الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سجين داخل أسوار الحياة … ! (قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 10 / 15
الادب والفن


منذ يومين .. والسماء لم تكف عن المطر ، والشوارع موحلة ولزجة ، ورائحة العطن أيقظها المطر فنفذت وانتشرت .. قال له مدير السجن بأن مدة محكوميته قد انتهت ، وإن المجتمع قد تنازل عن حقه في الخمس سنوات المتبقية في نص الحكم لأن السجن قد خلق منه انسانا جديداً صالحاً .. حَسِن السير والسلوك ، فلا خوف منه بعد ذلك على الناس ، والمجتمع ، وغداً سيُطلق سراحه ..
علا الوجوم وجه ( مهدي ) وأوشك على البكاء .. كان خائفاً من مواجهة الدنيا ، وزحمة الحياة فيها بعد سنين طويلة من الفراق .. أين سيذهب ؟ وكيف سيعيش ؟ بعد أن كان السجن يتكفل بكل شيء .. عليه من الآن أن يوفر لنفسه ضرورات البقاء من سكن وأكل وشرب وعلاج ، وهو في هذا العمر ، وفي هذا الضعف !
ومع أولى أنفاس الصباح الشتوي البارد .. حمل مهدي في صرّة صغيرة كل ما كان يملكه من حطام الدنيا ، وغادر السجن .. يجرجر ورائه أقداماً ثقيلة مُتعبة ، وعمراً تجاوز الستين بأعوام .
وقف أمام باب السجن .. وحيداً .. لا أحد في انتظاره .. لا أهل .. لا زوجة .. ولا أبناء .. عجوزاً مضعضعاً .. مهموماً .. استقبل الدنيا التي ودعها قبل خمساً وعشرين عاماً .. رفع رأسه الى السماء الملبدة بالغيوم كأنها تنذر بمزيد من الامطار .. والريح الباردة تجلده كالسياط .. فتح صدره للهواء النقي المنعش ، وجذب نفساً عميقاً ملأ به رئتيه ، ثم أطلقه على شكل حسرة فيها رنة ألم ..
إمتد الشارع أمامه طويلاً هادئاً غامضاً .. خطا أولى خطواته نحو المجهول في خوف وتوتر .. تذكر بأنه لم يتناول فطوره بعد ، فأخرج من الصّرة بضعة لقيمات أحتفظ بها من عشاء البارحة وازدردها ، ثم أخرج سيجارة وأشعلها بأيدٍ مرتعشه ، وواصل طريقه ، وهو لا يتوقف عن السعال ، وترددات انفاسه تكاد تُسمع كأنها شخير .. !
قادته قدماه الى الحي الذي كان يعيش فيه .. بأزقته الضيقة ، وبيوته الطينية المزدحمة .. ومسجده العتيق المتداعي .. وحشود العاطلين التي تتوسد الأرصفة ، وتفترش الرجاء .. لم يعرفه أحد هناك ، ولم يعرف أحد .. !
إستأجر غرفة صغيرة ، وبعد أخذ ورد وفصال .. تم الأتفاق على مبلغ يشمل الإيجار والاكل والشرب .. شدَّ على يد الرجل ممتناً .. كان كل ما ادخره من مال ، وما تبرعت به إدارة السجن لا يسدا حاجته لأكثر من شهرين أو ثلاثة . بحث عن عمل .. لكن من هذا الذي يُشغِّل رجل سوابق في مثل عمره .. ضعيف البنية معتل الصحة شبه عاجز ..
حاول أن يسأل عن اصدقاء له كان يعرفهم قبل السجن .. صديقه جواد ، وعبد الله .. وفلان وفلان .. ؟ استوقف عابر سبيل .. حياه تحية سريعة وسأله .. تأمله الرجل دون إبتسامة ، وبشئ من الاشمئزاز .. ربما عرفه ، ثم قال بصوت جاف بأنه لا يعرفهم ، وانصرف مسرعاً .. تجاوزه وسأل آخر ، فقال بأن سنوات الحرب الطوال ، ومآسيها قد غيرت كل شيء .. أما من تسأل عنهم ، فعبد الله قد ترك الحي ، وهاجر مع من هاجر الى مكان لا يعرفونه ، وأما جواد فقد قُتل في مشاجرة في حانة .. !
حتى زوجته التي طلقوها منه حين قالوا بأن غيبته ستطول ، والشرع لا يجيز ذلك ، وزوجوها من رجل آخر غيره وأنجبت أطفالا .. لا تزال تعيش حياتها ، وتنسج ذكرياتها من أوهام الحياة ..
مضت أياماً طويلة دون أن يراها .. قد تكون سمعت به خرج من السجن فتوارت ، أو ربما هربت ، ولسان حالها يقول أي ريح القتك علينا في هذه الساعة ؟
حتى لاح له طيفها يوماً ، وهو يتسكع في السوق .. عرفها مهما أمتد به الفراق .. شمَّ رائحتها ولو من بعيد ، فقلبه يألف ملامحها ويحفظها ، فاقترب منها بهيئته الغريبة ، ولحيته المرسلة ، والتجاعيد التي تملأ وجهه وقال :
— كيف حالك رشيدة .. ؟
ثم ضمتهم فترة صمت قصيرة .. تسائل بعدها حائراً :
— أنا مهدي .. هل تذكريني أم نسّتك الحياة زوجك ؟
تفاجأت .. طافت عيناها الحائرتين في أرجاء وجهه كأنها تبحث عن شبه لهذه الملامح ، ولهذا الصوت الأجش في ذاكرتها المنهكة .. تُحاصرها نظراته .. تُرعبها .. شهقت .. كشهقة الروح عندما تغادر الجسد .. ثم وضعت يدها على فمها ، وعندما انتبهت الى ما هو فيه من ضعف ، وهزال ، وشيخوخة هدأ بالها وسكن .. ثم همهمت بصوت مسموع :
— الحمد لله .. كيف حالك أنت .. ؟
ثم أردفت وقد تبخرت نظرة الخوف من عينيها :
— وكيف تذكرتني بعد العمر الطويل ؟
أحس برعدة خفيفة في صوتها وهي تتكلم .. أجابها بشئ من الود :
— وهل نسيتك حتى أتذكرك .. ؟ إن صورتك رافقتني طوال الخمس والعشرين سنة لم تفارقني ولا لحظة واحدة على أمل أن أعود اليكِ ذات يوم ..
قالت :
— السجن جعلك شاعرياً .. ( ثم أردفت ) هل هذه مشاعر حب ، أم تهديد بانتقام .. ؟
— هل انت خائفة .. ؟
قالت بحيادية :
— يعني ..
رد عليها مهوِّناً :
— اللي فات مات ، يا رشيدة ، ولم يتبقى من العمر إلا فُتات .. نحن أبناء اليوم ، والمسامح هو وحده .. سبحانه من له الدوام ..
وهو يشير الى السماء بيد مرتعشة ضعيفة سلبتها الأيام قوتها وسطوتها .. لم تستطع أن تحبس دموعها ، فغافلتها بضعة قطرات منها ، ونزلت في صمت .
يخيم عليه الحزن والذهول وهو يراها ، وقد فقدت الشباب والنظارة ، ولم يبقى من جمالها سوى لعقةٍ باهتة توارت تحت سحابة قاتمة من هموم سوداء .. لقد ذبلت وجف عودها ، وتغيرت ملامحها ، وبدت عليها الشيخوخة المبكرة .. أين ذهب ذلك الجمال الذي سرق عقله يوما ، فاختطفها من وسط أهلها ، وتزوجها رغما عن الكل ؟
اطلق آهة كانت حبيسة في صدره ، وشرد ذهنه الى أيامهم معا .. عندما تركها ذات ليلة ورحل ، وهناك ارتكب جريمته الأخيرة ، ولم يكن يدري أنه لن يعود اليها إلا بعد خمس وعشرون سنة .. أيام مضت وراحت ، ولن تعود ، ولم تترك وراءها سوى المرارة .. !
بدء طفلها الصغير يتململ ، فشدها من عبائتها ليدفعها الى مواصلة المسير .. انتبهت .. استجابت لرغبة الطفل ، وواصلت طريقها ، ولم تلتفت نحوه سوى مرة واحدة قبل أن يبتلعها الزحام ، فوجدته يمسح ظهرها بنظراته الشاردة .. تقلصت ملامحه ، وأمتد اليه في تلك اللحظة شعور بالحسرة والوجع ، وتمنى البكاء لكنه شعر بالخجل .. !
وتمضي الأيام .. وكما يقولون لو تأخذ من التل يختل ، وهكذا بدأت نقوده تقل يوما بعد يوم حتى شارفت على النفاذ .. وبدأ الضنك يمسك بتلابيبه يكاد يخنقه ، والشكوى لا فائدة منها .. يدرك انه مهما علا صراخه .. لا أحد سيسمع ، ولا أحد سيبالي .. فأخذ يتهرب من صاحب الغرفة ، ومن غيره من الدائنين ، ويخاف لقائهم .. يخرج صباحاً .. يهيم على وجهه كمطارد جريح .. يبحث عن المآتم ليُسكت عواء أمعائه الفارغة ، وفي المساء يفعل الشيء ذاته في الأعراس .. وهكذا .. !
تلاشت الوان ملابسه ، وتحولت الى أسمال بالية ، وازداد هزالاً وضعفاً ، وبرزت عروق رقبته ، وأصبح كخيال مآته .. ترتسم على وجهه ملامح البؤس والشقاء ، وتتكاثف في داخله نُذر المرارة ، فبدا وكأنه متسول من ظهر متسول .. حتى بات تحت ضغط الجوع .. يلحق بأسراب المشردين ، وهم يلهثون وراء رائحة الطعام ممن تعافه النفس .. ملقى في المكبات أو من فضلات الاعراس والمآتم والطهور .. !
حتى جاء يوم لم يعد يتحمل فيه المزيد من الانتظار ، وذل الانتظار .. لقد فقد احساسه بالحياة .. وبالزمن .. وبالانتماء .. فلم يعد له مكان هنا ، يرى كل الآمال تختنق أمامه وسط عجزه وضعفه ..
ولم يتبقى أمامه أما أن يعود الى السجن بأية طريقة .. مكانه الطبيعي ، وبيته الآمن .. أو يُنهي حياته بيده ويرتاح .. خيارين لا ثالث لهما ..
ولكن كيف له أن يعود الى السجن ، وهو منذ خروجه لم يرتكب أية مخالفة ، وسجله بقي نظيفاً كقطعة قماش بيضاء .. اذن لا بد من جريمة .. والجريمة كانت بالنسبة له سهلة كشربة ماء ، فهو قد اعتادها في كل حياته .. أيام كان فيها يمتلك وسائلها من قوة وشراسة واندفاع .. وكيف به اليوم ، وهو عجوز مهدم لا يتحمل رفسة .. ؟!
ثم قام وألقى بجسده على الفراش .. لملم حوله خرقاً قذرة كأنه شحذها ليحمي أجزاء جسده النحيل من برد الليل .. توسد ذراعيه ، وبقايا سيجارة في فمه ينفث دخانها في وجه الدنيا ، وفي وجه الظلام الذي يطوقه من كل مكان ، واستغرق في تفكير عميق .. !
قال لنفسه بصوت متعثر .. لم لا يقتل رشيدة .. الزوجة الخائنة المجرمة التي لم تحفظ العهد ..؟ سبب منطقي ، وكافٍ لقتلها .. وقد يعتبرونها جريمة شرف ، ويكتفون بحكم مخفف ، وإن حكموا بالاعدام فهو ايضاً حلاً لمعاناته التي يجب أن تنتهي بأي ثمن !
ولأول مرة في حياته تنزل دموعه من غير إرادة منه .. كأنه ينعي بها نفسه بنفسه .. يعرف بأن لا أحد سيبكيه ، ولا حتى سيأسف على رحيله .. مسح دموعه ، وعاد الى سلسلة أفكاره ..
لقد بات يشعر بأن ثمة شيء يقترب .. يترقبه ، ولا يستطيع دفعه .. تنهد في حيرة ، ثم همهم في رضا .. كأنه عزم على أحد الخيارين .. فلا شيء في الحياة ينتظر .. !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا