الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
رواية العاشرة عشقا-10-15
ريتا عودة
2022 / 9 / 30الادب والفن
العاشرة عشقا
-15-
ما انْفَكــَّتْ ذاكرةُ البنفسجِ العالقة في دهاليز الرُّوح تـُعَذِّبُنِي. تجلدُ ساعاتي أيامي والشّهور. صِرتُ قشَّةً في مهبِّ الأرق. أينما أسيرُ أتلَفَّتُ حولي بحثًا للحبيبِ الغريبِ عن أثر.
ها الكآبةُ. تـُمْهِلُني. لا تـُهْمِلُنــِي!
ها الجسدُ يتصدَّعُ بصمتٍ مُشين أمّا الرُّوح فلا تجدُ لها منفذًا من ذُلِّ هذا الجحيم سوى: الكتابة.
وهل أحنُّ على الملسوعة بنارها سوى قلم نزق يشُقُّ حرائِقهُ عبرَ طرُق وعِرَة. ؟!
*
ما أقسى أن تأتي
مِنْ أَقاصِي الشَّوْقِ
لنلتقِي
فلا تُسَافِرُ
مَرَاكِبُ عِطْري
وَلا يُرَفْرِفُ الحَمَامُ
مِنْ حَوْلِي.
تَتَعَطَّلُ لُغَةُ الكلام
فلا سَلام..
ولا هيام..
ثمَّ..
نَمْضِي..
كُلٌّ إلى ظِلِّهِ
*
هكذا، اصطفتني العزلةُ فأجدتُ المكوثَ برفقتها إلى أن قرعتْ بابي صديقتي سلمى.
عَادَتْ بعدما بحثتُ عنها مرارا فأخبروني أنّها تزوجتْ وغادرتْ البلاد مع زوجها.
عادتْ سلمى ومعها جرعات الحنان والمحبّة.
فضفضتُ لها بكلّ ما في جعبتي من أوجاع.
=هيا انفضي عنكِ خيطان العناكبِ وانهضي ليلاي.
-لا أريد أن أحيا.
حدجتني بنظرةٍ.
ثمَّ، رمتني بصخرةَ العتابِ:
= أيعقل أنَّ إنسانة مرهفة الحسِّ مثلكِ تستسلم لليأس...؟
- ليتني ما كنتُ أملكُ هذا القلب الهشّ. ليتني!
ليتَ قلبي الأمَّارُ بالعِشقِ ما عرفَ للعِشقِ طريقًا!
اقتربتْ سلمى من زاويتي المعتمة.
جلستْ على حافة مقعدي ومدَّتْ يدها فحضنتني.
شردتْ دمعةٌ يتيمة من عيني جففــَتـْها بأناملِهـَا الرقيقة وراحتْ تهمسُ وهي تمسِّدُ خصلاتِ شعري كأنها في معبد تصلّي.
= ليلاي. انهضي من رمادك.
همستْ.
ثمّ راحت تتحدث إليّ بجديّة:
-لا يأس مع الحياة حبيبتي. "الضربة التي لم تقتلكِ حتمًا ستقويكِ".
انهمرتْ دموعي. بللتْ كفَّها. آهٍ كم أتوقُ اللحظة إلى رحم أمي. أتوقُ أن أعودَ نطفةً لأتشكلَ أنثى فولاذيَّة. صلبة. وأولدُ من جديد.
حكيتُ لها عن طائر الرّوح الذي ظهر فجأة في الأمسية الشّعريّة. ثمَّ. اختفى!
حثَّتني على مرافقتها الندوة الأدبية بعد أيام علّ الحبيب يكونُ بينَ عابري الصَّمتِ فيعيد لميزانِ العِشقِ تلكَ الكفــَّةَ المفقودة.
...
..
.
لم أكن أنا التي اعتلتِ المنصّة.
كانَ ظلّي!
العيونُ جاحظة من حولي.
الصّمتُ مُطبقٌ على الصالة. وبينَ العبارة والأخرى
تهبطُ عينايَ في بحثٍ مستميتٍ عن توأم الرّوح:
*
أيّها الوجه الغجريّ
الصاعد من ضباب الأفق
تباغتني
وأنا أتثاءبُ على وسادة الضَّجَر
*
أفــَلـَتِ الأنوارُ من حولي.
بقيتُ وحدي وسلمايَ.
شبكتْ ذراعَها بذراعي وسرنا معًا خطوة خطوة في المطر. نعبرُ معًا بُقعَ الوحل المتراكم على الطريق المُؤدي إلى متجر الورد.
...
..
.
هنا.
كانتْ لحظة.
بل طفرة زمنيّة.
حيثُ التقى النصفُ المُعتمُ منَ توأم الرُّوح بالنِّصفِ المُضيء.
هنا. اكتملَ الكيانُ الأسطوريّ.
هنا. كانَ البنفسجُ شاهدًا على جُنونِ اللحظة.
...
..
.
بحلقتُ في المكان.
لم أعثرْ إلاَّ على بضعِ زهراتِ بنفسجٍ ذابلة مُبعثرة داخلَ سلَّةِ القمامة دونما ماء دونما عطر دونما رونق.
تمامًا. تمامـــًا كما أنا الآن.
وإلى ما لااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا نهاية...!
/
/
/
العاشرة عشقا
-14-
يؤرجحني القلقُ شرقًا. شوقًا. جنوبـًا. جنونـًا.
أخيرًا.. يجلجلُ اسمي في الصالة الأدبيّة فتُرتـِّبُني أوراقي وتـُسيِّرُني إلى المنصَّة. أباشرُ في إلقاء القصيدة فيدبُّ الصَّمتُ من حولي. أرتِّل حنيني للغريبِ الذي صبغَ دمي بالبنفسج:
(1)
أفـْـتــَقـِدُكَ
وأشعرُ أنــّي بدأتُ أفقِدُ
بَعـْضَ نَـبـْضِ إحساسي بكَ
وأنــَّكَ
تتسربُ منَ الذّاكرة
كما الرّمل
فأتورط بالتفكير بكَ
للتكفير عن
غيابِ وشمِ ملامـِحِكَ
عن جسدِ الحُلم
(2)
أفـْـتــَقـِدُكَ
وأكبــِتُ وَخــْزَ حنينـِي
وأكتبُ جنونَ اللحظة
رموزا
على جناحيّ سنونوةٍ
تحملها إليكَ
وترحل
تبحثُ لكَ عن عُنوان
خلفَ الطرقاتِ المُستحيلة
والنَّوافذ المُوْصَدة
وأنتظرْ..
أخشى أنْ..
تكونَ قـَدْ..
أسقــَطــْتَ جنينَ حُبــّي
من رَحـِم العَاطفة
(3)
أفـْتـَقـِدُكَ
ويهزمـُني ضعفي
وحاجتي إليكَ
لتكونَ لي وطنـًا
يُهديني مساحاتِهِ
من جنوبها لشمالها
ويدًا
تأتيني كلَّ غروبٍ
بعِقــْدِ فــُلّ
(4)
أفـْـتــَقـِدُكَ
وأجتهدُ أنْ
أمحو بصماتِكَ
عن خلايا شغفي بـِكَ
فتنبعثُ ذبذباتُ صوتـِكَ
من حضنِ الماضي
" أ ح بُّ كِ "
لـِتـُبـَعـْثـِرَنـِي
" أحـِبـُّكِ "
وتــُلــَمـْـلــِمـَنـــِي..!
(5)
أفـْـتــَقـِدُكَ
وأتأرجحُ هذي اللحظة
ما بينَ لونــَيّ الفرحِ والحُزن
أستجديكَ وأدْعـُوكَ:
تعالَ
لتأتي معكَ ألوانُ الطـّيف
تعالَ ..
لم نَعُدْ أنا وأنتَ
خطــَّينِ متوازيين..
نحنُ قلبانِ تائهانِ
حولَ محور دائرة
تعالَ
لستَ حُلمًا
أنتَ أكبرُ من كُلّ أحلامي
لستَ لـُغتي
أنتَ أكبرُ مِن كلِّ اللغاتِ
تعالَ..
قد تكونُ المسافةُ شاسعةً
ما بينَ حُلمنـا والواقع
مع ذلك
ها أنا أمارسُ أوُلى الخُطُواتِ
فتعالَ .. تعالَ .. تعالْ
*
أشعرُ كأنَّ روحي غادرتِ هذا الكفنَ الآدميّ لتحلِّقَ في الفردوس. عيونٌ غريبة تطاردُ نبراتِ صوتي بفضول. كلماتي تتطاير كالفراشاتِ الملونة تلامسُ الزّهور. تتهادى كقاربٍ في الرّيح، تتدفقُ كالموجِ مدّا وجزرًا.
*
فجأة، كما يجذبُ المغناطيسُ قطعةً معدنيّة. تجذبني عيناه.
يمتزجُ البريقُ بالبريق. إنـــَّهُ هو! هو، رجل الحلم!
ها هو الطّائر الأصيل يتابعُ السّنونوة باهتمامٍ مخضَّب بالإعجاب.
أتلعثمُ. تعلو الهمهماتُ من حولي. أصحو من غيبوبةِ المفاجأة.
أتخذُ قرارًا عاجلا في أن أُسَيِّرَ حنيني إليه كما يشتهي هذا النبضُ العاشقُ في عروقي. نظراته الحالمة تمدُّني بالدفء الملغوم.
(آهٍ..! كم أتلهفُ للهبوط إليكَ لنلتقي)!
موجةٌ من التصفيق تجتاحُ المكان.
*
*
سآتيكَ ملكة
انحنى لها أحد عشر
مليون فارس وفارس
فإيّاكَ أن تجعلَ قلبي
يَنْفَطِر ..
إذ تمضي..
أيدي النَّحَلاتِ العَامِلاتِ
تلثِمُ.
*
*
نظراتي تترصدُ حركاته.
ما زالَ في مقعدِهِ يحقنُ أوردتي بالشجاعة كي أرتقي سلم الإبداع مُسيّجة بنظراته الحانية.
*
*
إذا زلزلتِ القصيدةُ
زلزالها..
وقالَ القارئُ:
ما لَهَا..؟
إعْلَمْ أنَّ نَبِيَةَ العِشقِ
قادمة...
لتملأ َ
الفضاءَ الشِّعريَّ
بمفرداتٍ ممتلئة
بِ دَهْشَةٍ مُفَخَّخَة
فتمحو
زمنَ القصيدةَ
الهَشَّة.
*
*
يخفقُ قلبي كمن يقرعُ طبلاً إفريقيّا وصوتُ عريفِ المهرجان الأدبيّ يعلنُ:
"باقاتٌ من البنفسجِ للشّاعرة ليلى سليمان".
يُلجمني وميضُ الكاميراتِ عن الحركة. أدفعُ جسدي النَّحيل خارجَ أسوارِ المعجبين. بقلقٍ، أبحث عنه. ما زال في مقعده كغيمةٍ لم تُمطر بعد. أتنفسُ الصّعداء. تتقدمُ طفلة منّي. تشلُّ حركتي. ترفعُ يداها الصغيرتان نحوَ صدري وتكلّلني بباقةٍ من البنفسج.
*
آه... البنفسج!
*
في هذي اللحظة المصيريّة بالذات يفوحُ عبيرُ اللقاءِ الأوّلِ بيني والغريب. قفزتْ ذكرياتُ ذلكَ اللقاء الأسطوريّ في دكانِ الورد كالأرانب أمام عينيّ.
...
..
.
أبحثُ عنه كما تبحثُ سفينةٌ معذّبة من العاصفة عن مرفئِها.
.
.
.
يهبط النَّبضُ في عُروقي.
...
..
اختفى...!
*
*
أُوَلْولُ. أكانَ لا بدَّ أن يختفي قبلَ أن أحتفي بعودته إلى فردوس العاطفة. ؟! أكانَ لا بدَّ أن يتلاشى كالفقاقيعِ قَبْلَ أن أُتوِّجَهُ إمبراطورًا على مملكةِ حواسي. !؟ أكانَ لا بدَّ أنْ يَغْدُرَ بانتظاري فيغادرَ عائدًا إلى منفاهُ قبلَ أن تقرعَ الثانيةَ عشرَةَ عشقــًا...؟ َ
آهٍ...!
آهٍ... أيّها الغَجريّ الشقيّ..!
أيّها الحبيب الغريب.
لا شئ يكتمل...
لا شئ..
لا.
...
..
.
/
/
/
العاشرة عشقا
-13-
مددّتُ يدي لأنتشلَ بعضَ زهراتِ بنفسجٍ من مائِها فإذا بيدٍ صلبة تناوشني. تناورُني. وتسبقني إليها. وإذا بالجدرانِ تصطَبغُ باللونِ البنفسجيّ والفراشاتُ والغيوم والكونُ صَارَ سيمفونية أسطوريّةٍ خالدة، وإذا بي أدركُ مفهومَ كونِ المَرْأة حين تعشقُ يصيرُ لونُ دمِّها بنفسجيـًّا.
-أنتِ الوردة سيدتي لا البنفسج.
جاء صوته كالترتيلةِ ساعةَ الغسق.
-هي لكَ.
صَمَتُّ.
امتحنتُ بريقَ عينيهِ.
حضنَ زهرةِ البنفسج داخل كفـِّهِ.
على مهلٍ، راحتْ أنامله الرّشيقة تُجَمِّلانها بخيطٍ أبيض امتدَّ كحبلِ السُّرَة بينــــَنــَا.
اكتسَى وجهُهُ بالدّهشة وهو يقدِّمُ لي باقةَ البنفسج وفمهُ يقذفُ أولى حِمَمَ البُركان العاطفي الذي انتفضَ من ركودهِ:
-بل هيَ لَكِ.
صمتَ.
امتحنَ بريقَ عينيَّ.
بوقار، ألقَى قنبلتَهُ العاطفيّة:
- وَلَــَنا (نحنُ) .... الذّكرى.
..
.
وقعتْ جملته المقتضبة في بئر الهذيان. إتــّسَعَتِ دوائرُ التيهِ من حولي.
...
..
.
هكذا، وبمنتهى البساطة صارَ(لنا) ذاكرة لها قاسمٌ مشتركٌ إلاَّ وهو: البنفسج!
...
..
.
تناولتُ الباقة من يدهِ وقبــْـلَ أن أفلحَ في إخماد جمرةِ العشق, إقتحمَ صوتٌ أجشٌّ رحمَ المكان بكلمة واحدة تكررتْ برتابة ثمَّ شُحِنــَتْ ببعض العصبيّة:
- خالد, خااااااااااااالد, خااااااااااااااااااااااااااالـــــــــد.
بحلقتُ حولي.
جحظتْ عينايَ.
لمْ أعثر لهُ على أثر.
تسمرتُ كالمسمارِ فوقَ أرضِ الحيرة.
علقَ السؤالُ في حلقي كالصَّــبّار: تراهُ كانَ وهمًا من ابداعِ هذياني الخـَلاّقِ وأنا الأديبة الملسوعة بالنّار المقدّسة أم كانَ حقيقةً من إبداع القدَر...؟
تراه كما خالد/الغريب،قد قفز من قمقم خيالي حين كنتُ بحاجة للعشق! حتّى الحوارات بيني وبين الغريب كانت من صُنع خيالي. كنت أخترعها لأخفّف عنّي عبء الأيام وتعب الحرمان من إنسان لا يفهم لغتي.
مرّت سيارة علا منها صوت الشاعر الأنيق هشام الجخ:
(الحُبّ حالة
الحبَ جواكِ استحالة.
الحبّ مش سحر وغواية.
الحُبّ جواكِ استحالة)
وتداخلَ الأنينُ مع صوت المطرب مصطفى كامل:
(ساعات أفتكرك.. أبكي.وَاندم على العمر اللي ضاع)
...
..
.
كما النَّمل، ظلَّ السؤالُ ذاتــُهُ يدُبُّ فوقَ بشرة الأيام القاحلة.
راحَ يؤرقني. مع كلّ إغـْمَاضَة جفن راحَ حلمُ اللقاء يُوْرقُ في باديةِ الإنتظار.
/
/
/
العاشرة عشقا
-12-
هكذا فتحتْ لي الحياة أبوابها على مصراعَيْها.
منذُ لقائي الأخير ب خالد/الغريب، لم يظهرْ لي إلاَّ مرّة واحدة في حُلم المنام.
قالَ لي:
" تعالوا إليّ أيّها المُتعبين والثقيلي الأحمال. أنا أريحكم."
ثمّ, اختفى ولم يعُد ولم أعُد أبحث عنه هنا وهناك في عُمقِ الذاكرة.
*
رفضتُ العودةَ إلى منزل أبي وأخي. لم يتمكنا من كسرِ قراري.
((انتهى زمنهم)) في حياتي. بدأ زمني أنا. بدأ زمنُ ((تحقيق الذات)).
*
عثرتُ على ذاتي في الجامعة حيث تألقت كوردة بين الأشواك في كورسات الأدب المُقارن.
أجمعَ المحاضرون على كوني أمتلك موهبةً مُتَفَرِّدة.
عشقتُ الجلوسَ في ركنٍ يُطلّ على البحر في مكتبة الجامعة.
عشقتُ التهامَ الكتب.
بدأتُ أكتب وأكتب وأرسلُ كتاباتي للصحف. بدأ اسمي يلمعُ.
قررتُ ألاّ أجرّ الماضي صخرةً خلف ظهري وأنا أصعد جبل الحياة. سأعيشُ اللحظة. سأظلّ أتلهف لأحيا وأكتب القصيدة التي لم تأتِ بَعد.
كنتُ أرى العُشّاق اثنين اثنين فوق سفح جبل الكرمل، فأتمنى أن أعثر انا، أيضا، على توأم روحي. لكنني... كنتُ أُسارعُ في إخمادِ هذه الجمرة.
قرَّرتْ:
لن أجعلَ الرَجُلَ بؤرة حياتي.
لن أدورَ حول نار رَجُل.
لن أحترق.!
سأظلّ أنا في بؤرة الأحداث.
سأدورُ حولَ القصيدة.
سأكون أنا النار.
لن أكون ورقة عابرة.
سأكونُ أنا الشّجرة.
*
*
مرّ فصلُ الخريفِ ثمَّ الشّتاء. وانا أذهبُ للجامعة ممتلئةً فرحًا وأعودُ لمنزلي ممتلئةً نِعمة لا أخشى أحدًا فأبي وأخي خافا أن يَتَوَرَّطا معي، أنا التي عرفتُ طريقي للشرطة لأجلِ استعادةِ حقُوقي وترميمِ حياتي المُتَهالِكة.
*
أتى الرّبيع.
ذهبتُ للدّكان في الحيّ المجاور لأشتري باقةَ بنفسجٍ فأنا أعشق الورودَ كما أعشق الطُّيور، مع أنني أشتري العصفور لأطلقه فورًا في الفضاء الرَّحب. كذلك، أكره ان أرى الوردَ مهزومًا داخلَ مزهريّة، آيِلاً للذُّبول! أُحبذُ أن أراه يتمايل معَ النّسيمِ في البساتين.
*
ذاتَ عيدِ حُبّ..
اشتريتُ لنفسي قفصًا فيه طائرَا حُبّ. هكذا تعوّدت ألاّ أنتظر الحنان من رجل.
أنا ادلّلُ نفسي.
أنا اشتري الهدايا لنفسي.
أنا ((أَعْشَقُنِي)) عشقًا صادقًا. نقيًّا.
بعدَ أيامٍ من مراقبةِ العصفورانِ فتحتُ لهما بابَ القفص.
لم يغادرا كما توّقعتُ!
يقالُ إنّ العبيدَ إذا حرَّرْتهم يعودون لأسيادهم فقد اعتادوا على العبوديّة.
مرّتِ السّاعات وانا أنتظر أن يغادرا.
خَذَلا كُلّ تَوَقُّعَاتِي. قررتُ أن أمدّ لهما يد العَوْن. مددتُ يدي داخل القفص وقبضتُ على الطّائر. زقزقَ بألم. أطلقته حُرًّا.
رفرفَ مكانه. ثمَّ، انطلقَ شرقًا. مددتُ يدي داخلَ القفصِ ثانيةً وقبضتُ على العصفورة. أخذتْ تئنُ. أطلقتُ جناحَيْها. رفرفتْ قليلا مكانها. ثمّ، انطلقتْ غربا.
إرْتَعَبْتُ!!.
كيف سيلتقيان وكلٌ منهما ذهبَ في اتجاهٍ مُعاكِس!!
ظلّتِ العصفورةُ، حتّى أولى ساعاتِ المساء، تُنادي بصوتٍ حَادٍّ سَبَّبَ لي الصُّداع.
رأيتها على شجرةِ السنديانة غربَ منزلي.
ورأيته على شجرة التّوت شرق بيتي. يبدو أنّ رفيقَ حياتها قد عثر عليها تلكَ الليلة فقد خمدَ نداؤها.
لكنّهما لم يرحلا بعيدٍا عن منزلي.
كنتُ ألمحهما يُرفرفانِ بالقربِ من شجرةِ الخَرُّوب المُقابلة لغُرفةِ نَومي حيثُ بَنَيَا لهُما عُشَّ الحُلُم.
/
/
/
العاشرة عشقا
-10-
فتحتُ عينيّ فإذا برائحة بخور تملأ غرفة المستشفى. بحثتُ عن فيصل لكنني لم أعثر له على أثَر.
الجبان اختفى.!
أحسستُ أنني أنتفض كالعنقاء من رمادي لأحيا.
ارتفعَ صوتُ المذياع من نافذة تطلّ على حديقة داخلية للمستشفى:
"أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون.
وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك.
أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ.
في قفص صغير بدك إياني كون
وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك
أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ..
لا تتعب وتشقى.. أنا مش إلَك".
*
فاضتْ دموعُ عينيَّ. نظرتُ حولي: امرأة على السرير عن يميني يدللها زوجها بأجمل الكلام. امرأة أخرى على السرير عن يساري يحضنها زوجها ويقول لها: "إن شاالله أنا ولا إنتِ حبيبتي".
أمّا أنا فمنذ الشهقة الأولى .............. (((وحيدة)))!
وحيدة كعجزِ بيتٍ في قصيدة. وحيدة كجمرَة في مهبِّ ريحٍ عنيدة.
لم أعد أتمكَّن مِنَ السَّيطرة على دفقِ دموعي.
*
من أتى بي إلى هنا؟ أين جلاّدي؟ أين الطبيب.؟
*
فجأة ظهرتْ أختي أمل في الرواق. هرعتْ إليَّ وعانقتني.
كانت الأسئلةُ أكوازَ صبّار تُدمي دماغي.
سألتها:
- وين فيصل؟
= جابِك لهُون ورَاح فورا. طلب منّي إنّي أضّلّ معك. دُغري اختفى.
ابتسمتُ بمرارة. الجبان ضربني واختفى خوفا من العقاب.
وصل الطبيب المناوب.
سألني:
= إيش سبب هذا الجرح اللي في راسك؟
عادت بي الذاكرة إلى الماضي السحيق.. أبي .. أخي .. زوجي.
(((كنتُ في أيديهم كُرةَ قَدَمٍ يركلها مَنْ يشاء متى يشاء)))!
لكن، من هذهِ اللحظة، لن أسمحَ لأحدٍ أيًّا كانَ أن يعتدي على كَرَامَتِي أو يُشوّه إنسانيتي.
= مدام ليلى! أنتِ معي؟
حرّرتُ نفسي من صنّارةِ الماضي.
سأحيا منذ اللحظة دون أن أنظرَ خلفي.
عاد الطبيبُ يسأل:
= مدام.. أنتِ هون!؟
- معَكْ دكتور.
= منيح.
احكيلي من فضلك، إيش سبب هذا الجرح العميق اللي في رأسك؟
وقفتُ.
نظرتُ من النافذة المطلة على الحديقة.
استجمعتُ قوايَ وأنا أقول:
- زوجي ضربني.
= إيش!
- فيصل ضربني بمزهرية كريستال.
حدّق الطبيبُ في بؤبؤَيّ عينيّ ربما ليتأكَّد أنّني في كامل قواي العقليّة.
أخذت كالملسوعة بالنّار أردد:
(فيصل ضربني. فيصل أدماني. فيصل وأدني.)
صمتتُ فصاَر الصَّمتُ سيّد الموقف.
= أُقْعُدي سيدتي.
قال الطبيب وهو يُربّتُ على كتفي. آه كم كانت يده دافئة. آه كم كنت بحاجة لمَنْ يحضنُني في تلكَ اللحظة!
=مَدَام، إهدي، مِن فَضْلِك. رَح أجيبلك كاسِة مَيِّة.
ذهب. بعد قليل عاد. ارتشفتُ الماء حتّى آخر قطرة. ارتفعت كلماتُ الأغنية كالبخُور في رأسي:
"أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون
وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك.
أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ"
= إنتِ بخير؟
قال لي بصوته الحنون ودفْء سنواتهِ السّتون.
-أنا بخير. بخير. لا تقلق.
عاد يُربّتُ على كتفي وصوته يتصاعد كتراتيل الفجر:
- كيف بقدر أساعدك؟
سقطت كلماته كالثلج لتخمدَ نيراني.
منذ أبصرتْ عيناي النّور لم يساعدني أحد. لم يكن لي سندا أحد. لم يشعر بوجودي أحد. جميعهم عاملوني على انّني حشرة وهم المُخَوَّلون بقتلها.
ياااه... كم كنت بحاجة تلك اللحظة للدفء العاطفيّ!.
فورا، قفزتْ صورةُ فيصل لدماغي.
ارتجفتُ.
تقزّزَ جسدي.
تذكرتُ يده التي نزلت على رأسي ب المزهرية الكريستال.
دمي لم ينزف تلك اللحظة فقط. دمي نزيفٌ مستمر منذ شهقة الولادة.
= مدام ليلى، احكيلي ك صديق كيف بَقْدَرْ أساعدِك؟
نهضتُ من المقعد.
عدتُ إلى النافذة المفتوحة المًطلّة على ورود الحديقة.
تناولتُ قسطا من الهواء.
احتفظتُ به في رئتيّ أطول مدّة ممكنة.
لمحتُ خالد/ الغريب آتيا إليّ من خلف الجبال وهو يخترق الضباب بترتيله الخافت:
(إن ضاقِتْ الدنيا قصادي واتقفلت الأبواب..
ربّي فاتح قُدَّامي أعظم باب).
ابتسمتُ بمرارة: الحياة قصيدة لكنّها قد تكونُ أحيانا ... مُتَوَحِشَّة!
*
- دكتور.
= نعم مدام؟
- أرجوك، اعمَل معي معروف.
= قولي.. سامعِكْ.
- رجاء: إتْصِلْ فَورًا بالشرطة.
*
*
*
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حملة هاريس: انتخبونا ولو في السر و فن
.. -أركسترا مزيكا-: احتفاء متجدد بالموسيقى العربية في أوروبا… •
.. هيفاء حسين لـ «الأيام»: فخورة بالتطور الكبير في مهرجان البحر
.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت - الشاعر حسن أبو عتمان | ا
.. الرئيس السيسي يشاهد فيلم قصير خلال الجلسة الافتتاحية للمنتدى