام البث في مناطق وسط وجنوب العراق. كان يحدث تشويش على الإذاعة فكنا نتلافاه بتغير بسيط جزئي للتردد المستخدم للبث.
أستمر عمل الإذاعة لعدة أسابيع ونحن بانتظار أن تخبرنا قيادة الحزب بالذهاب لشراء مولد جديد سبق وأن طلبناهُ ولكن لم نحصل على جواب وأي اهتمام بالموضوع. أصبحنا نلاقي صعوبة في تشغيل المولد القديم، وبعد فترة توقف المولد عن العمل مما اضطرنا إلى إيقاف البث.
17 – شراء مولد كهربائي غير مطابق للمواصفات المطلوبة، وبدون علم أو أخذ رأي الهيئة الفنية:
بدون علمنا أرسل الرفيق أبو سرباز احدى الرفاق لشراء مولد أنشر هنا فقرة مما كتبه الرفيق سردار (وردا البيلاتي) في مقالة نشرها بعنوان (إذاعة الحزب في كتاب بهاء الدين نوري) بتاريخ آب 2003 حول شراء المولد : { .... وما أريد الإشارة اليه أن بهاء الدين نوري يميل دائما إلى أخذ الأشياء بجاهزيتها وينسب حصاد جهود الاَخرين في أي عمل إلى الرفاق القادة بل أحيانا يختزل الأحداث وتفاصيلها حتى تبدو وكأنها أوامر قد صدرت من جهات رسمية تم تنفيذها وفق عقود تم توقيعها من قبل، فعلى سبيل المثال يذكر في الصفحة 384 بخصوص إذاعة الحزب ما يلي : " أكملنا إنشاء الإذاعة وشغلنا المولد الكهربائي وتوفر جميع المستلزمات ومع ذلك تأخر البث الاذاعي لسبب لم نعرفه نحن ولا الفني عادل مخلص. ومضت أسابيع وأشهر قبل أن يسمع المذيع وهو يعلن بصوت جهوري...هنا إذاعة صوت الشعب العراقي... ". لا شك أن تشغيل الإذاعة كان حدثا بالغ الأهمية بالنسبة للشيوعيين وكل المتعاطفين معهم كما يذكر الكاتب، لكنه لم يتطرق الى التفاصيل التي عاشها الرفاق قبل تشغيل الإذاعة والإشكالات التي رافقت نقل المولد والدور الذي قام به الرفاق لإنجاز هذا العمل. وبدوري كرفيق أسهم في إنجاز هذا العمل جنبا إلى جنب جهود رفاق اَخرين لا بد من توضيح بعض النقاط: - كانت قيادة الحزب قد كلفت الرفيق محمود البشدري (كوخا محمود) الذي كان عضواً فيما يسمى بالمجلس التشريعي لمنطقة الحكم الذاتي بمهمة شراء مولد لتشغيل الإذاعة، وكان اختياره تم على أساس كون له معارف في كردستان إيران بالإضافة إلى كونه كادر متقدم في الحزب ......... وفي أحد الأيام أطل علينا الرفيق كوخا محمود بأناقته المعتادة مع اثنان من حمايتهِ، كان لتلك الاطلالة وقع الكارثة على الرفاق حين علمنا أن كوخا محمود عاد، بخفي حنين، وأن المولد بقى مكانه في طهران وينتظر من يعود به إلى كردستان. ....... . أما الرفيق كوخا محمود فقد أدعى أن المبلغ الذي كان بحوزته 700 دينار لشراء المولد. وكان المبلغ قد سُرق منه عندما قام بتأجير إحدى سيارات الأجرة في طهران. بقيت الإذاعة الهاجس الذي يلازم الرفاق، وكثر الحديث عن اهميتها بين الأنصار وجاشت في النفوس أسئلة و أسئلة عن التلكأ في أحضار المولد، كان هذا حتى عام 1980 حين قدم الرفيق عزيز محمد إلى كردستان وبدأ مناقشة موضوع الإذاعة وأسباب عدم البث حتى تلك اللحظة }. هذا ما كتبهُ الرفيق سردار في مقالتهُ المذكورة.
بعد أيام وصلنا خبر إيصال مولد تم شراؤه، هذا الخبر أثار استغرابنا، كيف تم الشراء دون علمنا؟ وما هي مواصفات المولد الذي تم شراؤه؟ لماذا لم يتم أستشارتنا حول مواصفات المولد المطلوب لتشغيل الإذاعة؟ لماذا لم يطلب من أحد أعضاء الهيئة الفنية للذهاب لشراء المولد؟ .. ما لمستهُ من هذا التصرف هو التعالي والاستهانة بأعضاء الهيئة الفنية وأن الأعضاء القياديين في ناوزنك هم من يقررون وينفذون كل شيء حتى الأمور التي ليست من اختصاصهم.
استلمنا المولد، وعندما اطلعنا على مواصفاته لم نكن مقتنعين بأنه سيعمل بشكل جيد وذلك لسببين هما: أولاً – القدرة التي يولدها هي 3000 واط والإذاعة تحتاج 3000 واط، فكان المفروض شراء مولد لا تقل قدرتهُ التي يولدها عن 4000 واط لكي يتحمل أي ضغط (daoL) يحدث من الإذاعة والأجهزة الأخرى، الإنارة وأجهزة التسجيل... وغيرها. وثانياً _ المولد يعمل بالديزل وليس بالبانزين، وعملية الاحتراق الداخلي للديزل غير ثابتة كما هو الحال في البانزين، ولهذا عند أي ضغط عليه لا يتمكن من توليد القدرة المطلوبة منه فيتوقف عن العمل. قمنا بنصب المولد وربطه بأجهزة الإذاعة لعله يفيدنا لبعض الوقت، ولكن دون جدوى، وهذا كان احد اسباب تأخر وتلكؤ عمل الإذاعة، وليس كما ذكر الرفاق ابو سرباز وبهاء الدين نوري في مذكراتهم، بضعف خبرة المسؤول الفني عادل مخلص والهيئة الفنية، وهناك أسباب أخرى سببها قيادة الحزب سأذكرها لاحقاً.




18 – اللقاء بالرفيق عزيز محمد في ناوزنك:
بعد توقف عمل الإذاعة ومع تواجد الرفيق عزيز محمد سكرتير اللجنة المركزية في قاعدة ناوزنك، تم استدعائي من قبله للقاء به، ذهبت إلى مقر فصيل بشدر حيث كان اجتماعا للجنة إقليم كوردستان للحزب، فعند وصولي إلى هناك التقى بي الرفاق أبو سرباز وبهاء الدين نوري وأخبروني، بأني سأذهب إلى طهران لشراء مولد للإذاعة، استشفيت من لقائهم وأسلوب كلامهم معي هي تهدئتي، ومن ثم خرج الرفيق عزيز محمد، جرى الحديث بيننا على حدة، وكان منفعلا وقال لي دعك من انعدام السرية كيف تختارون مكان غير آمن، فقد ذكر الرفيق ملا علي (عضو لجنة الاقليم ومسؤول عسكري وذو خبرة قديمة في هذا المجال وشارك في معارك عدة) بأن المكان غير صالح من الناحية العسكرية ومهدد بالقصف في أي لحظة، أوضحت له بأن كل فترة وجودي هنا لايعلم أي رفيق في فصائل الأنصار و لا القيادين السياسيين والعسكريين في الحزب بالمهمة المكلف بها من قبلكم لحين اتصال الرفيقين أبو سرباز وأبو فاروق، أما حول الموقع الذي تم اختيارهُ لنصب الإذاعة اختاره الرفيق بهاء الدين نوري وطلب مني ان اعطي ملاحظاتي عليه، فأوضحت له أن المكان جيد من الناحية الفنية ومضمون إيصال البث إلى معظم مناطق العراق ويمكن الاستفسار من أي فني او خبير متخصص في هذا المجال وأخذ ملاحظاته حول ذلك، هذه هي مهمتي في هذا المجال، اما الناحية العسكرية والمعيشية رغم تحفظي وعدم قناعتي، فأخبروني الرفاق بهاء الدين نوري وسيد توفيق ومحمود ديكتريوف أنها ستكون مهمتهم، وعند نزولنا من القمة كنا أنا وسيد توفيق نسير سويتاً فذكر لي أن الإذاعة ضروري أن تكون في مناطق السليمانية، وذكرت للرفيق عزيز محمد بأني عندما خرجت مع الرفاق أبو سرباز وأبو فاروق في ناوزنك للبحث على مكان لنصب الإذاعة وعدم قناعتي بالأماكن التي اطلعنا عليها بأنها غير مضمونة لإيصال البث، طرحت عليهم أن اذهب إلى منطقة كوستا واعتقد سأجد مكان صالحا للبث، ولكنهم أعترضوا على ذلك وذكروا بأن الإذاعة يجب إن تكون بالقرب من قيادة الحزب لإيصال الاخبار بسرعة، فذكرت لهم يمكن إيصال الاخبار عبر أجهزة اللاسلكي والمفارز، فأتفق معي الرفيق عزيز محمد حول ذلك، ومن ثم اخبرني بأني سأذهب إلى طهران شخصياً لشراء المولد وحاجيات الإذاعة وأن انسق مع الرفاق حول ذلك.
19 – السفر إلى طهران لشراء المولد الكهربائي:
بعد ذلك مُباشراً التقى بي الرفيق أبو سرباز وبهاء الدين نوري وأخبروني بالذهاب إلى طهران في اليوم التالي وسيرافقني الرفيق سردار (وردا البيلاتي) كونه يجيد اللغة الكردية والتركية والاَشورية إضافة إلى اللغة العربية. وحسب الاتفاق غادرنا أنا والرفيق سردار قاعدة ناوزنك وكان ذلك في شهر كانون الثاني 1981، وعبرنا مناطق جبلية وعرة تملائها الثلوج مشياً على الاقدام إلى أن وصلنا إلى قرية بيوران ومن ثم بالسيارة إلى مدينة سردشت الإيرانية ومن ثم إلى مدينة مهاباد وبعدها إلى مدينة الرضائية (أورمية) ومنها أخذنا الحافلة التي أوصلتنا إلى العاصمة طهران وعند وصولنا أصطحبني الرفيق سردار إلى بيت عائلة أشورية من معارفهِ بتنا عندهم تلك الليلة، وفي اليوم التالي اتصلنا بالرفيق أبو علاء (كامل كرم) مسؤول منظمة طهران، وسبق لي أن زرت طهران والتقينا وتجولنا في المدينة وذهبت معه إلى بيته ومعرفتي به قديمة، فهو خال الصديق مالك حسن منذ أيام الجامعة. أما في هذا اللقاء كان الغرض منه تقديم المساعدة لشراء المولد وحاجيات ضرورية للإذاعة، فأخبرني الرفيق أبو علاء بأن أبن شقيقته ماجد حسن أخ الصديق مالك حسن موجود في طهران وسيطلب منه مساعدتنا لشراء المولد، وماجد خريج كلية الهندسة قسم الكهرباء-بغداد ويتكلم اللغة الفارسية، وهذا ما يسهل علينا المهمة. التقينا به ومن ثم ذهبنا معه إلى أسواق فيها محال لبيع المولدات والأدوات الكهربائية، وتجولنا في الكثير منها وكانت تحوي على أنواع مختلفة، في البدء كنت أبحث عن مولد ديزيل يولد طاقة لاتقل عن 4000 واط او أكثر، ولكن كانت أحجامها كبيرة وثقيلة الوزن ويصعب نقلها إلى مكان الإذاعة، ولذلك ألغيت فكرة شراء مولد ديزل، وبدأت أبحث عن مولد بانزين واخيراً تم اختيار وشراء المولد المطلوب (يولد جهد 220 فولت وقدرة 4000 واط)، كما وقمت بشراء معدات أخرى نحتاجها للإذاعة. وفي مساء نفس اليوم غادرنا طهران متوجهين إلى مدينة أورمية (الرضائية)، وصلنا إليها صباح اليوم التالي، وأخبرني الرفيق سردار علينا الاَن أن نؤجر سيارة تنقلنا إلى مدينة خانة، إعتذروا جميع السواق عن الذهاب إلى مدينة خانة بسبب بدء المعارك بين السلطة في إيران والأكراد، واخيراً حصلنا على سيارة بيك آب بعد الاَتفاق معه على مبلغ مغري، وضعنا المولد وحاجياتنا وركبنا السيارة وكانت الثلوج تتساقط بكثافة، والطريق غير مبلط بشكل جيد ومليء بالحفر، وأثناء سير السيارة انغرست في أحد الحفر وأصابها العطل، فذهب الرفيق سردار سيراً على الأقدام إلى قرية قريبة فيها مقر للحزب الديمقراطي الكوردستاني العراقي (حدك) وطلب منهم المساعدة وبقيت أنا مع السيارة العاطلة وفيها المولد، بعد فترة عاد الرفيق سردار مع تراكتور حصل عليه من القرية بمساعدة حدك، تم سحب وإخراج السيارة من الحفرة بواسطة التراكتور ودفع الأجرة مع تعويض مالي لسائق السيارة لتصليح سيارته. أوصلنا التراكتور إلى إحدى القرى الآمنة والبعيدة عن المعارك بعض الشيء ، لم نتمكن من مواصلة السير بسبب كثافة الثلوج مكثنا في القرية لمدة ثلاثة ايام، ومن ثم انتقلنا بواسطة تراكتور اَخر إلى قرية أخرى وبتنا فيها، وفي صباح اليوم التالي أجرنا سيارة لتنقلنا إلى سردشت وفي منتصف الطريق توقفنا ولم نتمكن من مواصلة السير وبتنا في مقهى وفي صباح اليوم التالي خرج الرفيق سردار للبحث عن بغال لتأجيرها، والمشكلة التي صادفتنا أن الكثير من أصحاب البغال عندما يشاهدون الحمولة يرفضون طلبنا. طرح عليا الرفيق سردار أن نفكك المولد إلى أجزاء، فقلت له لا يمكن تفصيخ المولد وأنما يمكن فك الاجزاء الخارجية وتشمل الاذرع الجانبية والقاعدة فقط وعدم التلاعب بهيكل المولد الداخلي فبدأنا بفك هذه الأجزاء الخارجية فقط والتي لا تشكل أي ضرر بالمولد، ومن ثم ذهب الرفيق سردار واتفق مع احد اصحاب البغال على جلب ثلاث منها، واشترى تبن ووضعهُ في كيسين كبيرين وربط كل منهما على جانبي ظهر البغل وفي الوسط وضع المولد. تحركنا بأتجاه قرية بيوران، وكانت الثلوج تملأ الجبال والوديان، وكنا بين فترة واخرى نحول المولد من بغل إلى اَخر لوزنه الثقيل، استغرق الوصول إلى قرية بيوران حوالي الخمس ساعات، فذهبنا الى بيت احد الرفاق وبتنا عنده في تلك الليلة، وفي الصباح غادر الرفيق سردار القرية بأتجاه ناوزنك وبقيت أنا مع المولد عند رفيقنا في قرية بيوران، بأنتظار وصول رفيق لمساعدتي لنقله الى بيتوش مكان الإذاعة.
وبذلك انتهت مهمة الرفيق سردار (وردا البيلاتي) التي كلف بها من قبل الحزب. وأثناء تنفيذ هذه المهمة سادت بيننا روح التفاهم الرفاقية في حل جميع المشاكل والتغلب على جميع المصاعب وخاصةً أثناء عودتنا مع المولد من طهران إلى قرية بيوران القريبة من الحدود العراقية، وكان للرفيق سردار دور مهم في تذليلها. ولابد أن أشير إلى اعتمادي على مقالة الرفيق سردار المنشورة في صحيفة ريكاري كوردستان في آب 2003، والتي أعادت لي ذكريات تلك الرحلة، فأقتبست بعضاً منها .
وصل الرفيق سيروان (احمد رجب) لمساعدتي في نقل المولد إلى موقع الإذاعة، واقتبس هنا ما نشره الرفيق سيروان في مقالته بتاريخ 13-06-2020 حول نقل المولد من قرية بيوران إلى مكان الإذاعة في بيتوش ( ...وصلت القرية فأجرنا بغلا إلى درمان آوا، وهناك أعترض صاحب البغل على صعود جبل زةردك خوفاً من أنهيار الثلوج، وبدلا من ساعتين للوصول أخذنا طريقاً لنصل بعد يومين، فأنطلقنا من درمان آوا الى آسبة ميزة فالمضيق الاحمر وفي الظهر وصلنا قرية شلناش وأكلنا المقسوم وخرجنا لنصل مساءً الى قرية كرويس حيث نمنا فيها وفي اليوم التالي وصلنا قرية دولكان ومن ثم إلى الإذاعة بسلام، وكانت المولدة ثقيلة جداً. ) .
20 – البدء من جديد بالبث الإذاعي:
تم تركيب المولد الكهربائي الجديد وتوصيله بأجهزة الإذاعة، وعند تشغيله عمل بشكل جيد، وبدأنا بتسجيل البرامج وبثها يومياً، وبقيت مخاوفنا من الصمامات الزجاجية الإلكترونية الموجودة في جهاز تعديل الترددات والمرسلة ورغم إلحاحنا على قيادة الحزب بالحصول عليها بأسرع وقت لأن الإذاعة مهددة بالتوقف في أي وقت ولا يوجد لدينا أي احتياطي لها، وقد سبق وأن ذكرت بأننا أرسالنا نموذج لها لشرائها مع رسالة توضيحية، ولكن قيادة الحزب لم تهتم بالموضوع، والشيء المؤلم والذي يدل على هذا الاهمال، عند ذهاب رفيقنا الشهيد عمار إلى ناوزنك إلتقى به الرفيق أبو حكمت (يوسف حنا يوسف) عضو اللجنة المركزية للحزب، فقال له رفيق عمار لقد جلب الرفاق إليكم هذا المصباح، فرد عليه الرفيق عمار بأن هذا المصباح عاطل وأرسلناهُ لكم منذ فترة طويلة كنموذج لجلب مجموعة جديدة منه، وهذا يدل على مدى الإهمال لدى القيادة.
كان المسؤول عن فصيل الاذاعة الرفيق أبو شوان (قادر رشيد) عضو أقليم كوردستان للحزب، وكان يجلس معنا كل يوم ويتدخل بأمور التسجيل وإعطاء ملاحظات عديدة غير صحيحة تؤثر سلبياً على عملنا، وفي احد الايام طلبت منه الخروج من غرفة الإذاعة وأن الغرفة مخصصة فقط لأعضاء الهيئة الفنية والمذيعين، وهذا قرار سبق أن اتخذناه في بداية عملنا فأنزعج من هذا الطلب. بعد ذلك تم أستبدال الرفيق ابو شوان بالرفيق أبو ناصر (طه صفوك العلكاوي) عضو منطقية في حينها (في المؤتمر الرابع للحزب اصبح عضو للجنة المركزية)، كانت علاقاتهُ مع الجميع جيدة ولم يتدخل بأي شأن لايخصهُ.
في احد الأيام أخبرني الرفيق بهاء الدين نوري أن الرفيق ابو نادية أقترح عليه أن نعلن من خلال الإذاعة عن إيقاف البث، وننتظر لحين وصول الصمامات، رفضت هذا الاقتراح وقلت لهُ، ما دامت الإذاعة تعمل نستمر بالبث لحين توقفها إذا لم تصلنا الصمامات الجديدة. ولإدامة عمل الصمامات اقترحت على الرفاق في الهيئة فتح غطاء جهاز تعديل الترددات والمرسلة لغرض التهوية بشكل أوسع ، ورغم وجود مراوح داخل الجهازين لتبريد الصمامات أقترحت على الرفاق أضافة لذلك زيادة التبريد بواسطة استخدام المهفات ، فأمام كل جهاز يجلس رفيق ويقوم بهذه المهمة، وهذا العمل قد يثير الضحك عند البعض، ولكنه كان نابع من الاندفاع والحرص على أستمرار عمل الإذاعة. في إحدى المرات وأثناء البث لاحظنا هبوطا في مؤشرات أجهزة القياس المثبتة في المرسلة فقبل توقف البث أعلنا عن توقفهُ للحظات ومن ثم نعاودهُ، اوقفنا عمل الإذاعة واقترحت على الرفاق استبدال الصمامات الموجودة في المرسلة بالصمامات الموجودة في جهاز تعدل الترددات لأن الضغط او الطاقة المسلط عليها أقل من جهاز المرسلة، ولها صلاحية عمل أفضل من المرسلة. بعد هذه الخطوة عملت الاذاعة بشكل أفضل واستمر البث.
21 – السلطات الأمنية لنظام صدام حسين تكتشف موقع الإذاعة، فقمنا بنقل
الإذاعة الى مكان آخر:
في شهر آيار 1981 وصلنا خبر من رفاق في قلعة دزه، وكان بث الإذاعة يصلهم بشكل جيد وواضح، بأن أعوان النظام ينشرون خبرا بين الأهالي بعلم سلطات نظام البعث بمكان الإذاعة، وعن قريب سيتم قصفها، وأكد أحد الرفاق القادمين من قلعة دزه هذا الخبر.
جاء الرفيق بهاء الدين نوري وأخبرنا باستلامه أخبار مؤكدة بقصف الإذاعة من قبل النظام ويجب الانتقال إلى مكان اَخر في أسفل جبل نؤررى وحالاً، قمنا وبشكل سريع بفك الأجهزة ووضعها في الشنط المخصصة لها، وجمعنا جميع الحاجيات وجهزناها للانتقال، وجلسنا بانتظار وصول البغال وعند وصولها قمنا بتحميلها وربط الحمولة بالتعاون مع جميع أنصار ورفاق الإذاعة والفصيل، وتحركنا إلى المكان المخصص في أسفل الجبل ونزلنا في كوخ سلمان آغا، ونصبت خيمة للإذاعة، وبدئنا بفتح ونصب أجهزة الإذاعة والهوائي وربط المولد بها للبدء بالبث المباشر وبدون تسجيل البرنامج كما كنا نفعل سابقا لعدم توفر الوقت، وحرصاً منا على استمرار البث الإذاعي لصوت الشعب العراقي، وقبل بدء البث في الساعة السادسة مساءً من نفس اليوم هيئنا الأجهزة ومسجلات الكاسيت وتحديد الأغاني والموسيقى التي سنقوم ببثها أثناء نشرات الأخبار والتعليقات.وتم توزيع الرفاق الفنيين على أجهزة الإذاعة والمولد لفتحها ومراقبة عملها، وتولينا عملية البث والإخراج وطلبت من المذيعين الدقة وتلافي الأخطاء والجدية في قراءة المواد. شغلنا الاجهزة وقمنا بالبث المباشر وجرى بشكل جيد، وكررنا ذلك في الأيام الأخرى.
وبعد يومين من نزولنا من قمة جبل نؤررى شنت طائرات النظام الدكتاتوري قصفها للجبل والمناطق المحيطة به، استشهد في القصف فلاح أسمه مام علي مع ابنه. ورغم ذلك استمرينا بالبث إلى شهر حزيران، عندما تقرر نقل الإذاعة إلى نوكان، وفي اليوم الأخير للبث أعلنا بأن إذاعة صوت الشعب العراقي ستتوقف لمدة ثلاثة أيام بسبب خلل فني، وهي الفترة التي سنستغرقها في جمع حاجياتنا والأجهزة ونقلها ومن ثم نصبها ومواصلة البث. جهزنا البغال وأعتقد كان عددها 6، وفي صباح اليوم الثاني من إيقاف البث حملناها بأجهزة الإذاعة والمولد الكهربائي وحاجياتنا الأخرى.
22 – نقل الإذاعة من بيتوش إلى نوكان، ومحاولة مواصلة البث الإذاعي:
تحركنا من بيتوش وعبر الجبال الشاهقة مروراً بقرية بيوران وقاسم رش وصولاً إلى ناوزنك ومن ثم إلى الزلي – نوكان وهي محطتنا الأخيرة واستغرق سيرنا لقطع هذه المسافة حوالي 7 ساعات، وكان الفصل صيفاً والرفاق الأنصار في هذا الفصل يعيشون في الخيام، فأخذنا احداها ووضعنا الأجهزة فيها. التقينا مع الرفيق مهدي عبد الكريم (عضو اللجنة المركزية للحزب) سبق له أن كُلفَ بإدارة أذاعة صوت الشعب العراقي عام 1964 بعد الانقلاب الفاشي في 8 شباط 1963، وكانت تبث من صوفيا عاصمة بلغاريا. وتم إبلاغنا بأن الرفيق مهدي عبد الكريم سيكون المسؤول الاعلامي للإذاعة بدل الرفيق بهاء الدين نوري، كان يمتاز بالتواضع والطيبة والتفاهم والتعامل بمرونة مع الرفاق وذو خبرة إعلامية.
في اليوم الثاني من وصولنا قمنا بنصب أجهزة الإذاعة وتهيئتها للعمل، وعند تشغيلها كانت أجهزة القياس المثبتة في جهازي تعديل الترددات والمرسلة قراءتها هابطة، وهذا دلالة على عدم قدرتها على إرسال البث، ومن خلال بذل الجهود عملت الاذاعة لعدة دقائق ومن ثم توقفت، ادركنا أن الصمامات الإلكترونية قد فقدت صلاحيتها للعمل بسبب أستخدامها في بيتوش ومن ثم نقل الأجهزة إلى ناوزنك على ظهر البغال والاهتزازات التي صادفتها لمسافة طويلة، ورغم إبلاغنا لقيادة الحزب بضرورة الاسراع بجلب مجموعة من هذه الصمامات، ولكن الإهمال وعدم أخذ الموضوع بجدية أوصلنا إلى إيقاف البث وإيقاف استخدام الإذاعة كوسيلة اعلامية وتحريضية تقدم خدمة كبيرة للعمل النضالي ضد الحكم الدكتاتوري. هكذا توقف عمل الإذاعة بانتظار وصول الصمامات.
23 – الذهاب إلى بشتاشان لاختيار مكان جديد للإذاعة:
قررت قيادة الحزب في ناوزنك بنقل بعض فصائل الأنصار إلى منطقة بشتاشان التي تقع في العمق العراقي على مسافة حوالي 20 كم عن الحدود مع إيران. اتصل بي الرفيق أبو عامل (سليمان إسطيفان) عضو اللجنة المركزية للحزب والمسؤول العسكري، وأخبرني بالذهاب معه ضمن مفرزة من الرفاق الأنصار إلى منطقة بشتاشان، لاختيار أماكن لنقل بعض الفصائل من ناوزنك إلى هناك، وأن يكون دوري هو اختيار مكان للإذاعة.
في صباح أحد الأيام من شهر آب 1981 تحركت المفرزة من توﮊله – نوكان إلى بشتاشان مع عدد من البغال تحمل خيام وبطانيات ومواد غذائية وحاجيات أخرى، وبعد حوالي 6 ساعات وعبر سلسلة جبلية داخل الأراضي العراق، وصلنا إلى منطقة بشتاشان الواقعة على السفح السفلي الغربي لجبل قنديل الشاهق الارتفاع والممتد لمسافة واسعة.
بعد وصولنا إلى بشتاشان قمنا بنصب الخيام في مناطق مختلفة، وطلب مني الرفيق أبو عامل أن نذهب سويةً ونطلع على المنطقة ونختار أماكن للإذاعة، وخلال تجوالنا لاحظت وجود عدة أماكن صالحة للبث، فأخترتُ ثلاثة منها ومن ضمنها أشقولكا وپولي ووسط بشتاشان، حيث تم بناء مقر ليكون للإعلام والإذاعة. بشتاشان فضائها الأفقي للبث منفتح وجبل قنديل يقع في الجانب الشرقي منها باتجاه الحدود الإيرانية وسيؤدي دور العاكس للموجات الإذاعية الأرضية داخل الأراضي العراقية وتختلف عن ناوزنك المحاطة بجبال وخاصةً جبل مامند والذي يؤدي دور الحاجز للموجات الأرضية المتجهة داخل العراق.
بعد مرور عدة أيام غادرنا بشتاشان عائدين إلى نوكان، وبقتْ مجموعة من الرفاق الأنصار لبناء المقرات، لكي تنتقل فيما بعد فصائل أخرى ، وكان هذا توجه الحزب بالانتقال من ناوزنك الواقعة على الحدود بين العراق وإيران إلى بشتاشان لتسهيل تحرك مفارز الأنصار داخل الأراضي العراقية.
عند وصولنا إلى نوكان التقيت بالرفيق مهدي عبد الكريم، وأوضحت له ما شاهدتهُ في بشتاشان وأن طبيعة الأرض هناك صالحة لنصب الإذاعة وقد أخترت عدة أماكن لذلك، وعند أنتقالنا سنختار إحداها. في شهر ايلول 1981 عدنا إلى بشتاشان مع مجموعة أخرى من الرفاق الأنصار وبضمنهم بعض رفاق الهيئة الفنية للإذاعة، وأبقينا أجهزة الإذاعة في توﮊلة لحين وصول الصمامات الإلكترونية. كنا نمارس أعمالنا اليومية في ظروف صعبة، وخاصةً في شهر تشرين الأول 1981 عندما حاصرتنا قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكوردستاني (اَوك) وموقفها السلبي من التحالف مع الحزب الشيوعي العراقي لامجال هنا لسرد تفاصيلها، فقد انقطع التواصل مع القواعد الأخرى للحزب وتوقف التموين وشحت المواد الغذائية، وكان الحذر من أي هجوم قد يحدث من قبل اَوك، فاتخذت إجراءات لحماية المنطقة. استمرت هذه الحالة عدة أسابيع إلى أن تم الاتفاق بين الحزب و اَوك على تهدئة الأوضاع. في شهر تشرين الثاني 1981 سافر الرفاق صارم وعمار مع رفاق اَخرين إلى ناوزنك.
في شهر كانون الأول 1981 أصبت بحادث إطلاقات نارية في الساق الأيسر فقدت 17 سم من عظم الساق، وقبل يومين من الحادث وصلت بغال محملة بتموين لقاعدة بشتاشان ومن ضمنها معدات طبية تشمل على اكياس مغذي ومواد تضميد وأدوية مختلفة، ولولا وصولها لفقدت حياتي. بذل الدكتور ابو عادل (د.محمد هادي) جهد كبير ورائع وحضر بعد الحادث مُباشرتاً وقام بأجراء عدة عمليات جراحية، وبقى إلى جانبي لمتابعة وضعي الصحي لعدة أيام لحين وصول الدكتور صادق (د.مهند البراك) وأجروا سويتاً عملية أخرى بالاستفادة من خبرة د.صادق، وبعدها ذهب د. ابوعادل الى طبابة القاعدة لمتابعة الأوضاع الصحية للرفاق الأنصار وبقى إلى جانبي د.صادق وأدى مساعدة رفاقية رائعة.


بعد اجراء العلاج: في الصورة من اليمين إلى اليسار - د. ابو عادل (د.محمد هادي)، عادل مخلص (سالم جورج)، زمناكو ( سامان احمد بانيخيلاني)، د. صادق (د.مهند البراك)
لا اتمكن من التعبير عن شكري وتقديري للدكتور صادق والدكتور ابو عادل وإلى الرفاق الذين وقفوا الى جانبي وساعدوني في تلك الظروف الصعبة والمؤلمة، كانت أوقات تعكس مدى المحبة وقوة العلاقات الرفاقية الرائعة.

المقر الرئيسي في بشتاشان، ورفاق فصيل المقر، ويظهر في الخلف جبل قنديل المغطى بالثلوج
24 – وصول الصمامات الإلكترونية الجديدة، وتعذر ذهابي إلى ناوزنك:
في أواخر شهر كانون الثاني 1982 استلمت رسالة من الرفيق أبو عامل (سليمان اسطيفان) المسؤول العسكري، يخبرني فيها بوصول الصمامات الإلكترونية الزجاجية لتعويض الصمامات العاطلة التي كانت سبب توقف عمل الإذاعة، ويطلب مني بذل الجهود وبمساعدة الرفاق للوصول إلى توﮊلة في ناوزنك مكان وجود الإذاعة. أخبرت الدكتور صادق (د. مهند البراك) بذلك وطلبت منه وبإلحاح الانتقال إلى هناك. رفض طلبي وبشكل قاطع، وذكر لي أن نقلي في هذا الوقت خطر لكون جرح الساق مفتوح والجو شديد البرودة والثلوج تملأ الجبال والطرق، وابلغ الرفاق المسؤولين في ناوزنك بذلك. رضخت للأمر الواقع لعدم امتلاكي القوة على التصرف، وكنت على اطمئنان بإعادة تشغيل الإذاعة بشكل جيد بعد وصول الصمامات، ومن خلال خبرة الرفيقين صارم وعمار، وهم أعضاء الهيئة الفنية منذ الأيام الأولى لنصبها وتشغيلها واكتسبوا معلومات وإمكانيات واسعة للتعامل معها. في كل ليلة وأنا راقد وأعاني من الجرح في الساق، كنت أبحث عن بث إذاعة صوت الشعب العراقي من خلال راديو الترانزيستور الصغير الذي امتلكهُ، وفي مساء أحد الأيام وإذا بي اسمع هدير صوت يرعب الحكام القتلة " هنا إذاعة صوت الشعب العراقي، إذاعة الحزب الشيوعي العراقي ". كانت فرحتي لاتقدر أزالت كل الآلام التي كنت أعاني منها. لقد عادت الإذاعة للعمل وبث صوتها من جديد، بعد الإهمال وعدم التصرف بشكل سليم من قبل قيادة الحزب المتواجدة في ناوزنك رغم مطالبتنا لهم منذ اليوم الأول لتشغيل الإذاعة بتوفير مولد كهربائي جديد يتلأم مع مواصفات الإذاعة، ولكن يرسلون رفيق لاعلاقة له بهذه المهمة بدون علمنا ويجلب مولد لافائدة منه، كما وطلبنا منهم منذ اليوم الأول جلب الصمامات الإلكترونية الزجاجية وارسنا لهم نموذج لها وبقينا ننتظر لفترة طويلة إلى أن توقفت الإذاعة عن العمل، سبق أن أوضحت تفاصيل هذه الأخطاء والتقصير. وعندما توفر المولد والصمامات عملت الإذاعة بشكل جيد. ولكن للأسف الرفاق القياديين المسؤوليين عن متابعة مهام واحتياجات الإذاعة يتنصلون من تقصيرهم وأخطائهم ويوجهون اللوم على الهيئة الفنية وبالأخص المسؤول الفني عادل مخلص،
25 – عودة بث الإذاعة في ناوزنك:
بعد وصول الصمامات الإلكترونية الجديدة للتعويض عن الصمامات العاطلة قام الرفيقان صارم وعمار مع رفاق اَخرين بتشغيل الإذاعة وعملت الأجهزة بشكل جيد بعد تركيب الصمامات الجديدة، وهذا ما سمعته من الرفاق ولكن لم يكن البث بشكل جيد بسبب المكان، فتم تغير المكان وواصلت الإذاعة بثها الاعتيادي.
في ربيع عام 1982 غادرت بشتاشان للعلاج في المستشفى العسكري في موسكو واستغرق العلاج سنتين وثلاث أشهر.
26 – نقل الإذاعة إلى بشتاشان ومواصلة البث إلى قرار تفجيرها :
علمت من الرفاق بأن الإذاعة تم نقلها إلى بشتاشان في صيف عام 1982 ، وبعد أن تم اختيار مكان لها قام الرفاق بنصب الأجهزة ومواصلة البث حتى أواخر شهر نيسان 1983.
في هذه الفترة أصبحت الأوضاع سيئة في بشتاشان نتيجة الحصار الغادر الذي فرضهُ الاتحاد الوطني الكردستاني (اَوك)، والجريمة التي ارتكبها في الأول من اَيار 1983 وهو يوم عيد العمال العالمي بالهجوم اللاأخلاقي ضد مقرات الحزب الشيوعي العراقي حليفهم في محاربة النظام الدكتاتوري، والغرض من ذلك هو تقديم عربون للتفاهم مع نظام صدام حسين وهذا ما كشفته الاحداث بعد هذا العدوان. لقد زاودوا بالمباديء وتنكروا لها.
أضطر الرفاق في الإذاعة وبقرار حزبي القيام بتفجير الإذاعة ومنع المعتدي من الحصول عليها.
27 – أستشهاد الرفيق عمار ( سمير كامل يوسف ) عضو الهيئة الفنية:
الشهيد عمار شاب في عشرينات العمر، أكمل دراستهُ في كلية الهندسة قسم الكهرباء جامعة بغداد، بعد تخرجه مُباشرتاً ونتيجة المضايقات السياسية، هرب من العراق إلى إيران وعاش في مدينة طهران عدة أشهر، وهناك التقى برفاق منظمة طهران للحزب الشيوعي العراقي، وطلب منهم الالتحاق بفصائل الأنصار في كوردستان العراق.
في أواخر صيف عام 1980 التحق بقاعدة ناوزنك، وتم ضمهُ إلى الهيئة التي تشكلت للعمل في الإذاعة، كان هادىء الطبع ومندفع في العمل وهذا ما خلق نوع من الحب والاحترام لدى الرفاق الذين كانوا على قرب منه، لم يكن عدوانيا أو مثير للمشاكل، ولهذا كان خبر استشهاده مؤلماً ومحزناً لكل من عرفهُ وسمع عنهُ.


الشهيد عمار – سمير كامل يوسف
اما عن استشهادهُ وهذا ما سمعتهُ من الرفاق الذين كانوا على مقربة منهُ ومنهم الرفيق صارم، فبعد الهجوم الإجرامي في الأول من اَيار 1983 على قاعدة بشتاشان من قبل مسلحي اَوك بإيعاز من قادتهم دون أي اعتبار للقيم الإنسانية والروابط النضالية مع الشيوعيين لمحاربة النظام الدكتاتوري، على أثر هذا الهجوم قرروا الرفاق العاملين في الإذاعة بالأتفاق مع القيادة بتفجير الإذاعة وحرق جميع الوثائق لعدم الاستفادة منها من قبل الأعداء، بعد ذلك هرب الرفاق من مقراتهم على شكل مجاميع وكل مجموعة أخذت لها اتجاه للهرب، وحسب ما علمت بأن مجموعة رفاق الإذاعة اتجهت باتجاه جبل قنديل للعبور إلى منطقة اَمِنة، وأثناء مسيرتهم أصبحوا في مرمى سلاح اَوك، أصيب الرفيق عمار ولم يتمكن من مواصلة السير، في هذه الاثناء توجه اليه مسلحي اَوك وبدل ان يتعاملوا معه بأبسط قواعد واخلاقيات الحروب بأخذهُ كاسير وتقديم العلاج لهُ، قاموا هولاء المجرمون القتلة بالرمي عليه بكثافة وبذلك تجردوا من ابسط القيم الانسانية ... أستشهد الرفيق الشاب عمار لهُ الذكر الطيب دائماُ. واستشهد العشرات من الرفاق المناضلين من أجل العيش الرغيد في وطن ديمقراطي حر ...استشهدوا على أيدي مقاتلين ائتمنهم الحزب في مواصلة الكفاح للنهاية ضد النظام الدكتاتوري، مقاتلين مارسوا القتل بدون رحمة، قلوبهم مليئة بالحقد والشوفينية قتلوا الرجال والنساء ومعظمهم من حملة الشهادات الجامعية.
وهنا أستذكر الشهيد أبو سعيد (عبد المطلب كمال) ابن مدينة الثورة، درسنا سويةً في قسم الفيزياء جامعة السليمانية، كان إنساناً طيباً ومحباً للحياة مبتسم دائماً، في جلساتنا مع الاصدقاء كان يبادر بالغناء بدون طلب. أحب الشعب الكوردي وتعلم اللغة الكوردية وكان مدافعاً عن حقوقهُ. سافر إلى الجزائر وعمل في إحدى مدارسها مدرساً لمادة الفيزياء، وعندما تشكلت فصائل الأنصار ترك عملهُ وألتحق بها في كوردستان وكان لنا لقاء في بشتاشان.

الشهيد ابو سعيد – عبد المطلب كمال
واثناء اندلاع احداث بشتاشان المأساوية استشهد أبو سعيد على يد مسلحي اَوك عندما كان في مفرزة، ستبقى ذكراهُ الطيبة في قلوب رفاقهُ واصدقائهُ دائماُ.
من خلال هذهِ الجريمة وتركيزهم في قتل الرفاق العرب ومن القوميات الأخرى غير الكوردية، كان لها تأثير نفسي في إثارة نوع من العنصرية وفقدان القضية الكوردية أشخاص مدافعين بإخلاص عن حقوقها.
المجد والخلود لشهداء جريمة بشتاشان، وشهداء الحزب الابطال على مدى تأريخه النظالي.
نتمنى من الجيل الجديد في الاتحاد الوطني الكوردستاني أن يتدارس ما حدث في بشتاشان وأن يستنكر الجرائم التي ارتكبها مسلحوه.

28 – الخاتمة:
بعد هذا التوضيح التفصيلي عما عانته أجهزة الإذاعة من إهمال في عملية النقل وعدم الحفاظ على أغلفتها بشكل كامل وجيد، والمسافة الطويلة التي اجتازتها عبر جبال ووديان وانهار وهي على ظهر البغال من الحدود السورية إلى قاعدة بهدنان ومن ثم إلى تركيا وإلى قاعدة كوستا وبعدها إلى قاعدة ناوزنك ومن ثم إلى بيتوش، كان المفروض على قيادة الحزب أن تقدر هذه الصعوبات في النقل لعدد وكبر وثقل الأجهزة، وهي إذاعة ليست صغيرة الحجم، كان المفروض أن يكون قراراً بنصبها في قاعدة بهدنان.
والإهمال الاَخر من قبل قيادة الحزب في عدم تلبية حاجيات ومتطلبات مواصلة تشغيل الاذاعة ومنها المولد الكهربائي واشكاليات التجاوز على الهيئة الفنية في مهمة شرائه وتأخر توفيرهُ، وقد سبق ذكر ذلك في الفقرة 17 من هذا الموضوع. أضافة إلى عدم توفير الصمامات الإلكترونية رغم التأكيد والاصرار المستمر من الهيئة الفنية، لتعويض التالف منها نتيجة عملية نقل الأجهزة وما صادفها من مشاكل، وتم توضيح ذلك في الفقرة 20 .
اضطررت لكتابة هذا الموضوع بطلب من بعض الرفاق والاصدقاء وأخص بالذات الرفيق سهيل الزهاوي (ماموستا كمال)، فكان متابعاً لكل ما يقال ويكتب عن الإذاعة وفيه الكثير من المغالطات البعيدة عن الحقيقة، فطلب مني أن أكتب بالتفصيل لتوثيق ذلك. فبدأت باستعادة الذاكرة والاستعانة ببعض الرفاق الأنصار ممن لهم علاقة بالإذاعة، وارسلت لهم ما كتبت قبل تنقيحهُ لأخذ الاَراء وتصحيح الأخطاء، ليكون الموضوع موثقاً.
لقد كتب الرفيقان القياديان في الحزب الشيوعي العراقي الرفيق بهاء الدين نوري (أبو سلام) والرفيق احمد بانيخيلاني (أبو سرباز) مذكراتهم، وكانتا تجسيد وتوثيق لنشاطهم ونضالهم الحزبي، ولهم كل الاحترام والتقدير لتأريخهم ومواقفهم البطولية وتضحياتهم الجسيمة هم وعوائلهم، وما كتبوهُ سيكون حافزاً ودرساً للأجيال القادمة للعمل والنضال من أجل بناء عراق ديمقراطي مدني حر. ولكن توجد عندي ملاحظات تصحيحية حول ما تم كتابته في تلك المذكرات عن الإذاعة لم تكن موفقة، وكانت تقديماتهم عن تعثر عمل الإذاعة بشكل مستمر غير صحيحة. وتحميل المسؤول الفني للإذاعة عادل مخلص أسباب التوقفات التي صادفت استمرا البث الإذاعي، وبأنه لم يكن ملما بالأمور الفنية لعمل الأجهزة والعكس هو الصحيح، وتقيمهم هذا هو تبرير للإهمال والأخطاء. وكما تم ذكرهُ : فمكان نصب الإذاعة تم أختيارهُ من قبلهم ( راجع الفقرة 11)، وكان نقل الأجهزة من سوريا إلى ناوزنك صعب وبدون عناية (راجع الفقرة12)، تأخر توفير المولد الكهربائي وإشكاليات التعامل مع الهيئة الفنية (راجع الفقرة 17)، ومنذ اليوم الاول لوصول الإذاعة طلبنا توفير الصمامات الإلكترونية التالفة نتيجة الصدمات أثناء النقل ولم يتم توفيرها إلى أن أستهلكت وتوقف عمل الصمامات المتبقية في الأجهزة رغم الجهود التي بذلناها لأدامتها (راجع الفقرة 14و20).
للأسف أي شيء من هذه الاسباب التي اعاقت مواصلة عمل الإذاعة لم يتم ذكرها في مذكراتهم:
مذكرات بهاء الدين نوري – كتب عن الاذاعة في الصفحة 520-521-522
مذكراتي احمد باني خيلاني – كتب عن الاذاعة في الصفحة 293-294-295
كان لدى الإذاعة هيئة فنية من رفاق متخصصين فإضافة إلى المسؤول الفني ضمت الرفيق الشهيد عمار (سمير كامل يوسف) وهو خريج كلية الهندسة قسم الكهرباء بغداد والرفيق أبو نادية خريج كلية الهندسة قسم الكهرباء البصرة وله خبرة حيث عمل بهذا الاختصاص في العراق وفي الجزائر والرفيق صارم وكان طالب في الصف الثالث قسم الكهرباء الجامعة التكنولوجية بغداد.
الهيئة الفنية للإذاعة لم تقصر في عملها وكانت ملمة بالأمور المطلوبة منها، وعملت بجهد عال وفي ظروف صعبة وخطرة ولم تكن مسؤولة عن توقف البث الذي حدث.

****************
ملاحظة: أتمنى من الرفاق الذين ساهموا وعملوا في إذاعات الحزب المختلفة أن يكتبوا ما تحملهُ ذاكرتهم من معلومات وذكريات لاستكمال ملف متكامل قدر الإمكان عن هذا الموضوع وأن يشمل إذاعة الحزب عام 1964 في بلغاريا، وإذاعة الحزب الثانية في كوردستان بعد تفجير الإذاعة الأولى، كتوثيق لمرحلة تأريخية.

" الحياة في تغير دائم ومواكبة هذا التغير يتطلب تطوير الافكار والمفاهيم واساليب النضال من أجل مستقبل جديد تسودهُ الديمقراطية والمساواة والسلام "


تجد في الرابط ادناه التقرير كامل مع الصور

https://drive.google.com/file/d/1fUvQeX7jMbP9E2Ir8P2BoMs2RD65M8YH/view








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات بحث تحت الأنقاض وسط دمار بمربع سكني بمخيم النصيرات في


.. مظاهرات في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وإعادة المحتجز




.. رغم المضايقات والترهيب.. حراك طلابي متصاعد في الجامعات الأمر


.. 10 شهداء في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في حي النصر شمال مدينة




.. حزب الله يعلن قصف مستوطنات إسرائيلية بعشرات صواريخ الكاتيوشا