الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا أنت

فتحي البوكاري
كاتب

(Boukari Fethi)

2022 / 10 / 13
الادب والفن


أيها السيد، اسمح لي أن أستوقف وقارك لدقيقة فقط. إذا استطعت أن تمنحني دقيقتين فلا بأس فهو لطف منك، ولكن دقيقة واحدة تكفي لأحطّم فيها شعورا صاخبا يكتسح جسدي المتعب .. لقد سمعتك تقول إنّ الشيطان يستوطن هنا، في رأسي. ليكن .. ولكن لماذا هنا بالذات وليس في مكان آخر؟ لماذا لا يكون، مثلا، في رجلي أو في يديّ أو حتّى في ...؟ أكيد أنت تفهمني .. لماذا اختار الرأس ولم يختر القلب أو الشرايين وهي مثل وادي يجري دما؟ عذرا .. لا تقاطعني، أعرف ما تريد قوله .. لقد صدمتني حقا .. لطمتني بكلماتك في وجهي حتّى جعلتني أبدو تافها لعينا .. الشيطان يسكن في رأسي وليس بين فخذي! أليس هذا ما تعنيه؟ صباح اليوم توضّأت فكيف يتربّع الشيطان في مكان لامسه الماء؟! من كان قبلك لم يتحدّث بهذا مطلقا، مع أنّي كنت أقبع على بعد خطوات منه .. لازمته لسنوات عدّة، أقرفص فيها قدّامه، كما أنا الآن، وفي نفسي حديث كثير لا أستطيع أن أطلقه .. لماذا؟ لأن ذاك الرجل الذي أمامك يقف لي بالمرصاد .. قبل أن تقوم من مقامك وتنتزع من جيبك الرزمة المريعة من الأوراق وتقلّبها بين يديك شاهدتك تعطي إشارة إلى ذاك الذي رأسه معصوبة بطرف ثوب كي يُسكتني .. كذلك كان من كان قبلك يفعل .. ولم أقاطعه مطلقا .. كنت على بعد خطوات منه، لو كان الملعون في رأسي لرآه .. كان حديثه كلّه عن الماء وكنت أحسّ بشيء في داخلي يقلقني وكنت أحسّ بكلماته تتساب من بين شفتيه عذبة طرية حتّى إنّي أغرق في مياهه المطلقة والمضافة والممتزجة .. لم يخرج من دورة المياه فعرفت النابع والجاري والراكد والقليل والطاهر الطهور والطاهر المطهّر .. لم يخبرني عن شيء ممّا تتحدّث عنه أبدا .. الماء المضاف مع عدم ملاقاة النجاسة طاهر يُذهب الشيطان .. هذا ما قال .. بالطبع هو غير مطهّر لا من الحدث ولا من الخبث .. أعرف ذلك .. انحصر كلام من كان قبلك في مسائل الماء بأقسامه حتّى كبرت وصار لي طولا يبلغ ارتفاع الباب .. لم يتعرّض إلى الشيطان إلا في مناسبة أو مناسبتين .. كان آخرها قبل أسبوع في معرض حديثه عن النظافة بالماء .. قال إنّه في مكان بين اللحم و الظفر ونصحني بقص أظافري كي لا يتّخذ منه اللعين مرقدا .. وتأتي أنت لتقول إنّه في رأسي! كيف ذلك؟ قبل مجيئي إلى هنا ذهبت إلى الحمّام كعادتي دوما، وقمت بدلك كلّ عضو من أعضائي حتّى تلك التي لا تراها، وفركت فروة رأسي جيدا حتّى كدت أدميها، و غسلت مخرج البول ومخرج الغائط ثلاث مرّات أو أكثر، وأجريت الماء على رؤوس أصابع الرجلين .. لا تقل لي إنّ ماء الحمّام نجس فهو بمنزلة الجاري مادام متّصلا بالخزّان و حياضه الصغيرة متّصلة به .. لا أيها السيد ، ماء الحمّام طاهر مطهّر لا تتوقع غير ذلك .. لو كان من كان قبلك هنا، في مكانك، لاتّخذ من هذه المسألة ذريعة ليتحدّث عن الآبار ومياه الأمطار لا عن الشياطين والجان .. كان سيبلّلني حتما و لكنّه لن يقول إن هذا الدّماغ مرتع للشيطان .. ماذا يفعل الملعون في رأسي؟ إنّني لا أستطيع أن افهم ذلك .. لا أدري ما السبب الذي جعله يتغيّب هذا اليوم قد يكون استوفى الحديث عن الماء ولم يعد له ما يضيف، فآثر أن ينسحب نهائيا.. أو ربّما، ببساطة، خيّر أن يخرج من الماء ويبتعد عن السوائل فتلقّفه تيّار بارد تركه صلدا يسبح في «الناشف » .. وحللت أنت مكانه لتقوّم اعوجاجه .. الشيطان في الرأس وليس في الظُفُر .. هذا واضح وجليّ بكلّ تأكيد .. مهلا، لا تقاطعني .. أعرف ماذا تنوي أن تقول .. ليس لدينا سوى دقيقة واحدة، أقدّم، أنا، فيها احتجاجي وتذمّري وتمسح أنت فيها العرق الجاري في أخاديد وجهك بفعل الفوانيس التي أضيئت تبشيرا بقدومك. ورغم أنّك أصبحت على علوّ جيّد إلاّ أنّها لازالت منارة تضيء مسار حديثك الغريب، الذي لم يؤكّده مَنْ كان قبلك .. ابن الأبالسة في رأسي وليس في مكان آخر!! لا أظنّ أنّ الأمر قد بلغ هذا الحدّ من السوء .. فكما أنّ الجمل لن يلج في سمّ الخياط، لن تلج خيوط الشكّ إليّ ولن يثار الخوف في أعماقي .. صباح اليوم، وأنا أمضي إلى الحمّام، سرت في منعطفات الأزقّة والأنهج الملتوية، خفيفا كنفس مطمئنّة .. وفجأة، استقبلت سوادا مدفوعا إليّ دفعا، يتوهّج في العتمة، وصوتا يشبه الأنين .. قدّمت رجلا وأخّرت الأخرى وكلّي حذر، على استعداد لأتحوّل إلى غزال طائر إذا اقتضى الأمر .. فالحذر واجب كما تعلم، ومن خاف نجا .. كنت متأهّبا لأن أتبخّر في ثانية .. وبمجرّد أن انكسرت الظلمة بين عينيّ جذبتني سحنة منهارة، في منتهى الغرابة .. دنت من الحائط وقرفصت .. تابعتها بنظراتي متفحّصا ولمّا تيقّنت أنّها أنثى اقتربت منها .. لا فائدة من ذكر التفاصيل .. لم يكن، بالنسبة لها، سوى حادث .. ضرب لها صديقها موعدا ليسلبها .. سوء تفاهم ليس إلاّ .. كانت تسعى لتعطيه القلب في أوّل لقاء لهما فآثر ما كانت تحمله ممّا خفّ وزنا وغلا ثمنا .. ضعف في التقدير على ما يبدو .. ومن الممكن أن تكون قد اخترعتْ هذه الحكاية .. ولكن لماذا تكذب؟ أنا أميل إلى تصديقها فهي لم تطالبني بشيء .. صببت اهتمامي عليها .. وجدت نفسي، لامتصاص الصدمة، أقوم بما يمكن لصبي القيام به .. أستمع وأنصت .. أنا دائما هكذا، أستمع وأنصت .. إلى أن تناهى إليّ صوت علبة ترتطم بالحائط ثمّ ترتدّ لتعانق قدمي .. لقد أوشك المعدن ذو الرائحة الخاصة أن يمسّ أنفي حتّى إنّي أحسست بنفخة في وجهي مثل حركة ريشة ناعمة مداعبة. اتّجهتْ عيناي بفزع إلى العلبة ففهمت الرسالة وبسرعة وجّهتها إلى ناحية المرسِل، فرأيت كهلا له ملامح رجل مقبلا نحوي بخطى متعجرفة، خيّل إليّ من تراخيها أنّه خارج، توّا، من تابوت تمّ إغلاقه منذ زمن التتّار. اقترب منّي تسبقه الرائحة المنبعثة من فمه والطلب الذي لم يحاول إخفاءه أو تغليفه واستلّ من ثوبه شفرة حادّة أشهرها في الفضاء ليشعرني بوجودها ويزرع في نفسي شجرة الخوف العامرة بالمطارق لينكّس بها رأسي ثمّ أمرني بفظاظة أن أقلب وجهي تاركا له « الزڤيطة » كما يقول .. ودون أن ينتظر ردّة فعلي، مال على الأنثى ووضع نصل السكّين في جنبها وأمرها بالسير معه بصمت إلى وجهة مجهولة .. سرت في جسدي رعشة دفعتني لكي لا أحتجّ .. طأطأت رأسي وقلبت وجهي وانصرفت .. دخلت الحمّام. هناك تطهّرت .. أراك تنظر إليّ بعينين حاميتين كأنّ موقفي لم يعجبك .. أتعتقد أنّي قصّرت؟ طبعا ليس الواقف على الجمر كالواقف في الماء. ضع نفسك مكاني، في أذنيك طنين وصدرك يتنسّم الخوف، أكنت تجازف بالروح وأنت لا تملك منها إلاّ واحدة؟ وماذا لو شوّه وجهي بسكّينه أأنت، أيّها السيّد، من يحول دون تشويه روحي؟ أتضمن لي ذلك؟ قل لي .. أتضمن؟ مجرّد أن أفكّر في أنّني سأحمل في وجهي ندبة غائرة تصيبني شتّى المخاوف. لن يكون الجرح بعد التئامه إلاّ عنوانا صريحا للشبهة والريبة. لن تطفئ شهامتي تلك النظرات المرتابة التي تروم دفني واقفا كما لو أنّ العلامة في وجهي تعظّ وترفس. أليس ما أقوله صحيحا؟ أأستطيع أن أصل إلى تقاطعات الطرق أو أرتاد الأماكن المحترمة ولا يُوقفني فيها أحد طالبا هويّتي؟ لن أستفيد شيئا لو ألقيت نفسي إلى التهلكة. زد على ذلك أنّ الفتاة ليست من أقربائي، فلِمَ أضحّي بنفسي؟ تستغرب كلامي كأنّ فيه عطب ما. تعتقد أنّي لم أصب عين الحقيقة، أليس كذلك؟ وهذا بسبب الشيطان الذي انزلق من ظفري إلى أعلى رأسي .. شيطاني أخرس، كأنّك تقول، وإلاّ فكيف أترك الفتاة تختطف دون أن أفعل شيئا ؟! كان من الممكن أن أبلّغ عن الحادث طلبا للنجدة وهو أضعف الإيمان .. اسمح لي، أيّها السيد، أن أقول إنّك تجتاز دربا من الخيال بلا دليل .. لو أنّني سارعت إلى ردّ الخبر لأوقفني الحارس عند الباب وقلب الحدث على رأسي .. كيف؟ أترى هذا الزغب في وجهي سينظر إليه مفجوعا، وقبل أن أفتح فمي سيطير صوابه. لم أحلق ذقني وهذا من عيوبي. لا أستطيع أن أفعل ذلك كلّ صباح. لديّ طباع سيّئة، هذا أكيد .. أحبّ أن أرى لحيتي تنمو لأشعر ولو بقدر ضئيل بالوقار والتوقير. إحساس غبيّ قد يكون غير أنّه يسعدني، ويفجع الآخرين، خاصة الحارس الذي سيأمر بإزالة الوسخ من وجهي. ألم تر أنّ كلامي صائبا؟ ثق تماما أنّه سيفعل . سيحصرني في زاوية ويمطرني بوابل من الأسئلة التي ترتبط بشكلي وهندامي ولا تتعلّق بالحادث. فما فائدة التبليغ إذن إذا كان هذا لا يحلّ المشكلة؟ السواد في وجهي مثله مثل الندبة، شرخ غائر في القلب لا يمسّ الجسد. فلماذا تريدني أن أهتمّ؟ لا، أيّها السيّد، لا يوجد الشيطان في رأسي إنّه طليق في الشوارع نافثا روحه في الأحياء. أعرف أنّي لغوت، ومن لغا فلا جمعة له. فاسمح لي، إذن، أيّها السيد، أن أنصرف. سأعود عندما أتطهّر. أريد أن أكون الآن وحيدا لأدفن رأسي بين يديّ وأبكي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير