الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعيد عن العين بعيد عن القلب … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 10 / 16
الادب والفن


( بعيد عن العين بعيد عن القلب ) .. قيل هذا المثل في الرجل ، وبالتأكيد ينسحب على المرأة ..
القصة :
كنت كزوج يحب زوجته ، ويحترمها من أشد المعارضين لمضمون هذا المثل ، وما يحمله من منطق مشوه .. إذ كيف يمكن للانسان أن ينحدر الى هذا المستوى المتدني من الانتهازية الرخيصة .. ! يعني اذا كانت الزوجة تعيش معك ، وتحت نظرك ، وعبدة لك .. شبيك لبيك عبدك بين ايديك .. تُنفذ كل طلباتك ، ورغباتك الطبيعية منها والشاذة .. تتذكرها ، وتحس بوجودها .. لكن بمجرد ان تستدير ، وتختفي من المشهد .. تصبح خارج حياتك كأنها لم تكن .. معقول .. أي منطق هذا .. أي استهانة بالمرأة ، وبأرقى مشاعر الحب الإنسانية التي تجمع الزوج بشريكة عمره ، وأم اولاده الى الابد ؟!
كيف لانسانة تعيش معك عشرات السنين .. بحلوها ومرها .. بحرها وبردها ، وعندما تبتعد لضرورة ما .. كأن تسافر مثلاً الى مدينة أخرى ، أو الى بلد آخر للعلاج ، أو لزيارة أبناءها ، أو لأي سبب كان ، وتطول الزيارة .. تنساها ، ولا تبالي لغيابها ، وتشرب وراءها كأس ماء ، والله أعلم ماذا تفعل من أفاعيل من وراء ظهرها .. كيف يمكن أن تحدث مثل هذه اللامبالاة وهذا التجني بأرقى علاقة وجدت لحفظ النسل والنوع .. ؟
حتى جاء ذلك اليوم .. الذي سافرت فيه زوجتي لتزور ابننا عدنان في أمريكا بعد أن استحصل لها فيزا بطلوع الروح ، فوجدت نفسي على المحك ، فأنا الآن أمام أختبار حقيقي لمشاعري ، وصدق نظريتي التي ترفض مضمون هذا المثل ، وتفضل أن تعكسه ليكون ( بعيد عن العين قريب من القلب ) هذا هو سياقه الطبيعي ، والتاريخي كما كنت اتصور الذي يجب أن يوضع فيه !
فبقيتُ وحدي بين أربع جدران ليس لي غير الكتاب ، وبضع زيارات من بعض الاصدقاء المقربين .. نتسامر ونلعب الورق ، واحياناً نتناول كأسين أو ثلاثة ، ونستعيد ذكريات شبابنا الجميلة كأننا نعيشها ، والتي لا تسقط من الذاكرة مهما امتد بنا العمر ، واحياناً كنت أقتل فراغي بالتسوق ، وزيارة بعض الاماكن الترفيهية البريئة لمجرد الترويح عن النفس وطرد الملل .. ليس أكثر !
وهكذا كنت أوزع يومي بين العمل ، والاصدقاء لكني لم أنسى زوجتى ، وحبيبتي أم عدنان ، فكنت أتصل بها كل يوم ثلاث أو أربع مرات ، وعندما يرتفع عندي گيج الشوق أجعلها خمسة أو ستة ، وكنا نتكلم على الاقل نصف ساعة في المكالمة الواحدة .. نتبادل الاخبار والأشواق ، ونتلهف ليوم اللقاء .. وهكذا ، ولم أكن أتصور أن هناك امرأة يمكن أن تسد الفراغ الذي تركته أم عدنان في البيت ، وفي قلبي !
ومر الاسبوع الاول ، وزادت زيارات الأصدقاء الذين وجدوا في بيتي الخالي من الزوجة ضالتهم المنشودة للهروب من بيوتهم ، وضجيج أولادهم ، وزّن زوجاتهم ، وإشباع رغبتهم في السهر ، وأستعادت سيل الذكريات المتدفق خاصة تلك التي تتعلق بمغامراتنا النسائية ، وغيرها من الذكريات الجميلة التي كانت تجمعنا كشباب قبل الزواج !
فوجدت نفسي مشغولاً الى اذني في تهيئة مستلزمات السهرة من مشروبات ، ومزة وعشاء ، ولم يتبقى لدي فائض من وقت أستفيد منه في الاتصال بزوجتي ، فانخفضت المكالمات من أربعه أو خمسة في اليوم الى ثلاثة ، وفي الأسبوع الثالث الى مكالمتين ثم إنخفض الگيج في الأسبوع الرابع الى مكالمة واحدة ، ومختصرة ، وفي الأسبوع الخامس أصبح مكالمة كل يومين ، وكنت أفسر تصرفي هذا لكثرة مشاغلي ، وليس لسبب آخر .. أستغفر الله العظيم ..
والغريب - وهذا بيني وبينكم - بدأت بعد الاسبوع السادس ، وكأن غمامة باتت تغطي وجه أم عدنان ، فلم أعد أراها في خيالي كأني نسيت ملامحها ، ولم أكن أهتم بمكالمتها ، ولم أعد أتلهف وأنتظر مكالمة منها ، وأصدقكم القول أحياناً عندما تتصل ، وأقرأ أسمها على شاشة تلفوني أتركه يرن حتى ينقطع نفسه ، وعندما تعاتبني كنت أختلق كذبة رخيصة ، ولم تعد تأخذ من تفكيري ذلك الحيز الكبير الذي كانت تأخذه قبل غيابها بل كنت أذكرها لماماً .. ليس أكثر من لحظات عابرة .. غريبة ، اليس كذلك ؟! علما بأننا تزوجنا عن حب خرافي بمستوى حب المجنون وليلى ، وعلاقة طويلة عريضة إمتدت لسنوات ، ولم يتحقق الزواج الا بعد الوساطات والتدخلات من الاهل والاصدقاء و و و .. الخ
ومع هذا كنت ولا أزال غير مؤمن بهذا المثل ، ومصر بأن هناك خطأ في مضمونه ، وكنت أكيل أقذع الشتائم لقائله كائن من يكون .. حتى سمعني يوماً صديقي أبو عصام في إحدى جلسات الأنس والفرفشة ، وأنا أتهجم على صاحب هذا المثل الشهير !
فقال : تمهل يا صديقي لا يطق لك عرق ما هذا الاندفاع الاهوج .. ؟
قلت : أبو عصام أحترم نفسك رجاءً ، ولا تتجاوز شنو أهوج ما أهوج ..
أكمل صديقي غير مبالٍ بتحذيري : من قال لك بان هذا المثل خطأ ؟
قلت : أنا اقول ذلك ..
قال : ومن أنت .. ارسطو أم سقراط أم إبن خلدون ..
قلت : الزم حدودك .. حتى كنا على وشك أن نتماسك بالايدي ، ونتضارب بالبوكس ، وأنا طبعا كنت أعرف نفسي ، وأقدر حجمها وإمكانياتها .. بأمكان أبو عصام الملاكم السابق ، والحائز على بطولة العراق .. بضربة واحدة أن يرسلني الى المقبرة مباشرة .. مكفن وجاهز للدفن .. ففرملت أو الاصح جبنت .. مو مشكلة .. المهم !
قلت : هدئ من روعك ، يا صديقي ، وهل صاحب هذا المثل أبوك حتى تدافع عنه هذا الدفاع المستميت ..
تدخل بيننا أبو سوزان عندما تكهرب الجو ، وكان على وشك أن ينفجر ..
وقال : يا جماعة دعونا من هذه اللغوة التي لا تقدم ولا تؤخر ، ولنكمل السهرة بالتي هي أحسن !
ثم قام وملأ كؤوسنا ، وأقترح أن يكون النخب الاول في صحة صاحب هذا المثل العظيم .. هلل أبو عصام ، ورفع كأسه ، أما أنا فغضبت ، ونكست كأسي نحو الارض إحتجاجاً ، وحزناً على ما يقوله هذا المثل ، وما يدعيه من تخرصات ، وافترائات بحق ( البعيد عن القلب ) وكاد الالتحام بيني ، وبين أبو عصام أن يتجدد لولا أن إقترح أبو سوزان كحل توفيقي أن يكون النخب الثاني في صحة نفس المثل ، ولكن بنسخته المعدلة التي عدلتها أنا بلا فخر .. رفعنا أنا وأبو سوزان كؤوسنا مهللين ، ونكّس أبو عصام كأسه نحو الارض محتجاً !
قلت موجهاً كلامي الى أبو عصام : ماذا تقترح .. ؟
قال : هذا المثل بالذات يا صديقي يحتاج الى التطبيق .. انه مثل بقية النظريات حتى العلمية منها لا يمكن الحكم عليها إلا من خلال التطبيق ، اليس كذلك ؟
اتفق أبو سوزان معه في القول وقال : صحيح .. أنا أتفق معك مائة بالمئة …
قلت : ماذا تقصد .. ؟
قال : لماذا لا تطبقه على نفسك لتعرف اذا كان صحيح أم لا .. ( واكمل ) .. أليست أم عدنان زوجتك مسافرة بالسلامة عند ابنها عدنان في أمريكا ؟
قلت : بلا
تنحنح كأنه يعد نفسه لأمر هام ثم قال : خلاص ضع نفسك أنت ، ومشاعرك في الميزان الاكتروني لكن بشرط أن تكون صريحا وصادقاً معنا ، ومع نفسك وهو الأهم ، فأنا أعرفك كما أعرف أسمي .. ها .. أحذرك واياك والغش .. هذا مو امتحان .. ها .. ( وغمز ) تذكر أيام الكلية يا ملعون أم أذكرك ..
قلت : لم أفهم ..
قال : أفهمك يا كديش .. كم مضى على أم عدنان ، وهي غائبة عنك ..
بدأت أتململ .. يبدو أن النار بدأت تقترب من أطراف ثوبي ..
قلت ؛ تقريبا ستة أسابيع ..
قال : عظيم .. هل قارنت حرارة مشاعرك كيف كانت بعد الاسبوع الاول ، وبعد الاسبوع السادس .. ؟
اجبت وأنا الكذوب الأشر بأني لا أزال أتصل بها كل يوم بالقليل خمس مرات ، ولم أنقطع عن الاتصال منذ غادرتْ الى هذه اللحظة ، وبنفس الوتيرة .
قال : ومن يضمن لنا بان كلامك صحيح ..
قلت : أبو عصام احترم نفسك ولا تخربط ..
قال : انا محترم نفسي وما أخربط ، وأحب أضيف لك بأني شخصيا طبقت هذا المثل الذي لا يعجبك على نفسي ، ووجدته صحيحاً مائة في المئة .. وعلى عنادك .. رحم الله والدين من قاله ..
قلت : أنت وشانك نحن نعرفك منذ أيام الكلية .. من جماعة .. خالف تُعرف …
شعر أبو سوزان بخطورة الموقف فأراد ترطيب الأجواء .. فأصر على دورة ثانية من الانخاب ثم ثالثة ثم رابعة حتى بدأت أنا الزوج المخلص الوفي الولهان اقرأ الديك حمار ، ولا اعرف الالف من الياء ، وانطلق صوتي القبيح يغني طور ( الطويرجاوي ) .. فرأيتهم يغلقون آذانهم بأصابعهم .. أما أبو عصام وأبو سوزان كما هو معروف عنهم حائط لا يميل ولا ينخ .. قربة مثقوبة .. ما شاء الله .. يا جبل ما يهزك ريح !
ثم ملت على أبو سوزان ، وقلت بلسان معوج ، وبصوت خفيض : أبو سوزان .. تتذكر ؟ وهمست في أذنه الأسم ..
قال مستغرباً : أذكرها طبعاً … مالها .. ؟
قلت : التقيت بها في أحد المولات أمس ، ودار بيننا حديث طويل على مائدة الغداء التي جمعتنا في المطعم ، واتفقت معها على موعد .. صايرة اتخبل .. جمال وأنوثة مو مثل الشرطة إللي عندنا .. يا سلام عندما تبتسم .. ابتسامتها كإشراقة فجر ، ورشاقة .. أموت في الرشاقة .. تمشي كأنها تسبح في الهواء .. واووو … لا أقول متى وأين ، فانا لا أثق بصدق نواياك .. أعرفك خائن وعميل وجاسوس لأبو عصام .. أكيد ستضعها في أذنه ، ويا ساتر بعدها .. !
حاول أن يستدرجني لكنني صمدت هذه المرة ، ولا أدري من أين جائتني تلك القوة ، وتلك العزيمة ، ثم طلبت دورة أخيرة من المشروب ودبل .. رفض أبو سوزان لانه كما قال بأني سكران على الآخر لكنه استجاب الى رغبتي ، والحاحي بغمزة غامضة من أبو عصام ، وأنطلق بعد ذلك لساني كالماكنة المعطوبة ( السايفة ) لا يتوقف ، وتقيأت كل ما كان في أحشائي من خبايا ، وما كنت أعتبرها أسرار مهمة وخطيرة ، وأنا أسمعهما يقهقهان ويتهامسان .. حتى اتهمتهما بعد أن طارت السكرة وجاءت الفكرة بانهما قد خططا لهذه المؤامرة الدنيئة ضدي !
وفي اليوم التالي ، وكان الدور على أبو عصام لشراء المشروبات والمزة والعشاء .. جائا على الموعد بالضبط .. استقبلتهم على الباب دون أن أسمح لهم بالدخول .. أتدرون ماذا قالا الملاعين :
اذا لم تفتح الباب ، وتدعنا ندخل ، ونسهر حبايب كما كل ليلة سنفضحك .. قلت لهم : أعلى ما في خيلكم اركبوه ، يا متآمرين .. يا خونة .. يا جبناء ..
قال أبو عصام : احترم نفسك ودعنا ندخل .. أحسن لك .. ( وهو يلوح بموبايله أمام عينيّ ) تحب نسمعك هلوسات حضرتك البارحة ، وماذا قلت ، وماذا فعلت ، واسم صاحبتك التي تغديت معاها في المطعم ، وأسم المطعم ، وماذا أكلتم من سم هاري ، ومتى موعدكم القادم بالدقيقة والثانية ، وفي أي مكان يا خائن يا غدار .. صورة وصوت وبالالوان ، واذا تحب نبعث نسخة منه الى من يهمه الامر .. الى حبيبتك وزوجتك الغافية أم عدنان ، أم نسيتها يا ملعون ؟ وهما يتغامزان ويكركران على الآخر .. !
ثم أكمل أبو عصام فقال : وعندما تشاهد النائمة في العسل أم عدنان فلم الموسم ستأتيك من أمريكا ممتطية المكنسة السحرية ، والبقية أنت أعرف بها ، وسلملي على ( القريب من القلب ) يا خائن .. يبدو أن الجملة الاخيرة قد راقت لأبو سوزان ، فسقط على الأرض من الضحك !
ثم ساخرين : بعيد عن العين قريب من القلب .. ها .. متأكد ؟ منافق .. على من هذا الكلام ؟ ثم أكمل أبو سوزان : لم أعرف في حياتي امرأة غير زوجتي أم عدنان .. ها ها ها .. علينا ، يا كذاب يا دجال ! ثم قال ساخراً ، وهو يستعير جملة قلتها وانا سكران : ليس هناك امرأة يمكن أن تسد الفراغ الذي تركته أم عدنان في قلبي .. ماذا عن حبيبة القلب التي تمشي كأنها ترقص في الهواء ، يا عربيد ، وهذا غيض من فيض .. أكيد بعد أكو غيرها ، يا دون جوان زمانة ؟
وما كدت أهم بالاحتجاج على تحالفهما المشبوه ضدي ، وهجومهما اللاذع علي حتى لوحا بموبايلاتهما في وجهي .. فسكت ! وهددني أبو عصام محذراً وهو يضع ضحكة بين شفتيه ، ويشير الى موبايله : خمس ثواني فقط ، والفلم من بطولة الدجال والخائن المبدع أبو عدنان تجده على تلفون أم عدنان ، وأكثر من ذلك .. انتبه .. نحن نعرف مكان لقائك مع حبيبة القلب ، أم الابتسامة كأنها إشراقة فجر .. المطلقة خطافت الرجال ، يا مجرم .. تحب أقول .. أقول .. لم لا أقول .. هنا في بيت المغدورة الشهيدة أم عدنان اللي مخدوعة بيك ، وراسمتلك المسكينة صورة ملائكية .. هذه المعلومات فيها قطع رقاب .. افتح الباب بسرعة .. أحسن لك .. يا انتهازي ، وانا واقف أمامهما كالصنم .. اذا الصنم يتكلم أنا أتكلم .. !
تمالكت نفسي وقلت : أنتم اصدقاء العمر .. أنتم أعداء العمر .. تذكرا .. الدنيا دوارة سيأتي دوركما واحد واحد ، وعندها لات ساعة مندم ..
قال أبو سوزان : هذا كلام يفيدك .. يهدد بعد .. له عين ويتكلم .. ( صرخ آمراً ) .. افتح الباب !
وعندما سمعت بإسم أم عدنان كأني تذكرت أن زوجتي اسمها أم عدنان ، فأصابني الذعر والهلع ، وتصببت عرقاً ، وإن صدقوا الملاعين ، فالويل ويلي وسواد ليلي ، وأزحت نفسي عن فتحة الباب على ضرسي ، ودخلا وهما يكركران ..
وقضينا في تلك الليلة سهرة حبايب لا تُنسى من سهرات العمر نسينا فيها البعيد عن العين ، والبعيد عن القلب ، والبعيد عنك ، والقريب مني ، وحتى أسمائنا .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط