الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معاني الغربة في النسيج السردي لأبي بكر العيّادي (*)

فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)

2022 / 9 / 29
الادب والفن


مدخل:
تُعرّف الغربة بأنّها فراق الأوطان يرافقه اضطراب في المشاعر.
والمتأمّل في مدوّنة السرد في تونس يجد أن تيمة الغربة بجميع تحوّلاتها هي التيمة الأمثل الموظّفة توظيفا متميّزا لنقد الواقع الاجتماعي ومواجهة عناصر الفساد وتعريتها. وهي القضيّة الكبرى المتناولة بدرجات متفاوتة من الوعي والتجربة، تقصر عند البعض فتتوقّف بهم عند الانبهار والاستلاب الحضاري وتتوسّع لدى البعض الآخر إلى حدود أعمق إلى حدود يتمّ فيها استخدام اللغة لتغريب الواقع (1).
أمّا الغربة في المدوّنة السردية لأبي بكر العيّادي فهي ليست فقط مجرّد لحظات قنص أحداث عشوائيّة يضمّها الكاتب إلى نصوصه ضمّا ومطيّة للتعبير عن موقفه من بعض القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية (2)، وإنّما هي وعي متنامي تَشَكّل ، على نحو لافت، في قالب مشروع أدبيّ مترابط يصل "دهاليز الزمن الممتدّ" بتخوم "زمن الدنّوس".
طرح العيّادي مشروعه بأساليب فنّية مختلفة وغذّاه وسقاه من تجربته الحياتية الثرية. فقراءة متأنّية للمدوّنة يمكن لنا أن نختزل كلّ الشخوص في شخصيّة واحدة متحوّلة متنقّلة مبثوثة في جميع أقاصيص الكاتب ورواياته تؤدّي معنى من معاني الغربة أو تهيّئ الظروف لأسباب تحوّلها.
تحوّلات الوطن : الاغتراب
انطلق أبو بكر العيّادي في تشييد أركان مشروعه من مجموعته القصصية البكر "دهاليز الزمن الممتدّ" حيث ثبّت فيها أسس الهويّة والتجذّر التي تمثّل مصدر السعادة والطمأنينة والتوافق مع الذات والمحيط، وهي العناصر الأساسيّة التالية:
• الارتباط بالأرض.
• القناعة أو اقتصاد الكفاية.
• قيم التكافل والتضامن.
ثمّ شرع في إبراز عناصر التحوّل والاضطراب معتمدا على شخصية أوجدها من رحم الإبداع تعاني أعراض القلق وفقدان الآنيّة نتيجة انفصالها الاضطراري عن الريف وارتطامها بصخور المدينة وقيمها حيث ستقوم هذه الشخصيّة بعمليّة التحوّل من حب الأرض إلى حب المعرفة (3) فتصاب بغربة في الشكل والمشاعر، غربة عن الذات تتبدّى في الحنين إلى "السهول المترامية والفضاء الشاسع والوادي وأهازيج النسوة." (4).
يقول الابن في قصّة "توقيعات شهود عيان": "تلك وصيّة أبي ومن قبله جدّي، وجدّ جدّي، كان يقول لي ترك الأرض يا ولدي كفراق حبلى."(5)
وقد فارق الابن الأرض التي كانت تربطه بالجذور فاستوحش المدينة اللابسة لليل وأجواءَها العنيفة المنحطّة وسقط في الضياع فاقدا للسلام الداخلي.
غربة الأوطان
تتدرّج غربة الشخصيّة عندما يحملها الكاتب على الهجرة إلى الضفّة الأخرى لتأمين قوتها. يسبّب لها الأسباب لترتحل إلى بلد الأنوار ومجتمع الحداثة وهناك تتّخذ لها لقبا مناسبا، الغريب، تنام في المحطّات وتنبش في أكوام القمامة كالكلاب السائبة تلمّ أوراق الشجر اليابسةَ والنفايات وخِراءَ الكلاب(6)، وتعجز عن تحقيق أحلامها نتيجة عجزها عن التأقلم في المحيط الاجتماعي الجديد. هذا المحيط المليء بالمتناقضات. فراوحت نظرة الراوي العليم، ومن خلفه الكاتب، بين انبهار واحتقار. نقد مشحون بالألم ومعبّر عن الانفصام. فرغم بشاعة وبذاءة الأوصاف التي كان الراوي العليم يمطر بها علنا موطن الغربة إلاّ أنّ تلك الأوصاف كانت تفصح في الآن نفسه عن الثناء والمديح بالمنسوب الواسع من الحرية الذي كان يتمتع به مواطن الضفّة الأخرى. حرية لم يتعوّد الغريب عليها في بلده، موطنه الأم.
يقول الراوي بكل أدب واحترام : "وحده – أي برج ايفل - يختزل المدينة، طارفها وتالدها، عراقتها وحداثتها، نبوغ نخبتها وهَوْسَهم بارتياد المجهول."(7) "هي منه في كل شيء."(8) ثمّ يرتدّ فجأة عن مدح باريس ويتنصّل من انتسابه لهذه المدينة فيقف موقفا عدائيا منها ويصفها بكل ازدراء بما يصف به العاهرات. "مدينة تكاد لا تستر عريها، متبرّجة بالنهار، مضمّخة بالعطور والأصباغ والمساحيق، خالعة العِذار بالليل، ترفع ثوبها الحسير عن فخذين منفرجين ينفتحان على ليل يورث الأرق"(9).
ولا يمكن للزيف والمجون أن يُعمّر قلب الغريب الذي ألف المعايير والقيم الدينية القابعة في اللاوعي تحكم تصرّفات وسلوك الأفراد والجماعات، ذلك الموروث الاجتماعي العاصم الذي توغّل في شخصيّته وزُرِع في أرجاء حياته يوم كان فتى ريفيا ممتزجا بتربة أرض لم تجرفها بعدُ التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة. هذه التحوّلات التي ترتّب عنها الاغتراب وضعف الانتماء والضياع بين أرض الشمال وسماء الجنوب.
هيمن السارد العليم الراسم لملامح الغريب الباني لعوالمه على الملفوظ السردي، وتداخل صوته مع صوت الكاتب ولم يعد يكتفي بتتبّع شخصية ابن قاع المدينة ورصد ذبذبات واقعها ورواسب تفكيرها. لقد انتقل من تبيان حال الغريب في المهجر إلى الحديث عن غربة الكاتب الوجوديّة وحلمه في التغيير مجسّدا بذلك صراع الحضارات وتصادم المفاهيم.
ورغم ما تعرّض إليه المهاجر من ميز عنصري بسبب لونه واسمه وما وجده من صعوبة في العيش والاندماج وتدنّي مرتبته الاجتماعية في بلاد المهجر وتصاعد موجة الكراهية والتحقير ضده إلاّ أنّ روح التحدّي والبقاء كان أقوى من مشاعر الشوق إلى الوطن. لقد بدأ الحبل السرّي الذي كان يشدّ الغريب إلى موطنه الأصلي يفتر ويضعف بعد أن تحوّلت شخصيته ونما زرعه بأرض الغربة.
يقول السارد على لسان المولود بالمهجر : "هنا ولدت، وهنا أعيش، ولي في هذا البلد نصيب لا بدّ منه، ولو كره الكارهون" (10). ويضيف في موطن آخر: "تقول في ما يشبه التنهّد: لا أريد أن أكون مقطوعة من شجرة، في بلد غريب. وحينما أحتجُّ على "غريب" هذه ، وأقول إنّها فرنسيّة، لها ما لأهل البلاد من حقوق، تحتدّ قسماتها وتبرق عيناها العسليتان وهي تقول: على الورق فحسب، أمّا الواقع ..."(11)
غربة الأزمان
هذه الغربة الجديدة غربة الهويّة والانتماء هي من أقسى أنواع الغربة وأشقّها على نفس الغريب النابت في المهجر لأنّها جمعت بين انتماءين يقومان على ثنائية متباينة :
• انتماء إلى مجتمع المنبت لا يقيم للمثل والقيم وزنا وينطوي على قدر كبير من التمييز والرفض لوجوده.
يقول الشاهد في قصّة الضفّة الأخرى : " هنا تجري الأمور بسرعتين، واحدة لي ولأمثالي من السمر والسود، والثانية لأهل البلاد ومن شابههم. سرعتان مضطردتان لا تدرك اللاحقةُ السابقةَ أبدا حتّى في بعض مظاهر الترفيه التي ينشدها شابّ في مثل سنّي. كذا في التعليم والقضاء والشغل"(12).
• وانتماء إلى مجتمع مهزوم متدثّر بدثار الجهل والتخلّف، رافض لكلّ أشكال التغيّر الإيجابي لا يرى في ابن الأجيال المتناسلة في المهجر إلاّ مسخا غريبا منحطّا.
يقول الشاهد : " أنا لا أنكر أصلي وفصلي، غير أنّي كلّما أسلست للريح جهاتي، وتبعت الشيخ خلف ذيّاك المدى، لم يكن يلفّني غير الفراغ والغربة"(13).
ومن ثمّ كانت النتيجة أنّ مشاعر الغريب وأحاسيسه غالبت بقوّة واقعها المؤلم بالانغماس في تضاريس الماضي الموغل في البعد تستعير ممّا تبقّى في الذاكرة والوجدان عناصر هويّتها الجديدة زاد ضعف الحاضر وانكساره في الاعتقاد بتميّزها وقداستها.
وجد الغريب في الانتساب إلى العصور القديمة عصور المبادئ والقيم والحياة الرشيدة الفاضلة في زمن غير زمنه معنى لوجوده وحلاّ للتناقضات القائمة في ذاته بين العزلة المدمّرة ووهم الاندماج، بين حاضر لا يسرّ وماض يأسر. إنّها حالة من حالات غربة الأزمان والأصول أبدع صاحب المدوّنة أبوبكر العيّادي في الحفر عميقا في ظواهرها وتشريح أسبابها.
في روايته "آخر الرعيّة"(14) أشار الأديب العيّادي إشارات ذات دلالة إلى موقف المستبدّ عظيم الشأن من الديمقراطية ومبدأ التداول السلمي على السلطة، وفي "زمن الدنّوس"(15) قام الكاتب بشرح مستفيض للمشكلات الحقيقية التي تغذّي الشعور بالعجز والإحباط وتدفع المرء إلى مغادرة الأوطان. ذكر الحبيب السائح في نصّه المعنون بـ" زمن الدنوس: رواية الهامش يطوّق المركز" بعضا منها ككرامة العيش والحرية والتستّر على الجريمة المنظمة والتواطؤ مع مقترفيها ونهب المال العام وإعادة تبييضه (16) إلخ.
ظلّ العيّادي يلفت النظر تلميحا وتصريحا إلى هذه المشكلات التي أنتجت سلوكيات منحرفة أدّت إلى تحوّلات خطيرة في العلاقات بين الشعوب، ونحتت التطرّف الفكري الذي ولّد الارهاب ولوّثة العقول. يتجلّى ذلك بوضوح في هذه الفقرة المليئة باليأس والتشكيك بالمبادئ : "أكتب بالدم القاني ما يساورني في هذا العام الذي لم يشهد من التغيير سوى أصفار ثلاثة هي بدؤنا يوم ابتدعناها وهي حالنا ونهايتنا المتربّصة وهي عدلنا وحريتنا ومساواتنا وهي ديمقراطية حكّامنا الذين يورّثون أبناءهم السلطة شأن ملوك الطوائف وهي النسب المئوية التي حصدناها من سلام الشجعان."(17). وفي صوت لقمان الموالدي وهو يسوّط الذات ويقارن بين عزّة الماضي وذلّة الحاضر وقد بدأت تتحدّد وجهته المقبلة خارج النصّ الروائي : "شتان بين من حمل على الفرنجة والرومان في عقر دارهم بسيفه مرفوع الهامة كالرمح، ومن يبيت الليل بأكمله تحت أسوار القنصليات الأوربية يستجدي تأشيرة دخول إلى الجنّة الموعودة"(18).
غربة القيم
من دهاليز الزمن الممتدّ إلى زمن الدنّوس ينهي أبو بكر العيّادي شوطه الأول بتغيّر القيم والمفاهيم في اتجاه الرداءة وتحوّل المدنّس إلى مقدّس وعودة الغريب إلى نقطة الصفر لتبدأ، من جديد، عقارب رحلة اغترابه الدائرية المتواصلة. قد يتتبّع الكاتب حرقتها وتحوّلاتها ويبسط عليها ظلّ تجربته الثرية وقد يتركها لغيره.
_____________
(*) ورقة خاصة بملتقى عبد القادر الطويهري للقصّة في دورته الأولى، جندوبة 17 و 18 أفريل 2015 تحت عنوان: القصّة والقضايا الوطنية من خلال أدب الطويهري. نشرت بمجلة الاتحاف، وبمجلة "قصص"،
(1) محمد الغزّي، "اللواذ بخيمة الأب في "دهاليز الزمن الممتد"، جريدة الثورة العراقية 23 فيفري 1987.
(2) حفناوي الماجري، إشكالية السعي والفشل في "دهاليز الزمن الممتدّ " ، مدوّنة أبوبكر العيّادي الالكترونية.
(3) أبوبكر العيّادي، دهاليز الزمن الممتدّ، دار الرياح الأربعة للنشر، ط1 1986، ص5
(4) المصدر السابق ص 84.
(5) نفس الصفحة من المصدر السابق.
(6) أبوبكر العيّادي ، الضفّة الأخرى ، منشورات وليدوف، الطبعة الأولى 2011، ص 8.
(7) المصدر السابق، ص 9 .
(8) المصدر السابق.
(9) المصدر السابق.
(10) المصدر السابق، ص84.
(11) المصدر السابق، ص 89 والصفحة التي تليها.
(12) المصدر السابق، ص84 والصفحة التي تليها.
(13) المصدر السابق، ص84.
(14) أبوبكر العيّادي، آخر الرعيّة ، لارماتان ، باريس 2002
(15) أبوبكر العيّادي، زمن الدنّوس، دار ورقة للنشر، ط1 سنة 2011. وهي الجزء الثاني من الثلاثية تغوص في حقبة من تاريخ تونس الحديث لفهم مشكلات الحاضر.
(16) الحبيب السائح ، زمن الدنوس: رواية الهامش يطوّق المركز، جريدة صوت الأحرار الجزائرية 2 جوان 2011.
(17) أبوبكر العيّادي، الرجل العاري
(18) المصدر السابق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما