الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكرات مهاجرة - البحث عن الذات

دينا سليم حنحن

2022 / 10 / 12
الادب والفن


مذكرات مهاجرة - قصة قصيرة
البحث عن الذات
دينا سليم حنحن

قررتُ الخروج من صومعتي، اشتقتُ إلى الخضرة والزهور، وألوان الطيور، اشتقت إلى الناس، قررتُ ترك سيارتي في المرفأ وأذهب إليهم في القطار.
خرجت والتقيتهم، وكأني أراهم لأول مرة، ما أجملهم! بحثت عن أشياء فيهم لا أعرف كنهها، كانت وجوها عامرة بالحيوية والنشاط ، أتوا من حيث اتجاه النهر المتدفق دائما، فالنهر هنا مصاب بالعشق أيضا، واستقلوا حركة الأوتوماتيك، يصغون، مثلي، إلى حركة العجلات.
تترنُح السّاق المتكئة على الرُكبة الأخرى كردة فعل لحركة العقل، ففعلت مثل الشابة أمامي، رفعت ساقا على أخرى لكي ينشط عقلي، فصارت تروح وتأتي بحرية، والقطار يعبر من محطة إلى أخرى، يُنزل ويٌقل الناس، هناك من يستقله وحيدا، وأخرى تستقله مع زوجها، رأيت خاتم الزواج قيد إصبعها، وفتاة تستقله مع شاب رياضي، على الأغلب أنه صديق الدراسة، ومسنة تستقله مع طفلة، ربما تكون حفيدتها، وأنا استقله وحدي لكي أبحث عن أشياء أضعتها، أو ربما هي التي أضاعتني، دفنتها ودفنتني!
جلستُ في النافذة، تذكرتُ (عمر) حتى أني تلفظتُ باسمه، تعلقتُ بحبال الشرود، ضحكة طفل أيقظتني من شرودي. خلف المقعد كتب أحدهم كلاما جميلا:
" دوّني يا ميريتا حلمنا الجميل"!
حلم منتصف النهار ربما يكون أجمل! قرأتُ المكتوب بحجم حزني، مررتُ عليها عدة مرات كمن يحاول الوصول إلى تحقيق المكتوب، كانت العين عيني، والكلمات قيد ثغري، وضعتُ ذكرى اللقاء في حالة يقظتي وركضتُ بها إليه، ربما أنا المقصودة، قلت في سرّي، أنا ظمأى، أشعر بعطشي، كل الماء لا يكفيني!
جلستُ على مقعد أخضر اللون في محطة القطار الرئيسية، التهمتُ قسمات وجوه المارين مثل جائعة دهر تحتفل على موائد الأمراء، استنشقتُ الحياة عبر أنوف العابرين دون أن يدروا، وبدأ صراع الأجيال يمر أمامي، السمين، الجميل، القبيح، الطويل، القصير، الذي يعرج، وذو المشية المتراقصة والعادية، العاري، المحتشم، المهرول، الضائع مثلي، الشاحب، الممتلئ حيوية، الأبيض، الأسود، الصعلوك، الملتزم، الملتحي، الحافي، الممشوق، المتأني والمهمل...و...
لم يكن هناك حضور ظاهر للأطفال وبراءتهم!
اتخذتُ قرارا هاما، أن أبقى طوال النهار حيث أنا وأمارس عملي في مراقبة المارة، أردتُ أن أشبع منهم، مروا من أمامي بدون انقطاع فمررت بدوري على تقاسيم وجوههم وأجسادهم، وما يحملونه داخل أرواحهم وعقولهم، استجوبتهم وحللتُ شخوصهم، لم أتنكر لأحد منهم، وكأني أعرفهم جميعا، بدوا جميعهم أصدقائي، هم معارفي ويتمسكون بصداقتي، شعرتُ بذلك، بادلوني الابتسام فصرّحت لهم بحبي لهم، لقد بدأتُ أحب الحياة... لا أحد منهم يشبه (عمر)!
تتبدّل أمامي شاشات المعلومات المرصوصة عاليا، وصوت الموظفة من مكان مجهول يغمر المكان تعلن عن وصول القطارات وكذلك عن موعد القطارات المغادرة. بحثتُ عن القطار المتجه نحو منطقتي، خمس دقائق وينطلق، ترددتُ النهوض، كرهتُ العودة، قلت لنفسي ببعض التأنيب:
- إن لم ألتحق به فسأنتظر ساعة إضافية حتى موعد القطار القادم.
جثمت مكاني كجثة هامدة تصارع آخر دقائق في حياتها، دقائق كانت كفيلة بإعادتي إلى الحياة، فبقيت.
لم أنم ليلتي، أحاطني (عمر) بذراعيه، كنت عارية تماما، غمرني بشلال من القبلات الجميلة، وجهه الجميل يسكن قلبي، وصورته لا تفارق خيالي، خطر على بالي أن أبادر بالحديث هاتفيا، كي أقول له كلمة واحدة أريد أن أقولها له طوال حياتي...
- أحبك! لكني تراجعت.
كنت معه حاضره بابتساماتي التي آرقته، ولأول مرة خلال لقاءنا الوحيد، كنت حاضرة بجسدي معه، يصلني صوته وكأنه حاضرا بجسده أيضا أمامي، غزتني الأفكار غير آبهة، أسأل نفسي عنه وأتمنى أن يسأل نفسه عني، أحسست بحبه، اخترق شغاف قلبي، وأتسائل:
- هل ما يزال يحبني يا ترى؟
لكي يصل المرء إلى مرحلة الإعجاب، ثم العشق، فذلك لأننا نحمل في طياتنا المكتومة أحاسيس جميلة، وتجارب حيوية، وحياتية تؤثر في الآخر، وربما أيضا، الوضع المقلق السائد في حياة كل شخص فينا، بداية من غرفنا الخاصة بنا، إن كانت لنا غرف خاصة، ونهاية بالأنظمة، ومرورا بالمجتمع بكل أشكاله واشكالياته.
- لا أريد أن أتذكر أننا افترقنا بعد اللقاء! قلتُ بصوت هامس.
عدت في اليوم التالي إلى المحطة، يشدني قلبي إلى هناك، جلست في المقعد الأخضر، تماما حيث جلست قبل يوم من الآن، وبدأت أراقب الناس، أمضيت ساعة من الوقت وأنا انتظر الوهم، أنتظر خيال رجل من المستحيل أن أجده هنا، لكني انتظرت رغم كل شيء.
يد تربت على كتفي، يد رجل، لا أعرفها، التفت نحوه، ابتسم وقال:
- سيدتي، إن تريدين الانتظار يمكنني الانضمام اليكِ، فأنا أيضا أنتظر حبيبة غائبة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا