الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيوغرافيا قاتل: أنا لوي ألتوسير، قتلت زوجتي التي أحب

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2022 / 10 / 5
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


" قمت بخنق زوجتي التي جسدت لي كل العالم، إبان أزمة عصبية حادة ومفاجئة، في تشرين/ الثاني نوفمبر 1980 نتيجة نوع من الغموض والخبل الذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة أنها توخت الموت، متى عجزت عن تحقيق ذلك. وبدون أدنى شك (قدمتُ لها هذه الخدمة) في لحظة جنوني تلك وبممارسة لا واعية وماتت حتى دون أن تدافع عن نفسها" (مقدمة كتاب Le courant souterrain du matérialisme de la rencontre" ).
لا أحد، في الحقيقة، يعلم على وجه الدقة من اخترع المجاز الذي يقول تلوح لنا الحلول كلما زادت الأمور سوءً. ولكننا نعلم على وجه اليقين من قال:" ليس على فرنسا أن تسجن فلاسفتها"*. ولا يبدو عنوان كتاب الفيلسوف الماركسي الشهير لوي ألتوسير " 1918-1990" المستقبل يدوم طويلا متابعة الحقائق L avenir dure longtemps : Suivi de, Les faits (الذي نشر بعد عامين من وفاته ( 1992)، يضم فيه مذكراته التي كتبها أثناء نزوله في مصحة عقلية قضى فيها عشر سنوات بعد إدانته بخنق زوجته إيلين ريتمان في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1980 في لحظة جنون و فقدان للوعي) يقينياً بحد ذاته، حيث يقال أنه وضع عنواناً فرعياً له "حكاية مقتضبة عن قاتل"، لكنه حذفه، ثم خطّ عنواناً آخراً " ذات فجر من ذات ليلة D’une nuit l aube "، لكنه حذفه أيضاً. ومن الواضح أن ألتوسير كان عاجزاً حينها على تقديم كتابه بالطريقة التي يرغب بها. بدليل قيامه بحذف فصلين من النسخة المطبوعة، عن ميكيافيلي وسبينوزا، واستعاض عنهما بفصل يحمل عنوان "الخلاصة". بالإضافة إلى حذف فصل كامل كان قد خصصه للحديث عن مستقبل اليسار الفرنسي عموماً، والحزب الشيوعي خصوصاً. وإذا كانت السير الذاتية، في العموم، لا تكتب دفعة واحدة. ويعتقد الباحث سعيد بو خليط، أن ألتوسير كان، أثناء كتابة المستقبل يدوم طويلاً، لاسيما فصوله الأولى، واقعاً تحت تأثير سيرته الذاتية الأولى "الوقائع" (1976)، لنتذكر بوح ألتوسير في رسالة بعثها إلى ساندرا سلومون Sandra Salomon (صيف 1976): "سوف أتمكن مرة ثانية، من إعادة كتابة "سيرتي الذاتية"، لأجعل تبدو (منتفخة) بذكريات حقيقية.. وأخرى متخيلة.. هل تتفقين معي بضرورة أن أضمن حديثي تأويلات خاصة عن الأمور التي سوف أتطرق إليها؟ سوف أعتمد على استراتيجية الحيث الداخلي والخارجي بآن معاً، بحيث أستطيع تمرير بعض ما أريد أن يعرفه القارىء من أشياء لا تبدو جيدة في أحسن حالاتها.
آثر ألتوسير الانسحاب من الحياة العامة بعد قرار القاضي بعدم متابعته جنائياً لأنه لم يكن في كامل قواه العقلية، عدم الظهور في الحياة العامة الفرنسية، ويقال أن سيرته الذاتية "المستقبل يدوم طويلاً" نوع من التطهّر من خلال سرد تفاصيل ما جرى، ولعل هذا الأرق بقي مصاحباً له ما دفعه لكتابة تلك الكلمات في المقدمة المذكورة أعلاه، حين عبر عن رغبته في تدوين تجربته المرعبة التي استغرقت ثلاث سنوات ( الفترة بين قتله زوجته وصدور الحكم بتحويله إلى مصحة نفسية). لقد كان لهزيمة الحزب الشيوعي الفرنسي واليسار في الانتخابات التشريعية الفرنسية في العام 1978، كبير الأثر على صحة ألتوسير العقلية، فقد بات يتعرض لنوبات اكتئاب حادة ومتكررة. وخضع لعملية جراحية، في وقت لاحق، لإزالة فتق الحجاب الحاجز بعد معاناته من صعوبات في التنفس أثناء تناول الطعام. وبحسب ألتوسير نفسه، أدت هذه العملية إلى تدهور حالته الجسدية والعقلية، حتى بلغ مرحلة معقدة جعلته يطوّر، نفسياً، عقدة الاضطهاد والأفكار الانتحارية.
ويشير سعيد بو خليط إلى أن مخطوطة كتاب،- المستقبل يدون طويلاً، عثر عليها بعد بين أوراق ألتوسير وأرشيفه الخاصـة، مع كتابات ودراسات عديدة أخرى غير منشورة. ونظراً لظروف حياة ألتوسير في الفترة الأخيرة اعتمد ناشر المذكرات، للوقوف على حقيقة ما ورد فيها، على شهادات أصدقاء ألتوسير، التي كانت مختلفة والمتناقضة أحياناً. شرع ألتوسير في كتابة "المستقبل يدوم طويلاً" إثر اطلاعه على مقال نشرته كلود ساروت Claude Sarraute في صحفة لوموند ( 14 آذار/مارس 1985) بعنوان "القليل من الجوع Petite faim " تطرقت فيه إلى حادثة، تعود للعام 1982، قتل شابة هولندية تعيش في باريس تدعى رينيه هارتيفيلت على يد شخص ياباني يدعى إيسي ساغاوا، ثم أكل لحمها. أصبح ساغاوا شخصية مشهورة في اليابان بعد طرده من فرنسا إثر سقاط الدعوى ضده وإقامته لفترة قصيرة في مصحة نفسية وعقلية. وتستحضر ساروت في مقالتها محاكمة ألتوسير بتهمة قتل زوجته، فتنتقد وسائل الإلام التي ترى في جريمة تقوم بها شخصية مشهورة (مثل ألتوسير أو تيبو دورليان) خبطة صحفية يسيل لها اللعاب، فيتحول مرتكب الجريمة إلى نجم، بينما لا تستحق الضحية أكثر من ثلاثة سطور, وربما أقل ". وقد دفع هذا المقال ببعض أصدقاء ألتوسير إلى الطلب منه الاحتجاج على الصحيفة لاسيما حين يقترن اسمه بعبارة "محاكمة يسيل لها اللعاب"، غير أنه مال إلى الرأي القائل بأن ملاحظة كلود ساروت هذ، كشفت النقاب عن نقطة أساسية، لكنها على درجة عالية من الإثارة بالنسبة إليه تتمثل في أن انعدام "محاكمته" يرتبط، في الواقع، بإسقاط الدعوى، الذي "استفاد منه". وهذا ما دفعه إلى التفكير في كتابة سيرة ذاتية من نوع معين يوضح فيها مواقفه من الحادث المأساوي الذي غيّر مجرى حياتها وقبلها رأساً على عقب، ومحاولة معالجة تلك الحادثة من النواحي المختلفة: الإدارية والقضائية و الاستشفائية، وكذلك أصولها ومصدرها.
وبعد! للقارىء الآن حرية الاستنتاج والتفسير لدوافع ألتوسير كما يرويها بنفسه في كتابه: ".. هكذا احتفظت بالذكرى كاملة ودقيقة في أدق تفاصيلها، نقشت في داخلي وعبر كل تجاربي إلى الأبد. بين ليلتين، ليلة خروجي، ولا أعرف ما هي، وليلة دخولي. سوف أقول متى وكيف: وها كم مشهد القتل كما عشته.. نهضتُ من فوق سريري، فجأةً، لأقف وأنا مازلت في ثياب النوم، داخل غرفتي المتواجدة بالمدرسة العليا للأساتذة. كان يوم أحد كئيباً من تشرين الثاني/ نوفمبر - الساعة تقارب التاسعة صباحاً-حيث توغلت خيوط شمس التي تضيء أقدام السرير، من النافذة العالية جداً، المغطاة منذ فترة بعيدة جداً بستائر حمراء قديمة ترهلت مع مرور الزمان نتيجة لهيب الشمس. وأمامي، أرى إيلين، نائمة، مستلقية على ظهرها بثوب النوم أيضاً، يتمدد حوضها على حافة السرير، بينما تلقي برجليها على بساط أرضي. زحفتُ مقترباً منها، انحنيتُ على جسدها، ركعتُ، ثم شرعتُ في تدليك عنقها. لقد دأبتُ باستمرار في صمت على تدليك عنقها وظهرها وكِلْيتيها: تقنية تعلمتها من رفيق، يدعى كليرك الصغير، خلال فترة الاعتقال، لاعب كرة محترف وخبير في كل شيء. لكن هذه المرة، بادرتُ إلى تدليك مقدمة عنقها. ضغطت بأصبعي على تجويف اللحم الذي يكسو عظام القفص الصدري ثم ضغطتُ أكثر، وحركتُ بهدوء، إبهاماً نحو اليمين وإبهاماً ثانيا جهة اليسار، أي بطريقة غير مباشرة، المنطقة الأكثر صلابة فوق الأذنين. شرعتُ في التدليك على شكل حرف (V).أحسستُ بتعبٍ كبيرٍ في عضلة ساعدي: أعلمُ، بأن التدليك يسببُ لي باستمرار ألماً على مستوى الساعدين. بدى وجهها ساكناً وهادئاً، وعيناها مفتوحتان تحدِّقان نحو السقف. ثم، فجأة أصابني الفزع، عيناها متجمدتان نهائياً، ثم تمدد طرف لسانها بين أسنانها وشفتيها، بطريقة غريبة وهادئة. لقد رأيتُ، بكل تأميد، أمواتاً من قبل، لكني لم أر قط طيلة حياتي ملامح وجه شخص مخنوق. وقد أدركتُ لتوي إني اقف أمام امرأة مخنوقة. لكن كيف وقع ما وقع؟ نهضتُ صارخاً بصوت مرتفع: لقد خنقت إيلين! ثم اندفعت أجوب الشقة مسرعاً، وقد انتابني رعب حاد، وطفقت أطوي أدراج السلم الصغير الذي يعلوه درابزين حديدي يفضي إلى فناء الواجهة بسياجاتها العالية، وواصلت العدو مسرعاً صوب العيادة، فأنا أعلم بأني سأجد الطبيب إيتيان هناك، الذي يقطن الطابق الأول من المدرسة. لم أصادف أحد خلال ركضي، فقد كان اليوم أحد، والمدرسة فارغة تقريباً أو ما زال من فيها يرقدون بسبات. ها قد بدأت أصعد السلم وأنا أتجاوز أربع خطوات دفعة واحدة، قاصداً الطبيب وكنت مازلت أصرخ: لقد خنقتُ إيلين!". أطرق بابه بعنف، ليفتح لي أخيراً ويقف أمامي في ثياب نومه، وهو يتفحصني بنظرة تائهة. فأواصل الصراخ" لقد خنقت إيلين" ثم جذبته من قبة ثوبه، وأنا أدفعه كي يمضي معي كي يفحصها على وجه السرعة، أوقل له ذلك وأتابع .. تعال معي وإلا سوف اشعل النار في المدرسة". لم يصدقني إيتيان وصرخ مستحيل . ثم هرعنا معاً بأقصى سرعة نحو شقتنا لنقف أخيراُ حيث إيلين، كما تركتها، مازالت عيناها جامدتان كما تركتها، وهذا الشيء القليل من لسانها، مازال ممداً، بين الأسنان والشفتين. أرهف الطبيب السمع لصدرها ثم التفت نحوي وقال : "لقد تأخر الوقت كثيراً، لا يمكننا فعل أي شيء". فبادرته بالسؤال مستفسراً "ولكن بوسعنا تنشيط قلبها ثانية؟". فأجابني بحزم "لا . ثم اعتذر مني لرغبة منه في الانسحاب لبعض الدقائق وتركني، أمامها، وحيدا. (فهمت فيما بعد، أنه أجرى اتصالاً هاتفياً مع المدير، والمستشفى، والشرطة أيضا)ً، من يدري ماذا حلّ بي؟ ها أنا أترقب الوضع، وأرتجف دون توقف. وأنظر حولي فأرى الستائر الحمراء الطويلة المترهلة تتدلى على جانبي النافذة، وتمتد إحداهما، تلك التي تقع على جهة اليمين، حتى أسفل سريري. ثم جال بخاطري، لحظتها، صديقنا جاك مارتان، الذي عثر عليه ذات يوم من شهر آب/ أغسطس 1964، ميتاً داخل غرفته الصغيرة العتيقة التي تعود للقرن السادس عشر، ممدداً على فراشه طيلة أيام، وفوق بطنه ساق طويل لوردة أرجوانية: كانت تلك رسالة صامتة لنا معاً أنا وإيلين، تذكاراً لنيكوس بيلويانيس، وقد أحببناه منذ عشرين سنة، إنها رسالة آتية من وراء القبر. عدتُ إلى وعيي حيث مازالت إيلين ممددة، فجذبتُ إحدى الأجزاء العلوية من الستارة الحمراء، دون أن أمزق القماش، ثم توجهت نحو صدر إيلين، التي ترقد كما هي بشكل مائل، وغطيتها من ذراعها الأيمن إلى جهة صدرها الأيسر. عاد إيتيان أخيراً.. وبدأت الفوضى والاضطراب يعمان المكان، ويبدو أنه حقنني بإبرة، ثم عبرنا معاً نحو مكتبي وشاهدت شخصاً -لا أعرفه- يقوم بجمع كتب كنت قد استعرتُها من خزانة المدرسة. يبدأ إيتيان في الحديث عن المشفى، في الوقت الذي كنت أغوص فيه بين ثنايا العتمة. يلزمني الاستيقاظ ثانية لا أدري متى، في مستشفى "سانت آن" (للمزيد، انظر: L avenir dure longtemps : Suivi de, Les faits , STOCK/IMEC (January 1, 1992). P 121)
.....
*تصريح للرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران عقب انتهاء محاكمة ألتوسير وتحويله إلى مصحة نفسية بدلاً من سجنه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نارين بيوتي تتحدى جلال عمارة والجاي?زة 30 ا?لف درهم! ??????


.. غزة : هل تبددت آمال الهدنة ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الحرس الثوري الإيراني يكشف لـCNN عن الأسلحة التي استخدمت لضر


.. بايدن و كابوس الاحتجاجات الطلابية.. | #شيفرة




.. الحرب النووية.. سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة! | #منصات