الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمثّلات الفاسدة عن الفلسفة

حنضوري حميد
كاتب وباحث في التاريخ

(Hamid Handouri)

2022 / 10 / 9
سيرة ذاتية


لا زلت أتذكر الدرس الأول في الفلسفة، بعد انتظار طويل، الذي دام سنوات في مرحلة الاعدادي، كانت المرحلة عبارة عن شحن مسبق وتوجّه سهام الاتهامات للفلسفة ورفض لادغ دون معرفة مسبقة عن لبّ رسالتها الوجودية. التقاط أفكار مشتتة، وحوارات العقيمة وغير الناضجة، ونقاشات السطحية. كلها زرعت في نفسي حقد وكراهية وبغض واحتقار للفلسفة والتفلسف. حوار مع ناس العوام الذين لا يفهمون معنى الحقيقي والجوهر الشيء، هكذا تكون النتيجة. تلقين المعرفة الخاطئة وترويج الأفكار الفاسدة وضرب في المبادئ التفلسف والفلسفة ومحاولة اقصائها كفكر ومنهج. لأن في اعتقاد الناشئة أن الفلسفة ضد الدين والثوابت والمعتقد.
كنت أتبنّى كل ما يروّجه العوام وخطباء المنابر حول الفلسفة على أنها مادّة كافرة غير لائقة أن تدرس، تظلل عن الدين وتضيع الوقت وتشكك في الحقائق ولا تجدي نفعا، ولا تقدم شيئا إضافيا للكون ولا للإنسانية . الفلسفة هراء والترهات وكثرة الكلام ...هكذا ينظر إليها هؤلاء المنتفضون ضد العقل ومتطبعون مع الجهل بإصدارهم أقولا ويقوّلونها ما لا تطيق، ويحملون ما لا تحمل في جوهرها من الرسائل الفلسفية، بدون أن يعرفون حتى مدلولها أو معناها أو محتويات المدرجة فيها، كمحاور للمناقشة سواء في الكتب المدرسية المنهجية أو كتب القراءات الحرة.
الايدلوجية الدينية، تجعل نفسها في مركز الكون، وتقدم نفسها على أساس أنها الأصل والباقي تقليد، الحقيقة والباقي نسبي. زرعوا فينا منذ الصغر كراهية مسبقة ضد الفكر الفلسفي بالنقاشات عقيمة ومعرفة السطحية، وبرهنوا لنا أن الفلسفة ضد الثوابت الدين، تنكر وجود الخالق وتشكك في الوحي وتنتقد الأحكام الالاهية والمورث الديني . كنت أضن أن الفلسفة ضد الحقيقة الثابتة، وضد الوحي والقانون الديني... وأن الفلسفة عبارة عن السفسطة والكلام الفارغ والهراء وتلاعب بالكلمات والمفردات حتى يصبح المعنى معقدا.
دخلت إلى القسم معبئا بمرجعية راديكالية، مشحنا بأفكار خاطئة وأحكام مسبقة وتمثلات فاسدة وسلبية. جلست في الطاولة الثالثة من الصف الثاني، دخل الأستاذ بوزرته البيضاء وعمّ الهدوء، ألقى تحية السلام، وطلب منا أن نخرج كتبنا ودفاترنا، وأنا جالس أحمل الحقد الدفين والكراهية تجاه الأستاذ والمادة، انصدمت لما سمعت السلام وأنا في حجرة الفلسفة، كنت أظن أن ما يناقش في دروس الفلسفة كله سب وشتم وكسر لقواعد الآداب، كنت أعتقد أن من يدرس الفلسفة أو يدرّسها كلهم ملاحدة ولاّدينيين ، ولهذا أنتظر الأستاذ على حرّ من الجمر، بعد أن كتب التاريخ الحصة على السبورة ، أن يكتب على جانبها الأيمن وبخط سميك " الله غير موجود" أو "أن الذين هراء وأساطير الأولوين" ، لكي أضربه بالحجارة التي كنت أحملها في المحفظة خصيصا له، وأقضي على السفسطة التي تشكك في الذين ، وينتهي التهافت ونجعل حدا للعقل لصالح النقل، ويكون هذا الدرس الفلسفي هو الأخير، وتكون النصرة للأفكار السطحية والخرافية، ونكرس الفهم البسيط والأفق الضيق.
طال انتظاري وطالت المدة ومرت سنوات ولم يكتب الأستاذ شيئا عن هذا الأمر، من الدرس الأول من الفلسفة آخر يوم في الثانوية. أحسست بالذنب وخيبة أمل، وظلم تجاه العلم والمعرفة، لم أنتصر في المعركة الفلسفية، مستنداتي ضعيفة في المواجهة، وفي مقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل، كانت هذه المعركة أولى انهزاماتي، والنقطة الأولى في مراجعة أوراقي وإعلان الثورة ضد التقليد والموروث الشعبي السلبي وكل ثقافة سمعية التي لا تستند إلى الدليل.
بدأ الأستاذ شرح الدرس، يطرح أسئلة دقيقة وأكثر عمقا وتعقيدا على ما أفتكره، أسئلة تنسلخ على ما هو ميتافزيقي لتناقش ما هو واقعي ومهم وذو أولوية، وضروري أن يعرف معرفة دقيقة. ماهي الحرية؟ ما هي العدالة؟ ماهي الديموقراطية؟ أسئلة في الصميم وغاية في الأهمية، زوبعة ذهنية في بناء الدرس وفي فهم ما يجري في الواقع المعاش. لم يسأل قط عن أسئلة ميتافيزيقيا غيبة ولا عن الذات الإلاهية ولا عن عرش الرحمان هل استوى ولا عن الجنة ولا النار. كان مُركزًا على ضرورة فهم الواقع من أجل النهوض به، وطرح الإشكالات نقاشية التي تشكل معضلة ورهانات للدولة. أما الذين فلم تعطى له أهمية ولا أولوية من قبل الدرس الفلسفي ولم يكن الدين في قلب النقاش ولا في متن المنهج ولا في ثنايا كتب الفلسفة، ثلاث سنوات من دراسة الفلسفة ولا يوما تحدث أحد الأساتذة عن الإلحاد ولا الزندقة ولا بثورة ضد المعتقد. كان همهم الوحيد هو تربية على التفكير النقدي ودراسة الأشياء بشكل أعمق والحث على تجنب الأحكام المسبقة وتلفيف التهم وضرورة إطلاع على أكثر من المقاربة ودراسة الموضوع من زوايا عدة والابتعاد عن المرجعية الأحادية.
الدرس الفلسفي أشمل وأكبر أعمق من هذه التمثيلات الغبية، والتي لا علاقة لها حول ما يدور باللب الفلسفة ولا بالثقافة الإنسانية ولا بالقواعد المنطق ولا العقلانية الرزينة . تأكدت حقّا، أنني فعلا كنت أعيش نوع من الغباوة والحقارة والجفاف الفكري والفقر العلمي والتقصير في العقل، ومحالة قبر ودفن هذا الأخير دفنا معنويا وحقيقيّا. كنت سأصبح مجرما في حق الحكمة، وكنت سأعدم سقراط معنويّا بعد أن عُدم بشرب السمّ، كنت سأرتكب جرما باسم الدين ضد الفلسفة، وأسجن العقل لصالح الوحي، وينتصر التخلف على صالح الوعي. دائما أحاول أن أتوب عن خطئتي وأعتدر للفلسفة وأطلع على كل أشياء وأكتشف بنفسي دون استهلاك للمعرفة الجاهزة، وتمنيت الان لو وجدت شخصا يجهز عليّ على رأسي بتلك الحجارة التي كنت أحملها في محفظتي لأقدف بها الأستاذ، لكي أستفيق من جهلي المركب . ولهذا صدق سقراط في قوله" "إني لا أعلم إلاّ أمرًا واحدًا فقط، وهو أنّي لا أعلم شيئًا" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط