الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جِراح لا تزال تنزف .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 10 / 5
الادب والفن


تجلس ( سلوى ) أمام التلفزيون .. تتسقط اخبار المعارك ، والخوف والقلق يملآن قلبها ، فلا أحد يدري بما ستأتي به الأيام .
يرن الهاتف .. تنتفض واقفة كمن لسعتها نار .. قلبها يدق ، واطرافها ترتعش .. !
ترفع السماعة بيد مرتبكة ..
انه زوجها .. الحمد لله .. تسمع صوته الملئ القوي .. يشرق وجهها بفرحته .. يخبرها بأنه قادم لساعتين فقط ، ثم يعود الى الجبهة .. عند سماعها صوته ، لم تستطع ان تمنع قلبها من أن يدق ، ولا روحها من أن تهفو .. !
لا تدري ما الذي يمكن أن تفعله بهاتين الساعتين ..
لكنها الحرب ، وفي الحرب لا يوجد فائض من وقت ، ولا مجال لأسترخاء أو لنوم محايد .. بل يقظة دائمة لا تنتهي .
تبدأ بتهيئة الطعام ، واعداد الحمام ..
تخطو الى غرفتها .. تمرر المشط بسرعة على شعرها ، وتضع لمسة من الزينة على وجهها .. وتتعطر .. ثم ترتدي ثوب النوم الشفاف ، والحلم باللقاء لا يفارقها .. تعلو وجهها حمرة الانفعال والإثارة ، فتكسبه فتنة من نوع نادر ..
يتلوى قلبها بين الفرحة بمجيئه ، والخوف من عودته .
يدق جرس الباب محدثا رنينا متصلا ، فيدق قلبها معه دقات سريعة متلاحقة .. !
تفتح الباب ، فتراه واقفا أمامها .. منتصب القامة .. مفرود الصدر .. تُضفي البدلة العسكرية عليه ظلا رجوليا ملفتاً .. يتأمل وجهها باسماً كأنه ينهل منه .. ليثمل .. تنتفض ملامحها ، وتصهل بابتسامة مشرقة كشعاع من نور .. ! يشدها اليه ، فتسقط في أحضانه .. يضمها بحرارة الى صدره ، ويلثم جبينها .
يدخل الى البيت ، وهو يتطلع حوله كأنه يرى الجدران ، وقطع الاثاث لأول مرة .. فالغياب أصبح عادة ، وامتد لسنين ، وأي سنين .. كلها عذاب وقلق وخوف وفراق !
سقط على مقعد قريب كأنه يلهث .. ثم لانت ملامحه .. وأراح وجهه من قناع الصرامة العسكرية ، و وقارها المزيف .. خلع ( البسطال ) من قدميه ، ثم نزع بدلته العسكرية المعفرة بأتربة الخنادق ، وكان الحمام جاهزاً ، فدخل واستحم وارتدى البجاما .
أعدت له اصناف الطعام التي يحبها .. التفوا حول المائدة .. تشاركه الأكل لكن بعقل شارد .
ثم استلقى على الاريكة .. تمددت بجانبه ، والتصقت به ، والقت برأسها على صدره .. بدأت أصابعه تعبث بشعرها .. ثم أخذ يحدثها عن المآسي التي تحدث كل يوم في الحرب ، وعن احساس الفراق الذي يعذبه .. على أعزاء طحنتهم آلة الحرب الغبية ، فرحلوا قبل أوانهم مغدورين .. اغرورقت عيناها بالدموع ، وقال لها أيضاً .. بأن كل شئ في الحرب .. أي حرب .. يبدو طائشاً .. متهوراً ، ولا معنى له ، ثم انقطع حديثه فجأةً ، وبدأت حركة يده تتراخى ، وتوقف عن مداعبة شعرها !
لقد غلبه سلطان النوم .. فنام ، واستغرق في نومه .. كأنه لم ينم في حياته .. !
انسلت في هدوء من بين ذراعيه .. ثم وقفت أمامه تنظر اليه ، واحساس بالحب والحنان يعتمل في صدرها ، كأنها أم تُشفق على ابنها ، والابتسامة الطيبة على شفتيها تتسع .. ثم خطت نحو الغرفة ، وأتت ببطانية ، وغطته .. !
عادت وشغلت نفسها بغسل الصحون ، وتنظيف المطبخ ، وأعادة ترتيب مائدة الطعام كأنها تهرب من نفسها ، وعقلها لا يكف عن التفكير ، والوقت يجري مسرعا .
لقد مرت عليه ساعة ، وهو نائم .. !
سمعت طرقا خفيفا على الباب .. تُلقي بالروب على جسدها .. تفتح الباب ، فترى سائق زوجها .. واقفا محبوس الأنفاس .. يرفع يده بحكم العادة بالتحية العسكرية بمجرد أن شاهدها أمامه .. فهمت أن وقت العودة قد حان .. !
وما كادت تلمس كتف زوجها حتى هب من نومه مفزوعاً ، ونظر مباشرةً الى ساعته .. احتلت وجهه علامات الضيق ، وخيبة الأمل .. زفر في نفاذ صبر ، وتسائل بصوت يمزقه الأسى والتثاؤب :
— لم لم توقظيني .. ؟
اقتربت منه ، وهي تغتصب ابتسامة اعتذار حزينة ، ثم انحنت عليه ، وقبلته ، وقالت بصوت ليس فيه فرح :
— صح النوم ، حبيبي .. !
ثم خطت بسرعة نحو المطبخ .. ملأت حافظة بأنواع الطعام ، وأسرعت بها الى الجندي الذي لا يزال واقفا عند الباب .. استقبلها بفرح كأنها آخر زاده .. رفع يده ثانية بالتحية العسكرية .. وانصرف !
أسرع زوجها الى الحمام ، والقى برشقة من ماء بارد على وجهه ، ثم ارتدى بدلته العسكرية ، ودس قدميه في البسطال .. عدّل من هيئته ، وصلب عوده ، ثم تمنطق بسلاحه ، ووضع الخوذة على رأسه .. تقدم منها ، واحتضنها كأنه يريد أن يحملها بين ضلوعه ، ويغلق عليها .. بقيت متعلقة به لا تريد أن تتركه .. ظلا متلاصقين كحمامتين جميلتين ، ثم أبعدها عنه بحنان ، وأخذ يتأملها باعجاب واشتهاء .. تنهد في حزن ، ثم مسح قطرات من دموعها بظهر يده ، وهو يردد :
— اعتني بنفسك ، حبيبتي ..
ردت عليه في صوت كالبكاء .. كأنها تتوسله :
— عد أليَّ سالما .. أرجوك .. أنا بانتظارك .. !
وأجهشت في البكاء ..
قال في يأس أو ما يشبه اليأس :
— خليها على الله .. المقدر .. لا يمكن الهروب منه .. !
نظر الى ساعته ، ثم قبلها قبلة سريعة خاطفة كرفة جناح ..
وغادر مسرعاً كأنه يعدو .. !!
( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا