الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العاشرة عشقا- الرواية كاملة

ريتا عودة

2022 / 10 / 12
الادب والفن






إهداء:

إليك فارسي-
أنتَ لم تُضِىء قلبي
أنا،فقط، إنَّما الكَونَ كلّه.











-1-
-سرطان!
نزلَ عليَّ الخبرُ كما لو أنَّ السماء أطبقت على الأرض. تمنيتُ لو أغادر المسشفى.لو أهرع إلى الحديقة، لأصرخَ بأعلى صوتي:
لماذا أنا بالذات يا ربّ؟
تمنيتُ لو أبكي بدموع جميع نساء الكون...!
تمنيتُ لو أجرؤ على طرحِ بعضِ الأسئلة على الرحمن:
لم لا تأخذ إليكَ الأشرار والزناة والسكارى بدلا منّي أنا!! ألستُ أنا النّقيّة.التّقيّة. التي تحبّك وتحيا حسب مشيئتك!
أم أنّك مجدّدا تختبر إيماني من خلال صبري!!

*
حدّقتُ في عينيٌ الطبيب كأنّه هو الملوم، وحدّق بدوره في عينيِّ كأنّه يعتذر لكونه صار جلاّدي.
حشرج صوتي وأنا أسأل:
- كم بقي لي من الأيام...؟
-شهور.
-والأوجاع؟!
- بعد فترة، عليك التوقّف عن الكلام. مكان الورم في رقبتك سيخنقك.
شعرت أنّ جسدي صار ثقيلا جدًّا، كأنّني تمثال من حديد لا أقوى على جرِّ نفسي.
في هذه الغرفة القاتمة رأيت شبح الموت المخيف. أتى ليقبض على روحي.

*
في طريق عودتي إلى البيت، رأيتُ أوراق الخريف تتطاير في الهواء أمامي. هذه الاوراق الصفراء، فقدتْ انتماءها للشجرة فانفصلت عنها وراحت الريح تتلاعب بها: شرقا. غربا. شمالا. جنوبا.
أخذت الأفكار تنهش رأسي:
أأنا ورقة شجر انفصلت دون إرادتها عن الشجرة، أم أنا الشجرة؟!
أأنا قطرة مطر تدفّقتْ نحو بحر. أم أنا البحر. ؟!
إلى متى تتلاعب الريح بالورقة؟
أين سوف تستقر. متى. كيف. لماذا...؟
أسئلة. أسئلة...
صار رأسي خليّة نحل تطنّ. تئنً. تَرنّ...
*
وصلت البيت. فتحتُ الباب ودخلت. ما زلتُ وحيدة. أحيا (مقطوعة من شجرة) كما يُقال.
بعدما توّفى أبي وأمي في ذات الأسبوع من ذات الشهر قبل سنة، صارت الوحدة ضيفتي الوحيدة، هنا.
صارت تأكل من طعامي وتشرب من مائي.
صارت تعرفني أكثر من نفسي.

*
أخذت فكرة الموت تستحوذ على أفكاري.
هل سيأتي شيطان ليستلم روحي أم ملاك أم شبح؟
هل شكله مرعب كما نراه في الصور: قرد أسود بقرون مخيفة!
هل سيقبض على عنقي حيث الورم ويخنقني.
لا. لا..
ارتعبتُ
ما زلت في الثلاثين من عمري.
أخذتُ أرتعش... الدموع تغسل روحي والجسد...يدي ترتجف. لساني جفّ.
فجأة، من ضعفي انتفضتُ. لا أريدُ أن أموت...!

سأغنيّ لأنتصر
أمامَ ضعفي
لا. لا.
لن أنكسر...!

يجب أن أقود أنا أفكاري ومشاعري ولا أدعها تقودني.
يجب أن أتخلّص من الطاقة السلبيّة التي اكتسحتْ أفكاري وأخذتْ تُسَيِّرُ مشاعري كأنّها خرفان تمشي أمامَ راعي!
سأملأ رأسي بطاقة ايجابيّة تُنعشني وتُحييني.
*
قفزَ وجهه من قمقم الذاكرة: خالد!
حبّي الأوّل والأخير...
قبله لم يكن حبّ وبعده لن يكون وإن افترقنا فحبّه في القلب باقٍ.
أبي صادر حبّنا بعدما عثرَ على دفتر أحلامي بين دفاتري وكتبي، فقرأ أفكاري دون أن يستأذنني. يا له من طاغية!
*
لا ندري كيف، وجدنا أنفسنا كقطرتيّ مطر تتدفقان جمبا إلى جمب نحو البحر.
دونما برق. دونما رعد.
عشقته وعشقني.
هدَّدَنا والدي بالقتل إن التقينا ثانية في مكتبة البلدة حيث كنّا نلتقي طلابا وطالبات من شتّى المدارس بعد الدوام المدرسي لنقرا أو نكتب أو ندرس.
منذ ذلك اليوم المشؤوم لم أعثر لخالد على أثر.
علمت من أصدقائه أنّه سافر خارج البلاد. يبدو أنّ أبي قام بتهديده.
وهكذا، اختفتْ أخباره.
عشتُ اثنتيّ عشرة سنة أراه يوميًّا في أحلامي. أُحدّثه عن أوجاعي. أخبره أنّني منذ افترقنا قررت ألاّ أرتبط عاطفيا ولا جسديا بأيّ إنسانٍ آخر.
أبي اضطهدني بسبب هذا القرار. لكنّني لم أتنازل عن حقّي في تقرير مصير ارتباطي العاطفي.
*
تذكرتُ عيناه وهي تبثّ لي نشرته العاطفيّة كلّما رآني.
منذ أحببته جعلت قلبه معبدي فرحتُ أطوفُ حوله بفرح وقداسة.
"ما عرف العشق قلبا إلاّ وجعله مقدسا".
*
استيقظتُ منَ غيبوبة الذاكرة على صوت قرع الباب. بتثاقل، سرتُ نحوه. وقف أمامي ساعي بريد شاب. ابتسم بخبث وهو يسأل:
- أأنت ليلى...؟
- نعم.
- تفضّلي. لك رسالة.
- أنا؟ ممن؟
أشارَ بسبابته على ظهر الظرف وهمسَ: خالد.
*

لعلّ شبح الموت يأتي حين يأتي. يجدني عاشقة ...فيعتقني.
رنّم قلبي:

خالد. خالد.
يا ملاكي الحارس.
يا عشقي.
أين أنت، وأين أنا فيك؟

يظهر انه عاد من خارج البلاد بعدما علِمَ بوفاة أبي.
*

نظرتُ إلى ساعة الحائط.
لا...لم تعد وحيدة.
ها العقربان يلتقيان.
تمام العاشرة عشقًا، أشرقتُ... فقد امتلكتُ الكونَ كلّه.
*
هرعتُ إلى البحر القريب من بيتي في حيفا.
جلستُ بطمأنينةِ طفلة عثرتْ على أمّها بعدما تاهت ساعات في السّوق العام، حيثُ جميع النساء متشحات بالثياب السوداء ذاتها.
قرفصتُ فوق الرمل. وفضَضْتُ الرسالة.

*

ليلى البعيدة القريبة.
منذ زمن بعيد لم ينتابني مثل هذا الشعور. من أول حديث بيننا شعرت بك انسانة مختلفة، دخلتِ قلبي بلا استئذان وكأنّنا كنا على موعد منذ ألف عام... لو أتيحت لي فرصة الحديث مع الله. فقط سأوجّه إليهِ سؤالا واحدا: لماذا لم ألتقيكِ منذ عشرين أو ثلاثين عاما؟؟ أيّ حكمة للربّ أن يؤجل لقاءنا إلى هذا الوقت المتأخّر كثيرا؟؟
خفتُ من الاستمرار. أعرف نفسي جيّدا. لا أريد الاندفاع إلى النهاية. دائما حصلتُ على ما أريد. غامرتُ بكلّ شيء كي أحصل على ما أريد. حتّى بحياتي. كنت -زمان-أريدك أيتها الحيفاوية. أضربت عن الزواج. أصررتُ أن تكون رفيقة دربي حيفاويّة. تأخذني لأعيش بقيّة عمري في حيفا. لم أنجح. لعلّه الفشل الوحيد في حياتي. خائف أنا الآن. لم أعُدْ في سنّ تسمح بالمغامرة. لكنّ نداء حيفا القديم عاد ليلحّ عليّ بقوّة. ماذا أفعل؟
ليلى. اعذريني لو لاحظت ترددي وربما خوفي. أنا انسان نفسه كالطقس مزعزعة. لكن ثقي دائما أنّكِ وحدكِ نصفي الآخر. نصفي الجميل.
قد أغيبُ عنكِ يومًا. أسبوعا. شهرا. لكنّني دائما سأعود إليكِ لأنّكِ الآن قطعة من القلب...لا تغضبي منّي أبدأ. أرجوكِ احتملي -بصبر-مزاجيتي أحيانا، وحزني أحيانا أخرى وهروبي من نفسي ومن الآخرين في بعض الأحيان. هل تحتملي منّي ذلك ؟؟ سأعود إليكِ مهما غبتُ عنكِ.
الفترة العصيبة التي أمرّ بها الآن بسبب وفاة زوجتي في حادث سير أنا سببه تجعلني مضطربا وقلقا. أتمنى أن تحتملي منّي أيّ شيء يصدر عنّي الآن. سأكون. سنكون بخير. وعشتِ لي.








-2-
انتفضتُ كعصفورٍ بلّله مطرٌ مباغت!
صارَ قلبي طبلاً يقرعه شبحُ الغِيرة بجنونٍ صاخب.

خالد تزوّج! يا للخيانة!
كيف لي أن أصدّق. كيف لي أن أحتمل هذه الطّعنة؟!

كيف استطاع أن يرتبط بأنثى سواي؟ وهذه الرسالة المفخّخة التي لا أدري أهي اعترافٌ عشقي أم دليلٌ على خيانته لجنينَ حبّنا!
نهضتُ من مكاني.

يجب أن نلتقي لأطرحَ عليه هذه الأسئلة التي تكاد تنفجر بي أنا وكأنها حزام ناسف.
*
اتصلتُ بأخته وسألتها عنه. أخبرتني إنّه عاد من فرنسا قبل أسبوع، بعدما تعرَّضتْ سيارته لحادث سير أودى بحياةِ زوجته.
(زوجته!)
انفجرت الكلمة في وجهي.
أخبرتني أنه مشتّت الذهن. يعاني من حالة كآبة. أخبرتني أنه يقضي كلّ وقته بالقرب من البحر.
(البحر!)
شكرتها وأغلقتُ الهاتف.
النيران تنهشني.
خالد مصابٌ بالكآبة بسبب فقدها هي!
ماذا عنّي أنا؟!
أكنت مجرد نجم لمعَ في حياته، ثمّ خبا!!!
إن كنتُ لا شيء بالنسبة لقلبه، لماذا إذن أرسل لي هذه الرسالة.
لماذا!!!
*

تملكتني نوبةُ سعالٍ حادّ.
انتظرني يا خالد!
لن أدعك تهنأ ولا حتّى مع (ذاكرة) أنثى سواي!
سآتيكَ لأمزّق ذاكرتك المُثقلة بعطرها هي!
انتظرني يا خالد!
ها أنا في الطريقِ إليكَ.
سيكونُ البحرُ شاهدا على قلبك المُراوغ.
عندما اختفيتَ من حياتي دونما كلمة وداع، لم أعتبْ عليك لأنّ الحبّ كائن مقدّس يترفّع عن العتاب والشّجار. كنتُ على ثقة أنّ والدي قام بتهديدك فأرعبكَ.
بعد سنواتٍ من الفراق، سمعتُ والدي يتحدّثُ في غرفة المعيشة مع صديقه الودود. كالديكٍ نفش ريشه وأعلنَ:
- لو لم أهدده أنا شخصيا بالقتل، لكانا تزوّجا وفضحانا.
ارتاح قلبي عندما تأكَّدت أن هذا الفراق الرجيم كان بسبب والدي فازداد تمسّكي بخالد وازدادت كثافة صبري وحرارة انتظاري لعودته.
كنت مقتنعة أنّه لا بدّ أن يعودَ لحُبّنا ذات شوق، لتكتمل بنا دائرةُ العشقِ.
*
العاشرة عشقا...
خطواتي تقترب من الشاطئ.
نظراتي تبحثُ عنه بلهفة.
أينك يا خالد!

رأيته!
كان يجلسُ على صخرة بالقربِ من الصّيادين.
تسمرتُ مكاني.
عادت بي الذاكرة إلى اليوم الذي عدتُ به من المدرسة للبيت مرهقة فإذا بوالدي يُلَوِّحُ لي بدفتر مُذَكَراتي:
-كيف! كيفَ سمحتِ لهذا النذل أن يُمسك بيدك!
تُخَطّطينَ لفضحنا!
- أنا؟؟؟
تمنيتُ أن أصرخ في وجهه:
- بل، أنت الذي تفضحنا بعلاقاتك الغزيرة مع الزانيات.
أنا حبّي بريء.
لم ألمس يد خالد قط في حياتي.
فقط حلمتُ أنّني...

ونزلتْ صفعةٌ على وجهي: اخرسي!
فارتجفتُ.
لا فائدة من الشرح له.
يزني ويتهمني بالزنى!
عجبًا!
لا فائدة من الدّفاع عن نفسي.
سأصمت.
*
ناديتُه بصوتي المخنوق: خالد!
كنت كدجاجة على وَشَكِ أن تُقطَعُ عنقها.
لم يسمعني.
شهقتُ الهواء داخل رئتيَّ. وزفرته مع نداءِ الحنين الذي اكتسح كلّ خلية في جسدي:

خالد!

*

-3-
لم يلتفتْ نحوي. أعدتُ النّداء:
- خاااااالد.
أخذ قلبي يقرع كأجراسِ الكنائس صباح يوم الميلاد.
آه خالد، لِمَ تصرُّ أن تهربَ ممّا قد يجعلُ اليرقاتِ فراشاتِ حقول.
أنا يا حبيبي قويّة في مواجهتي لِ أعتى العَواصِف.
وجدًّا ضعيفة في حاجتي ل....حنانِكَ.
آه حبيبي، "كُل أنواع الجُنون تدُلُّ على ضياع العقل إلاَّ جُنون الحُبّ، يدلُّ على ضياع القلب".
وأنا اضعتُ قلبي، وفقدتُ بصري فلم أعُد أرى في الكون رجلا سواكَ لذلك لم أعُد أنتظر إلاَّكَ.

*
عندما فقد الأديب غابرييل ماركيز الذاكرة، في آخر أيامه، قال لصديقه الذي جلس بجانبه:
" أنا لا أعرفك. ولكني أعرف أنني أحبّك".
وأنا لا أعرفك يا خالد لكنّني أعرف أنّني أحبّك.

ذاكرة القلب، هل تُنسى!
تراكَ نسيتني!
تراني عشتُكَ وهمًا وقد أتى وقتُ الاستيقاظِ!

*
وقفتُ بالقربِ منه. لم يُحَرِّك ساكنا. لم يقف. لم يُصافحني. لم يُعانِقْني! ظلّ جالسا فوق صخرة!
أهذا هو الرجل الذي عشقتُ أم أنني واهمة!
-خالد. يجب أن نتحدّث.
- لستُ في حالة نفسية تسمح لي بالتحدّث يا ليلى!
- لكن!
تناولتُ الرسالة من حقيبتي. لوّحتُ بها في الهواء وصوتي يزدادُ حدّة:
- أليست هذه رسالتك؟
- بلى.
- قبلَ 18سنة غادرتَ دونَ أن تنبس ببنت شفة. كنتَ تستطيع أن ترسل لي رسالة مع أحدهم لتطمئنني. كنت تستطيع أن تتصلّ لتخبرني عن سبب رحيلك. كنتَ تستطيعُ أشياءَ كثيرة لو أنّك، حقًّا، تحبّني!
- يا ليلى، أتيتِ لتحاسبيني على حبّ منذ 18 سنة!
كنّا أطفالا.
- لمَ ارسلتَ لي هذه الرسالة، إذن.
- كنتُ أعاني من نوبة كآبة. كتبتها فتحررت من الطاقة السلبيّة التي امتلكتني.
- ما سبب كآبتك؟
- أخبرتك أنني فقدت زوجتي "أحلام" في حادث سير. "أحلام" كانت حاملا، لذلك لم أفقدها هي وابني، فقط، إنّما فقدتُ معهما كلّ أمل لي في البقاء في هذه الحياة. صارَ الموتُ هاجسي، بل حلمي.

*
لا أدري أيّة مشاعر سيطرت عليّ وهو يتحدث عنها...!
من وجهة نظر إنسانيّة، أشفقتُ عليه فَقَدْ فَقَدَ رفيقة دربه وابنه/ ابنته في لحظة وكان هو المسؤول عن موتهما.
من وجهة نظر عشقيّة، أشفقتُ على قلبي أنا! هذا الغبي الذي ورّطني بخالد وجعلني أنسخُ من حياتي أيّ رجل محتمل، على أمل استعادةِ حلم العشق يوما ما.
*

تركته هناك، جالسا كشبحٍ فوقَ تلكَ الصخرة التي تشبه قلبه.
أخذتُ أسيرُ في طريق العودة...إليّ.

أُسْدِلَتْ السّتارة على مشهدٍ فوق سريالي. عاد جمهورُ المتفرّجينَ كلٌّ إلى بيته.
هبطتُ درجات المسرح.
كنتُ البطلة الوحيدة لحكاية عشقٍ فاشل. خالد لم يكن، قط، بطلا فيها. كان ضميرا مستترا.
تناولتُ من حقيبتي منديلا وأخذتُ أمسحَ الدموع المنهمرة بغزارة عن وجنتيّ.
*
على باب البيتِ، انتفضتُ على أحزاني.
لا. لا... لن أستسلم للهوان.
التّجربة التي لم تقتُلني سوفَ تُقَوّيني وتُحيني.
سأنتصر.
أمامَ ضعفي
لا. لا... لنْ أنكسر.
*

يجب أن أُطلِق خالد من قرص الذاكرة لأرتاح. أنا.

ها أنا أعودُ إليّ
يرقة تغلّفها شرنقة.
ها أنا أنبثقُ من الشرنقة فراشةً حُرّة من كلِّ قيدٍ وذكرى.
ها....


أنا ...

أطير....
*
-4-
الحياة قصيدة
لكنّها
قد تكونُ أحيانًا
مُتَوَحِّشَة.
*

في زمنِ القهر النّفسي الذي أحيا، أحتاجُ أنا ليلى، ابنةُ الثلاثينَ عاما أنْ أوْقدَ شمعةً في الظَّلامِ كي أبقَى على قيد الحياة. أحتاجُ أملاً اتمسَّكُ بهِ لكي لا أستسلم للضعف فأنهزم في عُمقِ أعماقي. أحتاجُ الحبَّ لكي أنفضَ عنّي قبائلَ الأحزانِ فأنهض كالعنقاءِ مِن رَمَادي.
في زمنِ الخراب النّفسي الذي أحيا، لم أعثرْ على ذاتي إلا في البحر.
بدأتُ آتِي كلَّ غروبٍ إليه.
أتأملُ الشَّمسَ وهي تُسلّم ذاتها للبحر فتغوصُ داخله وأنتعش!



*
*
صرتُ منذُ افترقنا أنا وخالد محكومة بالانتظار.
أظلُّ أتلفَّتَ حولي لعلّي أعثر على حلمٍ ينقذني من ذاكرتي المثقلة بالجراح!
*
هي ذاتي الأمّارَة بالحُبّ التي طعنتني بسهمِ خالد، قبل 18 سنة، سهمًا لم يُدْمِنِي إنّما أحياني!
لكن، أيعقلُ أن أعشقَ مخلوقا لا أعرف عنه أيّ تفاصيل سوى اسمه وكونه يسكن حيًا بالقرب من حيّنا! أيعقل ألاَّ أتحدّث معه ولو مرّة، أيعقل أن أنتظره دهرا دونما كلل أو ملل.
كم كنتُ مراهقة وكم كانتِ النتيجة مُتَوَقَّعَة!!
*
"ما هو الحُبّ".
سألتُ نفسي.
فأجابَتني:
هو لحظة يلتقي فيها نصفا التوأم فتنطلق شرارةٌ تُوْقِدُ المشَاعر في أتونِ العشقِ.
هوَ لحظة انجذابٍ عشقي كونيّ.
كلحظةِ الانجذاب بين المغناطيسِ وقطعةِ مَعْدَن.
هل يملكُ المعدنُ أن يرفضَ هذه الجاذبيّة طالما دخل مجالَ جاذبيّة المغناطيس؟ هل يملكُ المغناطيسُ ألاّ يجذبَ قطعةَ المعدنِ التي دخلتْ مجالَهُ المغناطيسيّ؟!
تَحْدُثُ حالةُ الجاذبيّة العشقيّة دونما استئذان.
تحدث تلقائيا دونما تخطيطٍ مُسبَق.
لا القلب ولا العقل يُمليانِ عليها شروطهما.
هي لحظة التآلف العشقيّ للتوأم.
لكن، إن لم تكن القطعة معدنيّة لن تحدث الجاذبيّة حتّى لو دخل أحدهما مجال جاذبيّة الآخر وذبذباته.
إذن، لكي تَحْدُثَ الجاذبيّة العشقيّة يجب أن يتوفرَ لها شروط أساسيّة كالتناغم في الخصائص بينَ التوأم والتناسُق النّفسي والعاطفي بينهما.
*
راقبتُ الشّمسَ وهيَ تستسلمُ للبحر والنوارس ترفرف. ترفرفُ في وداعِ ملكة السماء.
بحرقة، سألتُ نفسي:
- تُراني سوف أعثر يومًا ما، على نصفي الآخر الذي به وحده أكتمل!
لكن، متى! وأين...!
*
*
*
*
*
*
*


-5-
بدأ الليل يتربص بي.
وقفتْ.
أحسستُ انّ أيّ هبّة ريح قد تكسر ساقي أنا الوردة الهشَّة.
بدأتُ أسيرُ باتجاه المنزل.
القيتُ التحيّة على والدي.
كان يجلس في مقعده المعتاد كما لو أنّه أبو الهول مقرفصا فوق ظلّه.
أردت أن أعودَ لغرفتي لكنّه اعترضَ طريقي:
- تعالي.
اقعدي هُون!
بدّي أحكيك شيء!

شعرتُ بموجة اشمئزاز تسيطر عليّ. أنا لا أطيق هذا الرجل. يبدو لي كالمارد بجثته الضخمة وبطنه المنتفخة وعشقه لإقامة علاقات جنسية خارج إطار الزواج وصمت أمّي التي لا ملاذ لها سواه!
انا لا أطيقُ هذا الرجل الذي جعل حياتنا جحيما بتواجده ليل نهار في البيت. لا أطيق ميله الدائم للشّجار وكأن الشجار لغته الوحيدة.
كم كنتُ أشفقُ على والدتي من جبروته.
والدتي الجميلةُ العينينِ.
كانتْ محطّ أنظار كلَ شباب المدينة.
هي لم تبادله حبّا بحُبّ.
هي أحبّت ابن عمتّها وابن عمّتها أحبّها لكن جدتي سعت لإقصائه عنها فقد كانت تمقت والدته مريم.
ثمّ، سعت لتزويجها من أبي فقط لأنه صائغ.
ضحّت بابنتها لأجل حفنة من النقود!
كتبتْ على ابنتها الشقاء مع رجلٍ ساديّ تلذذ بتعذيبها وافتخر برجولته فأتى لها بالنساء إلى عُقرِ بيتها وكان لا بدّ أن تصمت وإلا كانت الإهانات بانتظارها وأحيانا العنف الجسدي أيضا.
كان يأخذ أخي البكر معه للخمارات.
حين كانا يعودان فجرا وهما يترنحان من الخمر، كانت ما أن تفتح أمّي فمها لتعترضَ حتَى يجلس أبي هانئا في مقعده المعتاد قرب النافذة ويترك مُهمَّة التَّعنيف اللغوي لأخي:
- أِتْطَلَّعي عَ وجهك في المراية.
قال لها أخي ذات عودة من الخمَّارة.
-أنتِ مرَة عجوز بينما أبوي بعدُه في عزّ الشباب. اتركيه يتمتع برجولته.
ما إن أرادتْ أن تدافع عن حقّها الشّرعي في ألاَّ يخونها رفيق عمرها حتّى قبضَ أخي على قيثارته وهوى بها على رأسها.
ترنّحتْ مكانها كما دجاجة طعنوا عنقها بسكين.
هَوَتْ أرضًا.
معها هوَتْ كلّ أحلامي.
في ذاتِ القبرِ الذي دفنوها فيه، دفنوا فرحي.
بدأتُ أحيا جثةً دونما رُوح.
ظلَّ العنفُ ضديّ وضدّ أختي (أمل) التي تصغرني بعدّة أعوام هو خبزنا اليوميّ. لم أجد ملاذا لقلبي المُتعب إلاّ تلك الصخرة. هناك، حيثُ البحر أجلس وأغيب عن هذا العالَم.
قرفصَ أخي بالقرب من أبي. كان واضحا على ملامح وجْهَيْهِما أنّهما أعدَّا لي وليمةً من التَّعنيف اليومِيّ.
جلستُ على الأريكة.
انتظرتُهُ أن يتكلم.
بعد دقائق من الصّمتِ الملغومِ قال:
انتِ صُرت في الثلاثين من عمرك. رَجِعْتك للبيت بالليل بتخلِّي الناس تحكي وتنشر الإشاعات ضدّك.
هوى قلبي.
خُيّلَ لي أنني رأيته يتدحرج فوقَ السُّجادة الحمراء أمامي.
صمتَ جلاّدي وتركَ لأخي أن يُكمل مهمة تعذيبي:
-اسمعي.
أنتِ مش طفلة.
في شاب طلب يدك منّا ووافقنا أنا وأبوي.
حَضّري حالِك للزواج.
هكذا بمنتهى البساطة، وَقّعَا معا على وثيقةِ وأدي!
هل أنا دمية أم بقرة تُباع وتُشترى. ألا رأي لي؟ ثمّ مَن يكونُ ذلك الشهم الذي أتى لينتشلني من بؤرة الخراب هذه؟
سأرفض!
يجب أن اُعلنَ ثورتي على الصّمت.
لا فرقَ عندي بينَ أن أموت الآن أو في أحضان رَجلٍ لا أحبّه ولا أعرف من يكون ولا كم عمره ولا ما أتى به إليّ.
استجمعتُ شجاعتي وقلت بإصرار:
- بديش أتزوج!
وقفَ أخي.
صرخَ بأعلى صوته:
= يا كلبة! بِدِّك تْحُطِّي راسنا في الوحل!
- بديش أتزوج!
كررتُ بإصرار.
تطايرَ الشَّررُ من عينيّ أخي. راحَ أبي يلعنني ويلعن السّاعة التي رآني فيها.
من رمادي كما العنقاء نهضتُ لأدافعَ عن حقّي في الحياةِ بكرامة.
لن أتزوج حتَى لو كان الثمنُ حياتي.
ابتعدَ أخي إلى غرفته وعاد والغضب يتطاير من عينيه فيبث شحنات سالبة من حولي.
هوى بقيثارته الجديدة على رأسي.
دَارتْ بي الدنيا.
وقعتُ مضرجةً بدمائي.
عندما استفقتُ. كنتُ في سرير في غرفة الطوارئ في المستشفى أتلقَّى العلاج. كانت الضَّماداتُ تُكفّنُ رأسي.
كانت رائحةُ دمّي تخنقني.
وكان اخي أمام سريري يتلوّى قَلَقًا.
ما أن فتحتُ عينيّ حتى قال جملته التي أعدّها بإتقان:

(إذا فتحتِ تُمِّك بكلمة. بقتلك).


















-6-
مثل خبزي يأتي أنيني ومثلَ المياهِ تنسكبُ زَفْرَتي!
الذي ارتعابًا ارتعبتُ منه أتاني والذي فزعتُ منه جاء عليّ!
ها هم يُعدّونَ الوليمة لوَأدي.
سيزفونني إلى شبحٍ بعدما اعتقلوني في البيت وأقصوا الجميع عنّي.
كرِهَتْ نَفسي حياتي. أُسَيِّبُ شَكوايَ. أتكلّمُ في مَرَارَةِ نَفْسي قائلةً لله:

"لماذا تُعذّبني.
فَهِّمني لماذا للريحِ تُسلّمني!
يداكَ كوّنتاني وصنعتاني كُلّي جميعا. أفتبتلعني!
أُذكُر أنَّكَ جَبَلتَني منَ الطّين. أفتُعيدُني للتُرابِ؟
ألَمْ تَصُبَّني كالَلَبَنِ وَخَثَّرْتَنِي كالجُبْنِ؟
كَسَوْتَني جِلْدًا ولَحْمًا فنسجتني بعِظامٍ وَعَصَبٍ.
منحتني حياةً ورَحْمًةً وَحَفِظَتْ عِنايَتُكَ رُوحي.
إنّي شبعانةٌ هَوَانًا وناظرَةٌ مَذَلَّتي.
لماذا أخرَجْتَنِي مِنَ الرَّحَمِ؟
كنتُ قَدْ أَسْلَمْتُ الرّوحَ ولَمْ تَرَنِي عَيْنٌ!
دفعتني إلى الأشرار وفي أيديهم دَهْرًا طَرَحتني!
شقُّوا كليتيّ ولَمْ يُشفقوا.
سَفَكُوا مَرَارَتِي على الأرضِ.
خِطْتُ مِسْحًا على جِلْدِي وَدَسَسْتُ في التُّرَابِ قَرْنِي.
احْمَرَّ وجهي مِنَ البُكاءِ وعلى هُدبي ظِلُّ المَوْتِ معَ أَنَّهُ لا ظُلْمَ في يَدي وصَلاتي خَالِصَة.
يا أَرْضُ لا تُغَطِّي دَمِي ولا يَكُنْ مَكَانٌ لِصُرَاخِي.
رُوحِي تَلِفَتْ.
أيامي انْطَفَأَتْ.
إِنَّمًا القُبورُ لي."

*
*
*
في صمتٍ كصمتِ المَقَابِرِ شَيَّعُونِي إليهِ دُونَما زَفَّة.
وَحْدَهَا الغُربانُ أَتَتْ لتكونَ شاهدةً على وَأدي.

*
*
انتقلتُ إلى جُحرٍ يُسمونهُ بيتي.
أقفلَ الأبوابَ والنوافذَ ودفعَ بي إلى سَريرِ الزّوجيّة.
أقفلَ قلبي.
أقتربَ منّي.
قتلتني رائحةُ عَرَقِهِ.
قتلتني الرّغبةُ في عينيهِ السّوداوَيْنِ.
تكَوّرْتُ على ذاتي ك قِطّة.
تمنيتُ تلكَ اللحظة لو أملك الجُرْأة لأستلَّ سكينا وأطعنه في صدره ثمّ أهرب بعيدا، بعيدًا. عن هذا المَصِيرِ المشؤوم.
اقتربَ منّي الخُطْوة الأخيرَة.
بنزقِ المُراهِقينَ مَدَّ يَدَهُ و................... مَزَّقَ ثوبي.
عَرَّاني.
حَتَّى مِنْ أحاسيسي عَرَّانِي.
حَتّى مِنْ كِياني عَرَّانِي.

*
*

صرتُ بينَ يديهِ وعاءً يستعملُهُ كما يطيبُ له. متى يطيبُ لنزواتهِ.
بسطتُ شَعْري الكستنائِيِّ الطويلِ فوقَ جَسَدي واستسلمتُ لغيبوبةٍ...
رأيتُ خالد.
في الحُلمِ أتَى.
لم يحمل هذه المَرَّة فانوسًا في يدٍ وشمسًا في الأُخرى كما اعتدْتُ أن أراه في كُلِّ حُلم.
رأيتُ دَّمعًا مِدْرَارًا يتدفَّقُ كشَلاَّلٍ من عيْنَيْهِ الواسِعَتَيْنِ كبحر.
كانَ يَئِنُّ كَفارسٍ مصلوبٍ على خشبة وحبيبته أمامَ عَيْنَيْهِ تُغتَصَبُ.
رأيتُ مساميرًا عالقةً في كَفَّيْهِ ودما نقيا ينزفُ مِنهما.
أخذَ يُرَتِلُّ لي بصوتِهِ الذي يُشبِهُ خَريرَ مِياهٍ كثيرة:

"إن ضاقِتْ الدنيا قصادِك
رَبِّك يفتَح لك الأبواب."

ظلَّ معي.
يؤنِسُ وحدتي.
يُبَلسِمُ جُرْحِي.
إلى أن انتهَى ذاكَ الجَلاَّدُ مِن عمليةِ اغتصابي.
هذه العملية التي يحقُّ له شَرْعًا ممارستها لمجرد كونه يمتلكُ صكّ عُبوديتي المُسَمَّى: وثيقة زواج.
*
في الصَّباحِ...
فتحتُ النوافذَ المُغلقة جميعها لأستقبلَ النُورَ فينعشني ويمُدَّني بطاقةٍ ايجابيّة تساهمُ في بَقائي على قَيْدِ أمَلْ.
كانَ جلاّدي ما زالَ مستسلمًا بلذًّةٍ للنَّوم.
بحثتُ عن المطبخ وأعددتُ القهوة التي أعشقُ.
تعالى صوتُ فيروز مِنَ الحَيّ:

"أنا عندي حنين ما بعرف لمين."

"حنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــن!
"
دَوَّتْ المُفْرَدَة في رَأْسِي.

ثمّ، ناديتُه :
- فيصل. هيّا انهَض. تجاوزتِ السّاعةُ العاشرة.
فتحَ عينيهِ بامتعاَض.
نظرَ إليَّ والشّررُ يتطايرُ مِنْ عَيْنَيْهِ.
ارتفعَ صوتُهُ كما الرَّعد وهو يصرخ كمن عثرَ على حَشَرَة:
= مَن طلبَ منكِ أن تُيقِظيني!
دَارَتْ بي الدُنيا.
تقهقرتُ.
اختبأتُ داخلَ مَحَارَتِي.
تملّكني الرّعبُ منه.
هو نسخةٌ أخرى من أبي. من أخي. من قدري المشؤوم!
نهضَ منَ السَّرير بتثاقُلٍ.
غطَّى جسدهُ العَاري بعباءَةٍ سوداء...
وصرَخَ بساديّة:

= بتِعْرِفيش تعملي إلاّ قهوة باردة!



-7-
في الغد، لم يأتِ وليد فقد كان آخر يوم في سنة 2000.
طلبتُ من فيصل أن نغادر المنزل لنشاهد الاحتفالات في شارع بن غوريون في حيفا حيث الاحتفالات فوافق.
تنفسّتُ الصعداء. يجب أن أساعد فيصل في تحرير نفسه من العصبيّة ومن قمقم العُزلة الذي حكم به على علاقتنا.
سرنا بين المحتفلين بالعيد تبهرني الأضواء والموسيقى والعُشّاق الذين هيمنوا برومنسيتهم على المشهد.
انقبض قلبي.
تمنيت لو يدعوني للجلوس في أحد مقاهي المكان...!
لو يحضنني...!
لو يقول: أحبّكِ!
طلبتُ منه أن نجلس في مقهى ما فقد بدأتُ أشعر بظمأ شديد وتعبتُ من الوقوف. وافق. جلسنا على باب المقهى المزدحم بالمحتفلين بالدقائق الأخيرة من السنة.
لم يأتِ النادل إلينا فقد كان مشغولا بالانتقال كالنّحلة من زبون لآخر. ظلّ فيصل يراقبه بغضب دون أن ينبس ببنت شفة.
تمام الساعة الثانية عشرة، مرّ النادل بنا فناداه فيصل وراحَ يكيل عليه الشتائم متزامنا مع صوت أبواق السنة الجديدة وقُبلات العُشاق.
شعرتُ بالذُلّ.
تركته يعربد والنادل يعتذر له وهو يتمادى في نوبة الغضب التي سيطَرَت عليه.
خرجتُ للشارع.
تدفَّقَ دمعي مالحا مِدرارا.
نظرتُ إلى السّماء.
دوَّت صرخةٌ داخلَ كياني المُرهَق:
"يا ربّ. ضاقتْ بي الدنيا. إلى متى هذا العذاب!"
شعرتُ بانكسار في عمقِ أعماقي.
شعرتُ كما يشعر جنديٌّ عاد من الحرب مهزومًا مطعونًا في عُمْقِ أعماقه.
بعد دقائق، لحقَ فيصل بي.
أتى كالطاووس المفتخر برجولته وهو يلعن النادل والمقاهي وأجواء العيد.
احتفظتُ بصمتي الذي صار خبزي اليوميّ.
اتجهنا نحو السّيارة.
كان الزّحام شديدا.
راح يكيلُ الشّتائمَ على هذا وذاك من السّائقين والمُشاة كعادته كلّما قاد السيّارة:
- يا عرص زيح مِن وجهي.
- يا ابن الشرموطة!
يا.
يااااااا.
ياااااااا.
هو يلعن هذا وذاك من المُشاة والسائقين، وأنا أمسحُ بصمتٍ
دموعي أخشى أن يراني فيبدأ سيناريو التعنيف.
*
وصلنا البيت. اتجهتُ توًّا نحو السرير.
لم أستبدلْ ثوبي الأسود بمَنَامة. داخل محارتي بسرعةٍ دخلتُ.
آهٍ كيفَ اتّسَعَتْ مَحارتي منذ أول يوم عثرتُ فيه عليها! استسلمتُ لغيبوبةٍ صارت مَنِّي وسَلْوَايَ اليومِيّ. رأيتُ خالد!
مِن بين أمواج البحرِ أتى إليّ. كانَ الدّمعُ دما في عينَيْهِ. كفّتا يَديهِ ما زالتا تنزفانِ دما نقيا، طاهرًا.
اقتربَ منّي.
ربّتَ على كَتِفي بحنو أبٍ وأهداني الشّمسَ التي كانتْ على راحةِ يده اليُمنى.
راحَ بصوته الذي يُشبهُ أصوات خرير مياه كثيرة يُرَتِّلُ لي:
"إن ضاقتْ الدُنيا قصادَي واتقفلتْ الأبواب،
انتَ يا ربّي فاتح ليّا أعظم باب".
أخذتُ أرتِّل معه والدموعُ تُمَوْسِقُ الكلمات:
"إن ضاقتْ الدُنيا قصادَي واتقفلتْ الأبواب، انتَ يا ربّي فاتح ليّا أعظم باب".

*
في صباح اليوم الأول من سنة 2001 لم أشأ أن أنهضَ باكرا من سريري.
عندما استيقظت ظُهرا كانَ دُوارٌ كدوار البَحرِ قد تمكَنَّ من رأسي المُثقلْ بأوجاعِ الذكريات.
اتجهتُ فورا نحو خيطِان العنكبوت.
منذ وطئتُ هذا البيت وأنا أراقب هذا العنكبوت وأتغاضى عن شِباكِهِ في بيتي!
أمسكتُ منديلاً ورقيّا،
وبإصرارٍ مُباغتٍ
مَسَحْتُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهُ مِنْ حَياتي.





-8-

"بإمكانك ان تقطع كلّ الورود لكنك لا تستطيع أن تمنعَ الرَّبيعَ مِنْ أنْ يأتي".
هكذا كتب بابلو نيرودا.
بهذه العبارات أخذتُ أعزّي نفسي. لا بُدّ لربيعي أنا أن يأتي. لا بُدّ للصّبار أن يُزهِر. لا بُدّ لي أن أجدَ منفذًا للأمل.
*
جلستُ في زاوية غرفة المعيشة أراقبُ بصمتٍ بيت العنكبوت.
هو يجلس في بؤرة بيته. يتحكّم في كُلّ خيطان اللعبة. بخبثٍ ينتظرُ أنْ تقعَ الفريسة بينَ خيطانه ليشدّها إليهِ. يشلُّ حركتَها ويلتهمَها.
فجأة...
فُتِحُ الباب الرئيسي للمنزل. عادَ فيصل مبكرًا على غير عادته.
ما زلنا في العاشرة صباحا.
كعادته لم يُلقِ عليّ التحيّة. لم يخبرْني سببَ عودته المبكِّرَة. كان متوترٍا جدًّا فاحتفظتُ بصمتي خوفٍا من نوبةِ غضبٍ ينهالُ بها عليَّ.
ظلّ أبو الهول متمسكًا بصمته المُريب.
مرّ يومان على هذا المنوال.
في اليوم الثالث وصلَ بيتنا صديقٌ له من المدرسة التي يعمل فيها كسكرتير.
أخذا يتحدثان عن أمورِ المَدرَسة وأنا أستَرِقُ السَّمع مِنَ المَطبخ لعلِّي أفهمُ شيئا عن الغُموضِ الذي لفَّهُ.
فهمتُ أنّه تشاجرَ مع مدير المَدرسَة بسبب تطاوله على السكرتيرة وفاء.
فهمتُ أنّه أمسك بأداة حادة وكان على وشك أن ينزل بها على رأسها. لولا وجود المدير بالقربِ، فأمسك بيده وطرده من العمل، لكانت الفتاة في حالة صحيّة خَطِرَة.
سقطَ الخبرُ عليَّ سقوطَ الصَّاعقة.! كيف سأحتملُ بقاءَه في المنزلِ ليلَ نهار؟ ثمّ، كيف سنحيا والديون تتراكم!
أحسست أنّني أختنق. ظلّ في البيت عدّة أيام كالشرطي الذي يراقبُ سّجينًا وأنا أبتهل لإلهي أن يجدَ ليَ حلاً مَا، وإلاَّ سوفَ أَنفجر!
*
جاء نبيل، مُدرّسٌ آخَر من ذات المدرسة التي كان يعمل فيها، وأخبره أنَّ المدير يطلبُ رؤيته.
في اليوم التَّالي غادر فيصل في السَّابعة صباحًا ولم يعُدْ مُبكرًا فأدركتُ أنّهم لا بُدَّ وأعادوه إلى عمله فحمدتُ الله على ما أتاني بهِ مِنْ فَرجِ.
في المساء عادَ في موعده. كنتُ أشاهد فيلما عربيًا.
لم يُلقِ عليَّ التّحيّة. تناول اللاقِط وقام بتغييرالمحطَّة دون أن يستأذنني.
انسحبتُ بصمتٍ إلى غرفةِ النّومِ لا لأنامِ إنّما لأحلمَ ب
((واقعٍ آخر)).
في الصَّباح وأنا أجهزّ القهوةَ في المطبخ سمعته يتأففُ من غرفة النوم.
كان قد نهضَ وأخذَ فورًا يبحثُ في خزانةِ الثيابِ عن قميصٍ له.
= ليش مش كَاوْيِتْلِي قُمْصَانَي؟
صَرَخَ.
إرْتَعَدْتُ.
بقهرٍ أجبتُ:
- افتحْ النافذة ليدخلَ النُّور فترى كلَّ قمصانك جاهزة.

*

اعتدتُ على عصبيته ومزاجه السَّيء. كانَ دومًا يبحثُ عن سببٍ ليذلَّني.. ليُعَنِّفُني.
وكثيرًا ما كانَ يخترعُ له أسبابًا للتعنيف.!

*
في عيدِ ميلاده..
حاولتُ ان أصنعَ لي واقعا آخر معه.
دومًا رفضَ أيّ مبادرة رومانسيّة منّي. أخبرني أنّ الرَجُلَ الذي يأتي بالهدايا لزوجته، إنَّما يفعلُ ذلكَ ليُغطّيَ على خيانته لها مع امرأة أخرى.
ذات قَهْرٍ، قلتُ له بمرارَة:
- يا عمّ.. خُونّي مليون مرّة.. بسّ جيبلي هدية في عيد ميلادي أو يوم زواجنا.. هذا إذا تْذَكَّرْتُه أَصلاً.!
= انتِ مجنونة.
- مجنونة.. مجنونة. بس ما تنسى عيد ميلادي بكرة.
أخذتُ أردّدُ داخلَ رأسي:
(ليس بالضَّرورة أن تأتيني بهدية باهضة الثمن. بإمكانك أن تقطفَ وردةً من البستانِ وتهديها لي فتجعلني أشعر أنني ملكة لأنّك تعرف قيمة هذا اليوم في حياتك. اهتمامك بي المنبثق من إحساسك بي هو ما يهمّني لا الهدية بحد ذاتها).
ثاني يوم انتظرتُه كما لو أنّني نحلة. رُحتُ ألفُّ وأدورُ في مكاني بعصبيَّة. تُرَاهُ استوعبَ أنَّني ((كِيان))أم أنّه سيظلُ يتعاملُ معي على أنَّني ((دمية)) أو ((حَشَرَة))!!
أخيرا عادَ. كانَ يحملُ علبةً كبيرة.
أخذ يُحرّرُ ما في داخلها فإذا به قد أتاني بحاسوب
((حاسوب! حاسوب!!))
زقزقَ قلبي.
ها قد استوعبَ فيصل الكلام.
تسارعَ نبضي.
الآن، أستطيعُ أنْ أُقصي عنّى ماردَ العزلة.
الآن، أستطيعُ أنْ أتواصلَ مع سائرِ الأدباءِ في كلِّ وطنٍ عربيٍّ. أستطيعُ أن أجدَ ما أقرأه في وقتي الضّائع سُدى.
حقًا، استطاع فيصل أن يقطع كلَّ الورودِ من بستانِ حياتي لكنّه لم يستطع أن يمنعَ الرّبيعَ مِنْ أنْ يأتي.
*
تلك الليلة، غفوتُ دونَ أنْ أحلمَ بخَالِد...!
*
شهورٌ مضتْ وأنا أسأله أن يسمح لي ولأُختي أمَل أن نلتقي. كانَ يرفض ويصرُّ على سجني داخل قمقم العُزلة، بعيدًا عن كلِّ عَيْن، لكي يتمكن من السيطرة على خيطان الدّمية.
كانت أمل تطلب منه الإذن فيسمح لها بزيارة مرّة في الشّهر حين يضمن وجودَهُ بيننا ليصغيَ لكلِّ كلمة ويديرَ هو دفّة الِحوار.
*
آهٍ من هذا الواقع المرير الذي يجهض كلّ أحلامي!
سأصبر، ربما يكون الغد أفضل.
غدا يوم آخر.

-9-

أجتهدُ لأتخلّصَ من الشَّرنقة.
أتحرَّرُ فَرَاشَةً بيضاء.
أتحرّرُ من كل قيدٍ وذكرَى.
إلى ما وراء الأفق.... أَنْطَلِقُ!
*
أنتظرُ عودته.
" الانتظار صخبٌ مبعثهُ القلق ". هكذا كتبَ رولان بارت.
وهكذا أشعر الآن.
*
ذابَ ثلجي فتدفق خارجَ غرفة المعيشة. غمرَ في طريقه الزُّهورَ فأورقتْ وجَرَفَ كلّ الحَصَى فاخضرَّتِ الحقول.
أنتظرُ...
وأنتظرُ.
لم أعُدْ تلكَ الفتاة (معدومة الشّخصيّة) التي التهمَ الذئبُ جدتها فعاشت ما تبقَّى من حلمٍ في مَحَارَةِ الرُّعب.
أنتظرُ.
وأنتظرُ...
آهٍ كيف نجحَ فيصل في وأدِ كياني...!
آهٍ كيفَ ظلَّ الجرحُ مفتوحًا على مصراعيّ الألم. آهٍ كيف قهرني هذا الرَّجُل حين أتاني وأنا في الثلاثين من عمري في هيئة صيّاد. ها أنا انتظره ممتلئة بنعمة الثقة بالنّفس لكي أضعَ حدّا لجبروته. لكي أخلِقَ معهُ واقعا آخر أو أرحل عنه.

*
"في القلبِ فَرَاشة
صغيرة. صغيرة.
تُرَفْرفُ. تُرَفْرفْ.
بينَ جُدرانِ صَمتي
لتمحُو عنْهُ وَعَـنّي
غُبَارَ العُـــــــــــــــــــــزلة.
غُبَارَ العُــــــــــــــــــــــزلة".
*
أنتظرُ وأنتظر.
الشيء الوحيد الجيّد الذي قام به فيصل هو أنّه كان يُحضِر لي الكتب من مكتبة المدرسة التي كان يعملُ فيها فكنتُ ألتهم الكتب التهامًا ممَّا ساهمَ في بلورةِ شخصيتي ونُمُوِّ أجنحتي.
أنتظرُ ...
..........................وأنتظــــــــــر.
*
أتلقَّفُ صوتَ المفتاحِ وهو يُعْمِلُهُ في باب المنزل.
أرتجفُ.
أتسمَّرُ مكاني ويتسمَّرُ الرُّعبُ في عُروقي.
يجب أن أكونَ أقوى من هذا الموقف!
حَدجني فيصل بنظرة لئيمة.
= مالك! مريضة؟
- مش مريضة.
إنا فِقِتْ...
وبدّي أغادر قمقمَ الكبتِ.
= شو!؟
- زَيّ ما سمعتْ!
أنا مش دُمية بِتحرِّكها بخيطان خفيّة.
((((أنا كيان))))!
فاهم شو معنى كِيَان!
-فاهم إشي واحد بَسّ: أنتِ مجنونة.
أنتِ مِثِل ما أبوكِ وأخوكِ حكولي: مجنونـــــــــــــــــــة!
راحَ يدورُ حولَ نفسِهِ وهو كالمهووسِ يُردّد:
آه..آه.. آه. مجنونة!
صمتَ فاستجمعتُ قوايَ النّفسيّة والمعنويّة.
قررتُ ألاَّ يهزمني مهما كان ثمن ثورتي على ظِلِّي.
هتفَ يتساءل:
= كنِّك سَكْرانة!
- الخمر إلكَ أنتِ لحالَك. أنا في كامل قوايّ العقليّة.
صمتتُ لأمتحنَ تأثير الحديث عليهِ.
أخشى أن تنتابَهُ موجةُ غضبٍ فلا يعودُ يرى شيئا في عينيه.
أخشى نوبات عنفه. لطالما رايتُهُ ماردًا. لكن......
ها قد انتهى مسلسل الأوجاع المُزمنة.
لن أسمح له بعد اللحظة أن يخدش إنسانيتي.
لن أتراجع عن قراري.
استللت حسامَ ايجابيتي مِن غِمدِه وأعلنتُ له:
- أنا سَجَّلِتْ للتعليم في جامعة حيفا وأجَاني الردّ بالإيجاب.
بُكرة أنا طالعَة عَ الجامعة.
جلستُ.
لم يجلس.
استشاط غضبًا.
أخذ يروح ويجيء في الغرفة وهو يتمتم:
= الجامعة!
كيف صَار هيك!!
مين بَعَتْ لِكْ طلب الانتساب!
بتخونيني في نُصّ بيتي!؟
وأنا المغدور.
مش عارف إشي!
يا سِتّ!
احكِي كيف حصل كل هذا! ..
يللا ... إحـــــــــــــــــكِي!
ليش سكتِّي!
إسّا صُرْتِ خَرْسَة. إحكِ يا بنت ال...
احــــــــــــــــــــــــكِ وإلا!
*
وقعَ حجرٌ في بئرِ الصّبرِ.
اتّسَعَتِ الدّوائر.
كان ضروريّا عليَّ أن أستوعبَ وحدي كلّ الدوائر.
"لن أتراجع!"
قلتُ لنفسي لئلا تخور تحت وطأة الخوف من نوبات عنفه.
لم يَعدْ يُرعبُني. لم أعدْ أراهُ ماردًا. بالعكس، أنا أشفق عليه مِنْ نَفْسِه.
أعلم أنّه يحاول الادعاء أنّه قويّ لكنّه في عُمقِ أعماقِهِ رَجُلٌ مهزوم. ضعيف الشّخصيّة. مُثير للشفقة.
ليشرب البحرَ.
لا يعنيني ولا أيّ ردّ فعل سيأتي به. لقد أخذتُ قراري ولن أتراجع عنه حتّى لو كان الثمن... قَتلي.
بدأ يخطّطُ لمواجهةٍ دامية بيني وبينه. مع هذا (لن أتراجعَ).
العنكبوت السّادي قضى بجرّةِ منديل.
الآن، يومك يا ليلى.
هَيَّا...تشجّعي.
إمّا حياة بكرامة أو الموت بكرامة.
أكونُ أو لا أكون.
أكونُ أو كيفَ أكون.
تلكَ هيَ المسألة.
ها أنا أعلنُ ثورتي على الصَّمت.
أقسمتُ ألاّ أكون دُميّة في يدِ أيٍّ كان بعد اليوم. أوقدتُ شمس ايجابيتي وهو يهزّ بعنفٍ كتفيّ ويقول:
= من ساعدك على تنفيذ أفكارك الجهنميّة.
أحسستُ أنّهُ ُفي عُمقِ أعماقهِ هشّ. تماما، تمامًا كبيتِ ذاكَ العنكبوت السّاديّ.
=احكِي. يا خَرْسَة إحــــــــــــــــــــــــــكِي!
حاولتُ أن أتحدث إليه بدلال كي أخفّف من وطأة نوبة العنف التي تملكته.
*
"اللسانُ الذي لا يقولُ لااااا ليسَ لسانُ إنسان".
*
صرخَ بجنون:
- يا كلبة. احــــــــــكِي. مع مين تآمرتِ عليّ؟ أختك أمل؟ آه! مفيش حدا غيرها بنت ال... بزورنا.
*
تناولَ المزهريّة الكريستال.
باغتني!
هَوَتْ على رأسي المُدجّج بالقرارات.
نزفَ الدم من رأسي.
نقيا. طاهرًا. ُقَدَّسًا.
*
فجأةً رأيتُ خالد!
من نافذةِ غرفة المعيشة المُطلّة على البحرِ أتى.
كان يردِّدُ بصوتٍ كالرّعد.
- "متخافيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش. أنا معك".
اقتربَ منّي حتَى التصق بي. أمسك بيدي. تداخلَ الدم النّازفُ مِن رأسي مع الدم النازف نقيا طاهرًا من يدَيْهِ. نظرتُ في عينيهِ لأستمدَّ منهما طاقةً ايجابيّة. فجأة: أبصرتُ في كلّ بؤبؤ صليبا من خشب!
*
صحوتُ على واقعٍ آخر.
بادرته بسؤال ارّقني منذ التقينا قرب الصخرة:
- إنتِ خالد!؟
ضمّني لصدره. غمرني بدفءٍ أبويٍّ عجيب.
سلامه تركَ لي.
سلامٌ داخليّ أعطاني.
ليسَ كما يُعطي العالم أعطاني هوَ.
همسَ في أذني:
= خالد ابني زَيّ ما إنتِ بنتي. يا بنتي، أنا مُخلّص البشريّة من مكائد الشيطان. عيني عليكِ ليل نهار. وجعك بيوجعني. جِيتْ لأنّي بحبُّكِ. جِيتْ أَنِقْذِك.
-10-
فتحتُ عينيّ فإذا برائحة بخور تملأ غرفة المستشفى. بحثتُ عن فيصل لكنني لم أعثر له على أثَر.
الجبان اختفى!

أحسستُ أنني أنتفض كالعنقاء من رمادي لأحيا.
ارتفعَ صوتُ المذياع من نافذة تطلّ على حديقة داخلية للمستشفى:

"أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون.
وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك.
أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أنا مش إلَكْ.

في قفص صغير بدك إياني كون
وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك
أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ.
لا تتعب وتشقى. أنا مش إلَك".

*
فاضتْ دموعُ عينيَّ. نظرتُ حولي: امرأة على السرير عن يميني يدللها زوجها بأجمل الكلام. امرأة أخرى على السرير عن يساري يحضنها زوجها ويقول لها: "إن شاالله أنا ولا إنتِ حبيبتي".
أمّا أنا فمنذ الشهقة الأولى .............. (((وحيدة)))!
وحيدة كعجزِ بيتٍ في قصيدة. وحيدة كجمرَة في مهبِّ ريحٍ عنيدة.
لم أعد أتمكَّن مِنَ السَّيطرة على دفقِ دموعي.
*
من أتى بي إلى هنا؟ أين جلاّدي؟ أين الطبيب؟
*
فجأة ظهرتْ أختي أمل في الرواق. هرعتْ إليَّ وعانقتني.
كانت الأسئلةُ أكوازَ صبّار تُدمي دماغي.
سألتها:
- وين فيصل؟
= جابِك لهُون ورَاح فورا. طلب منّي إنّي أضّلّ معك. دُغري اختفى.
ابتسمتُ بمرارة. الجبان ضربني واختفى خوفا من العقاب.
وصل الطبيب المناوب.
سألني:
= إيش سبب هذا الجرح اللي في راسك؟
عادت بي الذاكرة إلى الماضي السحيق: أبي، أخي، زوجي.
كنتُ في أيديهم كُرةَ قَدَمٍ يركلها مَنْ يشاء متى يشاء!
لكن، من هذهِ اللحظة، لن أسمحَ لأحدٍ أيًّا كانَ أن يعتدي على كَرَامَتِي أو يُشوّه إنسانيتي.
= مدام ليلى! أنتِ معي؟
حرّرتُ نفسي من صنّارةِ الماضي.
سوف أحيا منذ اللحظة دون أن أنظرَ خلفي.
عاد الطبيبُ يسأل:
= مدام. أنتِ هون!؟
- معَكْ دكتور.
= منيح.
احكيلي من فضلك، إيش سبب هذا الجرح العميق اللي في رأسك؟
وقفتُ.
نظرتُ من النافذة المطلة على الحديقة.
استجمعتُ قوايَ وأنا أقول:

- زوجي ضربني.
= إيش!
- فيصل ضربني بمزهرية كريستال.
حدّق الطبيبُ في بؤبؤَيّ عينيّ ربما ليتأكَّد أنّني في كامل قواي العقليّة.
أخذت كالملسوعة بالنّار أردد:
(فيصل ضربني. فيصل أدماني. فيصل وأدني.)
صمتتُ فصاَر الصَّمتُ سيّد الموقف.
= أُقْعُدي سيدتي.
قال الطبيب وهو يُربّتُ على كتفي. آه كم كانت يده دافئة. آه كم كنت بحاجة لمَنْ يحضنُني في تلكَ اللحظة!
=مَدَام، إهدي، مِن فَضْلِك. رَح أجيبلك كاسِة مَيِّة.
ذهب. بعد قليل عاد. ارتشفتُ الماء حتّى آخر قطرة. ارتفعت كلماتُ الأغنية كالبخُور في رأسي:

"أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون
وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك.
أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ"

= إنتِ بخير؟
قال لي بصوته الحنون ودفْء سنواتهِ السّتون.
-أنا بخير. بخير. لا تقلق.
عاد يُربّتُ على كتفي وصوته يتصاعد كتراتيل الفجر:
- كيف بقدر أساعدك؟
سقطت كلماته كالثلج لتخمدَ نيراني.
منذ أبصرتْ عيناي النّور لم يساعدني أحد. لم يكن لي سندا أحد. لم يشعر بوجودي أحد. جميعهم عاملوني على انّني حشرة وهم المُخَوَّلون بقتلها.
ياااه... كم كنت بحاجة تلك اللحظة للدفء العاطفيّ!.
فورا، قفزتْ صورةُ فيصل لدماغي.
ارتجفتُ.
تقزّزَ جسدي.
تذكرتُ يده التي نزلت على رأسي ب المزهرية الكريستال.
دمي لم ينزف تلك اللحظة فقط. دمي نزيفٌ مستمر منذ شهقة الولادة.
= مدام ليلى، احكيلي ك صديق كيف بَقْدَرْ أساعدِك؟
نهضتُ من المقعد.
عدتُ إلى النافذة المفتوحة المًطلّة على ورود الحديقة.
تناولتُ قسطا من الهواء.
احتفظتُ به في رئتيّ أطول مدّة ممكنة.
لمحتُ خالد/ الغريب آتيا إليّ من خلف الجبال وهو يخترق الضباب بترتيله الخافت:

(إن ضاقِتْ الدنيا قصادي واتقفلت الأبواب..
ربّي فاتح قُدَّامي أعظم باب).

ابتسمتُ بمرارة: الحياة قصيدة لكنّها قد تكونُ أحيانا ... مُتَوَحِشَّة!
*
- دكتور.
= نعم مدام؟
- أرجوك، اعمَل معي معروف.
= قولي.. سامعِكْ.
- رجاء: إتْصِلْ فَورًا بالشرطة.


-11-
وصل شرطيان المستشفى ليتلقيا إفادتي بخصوص الجرح الذي في رأسي.
اخبرتهما أن فيصل ضربني بمزهرية كريستال على رأسي.
= وين هُوِّ إسَّا؟
-بَعْرِفِش. أختي أمل قالتْ إنّه هُوِّ اللي جابني لهون.
وإنّهُ وصَّاها تْظَلّ معي.
= وين بْتِقْدَر نْلاقِيه؟
- أكيد راح عند مَرْة عمّي.
= ما تِقلَقي رَح نلاقيه وِنْضُبُّه جُوَّة الزنزانة. إنتِ بَسّ، إهْدي.
رَح نِضَلّ على اتصال معك.
قالَ الثاني:بْتِقدَري تِرْجَعي عَ بيتِك. في حالة أيّ خطراتصلي فورا على هذا الرقم. هذا رقم موبايلي.
ناولني الرقم وذهبا بعيدًا في الرّيح.
أخذتُ أدندن:

"أنا مش إلك. في قفص صغير بدك إياني كون وأنا بدي طير وجناحاتي تكون ع وسع الفَلَك.أنا مش إلَك. ولا قلبي إلَك. أناااااا مش إلَكْ".

*
فتحتُ باب المنزل.
فتحتُ قلبي على مصراعيهِ.
دخلتْ.
جلستْ.
تناولتُ قلمٍا وكتبت:

"حُلُم الفٙرٙاشٙات

ها أنا أمْضِي لأٙفْضٙحٙ العٙتْمٙة.
ها أنا أمْضِي لأُطْلِقٙ الفٙرٙاشٙاتِ مِن قُمْقُمِ الغُمّٙة.
ها نحْنُ نتّٙحِدُ فٙرٙاشٙةً.. فٙرٙاشٙةً..
لنصْنعٙ لنا وٙاقِعًا دائمٙ الخُضْرٙة".

*

تُرَاهُ يعودُ ؟!
أيتسللُ عائدا إلى هذا المنزل ليُعاود تعنيفي؟
هل حياتي في خطر؟
كيف سيكون ردّ فعله لو أدرك أنّني (لم أعُد أخشاه) وأنّني لم أعُد أراه (ماردًا) إنّما قزمًا يستحق لا الكراهية إنّما الشفقة. هو ليس لئيما كما هو اللؤم. هو ضحيّة عادات وتقاليد تمجّد الرجل وترفعه إلى مستوى السيّد وتسلمه مهمّة الملاكم الذي عليه أن يُسدي الضربات الضربة تلو الضربة ل رأس الأنثى كلّما حاولتْ أن تُطلَّ من نافذةِ العتمة على الحدائق والبحار والزُّهور كي تحيا.
كم أشفق عليه ممَّا هو فيه من همجيّة.
*
أمسكتُ كتابا وأخذت أقرأ بمتعة. أشعلتُ الموسيقى من حولي.
كم أعشقُ صوتَ فيروز خاصةً في أغنية أنا عندي حنين:

أنا عندي حنين ما بعرف لمين..
يوميّة بيخطفني مِن بين السّهرانين.
بيصير يمَشّيني لبعيد يوَدّيني.
تا أعرف لمين وما بعرف لمين!

رحتُ أرقص. رُحْتُ أدورُ حولَ ذاتي بخفَّة ريشةٍ وأردِّدُ : أنااااااااااااااااااااا عندي حنيـــــــــــــــن!
*

ما أجمل أن أتنفسَ حُريّتي! ما أجمل أن أبدأَ زمنَ الطيران الآن فينمو لي جناحان. أصيرُ سنونوّة. أطيرُ..
أرفرفُ..
أعْلنُ بفخْرٍ: أنــــــــــــــــــــــــا أحيَا!
*
قبل أن أخلدَ للنوم بقليل، رنَّ الموبايل وظهرَ اسمُ الشُّرطي على الشّاشة. يبدو أنّهم عثروا على فيصل. شهقتُ.. زَفَرتُ..ارْتَبتُ.
*
انتظرتُ أن ينطقَ ببنتِ شفة.
= مدام ليلى.
- نعم م م
= يُؤْسفني إنّي أخبّرك...
صمتَ قليلا. ثمّ عاد صوته يداعب تَوَقُعَاتِي في كونهم قد عثرواعلى فيصل.
- لمَ الأسف!!
=لأنّه فارقَ الحياة.
- مااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااذا؟
دوَّتْ صرختي فأيقظتْ جدرانَ المنزل.
أكملَ الشُّرطيّ:
= لاقُوه جثة هامدة على طريق ايلات. الظّاهِر إنُّه انتحر. زَتّْ سيارته من قمة جبل. من فضلك، تعالي عَ مركز الشُّرطة عشان نْسَكِّر المَحضَر.
*
دخلتُ متاهةَ المشاعر.
أأفرح لأنَّني أخيرا صِرْتُ حُرَّة طليقة؟
أم أحزن لأنَ ما فيصل إلاّ أحد ضحايا التنشئة غير السّويّة؟!
*
*
*
رباااااااه!
إلتفِتْ إلَيَّ وأعِنّي.
اسمع أنيني وارحمني
فليس لي مُعين سِوَاك.!





















-12-
هكذا فتحتْ لي الحياة أبوابها على مصراعَيْها.
منذُ لقائي الأخير ب خالد/الغريب، لم يظهرْ لي إلاَّ مرّة واحدة في حُلم المنام.
قالَ لي:
" تعالوا إليّ أيّها المُتعبين والثقيلي الأحمال. أنا أريحكم."
ثمّ, اختفى ولم يعُد ولم أعُد أبحث عنه هنا وهناك في عُمقِ الذاكرة.
*
رفضتُ العودةَ إلى منزل أبي وأخي. لم يتمكنا من كسرِ قراري.
((انتهى زمنهم)) في حياتي. بدأ زمني أنا. بدأ زمنُ ((تحقيق الذات)).

*
عثرتُ على ذاتي في الجامعة حيث تألقت كوردة بين الأشواك في كورسات الأدب المُقارن.
أجمعَ المحاضرون على كوني أمتلك موهبةً مُتَفَرِّدة.
عشقتُ الجلوسَ في ركنٍ يُطلّ على البحر في مكتبة الجامعة.
عشقتُ التهامَ الكتب.
بدأتُ أكتب وأكتب وأرسلُ كتاباتي للصحف. بدأ اسمي يلمعُ.
قررتُ ألاّ أجرّ الماضي صخرةً خلف ظهري وأنا أصعد جبل الحياة. سأعيشُ اللحظة. سأظلّ أتلهف لأحيا وأكتب القصيدة التي لم تأتِ بَعد.
كنتُ أرى العُشّاق اثنين اثنين فوق سفح جبل الكرمل، فأتمنى أن أعثر انا، أيضا، على توأم روحي. لكنني... كنتُ أُسارعُ في إخمادِ هذه الجمرة.
قرَّرتْ:
لن أجعلَ الرَجُلَ بؤرة حياتي.
لن أدورَ حول نار رَجُل.
لن أحترق.!
سأظلّ أنا في بؤرة الأحداث.
سأدورُ حولَ القصيدة.
سأكون أنا النار.
لن أكون ورقة عابرة.
سأكونُ أنا الشّجرة.

*
*
مرّ فصلُ الخريفِ ثمَّ الشّتاء. وانا أذهبُ للجامعة ممتلئةً فرحًا وأعودُ لمنزلي ممتلئةً نِعمة لا أخشى أحدًا فأبي وأخي خافا أن يَتَوَرَّطا معي، أنا التي عرفتُ طريقي للشرطة لأجلِ استعادةِ حقُوقي وترميمِ حياتي المُتَهالِكة.
*
أتى الرّبيع.
ذهبتُ للدّكان في الحيّ المجاور لأشتري باقةَ بنفسجٍ فأنا أعشق الورودَ كما أعشق الطُّيور، مع أنني أشتري العصفور لأطلقه فورًا في الفضاء الرَّحب. كذلك، أكره ان أرى الوردَ مهزومًا داخلَ مزهريّة، آيِلاً للذُّبول! أُحبذُ أن أراه يتمايل معَ النّسيمِ في البساتين.
*
ذاتَ عيدِ حُبّ..
اشتريتُ لنفسي قفصًا فيه طائرَا حُبّ. هكذا تعوّدت ألاّ أنتظر الحنان من رجل.
أنا ادلّلُ نفسي.
أنا اشتري الهدايا لنفسي.
أنا ((أَعْشَقُنِي)) عشقًا صادقًا. نقيًّا.
بعدَ أيامٍ من مراقبةِ العصفورانِ فتحتُ لهما بابَ القفص.
لم يغادرا كما توّقعتُ!
يقالُ إنّ العبيدَ إذا حرَّرْتهم يعودون لأسيادهم فقد اعتادوا على العبوديّة.
مرّتِ السّاعات وانا أنتظر أن يغادرا.
خَذَلا كُلّ تَوَقُّعَاتِي. قررتُ أن أمدّ لهما يد العَوْن. مددتُ يدي داخل القفص وقبضتُ على الطّائر. زقزقَ بألم. أطلقته حُرًّا.
رفرفَ مكانه. ثمَّ، انطلقَ شرقًا. مددتُ يدي داخلَ القفصِ ثانيةً وقبضتُ على العصفورة. أخذتْ تئنُ. أطلقتُ جناحَيْها. رفرفتْ قليلا مكانها. ثمّ، انطلقتْ غربا.
ارتعبت!!.
كيف سيلتقيان وكلٌ منهما ذهبَ في اتجاهٍ مُعاكِس!!
ظلّتِ العصفورةُ، حتّى أولى ساعاتِ المساء، تُنادي بصوتٍ حَادٍّ سَبَّبَ لي الصُّداع.
رأيتها على شجرةِ السنديانة غربَ منزلي.
ورأيته على شجرة التّوت شرق بيتي. يبدو أنّ رفيقَ حياتها قد عثر عليها تلكَ الليلة فقد خمدَ نداؤها.
لكنّهما لم يرحلا بعيدٍا عن منزلي.
كنتُ ألمحهما يُرفرفانِ بالقربِ من شجرةِ الخَرُّوب المُقابلة لغُرفةِ نَومي حيثُ بَنَيَا لهُما عُشَّ الحُلُم.
















-13-
مددّتُ يدي لأنتشلَ بعضَ زهراتِ بنفسجٍ من مائِها فإذا بيدٍ صلبة تناوشني. تناورُني. وتسبقني إليها. وإذا بالجدرانِ تصطَبغُ باللونِ البنفسجيّ والفراشاتُ والغيوم والكونُ صَارَ سيمفونية أسطوريّةٍ خالدة، وإذا بي أدركُ مفهومَ كونِ المَرْأة حين تعشقُ يصيرُ لونُ دمِّها بنفسجيـًّا.
-أنتِ الوردة سيدتي لا البنفسج.
جاء صوته كالترتيلةِ ساعةَ الغسق.
-هي لكَ.
صَمَتُّ.
امتحنتُ بريقَ عينيهِ.
حضنَ زهرةِ البنفسج داخل كفـِّهِ.
على مهلٍ، راحتْ أنامله الرّشيقة تُجَمِّلانها بخيطٍ أبيض امتدَّ كحبلِ السُّرَة بينــــَنــَا.
اكتسَى وجهُهُ بالدّهشة وهو يقدِّمُ لي باقةَ البنفسج وفمهُ يقذفُ أولى حِمَمَ البُركان العاطفي الذي انتفضَ من ركودهِ:
-بل هيَ لَكِ.
صمتَ.
امتحنَ بريقَ عينيَّ.
بوقار، ألقَى قنبلتَهُ العاطفيّة:
- وَلَــَنا (نحنُ).... الذّكرى.
..
.
وقعتْ جملته المقتضبة في بئر الهذيان. اتسعت دوائرُ التيهِ من حولي.
...
..
.
هكذا، وبمنتهى البساطة صارَ(لنا) ذاكرة لها قاسمٌ مشتركٌ إلاَّ وهو: البنفسج!
...
..
.
تناولتُ الباقة من يدهِ وقبــْـلَ أن أفلحَ في إخماد جمرةِ العشق، إقتحمَ صوتٌ أجشٌّ رحمَ المكان بكلمة واحدة تكررتْ برتابة ثمَّ شُحِنــَتْ ببعض العصبيّة:
- خالد، خااااااااااااالد... خااااااااااااااااااااااااااالـــــــــد.
بحلقتُ حولي.
جحظتْ عينايَ.
لمْ أعثر لهُ على أثر.
تسمرتُ كالمسمارِ فوقَ أرضِ الحيرة.
علقَ السؤالُ في حلقي كالصَّــبّار: تراهُ كانَ وهمًا من ابداعِ هذياني الخـَلاّقِ وأنا الأديبة الملسوعة بالنّار المقدّسة أم كانَ حقيقةً من إبداع القدَر...؟
تراه كما خالد/الغريب قد قفز من قمقم خيالي حين كنتُ بحاجة للعشق! حتّى الحوارات بيني وبين الغريب كانت من صُنع خيالي. كنت أخترعها لأخفّف عنّي عبء الأيام وتعب الحرمان من إنسان لا يفهم لغتي.

مرّت سيارة علا منها صوت الشاعر الأنيق هشام الجخ:
(الحُبّ حالة
الحبَ جواكِ استحالة.
الحبّ مش سحر وغواية.
الحُبّ جواكِ استحالة)

وتداخلَ الأنينُ مع صوت المطرب مصطفى كامل:
(ساعات أفتكرك. أبكي وَاندم على العمر اللي ضاع)

...
..
.
كما النَّمل، ظلَّ السؤالُ ذاتــُهُ يدُبُّ فوقَ بشرة الأيام القاحلة.
راحَ يؤرقني. مع كلّ إغماضه جفن راحَ حلمُ اللقاء يُوْرقُ في باديةِ الانتظار.



-14-

يؤرجحني القلقُ شرقًا. شوقًا. جنوبـًا. جنونـًا.
أخيرًا، يجلجلُ اسمي في الصالة الأدبيّة فتُرتـِّبُني أوراقي وتـُسيِّرُني إلى المنصَّة. أباشرُ في إلقاء القصيدة فيدبُّ الصَّمتُ من حولي. أرتِّل حنيني للغريبِ الذي صبغَ دمي بالبنفسج:

(1)

أفـْـتــَقـِدُكَ
وأشعرُ أنــّي بدأتُ أفقِدُ
بَعـْضَ نَـبـْضِ إحساسي بكَ
وأنــَّكَ
تتسربُ منَ الذّاكرة
كما الرّمل
فأتورط بالتفكير بكَ
للتكفير عن
غيابِ وشمِ ملامـِحِكَ
عن جسدِ الحُلم
(2)
أفـْـتــَقـِدُكَ
وأكبــِتُ وَخــْزَ حنينـِي
وأكتبُ جنونَ اللحظة
رموزا
على جناحيّ سنونوةٍ
تحملها إليكَ
وترحل
تبحثُ لكَ عن عُنوان
خلفَ الطرقاتِ المُستحيلة
والنَّوافذ المُوْصَدة
وأنتظرْ.
أخشى أنْ.
تكونَ قـَدْ.
أسقــَطــْتَ جنينَ حُبــّي
من رَحـِم العَاطفة
(3)
أفـْتـَقـِدُكَ
ويهزمـُني ضعفي
وحاجتي إليكَ
لتكونَ لي وطنـًا
يُهديني مساحاتِهِ
من جنوبها لشمالها
ويدًا
تأتيني كلَّ غروبٍ
بعِقــْدِ فــُلّ
(4)
أفـْـتــَقـِدُكَ
وأجتهدُ أنْ
أمحو بصماتِكَ
عن خلايا شغفي بـِكَ
فتنبعثُ ذبذباتُ صوتـِكَ
من حضنِ الماضي
" أ ح بُّ كِ "
لـِتـُبـَعـْثـِرَنـِي
" أحـِبـُّكِ "
وتــُلــَمـْـلــِمـَنـــِي...!
(5)
أفـْـتــَقـِدُكَ
وأتأرجحُ هذي اللحظة
ما بينَ لونــَيّ الفرحِ والحُزن
أستجديكَ وأدْعـُوكَ:
تعالَ
لتأتي معكَ ألوانُ الطـّيف
تعالَ ..
لم نَعُدْ أنا وأنتَ
خطــَّينِ متوازيين.
نحنُ قلبانِ تائهانِ
حولَ محور دائرة
تعالَ
لستَ حُلمًا
أنتَ أكبرُ من كُلّ أحلامي
لستَ لـُغتي
أنتَ أكبرُ مِن كلِّ اللغاتِ
تعالَ.
قد تكونُ المسافةُ شاسعةً
ما بينَ حُلمنـا والواقع
مع ذلك
ها أنا أمارسُ أوُلى الخُطُواتِ
فتعالَ.. تعالَ.. تعالْ

*

أشعرُ كأنَّ روحي غادرتِ هذا الكفنَ الآدميّ لتحلِّقَ في الفردوس. عيونٌ غريبة تطاردُ نبراتِ صوتي بفضول. كلماتي تتطاير كالفراشاتِ الملونة تلامسُ الزّهور. تتهادى كقاربٍ في الرّيح، تتدفقُ كالموجِ مدّا وجزرًا.
*

فجأة، كما يجذبُ المغناطيسُ قطعةً معدنيّة. تجذبني عيناه.
يمتزجُ البريقُ بالبريق. إنـــَّهُ هو! هو، رجل الحلم!
ها هو الطّائر الأصيل يتابعُ السنونة باهتمامٍ مخضَّب بالإعجاب.
أتلعثمُ. تعلو الهمهماتُ من حولي. أصحو من غيبوبةِ المفاجأة.
أتخذُ قرارًا عاجلا في أن أُسَيِّرَ حنيني إليه كما يشتهي هذا النبضُ العاشقُ في عروقي. نظراته الحالمة تمدُّني بالدفء الملغوم.
(آهٍ...! كم أتلهفُ للهبوط إليكَ لنلتقي)!
موجةٌ من التصفيق تجتاحُ المكان.

*
*
سآتيكَ ملكة
انحنى لها أحد عشر
مليون فارس وفارس
فإيّاكَ أن تجعلَ قلبي
يَنْفَطِر
إذ تمضي
أيدي النَّحَلاتِ العَامِلاتِ
تلثِمُ.
*
*
نظراتي تترصدُ حركاته.
ما زالَ في مقعدِهِ يحقنُ أوردتي بالشجاعة كي أرتقي سلم الإبداع مُسيّجة بنظراته الحانية.
*
*
إذا زلزلتِ القصيدةُ
زلزالها.
وقالَ القارئُ:
ما لَهَا
إعْلَمْ أنَّ نَبِيَةَ العِشقِ
قادمة...
لتملأ َ
الفضاءَ الشِّعريَّ
بمفرداتٍ مُفَخَّخَة
بالدّهشة.

*
*
يخفقُ قلبي كمن يقرعُ طبلاً إفريقيّا وصوتُ عريفِ المهرجان الأدبيّ يعلنُ:
"باقاتٌ من البنفسجِ للشّاعرة ليلى سليمان".
يُلجمني وميضُ الكاميراتِ عن الحركة. أدفعُ جسدي النَّحيل خارجَ أسوارِ المعجبين. بقلقٍ، أبحث عنه. ما زال في مقعده كغيمةٍ لم تُمطر بعد. أتنفسُ الصّعداء. تتقدمُ طفلة منّي. تشلُّ حركتي. ترفعُ يداها الصغيرتان نحوَ صدري وتكلّلني بباقةٍ من البنفسج.
*
آه... البنفسج!
*
في هذي اللحظة المصيريّة بالذات يفوحُ عبيرُ اللقاءِ الأوّلِ بيني والغريب. قفزتْ ذكرياتُ ذلكَ اللقاء الأسطوريّ في دكانِ الورد كالأرانب أمام عينيّ.
...
..
.
أبحثُ عنه كما تبحثُ سفينةٌ معذّبة من العاصفة عن مرفئِها.
.
.
.
يهبط النَّبضُ في عُروقي.
...
..

اختفى...!
*
*
أُوَلْولُ. أكانَ لا بدَّ أن يختفي قبلَ أن أحتفي بعودته إلى فردوس العاطفة. ؟! أكانَ لا بدَّ أن يتلاشى كالفقاقيعِ قَبْلَ أن أُتوِّجَهُ إمبراطورًا على مملكةِ حواسي. !؟ أكانَ لا بدَّ أنْ يَغْدُرَ بانتظاري فيغادرَ عائدًا إلى منفاهُ قبلَ أن تقرعَ الثانيةَ عشرَةَ عشقــًا...؟ َ
آهٍ...!
آهٍ... أيّها الغَجريّ الشقيّ...!
أيّها الحبيب الغريب.
لا شيء يكتمل...
لا شيء.
لا.
...
..
.




-15-
ما انْفَكــَّتْ ذاكرةُ البنفسجِ العالقة في دهاليز الرُّوح تـُعَذِّبُنِي. تجلدُ ساعاتي أيامي والشّهور. صِرتُ قشَّةً في مهبِّ الأرق. أينما أسيرُ أتلَفَّتُ حولي بحثًا للحبيبِ الغريبِ عن أثر.
ها الكآبةُ. تـُمْهِلُني. لا تـُهْمِلُنــِي!
ها الجسدُ يتصدَّعُ بصمتٍ مُشين أمّا الرُّوح فلا تجدُ لها منفذًا من ذُلِّ هذا الجحيم سوى: الكتابة.
وهل أحنُّ على الملسوعة بنارها سوى قلم نزق يشُقُّ حرائِقهُ عبرَ طرُق وعِرَة. ؟!

*
ما أقسى أن تأتي
مِنْ أَقاصِي الشَّوْقِ
لنلتقِي
فلا تُسَافِرُ
مَرَاكِبُ عِطْري
وَلا يُرَفْرِفُ الحَمَامُ
مِنْ حَوْلِي.
تَتَعَطَّلُ لُغَةُ الكلام
فلا سَلام.
ولا هيام.
ثمَّ.
نَمْضِي
كُلٌّ إلى ظِلِّهِ

*
هكذا، اصطفتني العزلةُ فأجدتُ المكوثَ برفقتها إلى أن قرعتْ بابي صديقتي سلمى.
عَادَتْ بعدما بحثتُ عنها مرارا فأخبروني أنّها تزوجتْ وغادرتْ البلاد مع زوجها.
عادتْ سلمى ومعها جرعات الحنان والمحبّة.
فضفضتُ لها بكلّ ما في جعبتي من أوجاع.
=هيا انفضي عنكِ خيطان العناكبِ وانهضي ليلاي.
-لا أريد أن أحيا.
حدجتني بنظرةٍ.
ثمَّ، رمتني بصخرةَ العتابِ:
= أيعقل أنَّ إنسانة مرهفة الحسِّ مثلكِ تستسلم لليأس...؟
- ليتني ما كنتُ أملكُ هذا القلب الهشّ. ليتني!
ليتَ قلبي الأمَّارُ بالعِشقِ ما عرفَ للعِشقِ طريقًا!
اقتربتْ سلمى من زاويتي المعتمة.
جلستْ على حافة مقعدي ومدَّتْ يدها فحضنتني.
شردتْ دمعةٌ يتيمة من عيني جففــَتـْها بأناملِهـَا الرقيقة وراحتْ تهمسُ وهي تمسِّدُ خصلاتِ شعري كأنها في معبد تصلّي.
= ليلاي. انهضي من رمادك.
همستْ.
ثمّ راحت تتحدث إليّ بجديّة:
-لا يأس مع الحياة حبيبتي. "الضربة التي لم تقتلكِ حتمًا ستقويكِ".
انهمرتْ دموعي. بللتْ كفَّها. آهٍ كم أتوقُ اللحظة إلى رحم أمي. أتوقُ أن أعودَ نطفةً لأتشكلَ أنثى فولاذيَّة. صلبة. وأولدُ من جديد.
حكيتُ لها عن طائر الرّوح الذي ظهر فجأة في الأمسية الشّعريّة. ثمَّ. اختفى!
حثَّتني على مرافقتها الندوة الأدبية بعد أيام علّ الحبيب يكونُ بينَ عابري الصَّمتِ فيعيد لميزانِ العِشقِ تلكَ الكفــَّةَ المفقودة.
...
..
.

لم أكن أنا التي اعتلتِ المنصّة.
كانَ ظلّي!
العيونُ جاحظة من حولي.
الصّمتُ مُطبقٌ على الصالة. وبينَ العبارة والأخرى
تهبطُ عينايَ في بحثٍ مستميتٍ عن توأم الرّوح:
*
أيّها الوجه الغجريّ
الصاعد من ضباب الأفق
تباغتني
وأنا أتثاءبُ على وسادة الضَّجَر

*
أفــَلـَتِ الأنوارُ من حولي.
بقيتُ وحدي وسلمايَ.

شبكتْ ذراعَها بذراعي وسرنا معًا خطوة خطوة في المطر. نعبرُ معًا بُقعَ الوحل المتراكم على الطريق المُؤدي إلى متجر الورد.
...
..
.
هنا.
كانتْ لحظة.
بل طفرة زمنيّة.
حيثُ التقى النصفُ المُعتمُ منَ توأم الرُّوح بالنِّصفِ المُضيء.
هنا. اكتملَ الكيانُ الأسطوريّ.
هنا. كانَ البنفسجُ شاهدًا على جُنونِ اللحظة.
...
..
.
بحلقتُ في المكان.
لم أعثرْ إلاَّ على بضعِ زهراتِ بنفسجٍ ذابلة مُبعثرة داخلَ سلَّةِ القمامة دونما ماء دونما عطر دونما رونق.
تمامًا. تمامـــًا كما أنا الآن.
وإلى ما لااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا نهاية...!

















-16-
رأيتُ فيما يرى المُكتئبون:
بحرًا تنحسرُ أمواجُهُ رويدًا رويدًا وإذا بسنونة مبتورة الجناح ترفرفُ وترفرفُ وإذا بطائر الرّوح يسمع ويرى ويهبط حاملا صليبه فوق كاهله المحني. يهرولُ عائدًا في دربِ الآلام متدثرًا بثوبٍ آدميّ وهو يهتفُ وصوتُهُ كصوتِ طيورٍ كثيرة:

"حبيبتي. أنا هنا.
لا تخافي.
حبيبتي. أنا هو.
لا تجزعي...!
كنتُ ميتًا وقمتُ
وها أنا حيّ"

وإذا بنورس شبه ابن إنسان. وجهه كالشمس وهي تضيء في قوّتها. رأسه وشعره أبيضان كالصّوفِ الأبيض. كالثلج. عيناهُ كلهيب نار. رِجلاهُ شبه النّحاس النقيّ وفي منقاره شبكة في اتّساع البحر.
من بين السُّحب أتى.
ألقى الشَّبكة في البحر فالتقطَ السنونة الغائبة عن الوعي وطار بها إلى الأفق حيثُ ابتلعتهما غيمة.
...
..
.
صحوتُ على شلالٍ منَ العَرَق المالح فهرعتُ إلى النَّافذة وإذا ببنفسجةِ الحقلِ، زهرتي الوحيدة، المُحَاصَرة بليلٍ باهِتِ الحُلكة تعزفُ المزمور الأول لـنـُواحِ ما بعدَ النكبة:

حبيبي،
يا نورًا يضيءُ من سمائهِ كوكبي.
يا نارًا وحدها تُوْقدُ حطبي.
يا بعضي وكلّي.
قُل لي:
لِمَ،
لِمَ ترَكتـَنـِي. !؟
...
..
.

أغلقتُ النافذة.
كالوردة، أغلقتُ بتلاتي على نفسي. ورحتُ أنشجُ وأولولُ:

يا تَوأمَ الرّوح.
إن كانَ الفِرَاقُ قَدَرَنا فَلْيَعْبــُر هذا الوَجَع عنّي!





-17-
في الشّهر الثاني لميلاد جرحِ الغياب كان لا بدَّ لي أن أهبطَ عن صليبي فإمَّا موتٌ أو حياة والحياة لا تدلـِّل الضعفاء بلُ تذلّهم وتطرحهم للذئاب.
قررتُ أن أنتفضَ من رمادي لأحيا.
قررتُ ان ألمَّ شظايايَ المتنافرة في كلّ جهاتِ اليأس.
قررتُ أن أجعلَ لغتي تمطرُ عطرًا يظلّ حبلَ السُّرّة بيني وطائر الرّوح. هذا الحبيب الغريب الذي لا بدّ أنّه يراني ويسمعني عن بُعدْ. ذبولُ الزهراتِ سيقصيه بينما تفردّها سيُدنيهِ من العطر.
التحقتُ بالجامعة قسم أدب مقارن وشرعتُ في صقل موهبتي فالكتابة عطيّة من السماء لكنّها تحتاجُ مناخًا مناسبًا لتنمو وإلا تذروها الريح دون أن تترك ولو بصمة صغيرة على نسيج الخارطة الأدبيّة.
صارتْ الكتابةُ هاجسي الأوحد. رحتُ ألتهم الكتبَ فقد آمنتُ أن وراء كلّ أديب جيّد قارئ نهم يسعى دونما كللٍ لشحن طاقته الابداعيّة من شتّى الرَّوافد الأدبيّة.
هي الكتابة!
هذا الاستحواذ المَقيت/اللذيذ. الأرقُ الخـَلاَّق. الإبحارُ المُغامرُ إلى العُمق حيثُ المَحَارات اللغويّة واللآلئ الدفينة التي تحتاجُ صيَّادا ماهرًا يعرفُ من أين يأتي ب الأسماك الشهيّة.
هي الكتابة!
رفيقةُ الدرب، هذي التي مهما أعطيتها أعطتني أكثر وأكثر وكلّما قدَّمْتَ لها الوقت على طبقِ التَّفاني كلّما أذهلتني بمباغتاتٍ لا حصر لها.
هي الكتابة!
كلّما حاولتُها باغتتني باحتمالاتها.
هي الكتابة!
هذا الجُنون المُؤقَّت.
...
..
.

مساء مررتُ بسلمى.
انفرجَ البابُ عن وجهها الطفوليّ.
راحتْ تتأملني بنظراتٍ فضوليّة ونحنُ نسيرُ معًا إلى غرفة المعيشة.
همستْ في أذني، ربما لكي تتفادى الآذان الفضوليّة:
=كم أنتِ شهيّة بالفستان الأحمر ليلاي.
-وكم أنتِ سلمايَ صديقة وفيّة.
أجبتها.
عاودتِ الكرَّة:
= أنتِ متوهِّجة على غير المعتاد اليوم ألا تلاحظين ذلك!؟
- أنا!؟
احتلَّ وجهُ الحبيبِ الغريب كِياني. خلته يجلس بيننا يجسُّ نبضَ عروقي.
قلتُ وابتسامةٌ هادئة تخضّبُ شفتيّ:

عاشقةٌ أنا
لا لرَجُلٍ مَا
إنـَّما
لكلِّ مفاتنِ اللغةِ

قهقهنا سوياً فاصطبغَ الأفقُ بلونِ البنفسجِ.
ثمّ، غادرنا جنبا إلى جنب إلى الندوة العكاظيّة في منتدى حيفا الثقافي.
...
..
.

راحتْ سلمى تقرأ قصيدتها وعينايَ تطوفان بين الوجوه تبحثان عن طائر الرّوح.
لم أعثرْ له على أثر ماديّ لكن...
استحوذَ شعورٌ غريبٌ على حواسي:
إنــّه هنا.
يراني. يسمعني. يشتاقني.
إنّه هنا.
أكادُ أتنفَّس عطرَهُ.
أكادُ أرَى بريقَ عينيهِ، لهفتَهُ، ذكاءَه المُتَّقِد.
إنّهُ هنا.
ربما في هيئةِ طيفٍ أثيريّ.
يراني ولا أرَاهُ.
يسمعُني ويثملُ دون أنْ يُفتضَحَ سِرُّه.
...
..
.
استفقتُ من موجةِ هذياني على تصفيقٍ حَاد.
عادتْ سلمى، فاتّجهتُ بدوري إلى المِنصَّة.
سمعتُ صوتا كصوتِ طيور كثيرة يوشوشني:

"حبيبتي، أنا هنا.
لا تخافي.
حبيبتي. أنا هو.
لا تجزعي...!
كنتُ ميتًا وقمتُ
وها أنا حيّ"

غمرتني موجةٌ من النَّشوة فَرُحْتُ أُرَتِّلُ حنيني للحبيبِ الغريبِ من شاهقِ العِشقِ ترتيلاً.
قبل أن أعودَ مكاني ألحَّ الحضورُ على سماع المزيد من القصائد. فقطفتُ زهرةً مِنَ ديوان "مباغتًا جاء حُبّك":

ما بعدَ بَعدَ الفِرَاق

لَمْ نَتَغَيَّرْ كثيرا
بعدَ الفِرَاقِ.
لا.
فقط
نَمَتْ بعضُ الطَّحَالِبِ
فَوْقَ مقعدنا.
لم تتغيَّرْ الأشياءُ
مِن حَوْلِنا.
لا.
لم تَحْدُث في الكَوْنِ
كَوَارِث.
لم تَنْفَجِر بَرَاكِين.
لم تحترق حَدَائِق
وَمَيادين.
لم تُهَاجِرْ طُيُورٌ.
لم تَجِفّْ بُحورٌ.
لم تَنْقَرضْ بَعْضُ التَّماسيحِ.
لا.
ولا زَلْزَلَتِ الأَرْضُ
زِلزالَها!

لم يَحدُث
إلاَّ أنَّ اللونَ الأحمرَ
اختَفَى مِنْ قَوْسِ قُزَحٍ
حبيبي.

*

قبلَ أن أغلق الكتاب لأتقهقرَ بصمتٍ إلى رُكني الهادئ تقدّمَ منّي طفلٌ أنيق وناولني باقةَ بنفسجٍ وقُصَاصَةَ وَرَقٍ. ثُمَّ،
همسَ في أُذُنِي:
=هذي رسالة لكِ من ذلكَ الرَّجُل.
أشارَ إلى زاويةٍ ما في الصَّالة ومضى.
قرعَ قلبي بعنفٍ.
الغريب!
لا بدّ أنّه حبيبي الغريب...!
لا بدّ أنّه تجَسَّدَ ليغسلَ أرَقِي بمطرِ العشقِ.
بحلقتُ في المكان.
لم أعثرْ له على أثر.
هبطَ قلبي.
جحظتْ عينايَ.
...
..
.

وإذا بابتسامةٍ عريضةٍ تُتوّجُ شفتيّ رَجُلٍ وجهه كالشَّمسِ وهيَ تُضِيء في قوّتها. رأسُهُ وشعرُهُ أبيضانِ كالصُّوفِ الأبيض، كالثلجِ وعيناهُ كلهيبِ نار.
...
..
.
فضضتُ الورقة بعصبيّة فإذا بالعبارة:

" هل نبدأ الحكاية "

..... ترفرفُ
.............ترفرفُ
....................ترفرفُ
في قفصِ التَّرَقُبِّ والانتظار.


-18-
أفــَلـَتِ الأنوارُ من حولي.
بقيتُ وحدي وسلمى.
شبكتْ ذراعَها بذراعي وسرنا معًا خطوة خطوة في المطر. نعبرُ معًا بُقعَ الوحل المتراكم على الطريقِ المُؤَدِّي إلى دكَّانِ الورد.

...
..
.

هنا،
كانتْ لحظة،
بل طفرة زمنية.
حيثُ التقى النصفُ المُعتمُ ِمِنَ التَّوْأمِ بالنِّصفِ المُضِيء
هنا، اكتملَ الكِيانُ الأسطوريّ.
هنا، كانَ البنفسجُ شاهدًا على جنونِ اللحظة.
..
.
بحلقتُ في المكان.
لم أعثر إلاَّ على بضعِ زهراتِ بنفسجٍ ذابلة مُ بَ عْ ثَ رَ ة داخلَ سلَّةِ القمامة، دونما ماء، دونما عطر، دونما رونق.
تمامًا...
تمامـــًا كما أنا الآن.
وإلى ما لا نهاية.
...
..
.

شعرتُ كأنّ عاصفةً ثلجيّة تقتربُ من كياني المتهالك.
أرعدتْ سمائي وأبرقتْ.
انهمرتِ العبراتُ من مآقي الوجعِ المُزْمِن.
فوقَ الرَّصيفِ هويتُ كورقةِ شجرٍ ذابلة.
اهتزّ صوتُ سلمى مع الرِّيح وهي تهتفُ بوجل:
= ما بكِ لَيْلاي!؟
علا صدى المزمور الثاني ما بعد النواحْ:

تُشتّتُني
أحرفُ العطفِ اللغويّة.
تُلغيني فساتيني.
تطعنُنِي
بألفٍ وألفِ خنجر.
للغربانِ تُطعِمُني.
يُربِكُ الصَمتُ عطري
وكحلي
وكلَّ أوراقي.
لا تَفهَمُني
إلاّ علامات التَّعَجُبِ
والاستفهام.
وأنتَ بعيدٌ. بعيدٌ.
عن حناني، مهاجر.
...
..
.

امتزجَ ملحُ الدّمع بطحينِ رَاحتيّ سلمى فنضجتْ أرْغفةُ الحنان.
اقتربتْ من زاويةِ القلبِ. على حافة بُؤسي جلستْ. مدَّتْ يدها وضمَّتني إليها. ثمَّ، راحتْ تحرّر خصلاتِ شعريّ الكستنائيّ من الضفيرة الطويلة، بطولِ حبلِ مشنقة.
همستْ:
-هيا بنا ليلاي نعود إلى البيت.
موجةٌ أخرى من العَبَراتِ اكتسحتْ كياني الهشّ وسجلـَّت سيرَة فـُـتوحاتـِها المتكررة فوقَ وجنتيّ.
آهٍ، سلمى!
كم أتوقُ اللحظةَ إلى صدرِ أمّي!
...
..
.

(أمـِّي !!!)
وقعتْ المُفردة في رَحم الآلام المتقدّة. فأخذتُ أناجي طيفها:

أيــَّتها النفسُ المطمئنة، نامي حيثُ أنتِ، راضيةً مرضيّة
ودعيني: أنا اليتيمة المهزومة المُجهضة الجريحة المنذورة لوحشةِ الغُربة والوِحْدَة منذُ الشَّهقةِ الأولى، أموتُ بسلام.
...
..
.

سرتُ وسلمى والقمرُ ثالثنا وحارسنا... إلى البيتْ.
حينَ خيَّمَ الوُجومُ على الغرفةِ تناولتُ قصاصةَ الورقِ مِن جيبي وطرحتها كما حجر النّرد على المنضدة:
=ما هذه؟
طعنتني بسؤال.
تثاءبَ الجوابُ على شفتيّ:
دعوة عشقـِـيَّة.
- مِمَّن...؟
اتسعتْ دائرةُ بؤبؤيّ عينيها. رفرفت اللهفة على شفتيها.
...
..
.

(الغريب!)
عصفَ اسمه بكلِّ كياني. نقلني إلى متاهةِ الجُنون:
تراهُ حقيقة أم وهمٌ من صُنعِ خيالي المهووس بالكتابة؟
بدأ اليقينُ والظنونُ يتأرجحانِ على حبالِ: "لو".

لو أنـَّهُ حقيقة لمَاذا غابَ؟ غابَ وكأنـّهُ فصّ ملحٍ ذابَ في بُحيرة؟
غريبي!
يا فارسَ الحلم، متى تتحقّق!
ألأنّكَ رَجُل الحُلم لا بُدَّ أنْ أبحثَ عنك باستماته!
ألأنّك نادر كالجواهرِ لن أعثرَ عليك بسهولة!
...
..
.

لكن، إن أنتَ مُجرَّد وهم، لماذا يتملكُني شعورٌ أنَّكَ هنا.
أشعر بحضورِك الطَّاغي في عروقي.
لِمَ أشهقُ وأزفرُ أنفاسَكَ؟
لمَ أتنفسًكَ عشقا!؟
...
..
-ليلى ... ليلــــــــــــى!
...
..
.
عدتُ من شرودي.
= مَنْ يكون!؟
عادتْ وطرحتْ السؤالَ بأناقة.
أجبتُ:
- أبي.
= ماذا!؟
حدجتني بنظرةٍ غريبة وكأنّ بي مسٌّ من جنون.
-أقصدُ، هو رجلٌ بِ مقام أبّي.
= كيف؟
دوّى السؤالُ داخلَ رأسي كالدّوامة.
وقصصتُ عليها حكايتي مع الرجل الذي وجهُهُ كالشمس وهي تضيء في قوّتها. رأسه وشعره أبيضان كالصوفِ الأبيض كالثلج وعيناهُ كلهيبِ نار.
قهقهتْ فبكيتُ.
تأففتْ:
- والآن، لمَ تبكين؟
قلتُ:
أشعرُ كأنّي أسيرُ خلفَ جنازةِ حبّي وبينَ اللحظة والأخرى تُطِلُّ وجوهٌ من الشرفاتِ لتشيّعَ الجثّة بقهقهاتٍ مرتفعة. تمدُّ ألسنتها وتنبشُ قبري.
مرّةً أخرى حدجتني بنظرةٍ كأنَّ بي مسٌّ من جنون.
احتارتْ ماذا تقولُ. قلتُ:
- آهٍ، سلمى! لو تدرينَ كم أفتقد رجل حلمي أنا، فارسي أنا، مجنوني أنا! لو تدرينَ عمقَ الألم. لا أستطيع أن أتخيّل نفسي أحيا مع رجل آخر إلاّ (رَجُل الحُلم). هذا الرجل الذي يعتبرني كِيانا. يحترم قراراتي وذاتي. يُشبهني. لا يُشَوّهُني. يُدَلِّلُني. يدُلُّني عليَّ.
لا يُعّنفُني. لا يعتبرني مجرد وعاء يستعمله متى شاء ويركله عنه متى شاء.
آهٍ سلمى!
ثمة أسوار شائكة بيني والرجُل الذي يعتبرني مجرد صورة على جدار حياته ما هدفها إلا أن تُجمّل الجدار وتُوفّر له اللذّة
آهٍ سلمى!
سأظلّ في بحثٍ دائمٍ عن رَجُلِ الحُلُمِ.
بهِ وحده أكتمل. كاكتمال القمر في حضن السماء. كاكتمال الكحلِ في عينيّ عاشقة ساعةَ المَسَاء.
سأظلّ في بحثٍ دائم عن رجل يفهمني. يدخل مرآتي. يعرفني أكثر من ذاتي. على جناحيهِ يطيرُ بي إلى ما وراء الحلم.
*

اتجهتْ نحوَ النافذة.
فجأة، فاحَ عبيرُ البنفسج في الغرفة.
بكلمات متهدجة قالتْ سلمى:
(مَنْ يتعلمُ معنى الفِراق سيدركُ عُمْقَ المَحبة.)
أسدلتُ رأسي فوقَ صدرها. أغمضتُ عينيّ ورحتُ أناجي الطَّيفَ الذي تدفقَ بحرًا في عروقي.
...
..
.
يا طائر الروح
يا غريب
يا حبيب
بكَ وحدكَ أكـْـتــَمِـلْ .
فتعال. لا تتوانى عن أن تأتي.
تعال. تعال. تعال.






-19-
ليلة السّنة الثالثة للغيابِ، رأيتُنِي أدْخُلُ المِرْآةَ المغبَّرة برَمَادِ الحُلُم القَديم، فإذا بي وَجهًا لوَجْهٍ معَ كائنٍ خُرافِيّ لهُ وجهُ رَجُلٍ، جسدُ بنفسجةٍ وجناحيِّ طائرٍ وَعلى جبينِهِ وشمُ البَحْرِ.
راحَ يَتَضَخَمُ شيئًا فشيئًا إلى أنْ صَارَ في طُولِ قامتي. تورَّدَ وجهُهُ وهو يبتسمُ ابتسامةً عفويـّةً كالأطْفَال. فغرَ فاهُ فإذا بصَوتٍ كَصَوتِ طُيُــورٍ كثيرَة يـُوَشوشني:

"حبيبتي. أنا هنا
لا تخافي.
حبيبتي. أنا هو.
لا تجزعي...!
كنتُ ميتًا وقمتُ
وها أنا حيّ"

هممّتُ بالهرولةِ إلى جناحيهِ المُمْتدَّينِ نحوي فإذا بأفاعٍ كثيرَة تنبشُ التُّربة تحتَ قدميَّ. تسعَى بسرعةِ البَرْقِ إليّ وفحيحها يشلّ كياني الهَشَّ. تلتفُ حَوْلَ عُـنـُقِـي. تَعْصِرُ أنفَاسِي.
أختَنِـــــــــق!
أحتضرُ ألمًا.
أَتَ شَ ظـَّ ىَ
رُعبًا.
بغتة، يخلعُ الطائرُ رداءَهُ الأثيريّ ويتجسّدُ رجلاً في جَمَالِ الآلهةِ.
يتناولُ فأسًا ويلاطمُ الأفَاعِي الحاقدة ك فَارِسٍ شَهْم. يضربُها الضربةَ تلوَ الضَربَة كَمَنْ يُلاطمُ طواحينَ الهَوَاء. لكن!
هيهات...
ها أنا أهوي قُـــرْبَ قَــدَمَيْـــــهِ.
أهوي جثةً متهالكةً مهزومةً مِن عُمْقِ اعماقها.
أهوي وعلى شفتيّ نداءٌ:
(ايزوريس. كنْ بخير حبيبي).
...
..
.

صحوتُ على فجرٍ مختلف النَّكهة. رُحْتُ ألمُّ شتاتَ أورَاقي وأقلامِي وأجهِّزُ نفسي للسَّفر إلى الجامعة حيث افتتاح العام الدِّرَاسي الثالث.
تسبقني اللهفةُ إلى الحَافلة التي ستُقِلُّني إلى جبلِ الكَرْمِل. كلّ شيء يسيرُ كما يجب هذا الصباح! أتناول المرآة من الحقيبة. كم هي مرآتي شهيّة اليوم. شهيّة كقلبي المترقّب عودتك.
تتهادَى الحافلةُ وسطَ الطُّرُقاتِ المُشَجَّرَة. يزقزقُ قلبي ويطير من غصنٍ إلى آخر بخفّة ريشة. إحساس غريب. غامض. خفيّ غمرني:
غريبي...!
خيّل لي أنّني لمحته في حافلة أخرى تجَاوَزَتنا.
تـُراني رأيتهُ حقًّا أم شُبــِّهَ لي !؟
إنْ لم أرَه، فمِنْ أينَ لي هذا اليقين بأنّ طيفه لا يفارقني؟ لمَ أحيا مثقلةً بهِ كأنـّنا كائن واحد منشطر. يُسَيِّرُني. يَأسُرَني. يتناولُ القلمَ ويكتبُ على أوراقي فأنزوي في الرُّكنِ أقرأُ بأعجاب ما تخطـُّهُ يدُهُ الخفيّة في جوفِ العتمة.
لا...!
لن أقُصَّ هذه الهَواجسُ على أحَد ولا حتّى على سلمى لكيلا يكون في كشفِها مَقتلي. لكيلا ترجمُنِي القلوبُ الضَّريرَةُ بتُهْمَةِ:
...
..
.
لوثةُ جُنُون.
...
..
.
على جمرٍ، أنتظرُ اقتحامَ المـُحَاضِر في الأدَبِ المُقَارِن هذي القاعة الرَّحبة المُطلّة على بحر حيفا. تحاصِرُني عيونٌ فضوليــَّةٌ مِنْ كُلِّ جهاتِ القلقِ. أهرب من نظراتهم إلى الورق:

آهٍ.
لو تدرون:
ما لم ترَ عين
ما لم تسمع أُذُن
كانَ سَيْــــــــري فوقَ
شظايا
دَربِ الآلامْ.
فكانَ موتي وكان انبعاثي
فرَاشةً حُرّة
مِنْ كُلِّ قَيْدٍ وذِكْرَى!
...
..
.
اقتحمتْ خيالي صورةٌ راحتْ معالمها تَتَّضِحُ رويدًا رويدًا.
رَأيتـُني كاللقْلَقِ المَضْرُوبِ بلَعْنةِ الوُقُوفِ دَهرًا عَلى سَاقٍ وَاحِدًة في مَاءٍ آسِنٍ. تذكَرْتُ فيصل. تذَكَّرتُ أبي وأخي. تذكرتُ أمي. تذكّرتُ شبح السرطان المقيم في جسدي!
انتفضَ القلمُ بين أناملي النَّحيلة وشرَعَ بتسجيلِ المزمور الثالث لنُواحِ ما بَعْدَ النَّكبَة العاطفيّة:

أن أصير معولا
لِهَدْمِ الأَوْثَانِ دَاخِلَ معبَدي.
أَنْ أَثُورَ على الرَّاكِدِ في مِذْوَدي.
أن أتَحَدَّى جَلاَّدي.
أَنْ أصِيرَ الطَّيْرِ الشَّادي
أنْ أُتْقِنَ المَدَّ
حينَ يُتْقِنُ عَدُوِّي الجَزْرَ.
أنْ أكونَ المَقْهُورَة.
أَوْ أَكُونَ القَاهِرَة.
تلكَ،
تلكَ هِيَ المَسْألة!

...
...
..
.

بغتةً،
غمرني الإحساسُ ذاتُهُ بكثافةِ حُضُور خالد في عُرُوقي.
فـُتِحَ بابُ قاعة المُحَاضَرات في الجامعة. بَانَ رَجُلٌ في جمـَـالِ الآلهة وحضورها. تهادَى داخلَ القاعة كغزالِ يسيرُ إلى جدولِ ماء.
(تُراني أحلم!! هل ما أكتبه الآنَ مكتوبٌ في السماء. هل ما أراهُ الآن ما هوَ إلاّ الحلم الأكثر ألقًا الذي ينتظرُ أن أحلمه وأنا مستيقظة)!
بحذرٍ، رَتـَّبَ أوراقَهُ على المِنْضَدة. بلمحِ البَصَر، بعثرَ أوْرَاقَ اتزاني. بدأ قلبي يقرع بصوتٍ كطنين النّحل.
طالعَ العيونَ المتراكمة ككثبانِ الرَّملِ من حولهِ.
تورَّد وجهُه وهو يبتسمُ ابتسامةً عفويّة كابتسامات الأطفال فَرَحًا ب هديةِ العيدِ. فتحَ فاهُ، فإذا بصوتٍ كصوتِ طيورٍ كثيرة يوشوشُ، يُوَشْوشُ:
...
..
.
أحبــَّائي.
أنا المحاضرُ المَغْـربِيّ فارس الصحفي. أتيتكم وفقَ معاهدة تبادل مُحاضِرين بين الجامعات. سأقوم بتدريسكم مادة: (الشعر الحديث). ما هي مميزاته وآفاقه مع نماذج من الأدب العربي والأجنبي الحديث.
...
..
.
.
.

راحَ يتحدثُ عن ايزيس دون أن يراني فقد كنتُ في الزاوية البعيدة للقاعة. كانَ قلبي يقرعُ بعنف. يقرعُ كأجراسِ الفَرحِ فجرَ العيد. كلّ رَنــَّة كانت ترتِّلُ العشْقَ ترتيلا:

فارس. فارس. فارس!
أحقــًّا هذا أنت؟ حبيـــــــــــــــبي.
-20-
هذا الرجل، المسكون ببحر، سوف يكونُ الغرقُ فيه قدري الجميل.
هذا الفارس، كالقصيدة أتى بغتةً ليلمَّ شظايايَ المتناثرة في كلِّ جهات اليأس والبؤس فيتَّحِد الشّطرُ المُعتم في وحشةِ غـُربة الرّوح بالشّطر المضيءِ من كيانـِهِ المزدوج كي يتحققَ الاكتمال مضمّخــًا بعطر البنفسج.
...
..
.
ألقى التحية على الطلابِ ومضى. طرحتُ عنّي عباءةَ الشّرودِ ومضيتُ خلفه.
في الحديقة أدركتــُهُ.
ثرثر قلبي معاتبًا: لماذا تأخرتَ يا فارسي دهرًا ولم ترأفْ بضَيَاعي؟
...
..
.
لم أنادِ أنا عليه. ناداهُ الحنينُ المعتــَّـقُ في خوابي العـُمر.
قربَ زهور البنفسج، تسمَّر. التفتَ خلفه. رآني. سارَ نحوي.
أنتزَعَ النَّظارة السَّوداءَ عن عينَيْهِ.
مئاتُ الزُّهورِ نبتَتْ بين لحظةٍ وأُخْرَى في مغارتيّ عينيهِ الغامِضَتَيْنِ فكانَ نورٌ واستعرتْ نارٌ.
...
..
.
كشجرتيّ سنديانٍ خُرَافيتينِ وقفنا مُتوازيَيْنِ. لم تتشابكِ الأغصانُ. لم يسقطِ الثَّمْرَ الشَّهِيّ فوقَ بِسَاطِ الجَاذبِيـَّة.
التقتِ العينُ بالعين وإذا بالسماءِ تصطبغُ باللونِ البنفسجيّ والفراشاتُ والغيوم والكونُ يستحيلُ سيمفونيةً أسطوريّةً خالدة.
...
..
.
صافحني.
تصاعدَ دخانُ احتراقي.
أتى صوتـُهُ، هذا الصوتُ القديمُ كصوتِ طيورٍ كثيرة ليهدهدَ قلبي البِكْر الذي لا زال يترقَّبُ القطافَ.
-أحتاجُ أن أمضي الآن. ألقاكِ في العاشرة غدا في كافيتريا الجامعة.

ومضـــَى...!
ظلَّ طيفُهُ يتضاءلُ شيئا فشيئا إلى أن صارَ نقطةً سوداءَ على خطّ الأفق. راحَ قلبي يجهضُ السؤالِ تلو السؤال:
تُراه يعود. !؟
هل الفراق قدرٌ لا مفرّ من جحيمِه!؟
والحُبّ، ما الحبّ !؟
أهو لحظة عبثيّة لا تتكرر!؟
والحياة، ما الحياة. !؟
أهي مجرد ورطة نبيلة يقترفها الأهل ونتورط فيها نحن !؟
والأمل. ما الأمل. !؟ أهو عصا في يدِ مكفوف...!
والدمع. ما هو الدمع؟ أهوَ كخرطوم آكلِ النَّملِ يشفطُ الوحلَ من بُحَيـْراتِ الحيرة!؟
أم هو كلّ ما يعتريني الآن، الآن، من ضعفٍ أنثَويّ ملعون!
لكن، لماذا فارس بالذات اختراه قلبي؟
لماذا لم أتمكن ولو مرّة من مجرد اعطاء فرصة للآخرين أن يقتربوا من أسواري الشاهقة!
أهي الجاذبيّة العشقيّة التي دخلنا مجالها فصار الفرارُ من سطوتها شبه مستحيل؟
.....
...
.
صباح اليوم الثاني لعودة طائر الرّوح، رأيتُني أنهضُ من حلمٍ سرياليّ الملامحِ مُرتعبةً. خُيـِّلَ لي أنــِّي رأيتُ التوأم الأسطوريّ الأول في ملفاتِ التاريخ: قاين وهابيال.
هابيل يقطفُ البنفسجَ منَ الحقل ويضفرُ الأغصانَ فيما يُشبهُ الأكاليل وهو يغرّدُ كطيورٍ كثيرة.
وإذا بالتوأمِ المشطور عن ذاتِ البُوَيْضَة الأصليّة: قايين، يستعدُّ لتنفيذ خطتـِهِ الجهنميّة:
تسلَّلَ من الخلفِ.
بيدين ملطختين بطينِ الأرض قامَ على هابيل، أخيهِ.
سالَ الدمّ.
صرختِ الأرْضُ. تناسلتِ اللعنة.
...
..
.
أجرجرُ أطيافَ الخيبةِ خلفي وأمضي إلى الحَافلة فتسير بي إلى كافتيريا الجامعة.
في الركن المُضاءِ بشمعة أجلسُ. تسرحُ قطعانَ خيالي. يأتي نادلٌ ما ليوقظني من انفلاتِ خيالي. تدبُّ اللهفةُ في عروقي. يسألني عن اسمي. يناولني قصاصةَ ورقٍ وبعضَ الكتبِ ويمضي.
ألمحُ صورةَ فارس على كلِّ الكتبِ. أسارعُ بكشفِ المستور في الورقة:

"أنتظرُك الآن عند الصخرة قرب البحر، حيث تجلسين كلّ مساء".
*
ينتظرني. ينتــــــظرُني!
زقزق قلبي ورقص. دارَتْ بيَ الدُنيا.
أخيرا يا فارس سنلتقي!
وأين! على ذات الصخرة حيث اعتدتُ أن أنتظرك!
اليوم، لا بُدَّ أن تُعَمِّدَني حبيبي بحبّك وتنسبني إليك!
-21-
"ليست مسؤوليتك أن تبحث عن الحبّ. هو في داخلك. فقط أزل الحواجز".
أكانَ فارس منذ الشَّهقة الأولى وحتّى ما قبلها في جوفي، والآن، أنا التي أزلتُ الحواجز بيننا!؟
أكان هناك قبلَ أن يكونَ نورٌ؟
...
..
.
حينَ خلقَ اللهُ الإنسانَ،
كنتُ أنا وكنتَ أنتَ في فِكْرِهِ.
...
..
.
مِنْ قَبْلِ أن يكونَ نور
كُنْتُكَ. كُنْتَني. وكانَ الحُبُّ حَارسنا.
.....
.
أتيتَ لتكتملَ بنا الحياة كاكتمال الكُحْلِ في عَيْنَيّ حسناء، كاكتمال القَمَرِ في حِضْنِ السّماء.
...
..
.
سأكونُ السّفينة وتكونُ بحري. سأكونُ وردة وتكونُ عطري. سأكونُ قصيدة وتكونُ قافيتي وتَزُفُّنِي إلى عَرْشي الأثير: قلبك.
...
..
.
في تمامِ العاشرةِ عشقًا، على ذات الصخرة قربَ البحر حيث اعتدتُ أن أجلس أنتظره، جلستُ، فإذا بي ألمحُ طيفا يخرجُ إليّ من بين الأمواج. يقترب. يقترب.
مع كلّ خطوة راحَ يُشعلُ في رُوحي قنديلا.
ثمّ، اتَّحَدَّ ظِلاَّنا.
.
مرّتِ بنا سيارة أجرة، ارتفعَ منها صوتُ أم كلثوم:

يا حبيبي...!
الليل وسمَاه ونجومُه وقمرُه.
قمرُه وسَهَرُه.
وانتَ وأنا.
يا حبيبي أنا.
يا حياتي أنا.
كُلّنا. كُلِّنا في الحُبِّ سَوَى.
*
"المرأة لا تحتاج وردة. بل تحتاج أن توقظ َالوردة فيها".
كنت وردة ذابلة. أجهضتني الظروفُ منذُ الشَّهقة الأولى إلى أن أتى فارسُ حلمي فأيقظ هذه الوردة. ملأ عطري الكونَ بأسره فثملتِ الطّيورُ وملأتِ الفضاءَ تغريدًا.
"ما لمسَ العشقُ شيئا إلاَّ وجعله مُقدّسًا"
آهٍ مولانا، لو تدري كيف صارَ قلبي معبدًا يؤمُّهُ حُجَّاجُ العُشّاقِ ليتطَهَّروا من اللعنة المتوارثة فيحلّقوا.
" كلّ إنسان يُصبحُ شاعرًا إذا لامسَ الحُبُّ قلبه ".
آه أفلاطون!
ليتك كنت تدري قبل أن تكتب هذي الجملة العشقيّة كيف لامسَ الحُبُّ قلبي فبدأتُ أتدفق شعرًا وبدأت قصيدتي تتوهجُ!
آمنتُ أنّني حينَ عشقتُ فارس أحبّني كلّ البشر حتّى أعدائي.
كان فارس تلك الشّمسُ التي تُوقظُ الأسماك الصغيرة. الصغيرة. في بحري. غمرني بحنيّة قلبه. بدفئه. باحتياجه لي.

*
في تمامِ السَّاعةِ العاشرةِ عشقا، التقينا!
جاء صوته ك خرير مياه كثيرة:
- صباحك حبّ وحرية وأحلام جميلة محقَّقَة.
*
تدفقَتْ المفرداتُ كما لو أنّها حبّاتُ خرزٍ في عقد انفرطَ على سجّادةِ الدهشة.
*

-أحبّكَ بالثلاثة.
= فقط!
لو تشظّى قلبي مليون قلب، لهتف كلّ قلب: أحبّك.
= بنفسجتي أنتِ.
- أحبّكَ أكثر من أيّ عدد محتمل في هذا الكَون. أحبّك أوسع من كلّ مدى. أنقى من كلّ اعتراف، أكثر حدّة من وابل شجن. أحبّك. كيف لا؟! ألا يعشقُ الإنسانُ أناهُ؟
= من لا يعشق أناهُ عاجز عن العشق.
- بالثلاثة أحبّك.
= بالمليار بموت فيكي.
- بالمليارات بعيش فيكْ. لم نعُد قلبانِ تائهانِ حولَ محورِ دائرة. صرنا المحور.
= أنتِ محوري بل كعبتي.
- أنا الوجه الأنثويّ منك. أنت الوجه الذكوري منّي. بنا، تكتملُ أسطورة العشق الفردوسيّ، عشق آدم وحوائه.
= أنتِ نصفي الحلو.لا. بل أنتِ كُلِّي.
- بعودتي ضلعةً لصدرك، تستعيدُ الحياةُ سيرتها الأولى: سيرة القداسة التي بدأت بآدم وحواء وسوفَ تَخْضرُّ الفصولُ الأربعة.
- عاجز عن الكلام. الصمت أبلغ من الكلام أحيانا.
- أنت فجّرْت أنوثتي المكتومة. حتّى حروفي، صار كلّ حرف أنثى!
- تفجّري كما تشائين. عيشي كل ثانية من عمرك.
تقدّمي...
فقط الجبان يتراجع.
- أنا وانتَ التقينا ك ورقتيّ شجر انجرفتا داخل نهر إلى البحر.
لم يستأذن أحدنا الآخر في أن يدخل قلبه.
كما تدخل الشمس القلوب دون استئذان، هكذا دخلتَ قلبي ودخلتُ قلبك.
- لأنّنا توأم الشُعلة. متطابقان نحنُ كدائرتين، كوجهَيْن لذات رغيف الخبز.
- ربما أنت لا زلت تعاني من رواسب الأخريات في قلبك. ربما الآن لا تستطيع أن تقرر: أنا، أم هنَّ!
لا عليكَ!
كلمّا نافستني الفراشات على حبّك، سوفَ أولدُ في قلبكَ من جديد.
- مجنونتي الصغيرة، (قهقه)، صدقا... ليس من أخريات!
كنتِ أنتِ الحلمَ دائما.
كنت تسيرينَ في دمي منذُ الأزل وستبقين فيه للأبد.
- كلامُك يسري كالمخدّر في دمي. كلامك جعلني أثمل.
- وأنا بكِ أصحو فقد ايقظتِ داخلي أشياءَ كنتُ أظنها ماتت.
باتت جثةً هامدة وإذا بها تصحو شديدة الحياة.
- العشق كالنسغ للشجرة، كالمطرِ للأرضِ، كالماءِ للسمكة.
- أنتِ أحييتني.
- أنتَ نبيذي. بكَ أثمل. أنتَ صلاتي. بكَ أسمو.
*
-أنا امرأة عصيّة على التكرار.
أبحثُ دومًا عن تجديد شخصيتي وسلوكي كي لا أكون كالذُبابِ مُمِلَّة. أتجدّد لكي يظل حبيبي في تَوْقٍ لي. فأنا كلُّ الإناث وعليه ألاّ يبحث عن أجزاء منّي فيهن.
أنا اكتمال الأنثى.
قلتُ لهُ.
فأجاب: ولهذا أعشقك، مجنونتي.
حدّقتُ في عينَيْهِ فضحك وقالَ لي:
= مجنونتي الجميلة. ما بكِ؟
تأملته بإعجاب فسألني:
= لمَ تحدّقين بي.
قلتُ كأنّني أصلّي صلاةَ الفجر خاشعة: أنتَ طفلٌ يا فارس!
بالرَّغم مِنْ كونك رجل بالغ، تصغرني بالعمر بضع سنوات.
عيناك، مرايا لحزنٍ وحكايات.
ضمّني إليه. وَضع رأسي المُتعب على صدره الحنون لأستمدّ منه الدفء وهمسَ: تعالي!
على صدره، شعرتُ أنّني في أمان من كلّ ما في هذا الكون من متاعب، حتّى من ذاكرتي المعطوبة مع فيصل!
فارس ملجأي الآمن.
هو فارس أحلامي. هو نصفي المضيء. به وحده أكتمل كاكتمال الكُحلِ في عينيّ حسناء ساعة الظهيرة، كاكتمال القمر في السّماء.
همستُ:
- ضمّني إليك، كما يضمّ شاعرٌ عجزَ بيتٍ إلى صدره.
قهقه وهوَ يرددُّ:
- مجنونتي الجميلة! مجنونةُ الأملِ أنتِ.
وأكمل:
= أحبُّكِ ليلايَ. أحبّك وأريدك الآن وكلّ آن.
سألته:
- ألا يُؤرقُكَ كوني أكبُرُكَ بضعَ سنوات؟
أجاب:
= طليقتي كانت تصغرني بعدّة سنوات ولم نستطع أن نتواصل.
العمر ليس معيارا للعلاقات العاطفيّة. أنتِ وأنا توأم الرّوح والفكر والعاطفة.
اكتملنا في انصهار كلينا في بوتقة العشقِ فصرنا كيانا كونيًّا واحدًا.
همسَ في أذني بدلال:

= تعالي إليّ. صغيرتي.
تعالي لنكتمل.

*
- بنفسجتي الجميلة كوني قويَّة لأحبَّك أكثر.
- لكنّني ضعيفة!
(خفتَ صوتي)
أنا يا فارس أعاني من ورمٍ في عُنُقي. ربما تكون نهايتي قريبة!
- كوني شجاعة واقتحمي الورم بلا وجل.
هيا انهضي من ضعفكِ فالرّب لن يخذلك.
حطِّمي كلَّ القيودِ وانطلقي عاصفة ًتجتاحُ كل شيء.
كلّ أوجاع الذَاكرة.
كلّ احتمالات أوجاع قادمة.
كلّ عراقيل تمنع تقدّمك
قلبي وكل ذرَّة منّي معكِ وَلَكِ.
أنا يا ليلى أُرْسِلتُ إليكِ بحكمةٍ رَبانيَّة لأُعوِّضَكِ عن السَّنوات العجاف التي مررتِ بها. لا تجزعي حبيبتي وكوني على سجيتك، ليلايَ الجميلة.
*
**
***
آهٍ، فارس!
أشعرُ وأنا أنظر إليك أنَّني أنظرُ لذاتي في المرآة. الكلمات عاجزة عن وصف جمال كلِّ لحظة معك...!
أكتفي بالاستماع لقلبكَ ينبض بكلِّ هذا الحُبّ وأخشى أن أصفه لأحد حتى لا أفقدك.
آهٍ، فارس!
كلّ الذين دخلوا حياتي قبلكَ كانوا تمهيدا لولادتك في مذودِ قلبي وولادتي أنا في معبدكَ: قلبكَ.
بعودتي ضلعةً لصدرك.
ها نحنُ نستعيدُ الفردوسَ، حيثُ أنتَ آدم الأوّل وأنا حوّاء التي ستلدُ لكَ شعوبا وقبائل فتخضّر الحياة ويتوهّج الحلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حملة هاريس: انتخبونا ولو في السر و فن


.. -أركسترا مزيكا-: احتفاء متجدد بالموسيقى العربية في أوروبا… •




.. هيفاء حسين لـ «الأيام»: فخورة بالتطور الكبير في مهرجان البحر


.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت - الشاعر حسن أبو عتمان | ا




.. الرئيس السيسي يشاهد فيلم قصير خلال الجلسة الافتتاحية للمنتدى