الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موجز عن كتاب الجماعات المتخلية للباحث بندكت أندرسن

حنضوري حميد
كاتب وباحث في التاريخ

(Hamid Handouri)

2022 / 10 / 2
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


حاول بندكت أندرسن أن يعرف القومية أو الأمة من خلال كتابه "الجماعات المتخيلة تأملات في أصل القومية وانتشارها"، بأنها جماعة متخيلة وسياسية ولها حدود وسيادة، مبنية على أسس معينة، فقد يكون المنتمي إليها لا يعرف، ولا يدرك العلاقة الحقيقية بينه وبين الجماعة المتخيلة له، فقناعته يبنيها على تصور وتخيل الجماعة دون أن يعرفها بعمق وعلى حق. لكن هذا لا ينقص من خياله وتصوره للجماعة بل إن هذا التخيل يعوّد الفرد نفسه أن يعبر عن عمق هذا الانتماء من خلال المظاهر، ومن خلال الاعتماد على المشترك الإنساني، مثل الطقوس والشعائر الدينية، أو التمايز اللغوي أو الإقليمي. فهذه الأدوات التخيلية هي التي تعطي مصداقية وواقعية أكثر، وتجعل تلك الجماعات فعلا في ذاكرته متخيلا حقيقيا.
وظاهر أن أندرسن يؤكد فكرة التخيل من خلال بحثه في الجذور الثقافية لها. حيث يلفت النظر إلى "قضية الأضرحة: الجنود المجهولون" وأدوارها في المجتمع، باعتبارها رمزا ثقافيا مهما لا يستهان به في الثقافة القومية الحديثة، لما تحتويه من قدسية، ولما تحظى به من إجلال عند عامة الناس، إجلال لم يكن له نظير في العصور السابقة. وقد تكون هذه الأضرحة خالية من أي قصد، أو أن أحدا لا يعلم من بداخلها. ولهذا يؤكد أن هناك ارتباطا وألفة قوية بين التخيلات الدينية وقضية الموت، لأن هذه الأخيرة هي الحلقة الأخيرة داخل سلسة كاملة من ضروب القضاء. كما يفسر استمرار الأديان كالإسلام أو المسيحية أو البوذية باستطاعة هذه الأديان، وعلى مر السنين، أن تقدم إجابة على بعض الأسئلة الاجتماعية التي كانت تأرق كاهل البشرية، مثل: لماذا ولدت ضريرا؟ لماذا شلت ابنتي؟ وغيرها من الأسئلة الميتافيزيقية. في الوقت الذي وقفت العوم الحديثة عاجزة عن الرد على هذا النوع من الأسئلة، وقد تلوذ بالصمت في غالب الأحيان. أضف إلى هذا أن الفلسفة الماركسية والفلسفة الليبرالية لا تهتمان بمثل هذه القضايا. أما الاديان فتحاول بطرق شتى أن تستجيب للرغبة الغامضة في الخلود، ومحاولة إيجاد العلاقة بين الموتى والذين لم يولدوا باعتبار ذلك رمزا لتجديد الحياة.
وتجدر الإشارة إلى أن الدوافع التي جعلت أندرسن يطرح هذه الملاحظات هو أن القرن 18م. لم يكن فقط فجر عصر القومية في أوربا الغربية، بل لأن الظلامية الدينية كانت تملأ تفكير أهل ذلك العصر. لكن ظهور العلمانية والعقلانية حاول الإطاحة بأفكار الديمومة والخلود والفردوس، وجعل الخلاص في الآخرة سخفا وتخاريف. وقد أعطى هذا التفكير الجديد نمطا أخر من أنماط الديمومة أو الخلود. وأصبح مطلوبا من وجود العلمانية القضاء على الديمومة، وجعل لما يعرف بالاعتباط معنى في هذه الحياة. كما لم يتحفظ الكاتب هنا، في القول إن ظهور القومية في القرن 18م. جاء نتيجة تآكل اليقينيات الدينية. وهذا التآكل نفسه يحتاج إلى تفسير مركب. وهو أن القومية لا تبطل الدين تاريخيا، لكن يجب أن نفهم القومية في إطارها التاريخي الشامل، ونربطها بالمنظومات الثقافية الكبرى. لا أن نربطها فقط بالإيديولوجيات السياسية المتبناة عن وعي وإصرار.
فعندما تناول الباحث المنظومات القافية التي لها الصلة بالجماعات الدينية، وجدها من بين الأشياء المثيرة للعجب، فالامتدادات الدينية المنتشرة في أرجاء العالم شرقا وغربا شمالا وجنوبا ( الاسلام والمسيحية والبوذية وقد تضاف إليه الكنفوشسية). وجدها مبينة على تصورات الجماعة المتخيلة فكان الأمر مختلفا تماما عن ما هو مألوف، وليس مبنيا على أساس اللغة، بل وجده مبنيا أساس على الرابطة الدينية، المنطلقة من النص المقدس المدون. وفي هذا الصدد أعطى مثالا واضحا على هذا الأمر يقول فيه" حين يلتقي مسلم من ما جيندناو مع مسلم من البربر في مكة، من دون أن يعرف أحدهما أي شيء عن الآخر، وقد يعجزا عن التواصل الشفوي، لكنهما على الرغم من ذلك يتوحدان في أداء الطقوس وفي المظاهر، لأن النصوص المقدسة التي يتقاسمانها لا يمكن أداؤها إلا باللغة العربية الفصحى." ص.71.
هذا هو الشيء الذي فرض اختلاف الجماعات المتخيلة الكلاسيكية، التي ترتبط باللغات المقدسة مع الجماعات الحديثة. فاللغات المقدسة الصامتة جعلت العالم قابلا للتخيل. لكن بالرغم من قوة وعظمة هذه الجماعات الكبرى، المتخلية دينيا بدأت تضعف بعد أواخر القرون الوسطى، بسبب تمسكها غير الواعي بالقداسة الفريدة التي ميزت هذه الجماعات. ويمكن حصر أسباب تدهورها في سببين اثنين: الأول تمثل في أثر عمليات استكشاف العالم غير الأوربي. وهي عملية أنتجت توسيع الأفق الثقافي والجغرافي لدى البشرية جمعاء، عبرت عن هذا كتب الرحلات الأوروبية. والسبب الثاني يتمثل في تدني وتراجع، بل أفول شأن اللغة المقدسة ذاتها على نحو تدريجي؛ وخاصة لغة الأديان الإبراهيمية، التي كانت من قبل الرمز الوحيد للتعليم والتعلم. لكنها تراجعت مع ظهور الإصلاح المضاد، لتبدأ إصدارات الكتب باللغة المحلية على غير النحو التي كانت عليه سابقا. وفي حديثه عن الملكية السلالية أكد أنها نظام سياسي استثنائي يتعارض مع التصورات الحديثة جميعها عن الحياة السياسية. لأنها حكم عادل في مخيلتهم الشعبية، ويكتسي شرعيته من السماء، ولا شيء يعلو على نظامها. وهي التي تنظم السكان الذين يخضعون لها وهم في الحقيقة رعايا وليسوا مواطنين. وفي ظل هذه القوانين والتعاليم، لا يمكن للمرء أن يتصور نفسه خارج دائرة هذا النظام السياسي المتخيل في الملكية السلالية، لتبقى هذه الأخيرة مهيمنة إلى حدود 1914م. بل ما تزال هي المسيطرة الآن، وتمثل الأغلبية من بين الأنظمة السياسية. ويمكن القول هنا إن نظام الملكية السلالية هو النظام السياسي الوحيد المتخيل في العالم الذي دام لفترات طويلة استشهد عليه الكاتب بأمثلة عدة سنقف عندها في المحاضرة. ص. (80 ـ 81)
كما أضاف الباحث أندرسن أن الجماعات المتخيلة تتعدى خروجها من أحشاء الجماعات الدينية والملكيات السلالية لتصل إلى إدراك الزمن الجديد، الذي يفصل زمن الخطيئة والخلاص الديني عن الزمن اليومي المعيش. وهذا الزمن مختلف في أذهان البشر، ويجب ملؤه بالمعني وما كان اليوم خرافة وخيالا كان يوما ما قدسية وتعاليم مثالية وحقيقية. وقد ميز بين ثلاث أنواع من الزمن، وبين العلاقة التي تربط بينها.ص. (86 ـ87).
وقد رجح الباحث أن اصول الوعي القومي يعود إلى عصر اختراع وتطور الطباعة باعتبارها المفتاح الجديد في توليد الأفكار. وهذا الأمر ساهم بشكل كبير في الوعي، وخاصة أنه في سنة 1500 م. طبع فيه أكثر من 20 مليون كتاب. وهذا العصر سماه البعض عصر الاستنساخ الآلي. حيث بدأ نشر المخطوطات التي كانت حكرا على البعض. وكان الهدف الأساس في المشروع الرأسمالي، حيث أسست دور النشر في أنحاء أروبا، متجاوزة الحدود التي رسمتها القومية للجماعات المتخيلة. فالفضل في انتاج وتعزيز الوعي القومي، يعود إلى اكتشاف المطبعة، ونشر الكتب باللغة المحلية. ليقول أندرسن لا غرابة أن يعتقد فرانسيس بكون أن الطباعة غيرت توجه العالم وحاله، عندما أصبحت صناعة الكتب ونشرها من مشاريع الرأسماليين التي احتلت المركز الأول في تحقيق الربح، رغم أن أوربا آنذاك كانت قليلة كثافة السكان، وخاصة من يقرؤون اللغة اللاتينية. وكذلك من يتوفر على ثنائية اللغة. ومع الاندفاع الثوري الذي بدأه الرأسماليون في التحول إلى اللغات المحلية، والتي استمدت من زخم اللغة الأصلية اللاتينية، انطلق التحول الفكري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية


.. أسباب قبول حماس بالمقترح المصري القطري




.. جهود مصرية لإقناع إسرائيل بقبول صفقة حماس


.. لماذا تدهورت العلاقات التجارية بين الصين وأوروبا؟




.. إسماعيل هنية يجري اتصالات مع أمير قطر والرئيس التركي لاطلاعه