الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مُماحكات فكرية في الأدب الشعبي .القسم الثالث 3-3

خيرالله سعيد

2022 / 10 / 8
الادب والفن




ردود عــامـــــة:
ملاحظة : أن الدراسة النقدية التي أجرينـاهـا على كـتاب د. هاشم العقابي ، تقع في 12 فصلاً، زائـداً " المقدـمة و الخـلاصة والإستـنـاجات " والدراسة تقع في 340 صفحة .

مُــــلاحـظـات وردود .
* * *
آ* كُـنـا قـد أشرنـا في الفصول الأولى من هـذا البحث، إلى أن آراء وملاحظـات د. هـاشم العقـابي، والتي أوردهـا في كـتابهِ " غـــزل العـراقيّـات " حيث أورد بعض الآراء الخاصة بـ " شـعــر اللاّونـــدي " وهـو الشعر الخاص بنساء البِـشــتـون الأفـغـانيّـات، دون أن يُـقـدّم " نـمـاذج " مـنـه ، رغـم أنـه يذكر بأن هـذا الشعر الأفغـاني، قـد حظي باهـتمام ورعـاية أدبـاء الأفغــان وباحـثيهـم، حتى نجحـوا في إيصاله إلى العالم، وتُـرجم إلى الّلُـغـات العالمية ، وخاصة الإنجليزية والفرنسية، وتـاسّـست منتـديات وجمعـيّـات تهـتمُّ بـهِ، نقـداً وبـحـثـاً ، في دول أوربـا وأمريكـا ، وأُنشِـئت لـه " مواقع ألكترونية مخصّـصة" وإذاعات وفضائيّـات تـبُـثّـه على الهـواء . *1
* وحين عُـدنا إلى البحث عن هـذا "الشعر الأفغـاني - النسوي" قـد عَـثرنـا على مقالة للشاعر العراقي المقيم في عُـمـان، الأستاذ عبد الرزاق الربيعي، والمعـنونةِ بـ " الأفغـانيـات يـمـلأن جِـرارهـن شِـعـراً " ضمن زاوية - هوامش ومتـون - في صحيفة عُـمـان .*2 ، حيث يشير إلى أن " هـذا الشعر تتـغنّـى بـهِ النساء الأفغــانيّـات، عـندمـا يذهبن لجلب المـاء من الينـبوع، فيمـلأن جرارهـن مع الماء شعراً وغـناءً، ويصاحبه أحيانـاً رقص في الإحـتفالات والأعراس إرتجـالاً، فيُـنسى بعضهـا، ويبقى البعض محفوراً في الذاكرة الجمعية، وهـذ الشعر " اللاّونـدي - الأفغـاني " في صياغـاتـهِ الشعرية المُـكثّـفـة والموجزة، والقريبة من " شعـر الهـايكو - الياباني " والرُبـاعيّـات، وقصيدة الومضة، أو القصيدة القصيرة ، ومـثـاله :
" هـا هــــو الـديك ،،
يطلق لعـنتــهِ ويصيـح
فيغــــادرني عـاشـــــقي
مثـل طـيـــــــــرٍ جـــــريـح "
* نـمــوذج آخـر :
" بِـسِــــرّي أذوي
في الخــــفـاء أنـــوح
أنـا إمـرأة البشـتــون ،،،، كـيف أبـوح
* أو تقـــول إحـــداهُـنَّ في تحـدٍّ واضـحٍ :
" أحِـبُّ ولا أخـفي غـرامي وآهـــاتي
ولـو نـزعـت سكاكينـكم
كُــــلَّ شـــــــامـاتي " *3
* وفي إشارة لافـتـة، يـذكر عبد الرزاق الربيعي، أن معنى " الـلاّونـدي " أنّـه يعني حرفيـاً " الشعر القصير" كـونـه يتـألّف من سطرين شعـريّين، ولا يُـتـبع قـافية إلـزاميـة " كما ورد في " مقدمة الشاعر الأفغـاني - بهـاء الدين مجروح - والذي قام بجمع المقطوعات الشعرية التي تـدور حول " الحُـب والحرب" والتي جمعـهـا في كتاب " اللاّونــدي- من شعر المرأة الأفغـانية - في الحب والحرب " الصادر عـن دار أزمنـة للنشر، تـرجمه عـن الإنجليزية الشاعر عبدالله أبو شميس، ود. حـنان الجـابري، وهـو أشبه مـا يكون إلى " الـدارمي" في اللّهـجة العامية العراقية، المتداولة شـفـاهيّـاً. *4
وهـذه العبارة الأخيرة " وهي أقرب ما يكون إلى شعر الدارمي في اللّـهـجة العراقية " هـي التي أغـرت د. هـاشم العقابي وعبد الرزاق الربيعي، لأن يقـتربـا من التـطابق في نظرتهـمـا إلى " تقارب هـذا الشعر الأفغـاني من الشعر الشعبي العراقي - الدارمي " .
* وبتقـديري: أنّـهـما بعيدان عـن التطابق والتماثل مع شعر الدارمي العراقي، لأن الـدارمي العراقي يحكـمهُ الـوزن والقـافية الدقيقة، المبنية على حرفين، وهـو لايقبل أيَّ زُحـافٍ أو كسر في وزنـهِ، بينـما " شعر اللاّونـدي " يتـألّف من سطرين، ولا يتـبع قافية إلـزامية، كما ورد في مقال الشاعر عبد الرزاق الربيعي أعـلاه ، ولكن" خِـداع الحقيقة المُغرية بشعر اللاّونـــدي، والتي تقترب من الدارمي العراقي، هي كـونـه يتـألّف من سطرين، كما الدارمي ، من بيتين، وتـكتـبهُ النساء وتتـغنّـى بـهِ، وأغـلبهـن غير معروفات، كما هـو الحـال في شعر الدارمي العراقي، لكن " الـوزن الشعري " في الـدارمي العراقي، هـو الذي يفرض نقطـة التـمـايُـز والإختـلاف، بين النمطين الشعريين، العراقي واللاّوندي - الأفغاني .
* وفي نقطـة خـلافية أخرى، يـذكر د. هاشم العقابي، في كتابه آنف الذكر، بـان هُـناك " شـعـر التـبراع " في بلدان المغرب العربي، حيث أنّـه " شِـعـر نسـوي خالص " قريب أيضـاً من الـدارمي، إذ تتـكوّن القصيدة فيه من سطرين أيضـاً، حظي بـاهتمام الباحثين والأدباء المغاربة، وتـمّـت ترجمتـهِ إلى الفرنسية، وأنـجزت فيه أكثر من إطروحةٍ جـامعية . *5
لكن د. هـاشم العقابي، لـم يـورد لهذا اللّـون الشعري أيَّ نـمـوذجٍ، كي تُـجرى المطابقة والتمـايز النقدي والفنّـي بين هـذين اللّـونين، من الشعر العـامي - الدارمي العراقي والتـبراع المغـاربي ، الأمر الذي فرض علينـا لأن نبحث في هـذا " التـبراع " الشعري، وقـد طلبت من الصديقة الباحثة والشاعرة المغربية د. لالـه دليـلـة حيّـاوي ، بعض المعلومات عـن هـذا الشعر، فـأرسلت لي برابـطٍ خـاص بشعر التبراع، وبمقالٍ هـام بعـنوان " التــبراع - غـزل نسائي بالرجـل ، يخرج من السِـر إلى العـلن " وهـو مقال للباحـثة المغربية " خـديجـة الفتـحي " منشور في مـوقع العربية نـت" بتاريخ 29 / إبريل / 2014 .
وشعر " التـبراع " تتـغـزّل بـهِ النساء في المجتمع الصحراوي المغربي، وهـو يُـنشد في الخفـاء، خلف مطاوي الرمـال، وفي مجالس وأجـواء خـاصة، تطبعهـا السريّـة، الشئ الذي يصعب معـه معرفة قـائلة هذا الشعر.
ولتحـرير شعر " التـبراع " الراسخ في الأدب الحسّـاني، من سلطة الرقابة، " تـأسّـست جمعية بمـدينة السمارة" - جنوب المغرب، بهـدف رد الإعتبار لهذا الغرض الشعري، والذي يُـشكّـل جُـزءاً من الثقافة الحسّـانية . *6
ويعـلّق الباحث إبـراهـيم الحسين، المختص في الثقافة الحسّـانية بالقول " إن شعـر التـبراع، هـو كـلام شعري منظوم، تُـبدعـهُ النساء الحسّـانيّـات، تَـغَـزُلاً في الرجـال، وبعـيداً عـن أعينـهـم " *7 .
ويضيف : " أن شعـر التـبراع، يتميّـز بالإقتضاب والكـثـافة والقُـصر، ويكون دائمـاً من دون قـوافِ إجـبارية، لكن مع صرامة في التقطيع الـداخلي، كما يمتـاز بالوضوح والبسـاطـة، التي لا تخلو من صورٍ بلاغـية" .
ويقـدّم إبراهيم الحسن، بعض النـماذج لهذا الشعر النسوي، على لسان إحـداهـنَّ، والتي تعبّـر عـن إفتـنانـهـا بجمال إبتسامة عشيقهـا، وأن إبليس بنى خيمـتـه في هـذه الإبتسامة، واستقـرّ بهـا، فتقول بالتعبير التالي : *8
" عِـندُ تبسيم، بـاني فيهـا ابليس خـويّـــــم "
وتقــــول أخرى :
" البـارح مَ جـان ،،، واللّـيل فيه مُـلان "
فيما تقول ثالثـة، وهي فرحـة بعـودة حبيبـهـا :
" ومجيه لْـبارَحْ فـرحُ بيـه اسـبَـعْ جـوارح "
* وفي إشارة بارعـة، يشير إبراهـيم الحسين، إلى أن " شـعر التـبراع " يتـقاطع - أي يتلاقى- إلى حـدٍّ مـا ، مع الشعر الشفوي لنساء البشتـون الأفغـانيات المعروف بإسم " اللاّنــدي - Landay " *9 "
* وتقول الباحثة الصحراوية " الـعـالية مـاء الـعـين " في إطروحةٍ لهـا حـول الموضوع " فـإن شعر التبراع، حـاول أيضاً توظيف رمـوز وطقوس دينية، لخدمة غرض الغـزل، فتقول إحـداهـنّ : *10
" حُـبّـك ذا الطـاري ،، ثـابت ،، رواه البخـاري "
" حُـبّـك الذي دق بابي، ثــابت في صحيح البخاري "
ومن هُـنا نلاحـظ وقوع د. هـاشم العقابي ، في هـذا التشابه بين التبراع وشعر الدارمي، كما أشرنـا سابقاً . *11
* وتشير الباحثة المغربية " دليلة حيّـاوي " إلى أن شعر التبراع يـأخذ شكلاً شعريّـاً مُـلحّـنـاً، تتـغزّل فيه المرأة بالرجل، دون الكشف عن " هـوية المُـتـبرّع فيه " ولا يحمل إسم صاحبتـهِ التي إبـتـدَعَـتـــهُ " ولهذا النمط الفني شاعرية عميقة وكثيفة، سواء من حيث البناء أو المضمون، فهـو إعترافٌ وإفصاحٌ وبوحٌ عـن مكنوناتٍ وجـدانية، للمـرأة الحسّـانية، بطريقةٍ تقبلهـا الأعـراف والتقاليد المحافظة للمجتمع الحسّـاني . ولهـذا الشعر ، بُـنية إيقـاعية مُـنظّـمة، وفق مـوازين معروفة ومعتمدة، " وتسمّـى في حـال غـنائهِ " الأوزان " وقـد يعادل قصيدة تحتوي على عشرات الأبيات، لأنـه وليد لحظة إبـداعية وجدانية، حُـبلى بالمشاعر والأحاسيس والحنين، ولهـذا يـأتي تعبيراً عـن المحبّـة الصادقة، والمودة الخالصة، ومن نمـاذجـهِ الأشعار التالية : *12
" يـا بالي نـوصيك ،،، لا تبغـي كون اللّـي يبغيك"
" يـا بالي صبرا ،،، إن مـع العُــسـرِ يُـــسرا
حـبيبي هـنينـا ،،، مـرّة مـرّة فـﮔــــــد فيــــنـــا
وفطي الكتـــمان ... وفقلبي دروك يبــــــان
لا تظـــــلمــوني ... إن الحـــب كالجـنـــــون
وقت اللي يتكـلم ... تمنيت عـــــليه نسلّـــــم
* وتـؤكّـد دليلة حيّـاوي، إن إسم " التبراع " يعــود إلى مـا تتـبرّع بـهِ المرأة على الرجل، وتـهـديه إيّـاه، من تعابير الشعر عـن عشقـهـا ولوعـتـهـا واشتيـاقهـا تجاه مَـنْ تميلُ إليـه . *13 .
وأشارت الشاعرة " خـديجـة لعبيدي " إن التـبراع، يمكن أن يعالج مختلف الأغراض، وإنّـه " حسب رأيهـا " شعـر وإبـداع، والمعروف عـنه أنّـه يتكوّن من " شطرين " الأول ، يتضمّـن " خمس متحركين" والشطر الثاني، من " ثمان متحـرّكين " ( والمتحرك هـو الحرف . خ . س )، وهذه ميزة التـبراع في الشعر الحسّـاني، والذي يختلط فيه بيتـان بـ " 5 و 8 متحرّكين " .
* وهـناك نـوع من الــتــبراع، يتكوّن من " ثمانية / ثمانية " ونوع آخر يتكون من " أربعـة / أربعـة " / ومثــالُـهُ : *14
" يـا مـولات التـسـبيح ،،، إعـطيني نسبّـح ونـــريــح "
" يامــــولات النــيلــــــــــه ،،، إعـطـيني منّـــــك شـــيلـــه "
" يامــــــــــولات الـــردّات ،،، مـا نـك كيف المطـربـات "
* وتشير الأستاذة " عـــزّة " إلى " أن التـبراع يمكن أن يستخدم في أيِّ غـرض، إلاّ أن الأغلبيـة ترى " أن التـبراع لـه خصوصية أساسيّـة هي " التـغــــزّل بالرجل " رغم أن هُـناك بعض الرجال أصبحـوا ينظمون التـبراع، الأمـر الذي يعـتبر خـرقاً للـقــاعـدة الأصلية، التي جاء هـذا النـوع من أجلهـا . *15 .
* يتّـضح من هذه الآراء والطروحـات المغـاربيـة، والتمثلات الشعرية، التي جئنـا على ذكـرهـا ، تتـقـارب من شعـر الـدارمي العـراقي في الأمـور التـالية :
1- أنهـا تنظم من قبل النساء، دون ذكر لإسماؤهـنّ .
2- إنهـا تعتـمد على " بيـتٍ واحـدٍ " يتكون من شطرين، بعكس الدارمي العراقي، والذي يتكوّن من بيتين وأربعـة أشطر.
3- كِـلا النمطين من الشعر يعـتـمـد على " إيقـاعية وزنية مُـحـدّدة " .
4- إن شعر " التـبراع " ظلّ محافظـاً على عـائديته للمـرأة، ولو أن " بعض الرجال " بـدأوا النظم فيه، بينما الدارمي العراقي، بـدأتـه المرأة واستولى عليه الرجل بكل قوّة، وانتـزعـه إنتـزاعـاً منهـا .
5- إن شعـر التـبراع، هـو غـزل المرأة بالرجل، بينما في العراق، تـبدّل الحـال، وأصبح شعر الدارمي هـو شعر الغـزل بالنساء .
6- إن شعر التـبراع، يكاد يكون منحصراً في البيـئة الصحراوية، دون الوصول والنزولِ إلى ضواحي المُـدن والأرياف، بعكس الـدارمي العراقي، حـيث غـزا كل الأمـاكن الجغرافية في العراق، إن كانت مُـدُنـــاً أو أريـافـاً أو صحاري .
7- يتقارب جـداً " شعر التبراع " مع شعر الـدارمي، بـأن كليهـما شعر اللّـحظة الإبــداعية المُـرتجـلة .
8- كـلا النوعين من الشعر، يُـلحّـن ويُـغـنّى، لكـن " التـبراع " ظلّ في البيئة الحسّـانية الصحراوية، بينـما الدارمي، سطى على كلّ أروقة الغـناء العراقي .
* * *
ب - مسـالـة أصـل الـدارمي !
* في رحلة البحث الطويلة، التي قام بهـا د. هاشم العقابي، للبحث عـن أصل الـدارمي، فيـمرُّ في " تـاريخ الحِـداء " ، يحاول جـاهـداً أن يجـد " آصرة لغـوية " بين الحِـداء وشعـر الـدارمي، ولكنه عبثـاً يحاول إيجـاد تلك الصلـة .*16
* كما يتوقّـف د. هاشم العقابي، مع مقالى الأكاديمي السوري د. خـالد الحـلبوني، وبحثهِ المنشور في " مجلة جامعـة دمشق " حـول قول " عُـليّـة بنت المهـدي " لشعرٍ غـنتـهُ جارية أمام الرشيد، تقول فيه :
" بُـني الحُـبُّ على الـقـهــرِ فـــــلـو ،،، عـدلَ المحـبوب يـــومـاً لَسـَمـج
ليس يُـستحسَنُ في حُـكم الهـوى ،،، عـاشِـقٌ يطلبُ تـأليف الحُـجج
والخبر يعـــزوه د. خالد الحلبوني إلى مصدره الأصلي " الجـاحظ - في المحاسن والأضداد ". ولم نجـد أيّـةِ رواية في هـذا الصدد، صدرت عـن الجـاحــظ أوغيره *17 ،
* كما أن هُـناك " تحريفـاً في البيت الأول والثاني، وقد صححـنا ذلك، على ماجاءت بـهِ " رسالة القُـشيري - في التصوّف " لأنـها هي الأصل في " تفسير الآية الكريمة " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهـم وأموالهـم بـأن لهـم الجنّـة " *18 ،
وبكل تلك المباحث، لم يـهــتدِ العـقابي إلى وجـود صلة، يهـتدي بهـا للـربـط بين " الـدارمي " وبين الثقافة العربية، ولذلك هـو لم ييـأس من البحث في إيجـاد " جـــذر " لهذه الكلمة، ولذلك راح يبحـث عـنهـا في " قـواميس " اللغـة العربية، ولم يهـتـدي إليـهـا كذلك . *19
* ومن ثُـمَّ شَـدّ العقـابي رحاله إلى " تـاريخ سـومر" وراح يبحث فيه عـن أصل تلك المفردة " الـدارمي" . وفي " محاولة يائـسة " راح العقابي يعتـمـد على مفردات شعبية، يعتقد أنـهـا جاءت من " القـاموس السومري " لا سيما مفردة " الـﮔــــوالات " مُـنطلقاً من بعض آراء بعض الباحثين الأجانب، الذين بحـثوا في " السومريات " والتي ذكــرت " غـناء الـﮔــــوالات " والتي تُـسـمّـى " Gala - ﮔــالا " معتـمداً في ذلك على تـأكيدات الباحث العراقي في السومريات د. فوزي رشـيد ، والذي يؤكّـد على أن " هُـناك نـوعين من المغـنيّن هُـما " نــــار Nar و ﮔــالا Gala " والأخير مختص بالنواح والمـراثي، وبـأن النصوص السومرية، كشفت عـن نـوعٍ من الألحـان الحزينة، أُستخدِمـت في الـمـآتـم وفي إحياء ذكر الموتى، لا تختلف عـن تلك التي تستخـدمهـا " العَـدّادات " في أيّـامـنا الحالية " *20 .
ثم يحاول د. العقابي، المسكَ برأس الخيط الذي يوصله إلى غايتـه في البحثِ لإيجـاد صِـلـةٍ بين مصطـلح " الـدارمي " وبين مُخلّـفات الثقافة السومرية، فـراح يجول في معـاني كلمة " ﮔــالا " والتي تعني " الكاهـنة المغنية " مـروراً بـإسم الشاعرة والمغنية الأولى في الحضارة السومرية " إنـــهـــدو آنـا " En - Hedu - Ana " إبنة المـلك سـرجون الأكّـــدي، ووصولاً إلى " الـﮔــــوالة " أو " المُـلايـة " ومـا يعتري هـذا المُـصطلح من تعـدُّدٍ للأغـراض الدينية والشعرية والغـنائية، حتى أنّـه يعـتـقـد بان " ﮔــــوالة " المعاصرة، هـي ذاتـهـا " ﮔــالا السومرية " *21
وقـد نسى د. هاشم العقابي ، بـأن " قاموس المفردات السومرية" ومـا تركه على لُـغــة أهـل العـراق، قـد تطرّق إليه الباحث الكبير في السومريات د. طـه باقر، بكتابٍ سَـمّـاه " الـدخيل على معجم اللّـغة العربية " ولم يـذكر من قريبٍ أو بعـيد، أيِّ صلة بين " الـﮔــــوالات وكلمة " ﮔــالا السومرية " هـذا أوّلاً، وثانيـاً أن د. طـه باقر أو د. فوزي رشيد أو غيرهـم من الباحثيت العراقيين الضالـعين في السومريات، أولم ينتـبهـوا إلى " كلمة دارمي " العراقية المعاصرة، وعـلاقتـهـا بالثقافة السومرية، وهـما على دراية كافية في الثقافة السومرية والثقافة العراقية المعاصرة، ولو كان هُـناك أيّـةِ بارقة بهـذا الصدد، لـكانـا إلتفتـا إليهـا، فالدكتور طـه باقر كتب " مقـدمـةً في أدب العـراق القديم" " ومـن ترثنـا اللّـغوي القديم " ما يُـسمّى في العربية " بالدخيل " وكذلك كتب د. فوزي رشيد، عِـدّة كتب ودراسات مهمة في الثقافة السومرية، كان من أهـمـهـا كتابيـه " قـواعـد اللّـغـة السومري، وقواعـد اللّـغـة الأكّـدية " وغيرهـا من كتب التراث والتاريخ السومري والبابلي والأكّـدي، نـاهيك عـن دراساتـه ومقالاته المختصّـة مثل دراسته الهامة عـن " الغـناء في العراق القديم" وغيرهـا الكثير من الدراسات والبحوث .
ولا أعـتقد أن مثل هـذين الباحثين الكبيرين، تَـمُـرُّ عليهـما " كلمة دارمي" ويمُـرّان عليهـا دون تـدوينٍ وتـدقيق، وهـما عـاشقان للُّـغـة والآداب العراقية القديمـة .
* وفي الفقرة " ثـانياً - مؤشّـرات تخص شعــر الدارمي " في كتـــابه الآنف الذكــــر، ص 115 ، سـعى د. هاشم العقابي، لإثـبات أن " شعر الـدارمي، وفق تقطيعـهِ وطريقة نطقـهِ، ولذلك بات " عِـنـده " أي عـند العقابي، بـات من غير الممكن إثـبات أو نفي، وبالتالي وجود أو غياب ، وزن للـدارمي، في الإرث المتـوفّـر بين أيـدينـا من الشعر السومري " !؟
ونحن نعتقد أن هـذا الأمر بعـيد جـداً من حيث " عـودة الأصول " لشعر الـدارمي إلى الجذور السومرية، فـالدارمي عـمرهُ لا يتجـاوز أكثر من 150 سنة، كما اشرنـا في الفصول الأولى من هـذا البحث، هـذ أولاً، وثانيـاً ، لم نعثر في الشعر السومري والبابلي نظـامـاً شعريّـاً يُـقـام أو ينظم على " البيـتين " وفق تقطيعـة وزنيـة، ذات إيقاعٍ مُـدوزن، فالشعر في حضارة وادي الرافـدين، يمكن الـولوج إليه من خـلال " الشعر البابلي " نظمهُ شعراء العراق القديم ، باللّـغة السـامية، لأن معرفتـنا باللّـغة البابليـة، وشعرهـا أكمل وأوفى من معرفتنـا بالشعر السومري، ذلك لأن الباحثين المختصّـين مازالوا غير مُـتأكّـدين من لفـظ الكثير من الكلمات السومرية، على الرغمِ من معرفتـنا بمعـانيهـا، ولذلك لا يمكن الوقوف على أوزان الشعر السومري، بحسب معرفتـنا الراهـنة، كما يقول د. طــه بـاقر . *22
* وفيما يخص " نفـي د. هاشم العقابي " لـوزن الـدارمي، ومـا وصل إليه من شعر السومريين، والذي جاء مترجمـاً عـن لغته الأصلية، وهـنا " كما يقول العقـابي : من البـداهـة القول أن الشعر المترجم، في أغلبه، إن لم نقل كلّـه، يفقـد الكثير من روحهِ الأصلية ومناخه الحسّـي المُـتمَـثّـل باستعاراتـه " *23
* وهـذا الطرح، يتـنافى كُـليّـاً مع خاصيّـة الشعر البابلي، والذي يـتـأسّـس وفق الأصول التـالية :
1- وجـود الإيقـاع الخـاص أو الـوزن العروضي " Meter - Rhy thm " .
2- إتّـبـاع نظام خـاص في تـأليف هذا الكـلام الموزون، من حيث تقسيمهِ إلى وحـداتٍ صغيرة، وضم هـذه الوحـدات، في مجموعاتٍ أكبر منـهـا، كـالبيت والبيـتين والأربعـة أبيـات والقصيدة .
3- إنتقـاء مفردات لغوية بلاغية خاصةـ أي مـا يُـسمّـى بـ" الألفـاظ الشعرية " من حيث الجرس اللّـفظي والمعـنى، بالنسبة إلى مقـاييّـس اللّـغة التي ينُظم فيهـا الشعر، ويدخل في هـذا تركيب خاص في الكلام، يختلف عـن الإستعمالات المُـتّـبعة في النـثــر .
4- الموضوع والمحتوى، الذي يتناوله الشعر والتعبير عـن ذلك بتعابير مؤثّـرة في السامع والقارئ .
5- أمّـا المبدأ الخامس، وهـو القـافية - Rhy me " فلم يُـلتـزم بـهِ في شعر حضارة وادي الرافـدين، فكان هـذا الشعر، سواءٌ كان سـومريّـاً أو بابليّـاً، مـوزونـاً، ولكـنـه غير مُـقـفى . والقافية على مـاهـو معروف، ليست من الشروط الأساسية في الشعر، فهـناك أنمـاط من الأشعار العالمية، القديمة والحديثـة، لم تلتزم بالقافية، مثل : الشعر اليـونـاني والعِـبراني واللاّتيني، وما يُـسمّى في الأدب الإنجليزي " بالشعر المُـرسل - Blank Veres " مثل شعـر شكـسبير . *25
6- أمّـا بالنسبة للـوزن الشعري، في الشعر السومري والبابلي، فالعروض فيه قـائم، حيث يعتمـد الوزن في الشعر البابلي، مثل أشعار الأمم الأخرى، كالشعر العربي واليونـاني واللاّتيني، وعلى مـبدأ " تجزئـة الكـلمـات " إلى " مقاطع - Syllables " والتي تتـناوب بين المقاطع الطويلة والمقاطع القصيرة، أي بحسب العَـروض العربي " الأوتــاد والأسـباب " والتي أساسهـا الحركة والسكون، وفي بعض الأشعـــار الأخــرى " النبرات " أي التشديد أو التخفيف، وبجمع عِـدّة مقاطع ، يتـألّف ما يُـصطـلح عليه في الشعر العربي " بـالتفـعيلات " أو مـا يُضـاهي " Foot " في الشعر الإنجليزي ، ثم يجمع عِـدّة تفعيلات فيتكوّن " شطر البيت " وعلى هـذا الشكل جاء إلينا الشعر البابلي . *26 .
* ثمـة إشارة تـاريخية في " شعر الحُـب " يستشـهـد بهــا د. هاشم العقـابي في ص117 على أنـها " قصيدة الحُـب الأولى في العالم" والتي ذكرهـا " صموئيل نـوح كريمر"*27 هي بالأساس كانت قـد نُـظمت بمناسبة " عرس رابع ملوك سـلالة أور الثـالثة المُـسـمّـى " شـو - سين " والتي مطلعـهـا :
" أيهـا العريس الذي يعـــــــشقه قلــبي
مـا ألـذ وصالـك، فهـو حـلوٌ كالشهـد "
حتى تصل القصيدة إلى مخاطبة الملك " شـو - سين " على النحو التـالي :
" يـا سيدي الإلــه، وسيدي الحـامي
يـا شو سين، يـامن يَأسُـرُّ قلب أنـليـل " *28 .
* وهـذا الشعر البـابلي بعـد " مضاجعـة الملك للعروس الإلهـيّـة " والتي تُـمثلهـا " الكاهـنة العُـليا، أو أيّـة كاهـنة من الطبقات العـليا، حيث تُـقـدّر هـذه العروس، بصفـتهــا مُـمـثّـلة للآلهـة " أنـــانـا - عشـتار " مصائر البـلاد وأقـدارهـا، وإحـلال الخصب والخير والبركـة فيهـا" .
بمعنى أن القصد الذي ذهـب إليه د. هـاشم العقـابي، ليس هـو القصد الذي جاءت من أجله القصيدة، وهـو الإلـه الملك " شـو - سين " . بمعنى آخر، أن الحـالة الشعرية ، تشير إلى " الـزواج المقدّس" وطقوسهِ الخاصة التي كانت تقام في ذلك العهـد البـابلي . *29 .
* في محاولتهِ القوية والأخيرة، يتجّـه د. هاشم العقابي إلى إيجـاد " رابطةٍ مـا " بين الدارمي والشعر السومري، سـاحبـاً ظلال المقارنة على الغناء السومري، وتشابهُـاتهِ من الغناء الجنوبي العراقي، المعـتمـد على " الدارمي " متّخذاً من قصيدة " أيهـا العريس الذي يعشقه قلبي " والتي أشرنـا إليهـا في الصفحات السابقة، نقطـة إلتقـاء بين غِـنائهـا، وغناء الـدارمي ، في أغنية المطرب " عـبد محمد " والتي يـــبدأ مطلعهـا بـــ " عـيني ومي عيني ،،، يعـنيّـد ييــابـه ،،، تسوه هلي وكل الـﮔـــرابـه - يعنيّد ييابـه" معتمداً على مسألة " التكرار لبعض اللّـوازم الفنية المتكرّرة" واحدة من أبرز الملامـح السائـدة في الغناء الشعبي - السومري " ص 120 - 121 . ويبني على هـذا التشابـه، إسـتـنـتاجاً يقول فيه :( إن عـثورنـا على أهـم خـاصيتين من خصائص الـدارمي، يعطينـا دلالـة مهـمة على احتمالية وجـودهِ في ذلك الأدب، لـــكنهـا غير قطعية ) ص 121 .
وأزاء هـذه النقطـة، نحنُ نعتقـد باستحالة هذا التشابه بتلك القـرآئن، بين الشعر السومري وشعر الـدارمي، لأن اللّـغة السومرية، بموازينـهـا وإيقـاعاتـهـا وشكلهـا وتاريخهـا ولفظهـا، يختلف بالكلّـية عن محمولات الدارمي ، لغـةً وإيقـاعـاً ووزنـاً، وبـذا تكون هذه المقارنـة، ليست بالتي يعـتــد بهـا. حتى أن د. هاشم العقابي نفسه يقول : " أنهـا غير قطعية" ويضيف إليهـا عبارة " يصبح البحث عـن اللّـفظ " دارمي" في قواميس اللّـغـة السومرية، وما إذا كان معنـاه اللّـغوي يتطابق أو يتّـسِـق مع المفهـوم الثقافي الذي نعرفهُ عـن الدارمي، نقطـة حاسمة وجوهـرية في هذا البحث " ص122
بمعنى آخر، بقيت أمام هـاشم العقابي نقطة أخيرة في هـذا البحث، للـتدليل على التطابق التاريخي والفني والمعنوي، بين لفظة " دارمي" المعاصرة ومعـناهـا في القاموس السومري في " غـزل البنات " وهي المقولة الأساسية في بحث العقـابي كلّـه، والتي يدافـع عـنهـا بحماس، دون كـلل، ولذلك " ينزلق إلى البُـعـد اللّـغوي" في أصل الكلمة، منطلقـاً من أن " هـناك الكثير من المصادر، تـؤكّـد إستعمال العراقيين للكثير من الكلمات السومرية، والتي تـدخل في " اللّـغة المحكية العراقية " . ويعـتمد على بعض المصادر على " أنّـه توجـد أكثر من خمسمائة كلمـة، إطّـلع عليهـا د. هاشم العقابي، وتـأكّـد من صحّـتـها " ص 122 ، مستخدمـاً مثالاً " كلمـة لـولـو- LuLu " والتي تعني باللّـغة الإنجليزية " ether - or " أي " إمّـا ، أو " في اللّـغـة العربية، وهي مـتداولة جداً في اللهـجـة العراقية، بشكل واضح، وكذلك كلمة " خَـشِـل" أي المجوهـرات ، وهي نفسهـا في القاموس السومري " kuŠla " وكذلك إسم نبتـة بقولية تُـسمّـى " ﮔــوﮔــلّـه " وهي نفسهـا عند السومريين بنفس اللّـفظ والمعنى " gakkul " وغيرهـا من الكلمات " ص122 .
وعلى ضوء ذلك، يقول د. هاشم العقابي " لذلك لا يُـعـد من باب البدع أو الوهـم إفتراض أن ، لفـظ دارمي ، قـد وصل إلينـا، كما وصلت تلك المفردات التي ذكرناهـا في أعـلاه" ويضيف " ومِـمّـا يعـزّز قولنا أننـا لم نعثر على معنى كلمة " دارمي" في القواميس العربية ، يعكس مفهـومـهـا عـند العراقيين " ص122 .
* دقيقة هذه العبارة عـند د. هاشم العقابي، بـأن قواميس اللغـة العربية، لم تتطـرّق إلى هـذه المفردة " الـدارمي " . وبتقـديرنـا، أن السبب الرئيسي في عـدم إدراجـهـا في القواميس العربية، هـي خلو مكانـهـا ومعانيهـا ورسمهـا، في الثقافات التاريخية التي مـرّ بهـا العراق وغيره من البلدان العربية، كالثقافة البابلية والأكدية والآشورية والآرامية وغيرهـا ، ولم نعثر عليهـا في المراحل التاريخية قبل الإسلام وبعـده، في الشعر أو في اللغة أو في النـثر، أو في التــــداول للموروث الشعبي، والذي بـدأ يجـد لـه أرضاً في الحالة الثقافية في العصر العباسي . *30 هـذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن أغلب " المدونـات الشعرية للأدب الشعبي، في كافة المراحل المذكورة، لـم تـأتِ على ذكره، كمـا أن الكثير من الشعراء المعروفين في العصر العباسي، كـتبوا بعض أشعارهـم في " العـامية" مثل بشار بن بـرد، وأبو الشمقمق، وإبراهيم الموصلي، وأبو نـؤاس، وغيرهـم . *31 فلو كان للـدارمي حضوراً معروفـاً ومتداولاً، لمـا أخطـتـهُ أعين الشعراء المذكورين، والنُـقّـاد ومؤرخي الأدب، ولذلك لم يكن له حضوراً في معاجم اللّـغة العربية، وكـذلك لم نجـد مصطلح " dar - mi " في قاموس اللّـغة الأكـدية - العربية ، في " حرف- D " من ص 101 - ص 116 . *32 . مع ملاحظة، أن اللّـغة الأكـدية، كانت تُـكتـب بالخـط المسماري، وعلى ألـواحٍ من الطين، فضلاً عـن إستخدام مـوادٍ أخرى كالحجارة والمعـادن والأحجار الكريمة وغيرهـا .
واللّـغـة الأكـدية " لـهـجتـان رئيـسيـتـان" هُـمـا : البابلية والآشورية، وقـد ظلّـتـا سـائدتين، حتى أصبحت اللّـغـة الآرامية هي اللّـغـة الرسمية في الشرق الأدنى والقديم، عِـندهـا إقتصـر إستخدام اللّـغة الأكدية على " طبقة الكهـنة " في المعـابد، وللأمور الدينية فقـط . *33 ، ومن هـنا نفهـم أن غـياب مفـردة " الـدارمي " أنهـا لم تكن قـد وُلدت بعـد حتى دخول الأتـراك إلى العراق عـام 1534 - 1920 م .
* يـبدو أن د. هـاشم العقابي، قـد تـأثّـر كثيراً بطروحات الباحث الأكاديمي - الأمريكي " Gell Ignacel " وكتابه " Kkadian Inscriptions in " والمطبوع في " Chicago Natural History Museum - 1955" ، حيث أن العقـابي كثير الإشارة إليـه، وهـذا الرجل الأكاديمي - الآرشيفي ، لا أعتقـد أنه يعرف " اللّـغة العامية العراقية" وكان إعتماد العقـابي على هـذا الباحث في " إشارتـهِ إلى لـوحٍ طيني قد كتب عليه كلمة " dar- mi " ولكن صعب على المنقبين تـرجمة اللّـوح، لأنه كان بحالة سيئـة جداً، ومهتـرئ، ولم تبقى مـنه غير كلمـات مبعثرة، منهـا كلمة " dar- mi " والتي ذكرت مرتين، وفق إشارة " Gell Ignacel" في كتابه المذكور أعلاه . *34
* يصر د. هاشم العقابي على السير في " المغامرة الفكرية لـديه " من أن الـدارمي من جـذورٍ سومرية، حيث كان يعتقد أن كلمة " hay - mi " والتي تعني = غرفة البنات " مُـستـمِـدّاً معناهـا من كتاب : نساء في الشرق القـديم - Women in the Ancient Near East " للباحث " مارتن ستول - Martten Stol " حيث بعتقد هذا الباحث أن مصطلح " بيت النساء - hay- mi " والذي يتكون من مقطعين ، ومعناهـا " هـي - mi " و " غرفة- hay " أي " غرفة البنات ، لتمييزهـا عـن غرفة الأولاد، في البيوت السومرية " *35
ومن هذا المعنى ، بنى د. العقابي إستنتاجه من أن " كلمة - dar - mi " وفق المراجع السومرية" والتي يؤكّـد العقابي أنـه قـد تحقّـق منهـا عند الباحث " ستول " في كتابة المـار الذكر . *36
* ثم يضيف ، بعض المقاربات، حتى يصل إلى قنـاعـة بأن " الـدارمي " هـو غـزل البنات " وعلى ذلك - وفق ما يرى - تكون كلمة " دارمي - dar - mi " من أصلٍ سومري، لأن معـناهـا يتطابق تماماً، معنى المقطع الثاني من تسمية " غـــزل الـبـنــــات " * 37 .
* وبتقـديرنـا، أن كل هـذه " التـأويلات والإفتراضات " والتي جاء بهـا د. هاشم العقابي، لا تصل إلى حقيقة كـون " مفردة دارمي " هي من أصول سومرية، ولا أعتـقد أن الباحثين العراقيين في مجال " الآركيولوجـيا " والمنقّـبين في التراث السومري، وعلماء اللّـغات القديمة يمكن أن يهـملوا مثل هذه المفردة ، وخصوصاً د. طـه باقر، الذي وضع لـنا " الدخيل على معجم اللغة العربية " والذي ذكر فيه مفرداتٍ كثيرة من أصلٍ سومري، وكذلك د. فوزي رشيد ، وهـو الآخر ، وضع لنا واحداً من أهم الكُـتب اللغوية لقراءة التراث السومري وهـو كتاب " قـواعـد اللّـغة السومرية " *38 ، كما أن له بحثـاً هـامـاً ، بعـنوان : " الغـناء العراقي القـديم " منشور في مجلة " آفـاق عـربيـة - العـدد 3 - ص82 " ، ومن المنطقي جـداً أن يكون الغـناء العراقي القديم ، قـد عرف الكثير من أنـواع الغنـاء، لا سيما الأغــاني الحزينة، والأغـاني الـدينية، حيث كان المغـني ، يُـدعى بالسومرية " نـار - Nar " وبالأكـديـة - Naru " وهـو متخصّص في إنشاد الأغـاني الدنيوية، والثاني يُـدعى بالسومرية - ﮔــالا - Gala " وبالأكـدية - Kalu " وهـذا متخصّص في إنشاد الأغـاني الدينية الحزينـة .
وأعـقد أن " الـدارمي " أصدق ما يكون ، عـندما يكتب بـهِ تعبيراً عـن الحـزن والفراق، وهـو بهـذا المعنى، يجب أن يكون " موظّـفاً في الغـناء السومري القديم" ولكن كل الباحثين السابقين والمعاصرين، في الغـناء العراقي، لـم يُشيروا مطلقـاً إلى وجـود " الـدارمي ، في التراث السومري أو البابلي أو الأكـدي، حـتى هـذه اللّـحظة.
* وبتقـديري ، أن د. هاشم العقابي، لم يُـحـالفـه الحـظ في العثور على ضـالّـتهِ ، في هـذه الناحية، رغـم الجُـهـد الكبير والواضح الذي بذلـه لتحقيق ما يصبو إليـه، ولكن لكلِّ مجـتهـدٍ نصيب .
* * *
ج - ثمـة إشكالية أخيرة يُـثيرهـا د. هاشم العـقابي في كـتابه " غـزل العـراقيّـات " ألا وهي " فـرز الـدارميات النسوية " والتي وردت في " الفصل الخامس من الكتاب من ص131 - ص 138 ، حيث أنّـه يشير فيه إلى " إجـراء مقارنـة نقدية بين الـدارمي الأُنـثوي والدارمي الذكوري " بغية فـرز الشعر النسوي عـن الرجولي" حتى أنّـه وضع، في نهاية الكتاب / مُلحـقـاً / يخص الإستفتـاء الذي أجراه أو طرحـه على الكثير من الشعراء والكُـتّـاب وغيرهم ، وقـد طرحَ " 275 بيتـاً " من الدارمي، وأخضعـهـا لمقياس " Likert " الثلاثي، والذي يُستخدم لقياس البيـانات الوضعية، وإعـطائهـا قيمـاً رقمية، حتى تكون مناسبة للتحليل الإحصائي. *39 ، وأخضع كل تلك الأبيات لمعادلة ثـلاثية الإجـابة، وفق المعـيار التـالي :
* أعـتقـــد - وتحسب لـهـا 3 نقاط
* لا أدري - وتحسب لهـا 2 نقطة
* لا أعتقد - وتحسب لهـا 1 نقطة
وحين راجـعنا بـدقّـة، تلك الأبيات الشعرية من الـدارمي، وجـدنا أن هـذا المقياس، لا يصلح إطـلاقـاً، كمعـيار ذوقي للشعر ، لأنـه مبنس على " قيمة حسابيـة - رقمية، وليس على قيمة فـنيّـة ذوقية، لهـا علاقة بالشعور، فليس كل مقياسٍ حسابي، يمكن أن نقيس بهِ " الـذائقة الشعرية " باعتـبار أن الشعر، كـمال اللّـغة، أي أن اللّـغة لا تملك أن تصير لذاتـهـا، أو من أجـلهـا ذاتـها، أو أن تبلغ قيمـتهـا إلاّ في بُـنية شعرية جليلة وحسب، والقصيدة العظيمة ، لا تُـذعـن للتـلخيص، دون إنتقـاص من ثـرائهـا أو مـن قيمـتـها . *40
والإخـلاص الروحي، كما يقول " وُرد زورث " هـو معيار دائم للشعر الخالد، ولا خـلافَ على أن الصدق والإخـلاص إسمانِ لشئٍ واحــدِ .*41
وبهـذا المعنى، يكون النظر إلى الشعر، ليس رقمـاً في جـدولٍ إحصائي، يُـنظر إلى رجحـان كـفّـة قياسه الكمي، لهـذا الطرف أو ذاك ، لصالح المرأة أو لصالح الرجل، ولذلك يتوجّـب بالـناقـد الأدبي، أن يكون شـديـد الحيـويّـة والحسّـاسية، مُـرهـف الـذائقـة، عميق الغـور، ذو بصيرة ثاقبة، ومن شـأنـه أن يرتـكن إلى طبعـهِ أكثر من أن يـرتـكن إلى ذهـنه، وهـذا يعني أنـه قـادر على إعـفاء نفسهِ من الإلتزام بأيِّ منهـجٍ ، مُسـبق الصُـنع، أو بـأيّـةِ نظرية جـاهـزة الصياغـة، إذ لا يحكمه إلاّ التـوقان المنهـوم، والنازعِ صوب الإلتقـاء بالحيـويّـة والنظارة الراخمتين داخل النص، كما يقول الناقـد الراحل يوسف سامي اليوسف . *42 .
وبهـذا المنظور النقدي، يمكن أن ننـظر إلى المقارنـة الشعرية في الـدارمي بين الجنسين" الرجل والمرأة " ، لآ أن نُـخضع ذلك إلى " مقياس رقمي " يتجاوز حالة الشعور الحسّية في نظم الشعر، وبهـذا يكون " المقياس الرقمي - Likert " لا يصلح مطلقاً للإستفتاء على الشعر، للأسباب التي ذكرنـاهـا، هـذا أولاً، وثانيـاً ، إن الكثير من أبيـات الـدارمي، إستولى عليهـا الشعراء، وانتزعـوهـا من حضن النساء، بحكم " الثقافة الأبوية " البيطريركية " المسيطرة، والكثير من الأبيـات المذكورة في الجدول، الأغلبية فيهـا للرجال، رغم أن " محمولاتـهـا ومعانيهـا " قـد تكون تحكي عـن حـالة المـرأة ومشاعرهـا، ولـنـأخذ على سبيل المثال، الـدارمي الذي استخدمـه د. هاشم العقابي في ص 204 ، وهـو معروف في الذاكرة الشعرية - الغنائية عِـنـد العراقيين، والذي يقول :
" أرد أشـلـــــــع الـدلاّل ،،، لهـــــــواي أوديــــــه
وبعـينه خَـلّــه يشوف ،،، هجره اشعمل بيه "
* والقـائل لهذا البيت - عـندي - هـو رجـل، بكل امتياز، نظراً لـوجود أكثر من مفردة، ذات مـدلولٍ نفسي، تشير إلى أن القائل رجل، منهـا : أرد أشلع - هـذه المفردة فيهـا قوة الإصرار والفعل ، وكلمة " لهـواي " وهي شائعـة عـند الرجال أكثر منها عـند النساء. وكلمـة " هجره إشعمل بيـه " وهذه الجملة يطلقـهـا الرجــل دون حسابـــــــات : " الوضع الإجتماعي للمرأة " والتي قـد تكون قـد أُجبرت على هـذا الـهـجر. وهـناك أيضاً " الإفصاح" عـن مكامن النفس عند الرجل، للبـوح بهـا، بينمـا لا تستطيع المرأة فعل ذلك .
* كما أن مسألة " تعميم الإستفتـاء " على هـذا الكم من عامة الناس، لا يعطي الجواب الصحيح. إن مثل هـذا الأمر، يجب أن يُـستفتـى بـهِ " النُـقّـاد والشعراء الكِـبار" ذوي الحساسية المفرطة، ومن يعـون قول النفس في ذاتـهـا .
* * *
..............................................................................
* الإحــالات والهـوامش للفصل العاشر : مـلاحـظـات وردود .
1- د. هاشم العقابي - غـزل العراقيات ، ص6 ، مصدر سابق ,
2- عبد الرزاق الربيعي - الأفغـانيّـات يمـلأن جرارهـن شعراً ، مقال منشور في جريدة عُـمان - زاوية " هوامش ومتـون " بتاريخ 5/ مـايو / 2018 .
3- المرجع السابق - نفس المكان .
4- نفسه .
5- د. هاشم العقابي - المصدر السابق - ص7 .
6- خديجة الفتـحي : التـبـراع ، غـزل نسائي بالرجل - مقال منشور في موقع " العربية نـت " بتاريخ 29 / أبريل / 2014 .
7- المرجع السابق - نفس المكان .
8- نفس المرجع السابق .
9- نفسه .
10 - نفسه .
11- د. هاشم العقابي - غزل العراقيات - ص7
12- رسالة خـاصة من د. دليلة حيّـاوي ، حول ذات الموضوع .
13- 14- 15 - نفس المصدر السابق .
16- د. هاشم العقابي - غزل العراقيات - ص 95 - 97 .
17- الجاحـظ : المحاسن والأضداد - طبعة بيروت، مكتبة العرفان، ونسخة مكتبة المصطفى - على الـنت .
18- سورة التـوبـة - الآيـة رقم 111 .
19- د. هاشم العقابي - غزل العراقيات - ص97 - 101 .
20- د. فـوزي رشيد : الغـناء العراقي القديم - بحث منشور في مجلة " آفاق عربية " العدد 3 - ص81 - 85 لعـام 1977 .
21- د. هاشم العقابي - المصدر السابق - ص 106 - 107 .
22- د. طـه بـاقر : مقدمة في أدب العراق القـديم - ص71 - مصدر سابق .
23- د. هاشم العقابي - المصدر السابق - ص 115 .
24- د. طـه بـاقر - المصدر السابق - ص72 .
25- د. طـه باقر - المصدر السابق - ص 72 - 73
26- المصدر السابق - ص 72 - 73
27- نفس المصدر السابق - ص237
28- نفس المصدر السابق ، ونفس المكان .
29- راجع تفصيلات أكثر عن " الزواج المقدّس" عـند طه باقر - المصدر السابق - ص238 - 239 .
30- د. خيرالله سعيد : دراسات في المـوال العراقي - ص10 ، منشورات الثقافة الشعبية للدراسات والبحوث والنشر - البحرين - ط1 - إبريل 2014 .
31- د. رضا محسن القريشي: الفـنون الشعرية غير المعربة - 1- المـواليـا - ص21 - 23 منشورات وزارة الإعـلام العراقية، بغـداد 1976 - السلسلة الفولكلورية - 10-
32- د. علي ياسين الجبوري : قـاموس اللّـغة الأكـدية - العربية ، حـرف " D " من ص 101 - ص116 ، منشورات هـيئة أبو ظبي للثـقافة والتراث، فهـرسة دار الكتب الوطنية - 2010
33- المصدر السابق - ص5
34- د. هاشم العقابي - المرجع السابق - ص123 .
35- المرجع السابق - ص124 - 125
36- نفس المرجع السابق - ص 125
37- نفس المرجع السابق .
38- د. فـوزي رشيد : قـواعـد اللّـغـة السومرية - نشرة صفحات للدراسات والنشر- دمشق2009 - . كما أن لـه مقالاً هـامـاً بعـنوان : " هـل الشعر الشعبي وراثـة " نشره في مجلة " التراث الشعبي العراقية " في عام 1982 .
39- د. هاشم العقابي - المرجع السابق - ص180 - 202 .
40- يوسف سامي اليوسف : القيمة والمعـيار - ص104 - 105 منشورات دار كنعان - ط2 دمشق 2003 .
41- المصدر السابق - نفس المكان .
42- نفس المصدر السابق - ص79 .
* * *








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل