الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دولة أبو درع

سهر العامري

2006 / 10 / 1
الادب والفن


عاد حميد العماري الى داره مهموما ، مغموما ، بعد أن أمضى يوما آخر من أيام حياته التي كان يعدها أمام القريب والبعيد جهنما تتلظى نيرانها الحامية في جسده الواهن الذي أكله الخوف من مجهول لا يعلم هو حقيقته ، مثلما لا يستطيع أن يقدر الساعة التي سينقض بها عليه ، وعندنا ستموت كل الأحلام التي طافت برأسه طوال الساعات التي تأخذه فيها سورة من نوم ، او تلك اللحظات التي كان يحدق فيها بعيني زوجته الجميلتين ، أم هديل ، وهو يقاسمها رغيف خبز في دار متداعية في قاطع من قواطع مدينة الثورة من بغداد .
: - نفسي تحدثني أن شيئا ما سيقع لك ! قالت أم هديل ذلك ، بعد أن وجدت حميدا ساهما ، يطوف بعينيه على جدران غرفة ، أكل سواد دخان الطباخ النفطي الوجه منها ، ففي بيتهما المتداعي لا توجد غرفة خاصة بطهي الطعام ، شأنه في ذلك شأن بيوت السواد الأعظم من سكان تلك المدينة ، أو من سكان المدن التي تقاسمها البؤس والشقاء منذ سنوات طويلة جف ضرعها ، ولم تحلب لأهل تلك البيوت غير مصيبة في إثر مصيبة ، وموت بعد موت .
: - هل خلقنا من أجل أن نغرق في بحر هذا العذاب الطامي ؟
لم ترد أم هديل على سؤاله ، لا لأنها لا تعرف الجواب ، وإنما لأنها غارقة مثله في هذا اللجي الذي لم ير أحد من البشر حدودا له للآن .
: - هل أنت خائف ؟ سألته هي ، ومن دون أن تكشف له عن عميق قلقها عليه ، وكم تمنت من أعماق قلبها أن يظل معها طوال اليوم ، ولن يغادر الدار أبدا .
: - ما علمت أن سلاما ، أبن خالتك ، قد قتل وهو في داره ، فلقد انقضت عليه قنبلة مدفع هاون طائشة ، أحالت رأسه الى قطع متناثرة ، تعلقت في هذا الجدار أو ذاك ، فالبيوت هذه الأيام ، وكما تعلمين ، لا تعصم أحدا من الغرق في خضم هذا البحر المتلاطم بأهوال قطع الرؤوس المتواصل .
: - أتدري كلما قلت لي مع السلامة ، وأنت خارج من البيت ، أو وأنت تقبل هديلا ، يحلني هاجس خوف رهيب ، يمتلك القلب كله ، ويتركني في وساوس لا عد لها ولا حصر ، فتارة أرى سيارة عابرة ، تنفجر على مقربة منك ، وأخرى أراك ملقيا على الرصيف ، وقد خمدت الحياة في جسدك ، إنها صور مرعبة لا يتحملها عقل إنسان .
كل تلك الصور التي تخيلتها أم هديل مرت حقيقة أمام عيني حميد مرات عديدة ، ولكن بأشكال مختلفة ، وبصور غريبة ، وفقا لليد التي أبدعتها ، فقد صارت صور الموت في شوارع العراق إبداعا هذه الأيام ، يقضي أصحابها ساعات طوالا في رسم تخطيط لها قبل أن تصبح حقيقة تتمشى في تلك الشوارع ، وهم بالإضافة الى ذلك ينفقون عليها أموالا طائلة ، تدفقت عليهم من مصادر عدة ، ولكنها كانت لغاية واحدة هي الموت الذي كان يراه حميد بعينيه ، وهو ذاهب الى مكان عمله في محلة البتاوين من بغداد كل يوم ، فهو واحد من عمال سبعة كانوا يباشرون عملهم في مذخر للأدوية ، يديره شخص يدعى حاتم السماوي ، بينما كان مذخر الأدوية ذاك يسمى : مذخر أدوية الشهد ، هذا في وقت كانت هناك مطبعة شاركت ذلك المذخر بالاسم ، فهي تعرف كذلك باسم : مطبعة الشهد ، لكنها تقع بعيدا عنه بمسافة ليس بالقصيرة .
في صباح يوم من أيام الرعب هذه نهض حميد من فراشه خائفا ، مرتجفا ، تملكته صور من حلم رهيب ، ما خطرت عليه طوال حياة أبدا ، حتى في تلك الليلة السوداء التي حدثته فيها جدته ، أم أبيه ، كيف أنها فرت بأبيه ، قاسم ، مع جده ، كريم ، من مدينة المجر الكبير في محافظة العمارة الجنوبية ، وذلك بعد أن جار عليهم الإقطاعي المعروف ، مجيد الخليفة ، بظلمه ، ذلك الرجل الذي منت عليه ( المس بل ) بأراضي زراعية ، شاسعة المسافة ، لقاء وقوفه مع المحتلين ، وضد أبناء جلدته ، وأبناء عشيرته .
لا زال حميد يتذكر تلك الليلة القاتمة التي رسمت صورتها له جدته منذ أيام طفولته ، فقد قالت له ساعتها : لقد غادرنا كوخنا في قرية تقع على أطراف المجر الكبير وقت أن كان الليل حندسا ، شديد الظلام ، والطريق موحشة ، كثيرة العثار ، وما هي إلا دقائق حتى انهال علينا رصاص غزير ، وذلك لأن مجيد الخليفة كان قد أعد مجموعة من قطاع الطريق من قبل ، يقودها رجل فظ من رجاله يدعى : صدام ، وكان هدفه من وراء ذلك هو منعنا من الالتحاق بالأعداد الغفيرة من الفلاحين الذين تركوا الأرض له ، وحطوا الرحال فيما بعد قرب بغداد ، وبسبب من أن النفط قد تدفق في العراق ذهبا في جيوب الإنجليز ، ومن أن بغداد شهدت حركة بناء خجلة ، كنا نحن لهوتها ولهاها .
لقد بذل مجيد الخليفة محاولات متكررة ، ومسعورة ، تنكر فيها لرابطة الدم التي تربطه بأبناء عمومته وعشيرته ، وكان يهدف من وراء تلك المحاولات منع الفلاحين من الهجرة ، وإلزامهم بالعمل في أرضه كعبيد أجراء ، ولكن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع ، فرجاله ، الذين يتقدمهم صدام ، عادوا له صباحا ، وهم يحملون الخيبة والخسران .
: - لقد رحلوا ! عرفت أنا ذلك من وجوهكم التي يطوف بها الفشل والوهن .
: - نعم . يا محفوظ ! لقد رحلوا ، رد صدام على الشيخ مجيد الخليفة بعد أن رأى الشرر يتطاير من عينيه المحمرتين .
: - لا بأس ، سأجد كلابا غيرهم . قال الشيخ مجيد ذلك ، وشاح بوجهه عن صدام صوب باب المضيف .
هذا الفزع الذي غرسته الجدة منذ سنوات طويلة في نفس حميد صار أحلاما مرعبة الآن ، فقد رأى هو في الليلة الماضية سحابة سوداء تطوف على سماء محلة البتاوين من بغداد ، ثم تطامنت شيئا فشيئا ، ليثب منها عشرون كلبا أسود ، سرعان ما اجتاحت تلك الكلاب مذخر أدوية الشهد ، وهاجمت العمال فيه بوحشية قل نظيرها ، وكانت حصة حميد من هذا الهجوم جرحا غائرا في فخذه الأيمن ، ولكنه طار بقدرة قادر ، وصار بما حمل من خوف وفزع على شرفة من بيت يقع قبالة ذاك المذخر ، ومع ذلك لم يغادره الخوف أبدا ، حتى بعد أن صار هو على تلك الشرفة ، وبعيدا عن أفواه الكلاب الناهشة ، فلقد ازداد خوفه أضعافا مضاعفة ، وذلك بعد أن رأى تلك الكلاب السوداء خارجة من باب ذلك المذخر ، يحمل كل كلب منها بفمه جزءً من جسد مدير المذخر ، حاتم السماوي ، ولكن واحدا من تلك الكلاب ترك رأس المدير المقطوع على الرصيف قبل أن يركب هو السحابة القاتمة التي حلقت بالجميع ، متوارية في أعماق السماء ، ومن دون أن تدركها عينا حميد اللتان ظلتا تلاحقانها من بين كل العيون .
كان رأس حاتم المنتصب على قارعة الطريق ينادي بصوت عال ، يطلب نجدة هذا وذاك من حملة البنادق المنتشرين على طول الشارع ، ولكن من دون جدوى ، فقد كانوا كلهم يشيحون بوجوههم عنه ، فمن ذا الذي سينجد حاتم ؟ من ذا الذي سينجده ؟ وعلى صوت صاحب هذا السؤال فزز حميد من نومه مرعوبا ، مهموما .
كان ذاك كل ما قاله حميد ، وهو يقص ما شاهد في حلمه على زوجته ، أم هديل ، التي سار الخوف في جسدها سريان الدم فيه .
: - هل تملك أنت تفسيرا لحلمك ذاك ؟ سألت هي .
: - ربما ، ولكن ، ثم صمت .
: - أعتقد أنا أن السحابة القاتمة هي المصيبة الكبيرة التي يمر بها العراق اليوم ، وأما الكلاب السود فهي عبارة عن مجموعة من إرهابي الزرقاوي ، فهؤلاء هم الذين يقطعون رؤوس الناس هذه الأيام ، ويرمونها على قارعة الطريق ، هذا ما استطيع أن أقوله لك ، والله أعلم . ثم صمتت ، ولم تزد على ذلك شيئا .
هل اقتنع حميد بتفسير زوجته لحلمه ؟ ذاك الحلم الذي أشاع سجفا من الخوف ، خيمت على البيت كله ، رغم أن شمس ربيع صعدت منذ لحظات فوق جبين بغداد من جهة الشرق ، ولكن العيون الحزينة تظل ترى الدروب أمامها مظلمة ، معتمة أبدا .
ركب حميد أول سيارة إجرة متجهة الى الباب الشرقي من بغداد ، ومنه الى محلة البتاوين ، حيث مذخر أدوية الشهد ، وقد اعتاد هو على طريق السير هذا منذ أن حصل على فرصة العمل هذه ، ولكن الرعب الذي سببه له ذلك الحلم الأسود رمى في نفسه رغبة عارمة في أن يستبدل الطريق هذا بطريق آخر ، ولشدة خوفه كان هو طوال سير تلك السيارة يلقي ببصره ذات اليمين ، وذات اليسار ، فلقد رأى أن الطريق تحول في عينيه الى كلاب سود لاهثة ، تظلها قطع من غيوم داكنة ، تطارد سيارة الإجرة التي كانت تطيح بحفرة لتخرج من أخرى ، فالطريق متعب ، مهموم ، هرم ، مضت على ولادته سنوات طويلة ، حمل فيها على ظهره سيارات كثيرة ، مثلما حمل عليه دبابات ومجنزرات ثقيلة ، وهو مع ذلك ظل صابرا على قسوة الإنسان ، وجور الزمان .
دخل حميد مذخر الشهد ، سلم على حاتم السماوي ، مدير المذخر ، وعلى رفاقه من العمال ، وبعد ساعة من ذلك وجد نفسه مبطوحا على وجهه في الأرض ، هو وجميع من معه في العمل ، ثم طلب منهم النهوض ، وهم مكتفو الأيدي ، معصوبو العيون .
: - الكل الى خارج المدخر ! نبح كلب من الكلاب العشرين ، الذين كانوا ملثمي الوجوه ، تغطي أجسادهم ملابس داكنة السواد ، تماما مثل سواد الغيمة التي رآها حميد في حلمه الليلة البارحة .
لقد غُزي المذخر ذاك على حين غرة في صباح ضاحك من صباحات بغداد الجميلة ، وقد حمل حميد والمدير والعمال الستة الآخرين في سيارة هي عبارة عن صندوق محكم الإقفال ، سارت بهم بحماية سيارة مظللة كانت تسير وراءها .
لقد أشرف حميد ، ومن معه ، على موت محقق ، بعد أن استهلكوا كل أوكسجين هواء الصندوق ذاك ، وما كان لينقذهم من ذلك الموت إلا تلك اليد القوية التي امتدت الى باب ذلك الصندوق ، لتفتحه بعنف .
: - هيا انزلوا ، صرخ كلب من بين الكلاب السود بصوت مبحوح ، كان حميد قد سمع مثله في ذاك الحلم المشؤوم .
اقتادت كبير الكلاب مدير المذخر ، حاتم السماوي ، من بينهم ، وأوقفه جانبا ، ليس بعيدا عنهم كثيرا ، ثم صوب بندقيته نحوه .
: - قل لي لماذا أقمت مجلسا للفاتحة على روح الزرقاوي الملعون ؟
: - أنا ، أنا ، رد السماوي وجلا ، مرتجفا ، مرتعشا ، ثم أضاف : ما أقمت أنا مجلس فاتحة على روح الزرقاوي حين أزهقت أبدا ، فأنا رجل شيعي ، قدمت الى بغداد من مدينة السماوة ، وكل عشيرتي تقطن هناك .
: - أنت تكذب ، أنت سني من مدينة عانة ، وليس من مدينة السماوة .
:- نحن عراقيون . قال حميد ، والذين بين أيديكم الآن جميعهم من الشيعة .
تراجع ذاك الكلب الذي رآه حميد في حلمه من قبل ، ثم شاهده ينبح عبر هاتف محمول ، يكلم أحدا لم يعرف حميد ومجموعته من هو ، ولكنهم قدروا أنه شخص مهم ، يتولى السلطة الفعلية في شوارع العراق ، بينما تغرق الحكومة فيه بيم من سبات عميق ، هناك في المنطقة الخضراء .
مرت دقائق معدودة على تلك المكالمة الهاتفية قبل أن تصل سيارة مسرعة ، تحمل الحاكم الفعلي لشوارع العراق ، ذلك الحاكم ، الذي حمل الخوف معه ليس لحميد ومجموعته التي كانت واقفة خلف السدة من بغداد مقيدة اليدين ، معصوبة العين للساعة ، وإنما للكلاب السود التي استولى عليها الخوف ساعة أن ترجل أبو درع من سيارته .
:- من أين أتيتم بهؤلاء ؟ سأل أبو درع ، الحاكم الفعلي ، مجموعة الكلاب الرابضة ، والمتوثبة لنهش حميد ، ورفاقه الآخرين ، ومن دون أية جريرة تذكر .
: - من مذخر أدوية الشهد !
: - لقد آمرتكم أنا أن تأتوا بعمال ومدير مطبعة الشهد ! !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?