الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر والعودة إلى الخلف

يسري حسين

2006 / 10 / 2
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


الديمقراطية ليست فقط صندوق إنتخابات وتنافس بين المرشحين , وبرلمان الدكتور أحمد فتحي سرور ! . وإنما هي أولاً قدرة على تنمية المجتمع كله والإنتصار للعدل وتكافؤ الفرص . والديمقراطية التي تفرز طبقة أو شريحة رقيقة تعيش على نهب الناس وإستنزاف ثروات الأوطان , هي الديكتاتورية بعينها , حيث تعطي الأقلية حق سرقة الأغلبية تحت عين القانون وحماية الدستور ! .
ومجتمع ما قبل ثورة 23 يوليو عام 1952 , كان يعمل لصالح الأقلية وطبقة الباشاوات ومُلاك الأراضي والسماسرة , الذين كانوا يضاربون في بينما الأغلبية تعاني من الفقر والجهل والمرض . وكانت مصر في قائمة الدول الأقل تنمية , وتنتشر فيها البطالة وأشكال التدهور الإجتماعي .
ورغم أن مصر كانت تعيش حالة من البؤس , فأن الشريحة الرقيقة التي كانت تصل إلى نصف بالمائة , تمتعت بحياة الرفاهية من قصور وسيارات فارهة والنوادي الأوروبية الفاخرة مثل . وعاشت في مصر جالية أجنبية تتمتع بثروات الوطن , بينما الشعب المصري نفسه يعاني ولا يجد الدواء والكساء .
وكان لا يمكن لهذا الوضع الإستمرار في ظل الخلل الإجتماعي ووجود التقسيم الشرس لصالح الأغنياء والأثرياء , بينما الفقراء يعانون من تدهور أحوال المعيشة . وقد صور أديب مصر العبقري نجيب محفوظ هذه الحالة في روايته المبكرة الفذة < القاهرة الجديدة > حيث كان يتفاعل الفقر مع الحرمان , ويؤدي إلى سلوك إجتماعي منحرف . وأعاد مخرج الواقعية المصرية الراحل أيضاً صلاح أبو سيف , تصوير هذه الرواية في رائعة سينمائية أخرى تحمل إسم < القاهرة 30 > . وكانت الإحالة لفترة الثلاثينات , عودة إلى الماضي , حيث كانت القاهرة التي تم تصوير الفيلم في زمنها , أكثر طموحاً في اللجوء إلى تكافؤ الفرص , ومساعدة محدودي الدخل على العيش بشكل كريم . وكأن الفيلم جاء في نهاية الستينات , ليذكرنا بأحوال مصر في عام 1930 , حتى نشعر بما حدث من حراك , أعطى الفقراء فرصة للتعليم والعمل بكرامة , في مقابل ما تعرض له بطل الرواية محجوب عبد الدايم , الذي وجد بأنه ليس أمامه للحصول على فرصة عمل غير التحول إلى قواد ! . كما أن < إحسان شحاتة > الطالبة المصرية وجدت نفسها محاصرة بالفقر والمهانة ورأت الخلاص في بيع جسدها لوزير من طبقة النصف بالمائة , المتمتعة بالثروة والمال والقدرة على شراء بنات الشعب بثمن رخيص ! .
وعدت لقراءة < زقاق المدق > لنجيب محفوظ أيضاً والذي سجل أوضاع مصر تحت الإحتلال البريطاني , إذ لم يجد أبناء الزقاق فرصة عمل إلا عند المستعمر في معسكراته بمنطقة القناة ! . ويمكن تأمل مصير < حميدة > التي شبهها بعض النقاد بأحوال مصر تحت الإحتلال وهي تبيع جسدها للإنجليز والأمريكان , لأنها غير متعلمة , ولا تملك حرفة , وليس هناك فرصة للعمل سوى < الدعارة > والإنهيار .
كان محفوظ , أميناً في نقل صور الخلل الإجتماعي وأوضاعه خلال الإحتلال وهيمنة الشريحة الثرية المستنزفة لدماء الشعب .
وقد تحررت مصر من الإستعمار , وناضلت لبناء المصانع وتعليم أبناء الشعب كله من خلال نظام ديمقراطي فريد , هو مكتب التنسيق , الذي ينظر لدرجات الطالب العلمية وليس لحسبه أو نسبه , و حجم الأموال التي تملكها عائلته . خلال هذا النظام تعلم أبناء الشعب في الجامعات والمعاهد العليا المختلفة . ولو كان نظام التمييز قائماً , ما تمكن أبناء الفقراء من دخول الجامعات والتفوق العلمي . وأعتقد أنه ما تم خلال الخمسينات والستينات , هو الديمقراطية الحقة , التي تمنح الحياة لكل الناس , ولا تغلب فئة على أخرى , إلا بالعمل والجهد والتفوق العقلي .
الأن تعود المعاهد والكليات والجامعات الخاصة , لأن الأغنياء الجدد , يريدون الإنفصال والإبتعاد عن الأغلبية الفقيرة . فكما يبنون بأنفسهم مدنهم الجديدة وقراهم السياحية , يسعون أيضاً لأن تكون هناك جامعات خاصة لأبنائهم , لا يحتكون فيها بالفقراء والبسطاء من أبناء الشعب . وإذا كانت الديمقراطيات الغربية تذيب الفوارق بين الناس , وتساعد الفقراء على الإندماج والتفوق , فإن الرياح المصرية لتيار الفكر الجديد , تدفع نحو الإنقسام الحاد , وعودة المدن المعزولة والتجمعات البشرية التي تحميها الأسوار العاملة على عدم الإندماج .
هذه التطورات ليست ديمقراطية , وإنما إندفاع نحو الخلف . وكان خلال العهد الملكي يوجد مفكرون ومصلحون , يدعون إلى تدمير الفواصل الإجتماعية , وتحديد الملكية الزراعية . فعل ذلك إبراهيم شكري , ومجموعة من النواب في البرلمان الملكي . وخلال الستينات كان النمو الإشتراكي وراء إندفاع نحو تذويب الطبقات سلمياً ودفع مصر إلى نهضة تبني وتعمر وتشيد مصانع الحديد والصلب والسد العالي .
الأن يقود المسيرة رجال أعمال , وهم شريحة مشبعة بأفكار غربية قديمة قبل عصر الإنفتاح الديمقراطي بعد إنهيار النظم الإقطاعية والرأسمالية الأنانية . إن الرأسمالية الحديثة في العالم الديمقراطي تخضع لبرامج إجتماعية , لأن همها تنمية جميع أفراد الشعب , بحيث تكون لديها القوة الشرائية لإنعاش سوق الإستهلاك .
إن مارجريت تاتشر , رئيسة وزراء بريطانيا السابقة , كانت أول موجة مستنيرة في بناء رأسمالية معاصرة تنهض بالمجتمع كله وتعمل على تقريب الطبقات عبر النشاط الإقتصادي المفتوح . وقد سعت إلى تمليك الفقراء منازل الحكومة لدفعهم إلى دائرة الثراء . وعندما خصصت شركات القطاع العام لم تمنحها لإستثمارات خاصة بعيداً عن ضوابط السوق وأسعاره , وإنما إشترطت إكتتاب شعبي عريض , حتى ولو كان الأمر ملكية لعدة أسهم فقط . وأرادت تاتشر من هذه العملية دفع حيوية داخل نطاق الحياة العامة وإنعاش موجة شرائية جديدة في قلب السوق الرأسمالي إعتماداً على كل أفراد المجتمع .
أدركت تاتشر , أيضاً أن التنمية الرأس مالية تعتمد على خلق فرص العمل وبناء المشروعات الجديدة وإستنهاض كافة المهارات في عصر جديد أطلقت عليه الرأسمالية الشعبية , في تضاد مع الأخرى الإحتكارية والمستغلة والتي تقوم على العزل الإجتماعي وترك الأغنياء يعيشون بينما الفقراء يموتون .
أبدى التخصيص في بريطانيا للمزيد من تشغيل اليد العاملة , مع إنتعاش في سوق الأموال نتيجة إنتشار الحيوية الإقتصادية والمشاركة الجماعية فيها .
تُعد حقبة تاتشر , الأكثر تنمية , لأن الرأسمالية فهمت درس التاريخ , بأنه لابد من دفع كافة قوى المجتمع للعمل والكسب والإستفادة من نظام التعليم المجاني , حتى مرحلة الثانوية العامة والتمهيد لدخول الجامعات. و الدراسة الأكاديمية الجامعية مجانية أيضاً , لأنها تعتمد على نظام المنح والقروض , التي تعطى للطالب من الدولة .
والذي يخطط في الدولة مجموعة الطبقات السياسية المختلفة والمتنوعة والتي هدفها واحد هو مصلحة كل الشعب , وليس فئة صغيرة , أصبحت هي التي تملك زمام الموقف داخل الحكومة المصرية . لقد حدثت تطورات في السنوات الأخيرة أقصت من السلطة بعض الإتجاهات التي كان لديها الوعي بأن مصلحة مصر في تنمية شاملة لا تقف عند مصالح مجموعة معينة أو شريحة لها مصالحها الخاصة . إن الفكر السياسي المهيمن هو في إتجاه إحتكار الثروة مع تعطيل مشروع التصنيع وتشغيل المجتمع كله . ويترتب على هذا المفهوم ظهور عدة أخطار , منها التطرف وزيادة مستويات الفقر وتدني التعليم .
إن رجال الأعمال لا يحكمون سوى في مصر . لأن السياسي هو الذي يتولى زمام هذه المكانة عبر تفاعل مع الرأي العام والتعبير عنه وترجمة مصالحه من خلال حركة ديمقراطية حقيقية .
ومن يحاول إهامنا بأن ما يحدث ديمقراطية , يكذب , لأن النظام الذي يطبق هذا الإسلوب بشكل حقيقي لا ينحاز لشريحة ضد أخرى , ولا يجرد قوى المجتمع من أدواتها ليمنحها إلى فئة تمارس السلطة والأعمال والمصالح الخاصة وإدارة الإقتصاد في الوقت نفسه .
إن من أبسط مبادئ الديمقراطية , التعبير عن كل الشعب . وما يجري في مصر هو لمصلحة رجال الأعمال والأثرياء , بينما الأغلبية لا تجد فرص العمل ولا التعليم ولا العيش الكريم ! . لقد عدنا إلى ما رسمه نجيب محفوظ في < القاهرة الجديدة > وما تحدث عنه في < زقاق المدق > . وكأن التاريخ يخالف قواعد الزمن ويعود إلى الوراء , بدلاً من القفز نحو الأمام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قضية احتجاز مغاربة في تايلاندا وتشغيلهم من دون مقابل تصل إلى


.. معاناة نازحة مع عائلتها في مخيمات رفح




.. هل يستطيع نتنياهو تجاهل الضغوط الداخلية الداعية لإتمام صفقة


.. بعد 7 أشهر من الحرب.. تساؤلات إسرائيلية عن جدوى القتال في غز




.. لحظة استهداف الطائرات الإسرائيلية منزل صحفي بخان يونس جنوبي