الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأستاذ الدكتور هادي حسن حمودي: التركيب البلاغي المتمرّد في سرديّات واثق الجلبي

واثق الجلبي

2022 / 10 / 5
الادب والفن


الأستاذ الدكتور هادي حسن حمودي
عرفت الأستاذ واثق الجلبي كاتبا سياسيا في صحيفة بغدادية، كانت كتاباته مصوغة بصياغة الإعلام الورقي. سليمة اللفظ والأسلوب. واضحة المرامي والأهداف، ولا يُطلب من الإعلام الورقي غير ذلك.
ثم قرأته في سرد روائي وقصصي وشعري وأنثوريّ. رأيت أنه فيها جميعا يجنح إلى البلاغة باستعارات ومجازات يتفاوت تأثيرها في النص بحسب دلالته ومغزاه. تراه يُغرب في تلك الاستعارات المكنية والبعيدة بل الأسطورية أيضا التي يلهث القارئ وراءها كي يفهمها ويفهم مغزاها كما في منطق الطير والشيخ يوسف. ونصوص الاغتيال الأزرق، وما سنذكر منها لاحقا. ويبتعد عن ذلك في نصوص أخرى.
ولقد صدرت له قبل أسابيع مجموعة من سردياته التي نشرت على مدى أعوام. هنا نظرات في بعض نصوصها مع تلميحات إلى ما ظهر وبعض ما بطن فيها.
ad
(2)
أستهلها بما اعترف به في (شفاه الشطرنج) وهي إحدى أجمل سردياته الروائية:
(في لحظة مهملة عاندت فيها روحه أن تلتحق بجسده كان لزاماً عليه أن يُدّخن الغيم كي يعرف لماذا حّطت رحاله على وجه البسيطة ، للأرض وجهٌ يدوسه بأقدامه وهي ساكتة تعطيهِ ثمارها بلا مساءلةٍ منها على أفعاله ، يكفيها منه انه سيعود إليها حتماً . لم يفكر على طول ذراعه بمصير كتفه بل ساهم في خوض التجربة حسبما رآه في صدره المشحون بالإضطراب والقلق ، كان يجلس على صخرةٍ مقهورةٍ مرت على ذاكرتها العتيقة صور الغزاة الأوائل والأواخر، دجلة ذلك النهر الذي سكبته أعين الآلهة اليمنى ظل يئن من المحتلين الطغاة . كان الأحياء يمرون على جسر الشهداء بلا وجوه فذوو الرؤوس السود ما زالوا محتفظين بصور الغزاة وهم يحطون رحالهم من جديد على وجه الأرض الأخضر .
في غربته القادحة لم يستطع مُدان أن يرسم خطاً واحداً في تاريخه القدحي ، توزيعه للأشياء لم يعجب أحداً ، رتابته في وضع كتبه في المكتبة لم تُقابل بالإرتياح من الرفوف ، عمره الذي رفرف بالأربعين جناحاً كان عبارة عن خطوط متعرجة لم يؤهله للدخول في صفوف المجتمع الطاحن ، كان يمتلك ثروة لغوية واطلاعا على منافذ الكلمات ، لكن كل هذا لم يجد نفعا ، فالحياة لم تتكيف معه ومع ما يمتلكه .
كميات الأناس كانت قليلة فما تتحمل الحياة وجود أمثاله ، لا يعلم حقيقة الأمر فظل فكره حائراً في متاهات الأحاجي . في مدينته الخائبة كان الناس ينتشرون كالوباء على شوارعها القبيحة ، الفراشُ لم يزر مقاماتها الكئيبة إلا في غفلة السنين الطافحة بوجوه المواشي التائهة .
مُدان لا يعرف لماذا تم إختيار اسمه فصار يفكر بشأن علاقة هذا الإسم بلعنته المؤبدة. الأمور عنده لا تتناغم مع ثمار الشجرة التي لم تستطبها الأرض فهو لم يشعر بالإنتماء حتى الى تلك الأغصان التي لم تكلمه يوما ، صديقه الصوفي يحاول أن يجرّه الى منطقته وطريقته في الحياة حتى هذه اللحظة ، كانت مناقشاتهم تخرج مذعنة لما يقوله مُدان الذي لم يقتنع بلحية صديقه عماد الطويلة ولم يعرف ما شأنها وطولها مع الإيمان فهذا شيء لا يعقله .
أراد عماد أن يؤكد لمُدان أن اللحية الطويلة تسبّح لصاحبها وقطرات ماء الوضوء التي تتساقط من شعر لحيته تسبّح وتقدّس ، وأن المسبحة التي ترافق الرجل لا تشغله عن الذكر فهو في عالم الملائكة يحلق معهم ، كانت هذه الكلمات تضحك مُدان حتى انه يقسو على عماد في بعض الأحيان ويقول له
أين ذهب الأيمان ؟
أين دور القلب في كل ما تقول ؟
أما تجد بعض الدكتاتوريين لحاهم طويلة لكنهم يتلذذون بالقتل وسفك الدماء ؟ ثم ما شأن اللحية بالإيمان ؟
المهم عند مُدان هو القلب).
هكذا يبدأ بعرض شخصيات الرواية. مستهلا بمُدان النزيه الوحيد فيها، شخصية تكاملت من قبل دخولها السرد الروائي وكذلك بقية الشخصيات، التي كان سلوكها يمثل قاع المجتمع البشري كله، غير مقتصر على بلد معين.
وهو في هذه الرواية بحاجة ماسة إلى (شمع ليوناردو دافنشي) لاستكمال حالة عماد وغلامه ونيران والكلب البوليسي الضخم، ومصائر شخوص الرواية.
(3)
في سرده للقصص القصيرة يُبعد في الاستعارات والمجازات الأخرى متقصّدا (في الذي يبدو لي) فيثقل النص بغريبها. وإنما أقول: متقصّدا لأنه – وحسنا فعل – ابتعد عن هذا الإثقال في نصوص السرد الروائي. ففي ثكنة أبرهة نقرا شيئا من ذلك التقصّد للإغراب البلاغي:
(اختار أن ينهق بعد أن غرّد سنيين ، فعاتبته أصداء التعابير بكومة المدافئ ، ولأن الأرصفة ضاقت بحماقة المارة راحت تغلي رؤوس الدبابيس لإنشاء إمبراطور الفقاعة .. طار غضبه فازدراه حامل جريدة وهو يتصفح الكواكب ليختلس ضوء البراميل من أكتاف لاعبة نرد .. هلامي أطار القيد لبّه حتى أنه ظل يستيقظ كلما نام الأمس معه .. بلّل صياحه وجع الجمال الباركة .. عقل عقله فدمدم عليه الضياء فقدّم استقالته للنخيل .. تصّور أن النخيل حاصل طرح البعوض من ثكنة أبرهة .. متنعم بالديباج يلحس قعر كأسه الفارغة بلسان جاهلي.. لم يبرز إلا منحنياً على باسقته ماداً للخيط رجله ومتابعاً للجريان أنفه .
(4)
وفي روايته (كل أنواع الحلي لا تفيد الموتى) تتكاثر المجازات البلاغية فتحسها عواصف تنث بروق الغيوم والهموم. نقرأ: (في لحظة إمساك الغيم لم يتوقع شوقي أن روحه ستمطر ندما فليس من الممكن ترويض الشتاء .أرصفته التائهة كعمره المهدور مثل شيبه ، في ساعة من زمن مُدّلهم تساقط ريش الطائر على متن السهول المنبطحة والممتدة بين عين الدهر وزنده .. انزوى شوقي مع عائلة وجدها صدفة في طريق ذوبانه السريع ليتنفس أنثى جديدة تمتلك جسدا فيه كل شيء إلا جسد وروح نيفين .. شوقي أضاع عملته المعدنية ، روح نيفين كانت تسيطر عليه حتى آخر لحظة عراكٍ على الفراش الآفل .
لا بد للإنسان أن يصاب بالعمي ولو بعد حين فتجارب الأيام لا تدع لأحد أن يتخذ قرارا ولا يندم عليه حتى وإن كابر واصطنع غير ذلك من الأسباب التي يحاول أن يستقذ فيها نفسه ولكن هيهات ، فقد تم تبديل السلال القديمة بأخرى أكبر منها وأكثر إتساعا).
ولكن واثق الجلبي سرعان ما يستنقذ النص من تلك الاستعارات البعيدة التي تترك القارئ يجري وراء فهمها، فينتقل إلى مستوى آخر من التعبير، معترفا بعتمة تركيباته البلاغية: (عزيزتي لم أعطك منهجية واضحة بسبب تشتتي فالأمور تجري أسرع مما كنت أظن ، انا أرى الأشياء تحاول سحبي الى جهة المجهول هناك ضخامة وقحة في التضحية التي أمر بها اليوم ولم أمتلك زمام المبادرة منذ مدة طويلة).
(5)
ونلاحظ تحولات في تشاكل الاستعارات المتعاضلة وتغييرها إلى رموز. في رواية (كل أنواع الحلي لا تفيد الموتى) يقول: (مطبخ المستقبل لا يستخدم أدوات الكتابة في إعداد الوجبات وربما كانت الأمور التي رافقت ذلك الرجل تسير به نحو مزيد من الإقتناع بضرورة رمي كل ما يحمله عقله في أقرب قدرٍ لا يعتمر غطاء .
بهذه العبارة قرّر أن يَسخر من الأحداث التي تركت أثرها في وجهه وهو يشرب الماء البارد في شتاءٍ لا ينقصه الغمام .
أمامه مكتبته التي لم يتبق منها سوى ثلاث كتب أحدها بلا غلاف ، أخرج مسجلا صغيرا من جيب سترته وفكّر في نفسه : أما آن الوقت كي أنهي الرسالة ؟
بعد موت زوجته وسفر إبنه للدراسة نسيّ أرقام الهواتف ومُحيت أشياء كثيرة من ذاكرته المتقرنة، وبدأ بالإستعداد للرحيل في أي لحظة .. كان يغتسل في اليوم مرتين ويقوم بحلاقة ذقنه كل ثلاثة أيام ويتعطر جيداً ويصلي ثم يقوم بتلاوة القرآن .
كان صوته المتقطع كالغيم الهارب في دروب المتاهات تتلاطم فيه ألسنة الدخان وسعاله أشبه بقرع الطبول فيبطئ من عملية التسجيل).
فالقارئ حين يقرأ هذا النص يخيل إليه أن الكاتب يلجأ للرمز تخلصا من مغبات ما يثير من أسئلة السياسة ومآلات المسيرة. غير أن هذا التبرير لذلك الرمز غير مقنع. فالكاتب يصرح في مقالاته الصحفية، وفي متون سرده الروائي بمواقفه بوضوح قاسٍ. فلم يبق إلا أن نعدّ أسلوبه ذاك أسلوبا متقصّدا له هو بذاته وبحدّ ذاته.
(6)
إذا كنت قبل قليل قد وصفت (شفاه الشطرنج) بأنها إحدى أجمل سردياته الروائية، فلا شك في أن رواية (للقلب فم آخر) تلتقي معها في تلك الصفة، وهي عن جامع الحكايات ومصير من يفكر فيها، في الإطار الزمني والمكاني لأحداثها، عبر حكاية موجعة حقا تتجاوز الفرد إلى المجتمع حسب رؤية الرواية:
(تتوارث الاجيال حكايات الأجداد الذين لم يدعوا شيئا إلا قولبوه في حكاية او مثل ، حالتي اليوم تماثل حكاية (لعابة الصبر) (اللعّابة هي الدمية في اللهجة العراقية) فعن أمي عن أمها عن جدتها عن جداتها رحمهم الله جميعا ، أن تاجرا بغداديا توفيت زوجته وكان له منها فتاة صغيرة يحبها كثيرا كانت نابهة وذكية فتزوج امرأة من معارفه لكن زوجة الأب أذاقت الفتاة الأمرين أما الفتاة فلم تشتكِ إلى أبيها .
في أحد الأيام قرر التاجر الذي يحب ابنته جدا السفر في تجارة و هو يرى ضعفها و هزالها فأخبرها أن تطلب منه اي شيء يجلبه معه إليها فقالت له
– والدي العزيز ارجوك أن تجلب لي لعابة الصبر (اللعابة: الدمية باللهجة العراقية) فلقد سمعت بعض الفتيات يتكلمن عنها وعن جمالها .
استغرب الأب من الطلب و أجابها بالموافقة . مرت الليالي والأيام والطفلة تعاني من معاملة زوجة أبيها السيئة وهي تكظم غيظها ودموعها تجري تجلس وحيدة في غرفتها وهي تنظر إلى صورة أمها وتبكي بحرقة شديدة .
عند رجوع الوالد كانت الفتاة تنتظره بشدة ، أخذت اللعبة وذهبت إلى غرفتها العلوية وأغلقت الباب وبدأت ببث همومها وشكواها الى اللعبة وكيف أنها حزينة وان زوجة أبيها تعاملها بقسوة بالغة وفي نهاية كل شكوى تقـــول لها: (إلى متى قلبي يستطيع الصبر)؟ (ورد السؤال في النص باللهجة العراقية).
فترد عليها اللعبة.:
– الصبر .. الصبر . وحجم اللعبة يزداد يوما بعد يوم .
استغرب الأب من تصرفات الفـتاة الغريبة فذهب الى إمرأة كبيرة في السن من معارفه وسألها عن موضوع لعابة الصبر فأخبرته بانها لعبة خطرة جدا تنتفخ كلما سمعت قصة محزنة ثم تبلغ حدا تنفجر فيه و تقتل الذي يجلس أمامها بسكين حادة .
هرع الرجل الى البيت و طرق الباب على إبنته فلم تفتحه فكسر الباب و إذا باللعبة على وشك الانفجار فالتقط ابنته وأخرجها سريعا ، بعد ذلك إنفجرت اللعبة فأصابت السكين الحائط .
طلّق الرجل زوجته وأفرد حياته لتفته الصغيرة ، فمن يأتيني بلعابة الصبر؟) ويبدو أن (حسن) الذي يجمع الحكايات من صاحبه محمود، هو الكاتب نفسه، قال:
(ازدادت وحشته وهو يسمع كلام محمود وعيناه لم تفارقا الخارطة ، حسن مشغول بهموم الناس وما من أحد مشغول به ، حصونه بدأت بالتداعي مرة أخرى .
انصرف محمود وترك حسن وحيدا غريبا لا يعلم ماذا يقول لأصابعه التي كانت تهرب من الأوراق ، لم يذهب الى البيت وأغلق باب المكتب جيدا ، ألقى نفسه على الأريكة ورأسه يرصد الخارطة التي صمدت في مكانها حتى هذه اللحظة . هل سيتمكن يوما من الخلاص ؟ ذلك ما ستقوله له الأيام)
وبانتظار ما تأتي به الأيام..
لندن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة