الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تركيا وروسيا بين السلاطنة والقياصرة وبين الرئيسين بوتين وأردوغان

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

(Abdul-hamid Fajr Salloum)

2022 / 10 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


لم تعرف العلاقات الروسية التركية في تاريخها الاستقرار والسلام إلا لفترات محدودة، ثم يعود القتال والمواجهة إما لأطماع توسعية بين الإمبراطوريتين أو لأسباب دينية، إلا في هذا الزمن الذي يتربّعُ فيه على عرش روسيا رئيسٌ مُعتزٌّ بتاريخه القيصري، وعلى عرش تركيا رئيسٌ مُعتزٌّ بتاريخه العثماني..
ففي زمن السلاطين والقياصرة (وحتى بداية العهد السوفييتي) وعلى مدى أكثر من 400 عام خاضت روسيا وتركيا ثلاثة عشر حربا، بدأت في الحرب على مدينة "أستراخان" جنوب غرب روسيا والمُطِلّة على بحر قزوين، عام 1568، والتي كانت تتبع لولاية القرم العثمانية، إلى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 ، مرورا بغزو تتار القرم لِموسكو، وحرقها في أيار 1571 (حريق موسكو الشهير) وحرب القرم ما بين 1853 و 1856 ..
**
وحتى في زمن الحرب الباردة بين العملاقين، الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، كانت تركيا رأس حربة للغرب في وجه الإتحاد السوفييتي، إذ انضمّت للناتو عام 1951، بعد عامين من تأسيسهِ، وامتلكت ثاني أكبر جيش بعد الولايات المتحدة، في الحلف..
**
بعد تفكُّك الاتحاد السوفييتي وانهيار منظومة حلف وارسو، انقلبت المعادلات الدولية، وأصبحنا في عالمٍ سريع التغيُّر، وانضمت الدول الحليفة لموسكو بالأمس إلى عضوية الناتو وعضوية الاتحاد الأوروبي.. واستمرت تركيا بالناتو ولكن لم تُقبَل بالاتحاد الأوروبي لأنها لم تُلبِّي شروط الانضمام بسبب قضايا حقوق الإنسان، بالدرجة الأولى، وتهميش الجماعات الدينية، والعُرقية، والانقلابات العسكرية على الديمقراطية..
**
وذهبت روسيا إلى تأسيس ما يُعرف بمنظمة معاهدة الأمن الجماعي من دول سوفييتية سابقة، كتحالُف عسكري، وكان في البداية تسع دول، ثم انسحبت منهُ أوزباكستان وأذربيجان وجورجيا..
وبقيت ستّة: روسيا، وبيلا روسيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان وأرمينيا..
أي بقيت ضمن هذا التحالُف ثلاث دول من آسيا الوسطى، تعود بأصولِ شعوبها إلى الجذور التركية، وهي كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان..
**
تركيا لم تقف موقف المتفرج بعد الانهيار السوفييتي، فاتّجهت شرقا، واقتحمت الفضاء الروسي، نحو الدول ذات الأصول التركية، في آسيا الوسطى، واتّجهت غربا لِمساندةِ المسلمين في البلقان.. أي رسمَت سياستها على بُعدَين: القومي والديني..
وما أن وصلَ (العثمانيون الجُدُد) مع مطلع هذا القرن برئاسة رجب طيب أردوغان للسُلطة، حتى ظهرت العنجهية العثمانية التاريخية والتغنِّي بتاريخ الأجداد والسعي لإعادة تلك الأمجاد..
وبالمقابل، وبذات التوقيت، وصلَ للسُلطة في روسيا تيّارٌ بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، مُفاخِرا بتاريخ أجدادهِ القياصرة، وساعيا لإعادة تلك الأمجاد.. وداعما لكافة الجماعات التي تعود بأصولها إلى القومية الروسية، في أي مكان..
فقام أردوغان منذ تشرين أول/أكتوبر2009 بتأسيس "المجلس التركي" من الدول الناطقة بالتركية ( تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان) ومقره في اسطنبول.. وجميعها في آسيا الوسطى، الملعب الخلفي لروسيا، والدول السوفييتية السابقة..
ثمّ تمّ تطوير المجلس وتحويله في تشرين ثاني/نوفمبر 2021 إلى "منظمة الدول التركية" ووقّعوا على وثيقة ترسمُ رؤية هذه الدول للمستقبل حتى عام 2040..
والغريب أنّ المَجر(هنغاريا) هي عضوا مُراقِبا بهذه المنظمة.. وللمنظمة تمثيلٌ في المجر.. ويبدو أن الحمّامات التُركية ما زالت تشدُّ العَصَب المجري نحو تركيا..
**
هذه المنظمة هي تجمُّع سياسي واقتصادي وثقافي وتجاري، وتُعزِّزُ التعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء في قضايا السياسة الخارجية، والاقتصاد، والمواصلات، والجمارك، والسياحة، والتعليم، والإعلام، والرياضة، والشباب، والتجارة والاستثمار..
إذا أنقرة أخذت منذ تأسيس المجلس التركي، بمنافسة موسكو في حديقتها الخلفية في آسيا الوسطى، وهذا ما جعل بوتين يحسبُ حِسابا لأردوغان..
**
وأما في الغرب، في البلقان، فإنّ روسيا وقفت إلى جانب الدول والشعوب المنتمية للكنيسة الأرثوذكسية، بينما وقفت تركيا إلى جانب الدول والشعوب المنتمية للإسلام.. وهذا تجلّى بشكلٍ واضحٍ لدى الحرب في البوسنة والهرسك بين آذار 1992 وتشرين ثاني 1995 (وكنتُ حينها عضوا في وفد بلادي للأمم المتحدة في جنيف ومُتابعا لتطورات الأحداث سواء في الميدان أم في نقاشات الأمم المتحدة).
واندلعت الحرب حينما صوّت مُسلمي البوسنة والهرسك بأغلبية أكثر من 99% للاستقلال عن بلغراد، أسوة بباقي دول الاتحاد اليوغسلافي، الأمر الذي عارضَهُ بقوة صُرب البوسنة، فكانت الحرب والمجازر والفظاعات، رغم وجود قوة الحماية التابعة للأمم المتحدة، والتي انتهى عملها بعد اتفاق دايتون عام 1995..
**
وضعت الحرب أوزارها بعد ثلاث سنوات، باتفاق دايتون (مدينة أمريكية في ولاية أوهايو) للسلام الذي رعتهُ أمريكا والأوروبيين، وتمّ التوقيع عليه في باريس في 14 كانون أول/ديسمبر 1995..
ووقّعهُ قادةُ صربيا، وكرواتيا، والبوسنة والهرسك، وقضى بتقسيم البوسنة والهرسك بين هذه الأطراف، حيثُ أُعطي الصرب مساحة 49 % من مساحة البوسنة والهرسك، وأقاموا عليها جمهورية مستقلة تُدعى (جمهورية صُرب البوسنة) وتُشكِّلُ جزءا من اتحاد البوسنة والهرسك.. كما مَنَحت المسلمين (البوشناق) والكروات فيدرالية على مساحة 51%، يُديرها مجلس رئاسي ثُلاثي من الصُرب والكروات والمُسلمين.. ولكلٍّ من هذه الكيانات دستورهُ الخاص..
ونصّت الاتفاقية أيضا على قيام نظام برلماني ثُنائي الغرف (مجلس الشعب أو الشعوب، ومجلس النواب الوطني) بمعدّل الثُلثين للفيدرالية والثُلث لجمهورية صُرب البوسنة.. واعتبرت اللغات الثلاث، الصربية والكرواتية والبوسنية لغات وطنية، ووضعت البوسنة والهرسك تحت الوصاية الدولية، بنشرِ قوات حفظ سلام تابعة للاتحاد الأوروبي..
**
وكان التوتر الروسي التركي أيضا خلال الحرب في إقليم كوسوفو، عامي 1998 و1999 ، ما بين المسلمين ذوي الأصول الألبانية (أرناؤوط) حينما سعى هؤلاء للانفصال عن بلغراد مدعومين من ألبانيا.. ودارت حربا بينهم وبين الأرثوذكس الصُرب المدعومين من بلغراد وروسيا، وإلى جانبهم الكاثوليك المدعومين من كرواتيا، وتدخل الناتو وقام بقصفِ قوات بلغراد وقصفِ يوغسلافيا مدة 78 يوما حتى أُرغِمت القوات اليوغسلافية على الانسحاب من كوسوفو.. وانتهت الحرب بمعاهدة " كومانوفو" وهذه مدينة في مقدونيا.. وتمّ نشر قوات دولية لحفظ السلام.. ومن ثمّ تمّ الإعلان عن استقلال كوسوفو كجمهورية، في شباط 2008 ، الأمر الذي أغضبَ روسيا، وكان الرد باجتياح أوسيتيا الجنوبية في آب 2008، ومن ثمّ إعلانها جمهورية مستقلة..
وما زالت كوسوفو تسعى بقوة للانضمام إلى الناتو بحجّة حمايتها من جمهورية صربيا..
**
كل هذا التاريخ ليس سوى امتدادٌ للماضي ولكن بطرُقٍ أخرى.. حيث في زمن السلطنة العُثمانية كان الاتفاق أن ترعى روسيا القيصرية مصالح الأرثوذكس، وترعى فرنسا مصالح الكاثوليك، ضمن أراضي السلطَنة.. وما زالت تركيا تعتبر نفسها مسؤولة عن مُسلمي البلقان، وروسيا مسؤولة عن الأرثوذكس، وفرنسا مسؤولة عن الكاثوليك، حتى بعد زوال السلطَنة..
**
إذا موسكو تحسبُ حِسابا لأنقرة، في الماضي وفي الحاضر.. واليوم تشعُر موسكو أنها بحاجة أكثر من أي وقت لتُركيا، بسبب الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية القاسية، ودعم الناتو وعموم الغرب لأوكرانيا بقوة، فتبقى تركيا هامّة جدا لموسكو، كدولة إقليمية كبيرة، وتتشاركُ معها البحر الأسود، ومصالحا جيو استراتيجية هائلة.. والبلدان مُنخرطان في الحرب السورية، وفي الحرب الليبية، وعلى ضفّتين متقابلتين..
**
فبوتين يرى في تركيا بمثابة بوابّة يُمكنهُ من خلالها الالتفاف على العقوبات الأوروبية، وهذا تجلّى من خلال مديحهِ القوي لتركيا ولرئيسها أردوغان في مناسبات عديدة آخرها في آستانة خلال حضور قمة "سيكا"، أو قمة التفاعُل وتدابير بناء الثقة في آسيا في 13/10/2022.. ومن خلال حثِّهِ لأردوغان على إقامة مركز كبير للغاز الروسي وتوزيعه على الدول الأخرى، وقام أردوغان حالا بقبول العرض الروسي، وأعطى الأوامر مباشرة لوزارة الطاقة بإنجاز هذا المشروع المشترك الروسي التركي، في أقصى شمال غرب تركيا قريبا من بلغاريا، فهو مُربِحٌ جدا لتركيا، ويُعزِّز أكثر من دورها السياسي..
**
طبيعي جدا، أن يتجاوب أردوغان ويُنغِّم حينما تكون هناك مكاسب تخدُم بلاده، ولكنه لا يُجامِل بوتين إطلاقا حينما يتعلق أي أمر بمصالح تٌركيا، فيجب أن يكون هو الرابح.. وهو لم يُجاملهُ في الحرب بأوكرانيا وأردوغان وقف ضدها، ولم يُجاملهُ في عدم بيع طائرات بلا طيار لأوكرانيا، فهذه تُحقق مرابح.. ولم يُجاملهُ في ضم جزيرة القرم، وأردوغان وقف ضدها، ولم يُجاملهُ في الأمم المتحدة، إذ صوتت تركيا لصالح كافة القرارات التي تُدينُ روسيا في أوكرانيا.. بل كانت من عرّابيها.. ولم يُجاملهُ في سورية، ولا في ليبيا، ومضى أردوغان بتنفيذ كل ما يخدم بلاده، بغض النظر عن موافقة بوتين أم لا..
فهل ثقة بوتين بالثعلب أردوغان في محلها؟.
وهل سينجح الرئيس بوتين ببيع الغاز لأوروبا عن طريق السمسار التركي، بدلا من أن كان يُباعُ مُباشرة عبر خطوط الأنابيب، وبعد أن قرّر الاتحاد الأوروبي الاستغناء كلية عن الغاز الروسي (باستثناء دول محدودة، كما المجَر وسلوفاكيا) وتدنّت نسبة الاستغناء من 40% إلى 7% في غضون أشهُر، حسب تصريحات "أورسولا فون دير لاين" رئيسة المفوضية الأوروبية، وأحد الصقور الأوروبيين في وجه روسيا، وصاحبةُ التصريح الشهير: (روسيا لم تعُد شريكا موثوقا.. لم يعُد بإمكاننا جعل أنفسنا نعتمد على مثلِ هذا المُوَرِّد)؟.
إذا ما أخذنا بالموقف الأوروبي والأمريكي بحصار روسيا اقتصاديا وماليا كي لا تتوفر لديها السيولة النقدية وتمضي بالحرب في أوكرانيا، فربما أوروبا لن تشتري الغاز الروسي حتى لو كان عن طريق تُركيا، فيبقى غازا روسيا وسوف يعود بالمال على روسيا.. ومن اليوم وحتى بناء هذه المنشآت الجديدة لتوزيع الغاز، والتي ستستغرقُ زمنا ليس بالقصير، قد تكون أوروبا أمّنت كافة احتياجات الغاز من الدول العديدة المنتجة للغاز..
ولكن أمام المصالح لا يُوجدُ محظورا.. وفي الإسلام الضرورات تُبيحُ المحظورات.. فعل ستُطبِّق أوروبا هذه القاعدة الإسلامية وتشتري الغاز الروسي عبر السمسار التركي، بدلا من أنها كانت تشتريه مباشرة عبر الأنابيب؟. سنرى..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا