الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخوض في أرض موحلة .. ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 10 / 12
الادب والفن


نبيلة .. فتاة تزهو بسنواتها العشرين ، وهو أفضل عمر عند الفتاة .. فهي وحيدة أهلها ، ومدللة أبيها .. جميلة ومتعلمة ، ووالدها من أشهر سياسي الصدفة في العراق ، وسُراقه ، والمال يجري وفيراً بين أصابعه بعد نجاحه في عقد عدة صفقات مشبوهة رفعته الى مراتب لم يكن يحلم بها ، وأول شيء عمله هو شراء شقة فاخرة في شارع الشانزليزيه في قلب باريس ليكون محلاً لاقامتهم عند مجيئهم الى أوربا للاصطياف ، والهروب من فصل الصيف اللاهب في العراق .. !
— بنتي .. انك تفقديني صوابي ، نحن ننتمي الى مجتمع شرقي محافظ .. ارجوك لا تندفعي كثيراً في الحياة التي تعيشينها على حل شعرك هنا في باريس ، وفي غيرها من مدن أوربا .. هناك فرق وفرق كبير ..
والفتاة تقلب في تلفونها المحمول ، وهي تبدو في شغل شاغل عن أمها غير مبالية بكلامها .. تتطلع اليها ولا تراها .. تكمل الأم في عصبية :
ولعلمك اذا استمر الحال هكذا سأقول لأبيك أن نتوقف عن المجئ من الان فصاعداً الى أوربا ، وأن يبيع هذه الشقة ، واليوم لن يكون هناك خروج ، وكفاية تسكع وسهر ولعب مع هذا الرقيع دومي .. !
— يستحسن أن أغادر ..
وتغادر نبيلة فعلاً ، وهي تحبس دموعها ، وتضرب رجلها في الارض .. تكاد أن تنفجر غيظا من أمها .. رغم انها تعرف أن كل كلام أمها ليس سوى همس في أذن أطرش .. لا يقدم ولا يؤخر ، فأمها هي صاحبة فكرة شراء الشقة في باريس ، وهي صاحبة فكرة التصييف في أوربا ، وهي من تخطط للهجرة الى أمريكا عندما يحين الوقت ، والاستقرار نهائياً هناك ، وهي من ترسم الخطط ، وهي من تنفذها ، وعلى الجميع السمع والطاعة ، وهي لا تستطيع أن تقضي يوماً واحداً في حر الصيف في العراق ، وما أبوها سوى بيدق هزيل بيد أمها تحركه كيفما تشاء .. وما كلامها هذا سوى تهديد فارغ وهراء .. !
تخطو نحو غرفتها .. كأنها تسير في حلم … وتختفي داخلها .. تلتقط الگيتار ، وتجلس على السرير .. تحتضنه ، وتعابث أناملها أوتاره ، فتنطقها أنغاماً هادئة لا محددة .. تتوقف فجأةً .. تتأفف .. يملأها الضجر والملل .. وتقول :
— أف .. لقد سئمت الحياة في صندوق القمامة هذا .. !
ثم تقذف بالگيتار .. تحيط اذنيها بسماعتين ، وتستلقي على فراشها ، وتضع يديها تحت رأسها ، وتستمع الى دفقات من موسيقى البوب ، ورأسها يتلوى كالافاعي مع إيقاع الموسيقى الصاخبة .
يرن هاتفها المحمول بنغمة غريبة كأنها صراخ .. لا تسمعه فهي غائبة في عالم بعيد آخر .. تنزع السماعتين ، وتلقي بهما على السرير ، وتهم بالخروج .. يرن الهاتف من جديد .. تلتقط التلفون وتجيب :
— آلو .. أهلاً دومي .. لا أستطيع أن أحادثك الآن ، فالعيون مسلطة علي اليوم .. انها أمي .. صبراً حبيبي .. سأتصل بك عندما تعود الأمور الى سابق عهدها ..
تلقي بالتلفون في جيب سروالها .. وتخرج .. تستقبلها أمها ، وهي تتفحصها بنظرات ثاقبة :
— الى أين .. ؟
— ليس الى مكان .. سأمر على جارتنا مونيك ..
تتأفف الأم ، فهي تعرف أي نوع من الفتيات مونيك هذه ، وكم هي منحلة .. !
— أبوك على وشك الحضور .. لا تتأخري ..
تخرج وصدرها يضيق بأنفاسها ، وهي ترتدي ملابس فضفاضة تشبه الملابس التي يرتديها مغنوا الراب ، وتضع أساور من عاج وخرز حول رسغيها ، وسلاسل من فضة وذهب حول عنقها ، وخزامة صغيرة تخترق انفها ، وشعرها مقصوص بطريقة غريبة !
منذ أن بدأت الاسرة تقضي الصيف في باريس ، وتتسكع في أنحاء أوربا حتى حدث ذلك التغيير الواضح على نبيلة ، وقلب كل كيانها .
ومنذ أن أقتحم دومي ( دومنيك ) عليها حياتها ، واعتدى على أعز ما تملك ، وسلبها اياه ببساطة ، وهي تغيب ساعات وراء سيل متدفق من خيال لا نهاية له .. لم تكن تعرف وقتذاك انها ذهبت اليه لتكتب بداية قصتها معه ، ومن يومها ، وهما لا يفترقان أبداً طالما الاسرة تحط الرحال في باريس .. !
يستبد بها شعور المغامرة ، ولا يغادرها ، فهي دائمة التفكير في الهرب من سجن البيت .. من الأبواب الحديدية المغلقة .. من الأم .. هذا السجان المتزمت القاسي ، وأوامره الحنبلية الصارمة ، وهو هروب ليس الى الحرية .. بل الى السقوط لا محالة في الهاوية التي تفغر فاها دوما لمثل نبيلة ، وغيرها من بنات العائلات المنحلة التي فقدت الصلة بجذورها ، وتراثها الاخلاقي ، والمنبهرة بالمتعفن من الثقافة الغربية .. !
قالت الام في صوت يقطر حناناً :
— ابنتي .. حبيبتي .. أنت تعرفين انك الجوهرة الوحيدة التي خرجنا بها من هذه الدنيا ، فان جرى لك شيء ، فهذا يعني نهايتنا أنا وأبوك ، وأنت تعرفين كم هو متعلق بك ، وكل ما فعله هو من أجلك أنت ، واستجابة لرغبتك ، فارجوك لا تخيبي أملنا فيك .. إن حياتهم هنا تختلف عن حياتنا ، فلهم ثقافتهم ، وأسلوب حياتهم الذي يختلف عنا كليا .. لا تجعلي ثقافتهم البراقة تسيطر عليك ، وتنتزعك من جذورك ..
تقاطعها نبيلة ، وهي تصرخ ، وتبدو في حالة هستيرية :
— لا شأن لي بثقافتهم .. اتركيني في حالي أرجوكِ ..
كان ينبغي على الأم أن توجه هذا الكلام ، وهذه النصائح الى نفسها .. هل نسيت ما فعلته في الأشهر الاولى بعد مجيئهم الى أوربا ..؟ كيف اقنعت زوجها - اللاهي هو الآخر بأعماله ، والمنغمس بحياته الخاصة .. يلهو ويخون - أقنعته برغبتها في العمل .. أي عمل ينقذها من الفراغ القاتل الذي بدأ يتسلل الى روحها ، ويكاد أن يخنقها ، فقد ملت التسكع في الشوارع والاسواق والمولات ..
وبعد الحاح منها اضطر الزوج الى الموافقة رغم انه لا يرى ضرورة لذلك ، فالخير وفير والحمد لله .
ووجدت عملاً في أحدى الوكالات الخاصة يتناسب ، ومؤهلها المتواضع ، ومنذ اليوم الاول الذي استلمت فيه الشغل ، والمدير لا ينفك عن مطاردتها في اصرار رتيب ممل ، وبريق الرغبة التواقة تشع من عينيه.. يحوم حولها كما تحوم الفراشة حول الضوء .. يستدعيها بسبب أو بدون سبب .. تحس بعينيه الشرهتين تلتهمانها في شبق .. تتوقفان عند نهديها النافرين ، وتتسللان ببطء الى خلفيتها الممتلئة .. ثم تهبطان الى سيقانها الملفوفة ، كأنه يخلع عنها ثيابها قطعة قطعة ، ويقول :
— إن لكِ جسداً رائعاً .. ورائحة عطرك جميلة .. !
تحملت محاولاته التحرش بها بصبر ، وبصمت جليدي بارد .. لقد سمعت كثيراً عن ظاهرة تحرش المدراء ، وكبار المسؤولين بمن هن تحت رحمتهم من الموظفات ، وحتى العاملات .. لكنها لم تختبر ذلك بنفسها ، وكانت لا تبالي ، وهي تقول بأن نباحه أهون من عضه .. !
وبعد صمود متردد هش لم يستطع أن يثبت طويلاً .. استسلمت لالحاحه ، وسلمته نفسها بعد أن وصل الى مسامعها نيته تسريحها بسبب كثرة تمنعها .. ثم أخذ يطالبها بحقه في جسدها متى شاء ، وكأنه زوجها .. أحيانا كانت ترفض في رفق .. لأنها لا تريد أن تفقد وظيفتها ، فهي بحاجة اليها ، وكثيراً ما كانت توافق ، وتقول انها كانت تجاريه لمجرد انه مديرها ، وليس لانها تحبه ، وعرفت فيما بعد بأنه ذئب جائع شره لا يشبع .. استفرد بمعظم موظفاته ، ونال منهن ، وتواصلت تلك العلاقة الاثمة لأشهر امتص فيها ما شاء من شهدها ورحيقها .
وذات يوم .. بعد أن انتهى منها أراد أن يتركها الى صديقه كما يترك الذئب فريسته بعد أن يشبع منها ، فثارت ثائرتها .. التفتت اليه ، وهي تصيح في وجهه ، وفي صوتها رنة اشمئزاز كأنها تخوض في مستنقع آسن نتن :
— انا لست مومس ، يا حقير .. !
ضاقت ابتسامته ، وقال في برود كأنه يدفع بكلماته كلمة كلمة :
— هكذا تجري الأمور عندنا .. عزيزتي .. إن الأمر لا يستحق هذا الصراخ .. إنها مجرد علاقة عابرة ، وما دمتِ لا تأخذين ثمنها ، فانتِ لست بمومس .. هكذا ببساطة .. !
شعرت بالاشمئزاز والقرف ، وتأكد لها بأن الرجل هنا يغيّر المرأة ، والمرأة تغيّر الرجل كما يغيرون فردة الحذاء .. أشاحت بوجهها في غيظ واحتقار ، ثم التقطت حقيبتها وغادرت ، وهي تتعثر ببقايا عار جسدها المهان ، ثم استقالت من عملها ، وعادت الى بيتها منتَهكة .. تفوح منها رائحة الخيانة الثقيلة !
واليوم .. تحاضر ابنتها في القيم والاخلاق كالعاهرة التي تتحدث عن الشرف ، وتنظِّر فيه .. ربما تريد أن تشدها بعيداً عن صخب هذا العالم لتحميها مما وقعت هي فيه !
تمر الايام ، والصراع لا يزال محتدماً بين الارادات ، فتقرر الأم أن يعودوا الى العراق بأقل الخسائر كما تقول رغم أن الصيف في أوله ، وكفى الذي جرى لهم .. ترفض نبيلة طبعا اقتراح أمها ، وتختفي فجأةً في ضجيج الحياة ، ومسالكها المجهولة ، وعندما تكتشف ألأم اختفائها تجرى نحو الدولاب كالمجنونة ، فتجد جواز سفر ابنتها ، وحقيبة جلدية منتفخة بالأوراق النقدية قد اختفيا .. تتهاوى على أقرب مقعد .. عاجزةً عن مغالبة حزنها .. تحتوي رأسها بكلتا يديها ، وهي تبكي وتولول :
— يا ويلي.. ويا فضيحتي .. ماذا سأقول لأبيها والناس .. ؟ نبيلة .. ابنتي حبيبتي .. أين أنتِ .. ؟!!
( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس