الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم مائة يوم في باليرمو

وليد الأسطل

2022 / 10 / 16
الادب والفن


عندما سقط "توتو رينا" في أوائل التسعينيات، تم إغلاق واحدة من أكثر الصفحات دموية في تاريخ المافيا وإيطاليا. العراب الكورليوني، طاغية عصابي متعطش للدماء، سينهي مسيرته الإجرامية الطويلة في السجن.

في كتابه "كوزا نوسترا" Cosa Nostra، يوضح "جون ديكي" أن انهيار نظام المافيا أثناء عملية "الأيدي النظيفة" هو نتيجة مباشرة لتجاوزات ديكتاتورية "توتو رينا". فضل خصومه الرئيسيون كسر قانون الصمت والتبليغ عن أنفسهم للشرطة بدلا من انتظار وصول قتلة عشيرة رينا. وهذا يشرح الوضع الصعب الذي كان يعانيه العرابون الثانويون وزعماء العائلات وأفراد المافيا العاديون ليقرروا اللجوء إلى العدالة، والاعتراف، وكشف قناع بعض الشبكات الإجرامية الأسطورية. كان على الدولة الإيطالية التي كانت ضعيفة في العادة، أن تأخذ الأمر بجدية وتصميم.

على مدى عقد من الزمان، كانت مبادرات السلطة الإيطالية مجرد تصرفات متخاذلة ومخزية. كان قادة الديمقراطية المسيحية غير القابلة للإزالة غير مهتمين بالتحرك. أندريوتي وكراكسي - وكلاهما رئيسا للوزراء - وكثيرون غيرهما سقطوا وتمت معاقبتهم. لقد أدانت العدالة أندريوتي لأنه أمر بالقتل الذي افتتح مائة يوم في باليرمو One Hundred Days in Palermo. في التاريخ الإيطالي، يُطلق على السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي سنوات الرصاص، لأن البلاد كانت ضحية كل من عنف الجماعات الإرهابية (من أقصى اليمين وأقصى اليسار) وعنف المافيا. عالج المخرج السياسي "جوزيبي فيرارا" في عام 1984 موجة الاغتيالات الرهيبة التي أدمت صقلية خلال سنوات الرصاص، في هذا الفيلم الوحشي بشكل مخيف: لا موسيقى ولا بطولة لهذا أو ذاك. مجرد مشرط بارد معدني، يشرح مئة يوم لحاكم باليرمو، الذي يجسده "لينو فينتورا". تم تصوير فيلم مائة يوم في باليرمو قبل بزوغ فجر الواقع التاريخي بفترة طويلة. يكتفي الفيلم بتحليل فشل الجنرال "دالا كييزا"، الرجل الذي كسر رعب الألوية الحمراء.

يُظهر المشهد الافتتاحي عمليات تصفية متتالية لصحفي ومفوض شرطة والمدعي العام ورئيس منطقة صقلية. تحت السماء الزرقاء الفولاذية لجزيرة صقلية المخيفة، حيث يمكن أن ينشأ الخطر في أي وقت، وفي أي مكان. لا يعرف إرهاب المافيا حدودا. لا يظهر رينا ولا نظامه في الفيلم: يمكن لهذه المافيا أن تتخذ أي شكل، إنها بنية شفافة تتجاوز النظام الإقتصادي والمؤسسي المحلي. بالنسبة لسكان بيدمونت مثل دالا كييزا، يبدو التحدي خاسرا منذ البداية. عندما يأتي دالا كييزا دون الضمانات التي وعدت بها الحكومة، فإنه يبذل قصارى جهده: يعيد التفكير في أمن مديرية الشرطة، ويطلب ليلا ونهارا معاونيه، ويتحدى المشتبه بهم، ويثير حنق قوة المافيا.

"لينو فينتورا"، الصلب والبارد كالرخام، يجسد تماما دالا كييزا: إنه الدولة، النظام، العدالة. تمر كل المؤسسات من خلاله وعبر نقاء عمله المطلق. تم اختيار الممثل بشكل جيد، لينو فينتورا الذي أدى دائما أدوار الرجال الأشداء، والذي مثل في نظر الجمهور الإستقامة المطلقة والفحولة والشجاعة. تتلاقى في المحافظ دالا كييزا أسمى مبادئ الحضارة. إنه يتمرد، ويكافح من أجل أن يصبح المبدأ الذي تم إهماله، وإساءة معاملته، محترما ومفعلا من جديد.

مائة يوم في باليرمو، مأساة بالمعنى الأساسي للحتمية الدرامية. بينما يبذل دالا كييزا قصارى جهده، حيث يتحدى السلطات العامة والمشتبه بهم، تصبح زوجته فجأة على دراية بالواقع. في ومضة من الوضوح التي تضيء الفيلم، تشرح لزوجها أنه ليس هنا لينجح، أنه مجرد ذريعة، كبش فداء تمت التضحية به من طرف السلطة الفاسدة. لم يرسل النظام دالا كييزا لينجح، بل ليفشل. الوزراء مترددون، والحكومة تنهار، بينما في باليرمو، عدد القتلى آخذ في الإرتفاع. ما الذي يفعله دالا كييزا ضد 99 جريمة قتل في غضون بضعة أشهر؟ إستعراض القوة في منتصف كأس العالم لكرة القدم ليس كافيا: دالا كييزا خارج اللعبة. لقد تخلت عنه السلطة. يسخر منه رجال العصابات كل يوم أكثر فأكثر. وتظهر الحقيقة المأساوية: يجب أن يفشل الحاكم (دالا كييزا). كأن المافيا حتمية، دولة هيكلية لا يمكن لأي شيء أن يوقفها. إن فشل دالا كييزا يبرر كل عمليات التخلي، كل التنازلات. سوف تترك صقلية لنفسها.

في عام 1982، بعد مائة يوم في باليرمو، تم قتل المحافظ دالا كييزا وزوجته من قبل المافيا. إذا اقتصرنا على رسالة فيرارا، فلن يمنع أي شيء استمرار المأساة مرارا وتكرارا.
يمكننا أن نلمح بوضوح تلاقي جبن زعماء الديمقراطية المسيحية والوحشية الفظيعة لأساليب المافيا. ومن المفارقات أن المستقبل سيتناقض مع رسالة فيرارا: سينهار النظام السياسي الفاسد بعد سنوات قليلة، آخذا معه رجال العاصمة الفاسدين؛ سيكون القاضيان فالكون وبورسالينو، اللذان قتلتهما المافيا في عام 1992 في عز عملية "الأيدي النظيفة"، آخر ضحايا نظام رينا.

على الرغم من ذلك، لا تزال المافيا موجودة، والنظام السياسي لا يزال فاسدا، لكن رعب رجال رينا اليومي قد تبدد. دالا كييزا هو مجرد اسم آخر على قائمة ضحايا المافيا. لكن موته لم يكن بلا فائدة. وسيكون فيلم فيرارا قد شارك في زيادة الوعي بواقع مؤسسة المافيا والفساد السياسي في إيطاليا أوائل الثمانينيات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث