الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديكتاتورية الأفلاطونية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2022 / 10 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


في الأصل، الحكم هو إملاء لنوع من الإرادة نسميها ’قانون‘ وإنفاذها عبر وسائل القوة الحكرية. فالشرط الضروري المسبق لانتظام الحكم وسط أي جماعة من الناس هو القدرة على احتكار القوة وممارستها بدرجة معقولة على هذه الجماعة، وبالتالي إنفاذ القانون والنظام فيها. فالحكم هو ديكتاتورية صريحة، لكنه يبقى مبرراً من أجل المصلحة العامة للجماعة، لأنه في غياب مثل هذه الديكتاتورية ستعم الفوضى التي هي النقيض تماماً لمصلحة الجماعة وازدهارها، بل وحتى وجودها ذاته. في قول آخر، ما كانت الجماعة لتوجد وتستمر من دون تجميع معظم قوتها واحتكارها في موضع ما بداخلها؛ في غياب ذلك، لا يتبقى سوى أفراد متصارعون من أجل البقاء كل معتمد على قوته الفردية، أو ما يعرف بقانون الغابة حيث يغيب منطق الحكم ويعتمد كل حيوان على قوته الخاصة لتدبير حاجياته أو الفناء. الحكم ديكتاتورية يرتضيها الناس لأنها تحقق لهم مصالحهم بشكل أفضل من أن يترك لكل فرد تحقيق مصلحته الخاصة بيديه. وقد تحدث الفيلسوف اليوناني القديم، أفلاطون، حول ثلاثة أنواع رئيسية للحكم ونبه إلى كونها نماذج نظرية خالصة حين تنزل إلى الأرض تتلاقح من بعضها البعض وتولد أشكالاً هجين متفاوتة من هذه وتلك تفتقر إلى النقاء النظري التصوري.

1- ديكتاتورية (حكومة) الفلاسفة (العلماء)
ربما لكونه فيلسوفاً، وظناً منه أن الفلاسفة من كل المهن هم الأكثر علماً بين البشر ومن ثم الأكثر معرفة ودراية نظرياً باحتياجات ومصالح الناس، خص أفلاطون ديكتاتورية الفلاسفة بالمرتبة الأسمى والأولى بين أشكال الحكم الثلاثة، لكنه نبه في الوقت نفسه إلى استحالة تطبيق هذا النوع بالذات من الحكم على أرض الواقع لكون الفيلسوف منشغل دائماً بعلمه لدرجة تحول بينه وبين الاستئثار بوسائل القوة وممارستها وسط الجماعة. هي إذن ديكتاتورية نظرية افتراضية فقط، لا توجد فرصة حقيقية لتطبيقها الفعلي لكنها رغم ذلك تبقى الأفضل على الإطلاق من بين أشكال الحكم المتصورة، لأنها في حال تطبيقها الافتراضي كانت ستجلب للناس أفضل المصالح وأسماها. لماذا؟ لأن أفضل الحكم، وفق التصور الأفلاطوني، هو ذلك المبني على العلم وليس الهوى، وأسمى أنواع العلم هو ذلك لدى الفلاسفة. ومن ثم يصبح الفلاسفة، بمعنى هؤلاء الأسمى علماً، هم أجدر الحكام وأفضلهم لخير الجماعة ومصلحتها. وأضاف أفلاطون أن مثل هذا النظام لم يسبق أن وجد وسط المجموعات البشرية السابقة على زمانه، ولا يوجد وسط أي جماعة معاصرة له، ولا يتوقع أن يوجد في الحقيقة في أي زمن في المستقبل. لكن، هل صدقت فعلاً نبوءة أفلاطون؟!

نحن، المسلمون، ندعي أن الرسول قد وضع بذرة ما تسمى الدولة الإسلامية الأولى بعد الهجرة في المدينة المنورة، ليعود ويستكمل البناء بعد فتح مكة. ونجمع على أن شرعية هذه الدولة مستمدة من الإسلام كدين جديد. ولما كان الرسول محمد هو من أتى من عند الله بهذا الإسلام، يصبح هو الأكثر شرعية من بين البشر جميعاً لقيادتها. في قول آخر، الله هو صاحب العلم المطلق بالبشر ومصالحهم، والنبي هو الأقرب اتصالاً بهذا الله عبر الذكر الحكيم من كل البشر قاطبة، ومن ثم هو الأعلم بمصالحهم والأجدر على تحقيقها بفضل هذه الصلة الإلهية من بين كل البشر قاطبة. وهذا هو ذات المنطق الأفلاطوني، بعد استبدال الكلمة "فيلسوف" بالأخرى "نبي"، لكن يظل الأساس النظري هو ذاته. بجوار الديكتاتورية المحمدية التي أساسها العلم مثل الديكتاتورية الأفلاطونية، أتت بعد وفاة الرسول ديكتاتورية الخلفاء الراشدين التي قد بنيت أيضاً فوق الأساس الأفلاطوني ذاته- هم الأكثر علماً من بين كل المسلمين لكونهم كانوا الصحابة الأقرب إلى الرسول، الذي هو بدوره الأكثر علماً بين كل البشر بفضل اتصاله غير المباشر بالله. في النهاية، هذه الديكتاتورية الإسلامية الأفلاطونية لم تعمر أكثر من بضع عشرات السنين وانتهت إلى غير رجعة. ثم قامت على أنقاضها أنظمة حكم كانت قائمة وسائدة منذ آلاف السنين قبل ظهور الإسلام، ولا تزال باقية معنا حتى يومنا الحالي.

لكن هذا لا يعني اختفاء هذا النموذج الأفلاطوني من وسطنا مرة واحدة وللأبد، بل هو حاضر دائماً بدرجات متفاوتة في نسخ هجين قد ذكرها أفلاطون نفسه قبل آلاف السنين. في إيران، هناك في الوقت الحاضر حكم ’الولي الفقيه‘- بمعنى أن الولاية (الحكم) حق حصري لمن يملك الفقه (العلم الديني) الأعظم، ولا شك أن المرشد الأعلى علي خامنئي هو حالياً بحكم المنصب الشخص الأعلى علماً، ومن ثم مقاماً داخل نظام الحكم بصفته القائد الأعلى للجمهورية الإيرانية الإسلامية. ولا يقتصر الأمر على إيران أو النسخة الشيعية من الإسلام، بل تجمع أدبيات كافة المذاهب والفرق الإسلامية على إيلاء العلم (الديني حصراً) المرتبة الأسمى في حياة البشر، ومن ثم يصبح العلماء (الدينيين حصراً) هم الأجدر لخير الناس ومصالحهم سواء في الدنيا أو الآخرة. وسنجد أن كافة المسلمين والحركات الإسلامية- سواء الإصلاحية أو المعتدلة أو الوسطية أو السلفية أو التجديدية أو المحافظة أو المتطرفة أو الجهادية أو المقاتلة أو بأي اسم كان- تجمع جميعها على أحقية وجدارة تطبيق الشريعة الإسلامية كنظام للحكم وسط المسلمين، لا لشيء سوى لأنها ’من عند الله‘ أو ’سنة عن رسول الله‘. في قول آخر، الشريعة تحوي العلم الأسمى بالناس ومصالحهم، ومن ثم يجب أن تحكمهم إذا ما أريد تحقيق مصالحهم على أفضل وأكمل وجه.

هكذا استبدل المسلمون الأوائل فيلسوف أفلاطون برسول الله، واستغنوا عن العلم البشري بالعلم الإلهي، ليخلقوا ديكتاتورية إسلامية افتراضية محل الديكتاتورية الأفلاطونية. لكن، وكما حذر أفلاطون نفسه، يبقى مثل هذا النوع من أنظمة الحكم القائمة على العلم النظري المحض غير قابل للتحقيق على أرض الواقع مهما كان هذا العلم سامياً ومهما بلغت محاسنه المتصورة في الخيال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دعوات دولية لحماس لإطلاق سراح الرهائن والحركة تشترط وقف الحر


.. بيان مشترك يدعو إلى الإفراج الفوري عن المحتجزين في قطاع غزة.




.. غزيون يبحثون عن الأمان والراحة على شاطئ دير البلح وسط الحرب


.. صحيفة إسرائيلية: اقتراح وقف إطلاق النار يستجيب لمطالب حماس ب




.. البنتاغون: بدأنا بناء رصيف بحري في غزة لتوفير المساعدات