الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لبنان بين الماضي والحاضر والمستقبل.. من اللادولة إلى الدولة

فؤاد سلامة

2022 / 10 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


احتفل اللبنانيون منذ سنتين تقريباً بمضي مائة عام على قيام دولة لبنان الكبير. كانت تلك مناسبة لطرح أسئلة جوهرية.
يتعجب المؤرخ والمحلل والمراقب المتابع للوضع اللبناني من واقع أنه رغم مرور أكثر من مائة عام على قيام لبنان الكبير ما زال هذا البلد غير قادر على تجاوز مرحلة التأسيس.
يوجد في لبنان نظام وسلطة وحكومات متعاقبة وبرلمان منتخب ولكن لم يوجد بعد دولة بالمعنى الحديث.
كيف يمكن أن نسمي دولة ذاك الكيان السياسي الذي لم يستطع أن يؤمن لمواطنيه مياهاً نظيفة في هذا الزمن، وفي بلد تكثر فيه مصادر المياه ويوجد فيه إحدى أعلى النِسَب في العالم لحملة الشهادات الجامعية؟


لا بد بداية من طرح السؤال الأهم: هل يملك اللبنانيون المقيمون على تقاطع خطوط التصدعات التاريخية والثقافية والسياسية والقومية والدينية، في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة، ما يكفي من الشروط والإرادة لكي يشكلوا شعباً واحداً وموحداً؟
واستتباعاً لذاك السؤال: هل كان لبنان الكبير خطأً تاريخياً لكونه جمع مكونات أهلية لا يمكن أن تأتلف على مدى طويل على مساحة ال ١٠٤٥٢ كلم مربع للبنان الكبير؟

قبل الحرب الأهلية، في مطلع السبعينات كانت الحركة الاعتراضية على النظام اللبناني الطائفي تتمثل بقوى اليسار والأحزاب القومية. حملت هذه الأحزاب والقوى مفاهيمها وقيمها ساعية لإصلاح النظام طارحة برنامج الحركة الوطنية مدخلاً للإصلاح.
سرعان ما وقعت الحركة الوطنية في فخ التبعية والارتهان عندما التحقت بالمقاومة الفلسطينية، مساهمة بذلك في زرع بذور الحرب الأهلية عندما اصطدمت بالقوى اليمينية المحافظة والرافضة لتطوير النظام.

يمكن للبعض أن يطرح أسئلة محرجة على القوى التي اعتقدت يومها بإمكانية تطوير النظام اللبناني الطائفي من خلال الطروحات التي حملها القوميون بطيفيهم القومي السوري والقومي العربي، أو من خلال الطروحات التي حملتها قوى الإسلام السياسي بجناحيها الأصوليين المتنافرين والمتشابهين السني والشيعي.
هل كان من الضروري أن نحمِّل هذا الكيان - الوطن الصغير أوزار عقائد قومية كان دعاتها يؤمنون ويعملون على أساس أنه لا يمكن لهذا البلد أن ينمو ويتطور خارج رحمه الطبيعي كما كان يردد القوميون السوريون، والمقصود هو رحم سوريا الكبرى، أو رحم الأمة العربية كما كان يردد القوميون العرب؟
وأما المنتمون إلى الإسلام السياسي بطيفيه الأصوليين السني والشيعي، فطالما تبجحوا بعظمة وتفوق عقائدهم الشمولية التي تجعلهم يجزمون بأن هذا الوطن الصغير لا يستطيع بإمكاناته المحدودة أن يواجه أطماع الدول الكبرى الاستعمارية والأمبريالية من دون أن يذوب أو يدور في فلك أمة إسلامية ذات حضارة كونية ورسالة إنسانية.

لا القوميون العرب والسوريون ولا أهل الإسلام السياسي ولا اليساريون الأمميون فهموا حقيقة وطنهم وحقيقة تركيبته الاجتماعية المعقدة. جميعهم ساهموا بطريقة أو بأخرى في التحضير للحرب الأهلية التي امتدت لخمسة عشر عاماً وأدت لصعود طبقة سياسية جديدة جمعت أمراء الحرب الأهلية وتوجت حروبها المدمرة باستلامها للسلطة مباشرة بعد مؤتمر الطائف وبعد إصدارها عفواً إستثنائياً عن جرائمها الحربية.

كان من المفترض أن يكون الطائف مؤتمراً للمصالحة الوطنية ومنطلقاً لإصلاح وتطوير النظام اللبناني. مضت عقود ثلاثة منذ انتهاء الحرب الأهلية ولم يتم الشروع في تطبيق الإصلاحات الرئيسية التي نص عليها اتفاق الطائف.
كيف يمكن ائتمان أمراء الحرب وزعماء الطوائف الذين أوغلوا في ارتكاب الجرائم والموبقات، خلال ١٥ سنة من الحروب المتنقلة، على مهمة إصلاح وتطوير نظام كان عصياً على التطوير منذ عشرات السنين؟ كيف يمكن الوثوق بطغمة سياسية نمت وترعرعت في خنادق الحرب الأهلية ولم تتلق الحد الأدنى من الثقافة السياسية ولم تمتلك ذرة من الضمير الإنساني والحس الوطني؟

في المرحلة الأولى من عمر الجمهورية الثانية، جمهورية الطائف، حصل تزاوج بين الطغمة المنبثقة من خنادق الحرب الأهلية والطغمة التي التفت حول رفيق الحريري بصفته رجل المرحلة الأولى لدولة الطائف.
بدأت الاختلالات المالية بالظهور في تلك المرحلة وزادها اختلالاً الوصي السوري الذي ساهم مع مجموعة أمراء الحرب والمجموعة التي التفت حول الحريري الأب في تقاسم المنافع والعوائد المالية لدولة الطائف بحماية الجيش السوري وبغض نظر من المجتمع الدولي الذي كان يؤمِّن من وقت لآخر استمرار التدفقات المالية.

ما جاء الطائف لإصلاحه إزداد بروزاً وتشوهاً مع الوقت. كان من المفترض أن تكون الجمهورية الثانية ممراً نحو الدولة العصرية الحديثة، دولة المواطنة الخالية من رواسب الماضي وعفنه الطائفي. ما حصل هو إستمرار الماضي بكل سلبياته وأمراضه وعقده في التحكم بالحاضر بحيث أصبح المستقبل صورة أسوأ عن الماضي الممتلىء بأحقاد الحرب وبشاعاتها.
لم يكن للحركة الاعتراضية دور مهم خلال العقود الثلاثة التي تلت انتهاء الحرب الأهلية بفعل إقصاء قادتها ونخبها عن المشاركة في حكومات ما بعد الطائف المتعاقبة على السلطة.

رغم الهَبَّات العفوية وحراكات النخب الحداثية التي كانت تعبر من وقت لآخر عن حالة السخط عند الأجيال التي أبصرت النور أثناء الحرب الأهلية، بقيت الحراكات الطلابية واليسارية الجديدة والقديمة أسيرة الأفكار والأيديولوجيات المنغلقة التي كانت متغلغلة في أوساط المعارضة يتناقلها الآباء والأبناء.
فقدت النقابات دورها بالكامل كمدافع عن مصالح العمال وأصحاب المهن الحرة بعد أن سيطرت عليها أحزاب الطوائف التي صادرتها ووضعت على رأسها أزلامها.

مع بروز دور "حزب الله" كفاعل أساسي على الساحة اللبنانية، ومع تغلغل هذا الدور في مؤسسات الدولة وأجهزتها وصولاً لسيطرة شبه تامة على مفاصل الدولة، إزداد تراجع النظام اللبناني عن المستوى الذي كان عليه قبل ولادة الجمهورية الثانية، وتحولت الدولة التي استلم إدارتها أمراء الحرب وزعماء الطوائف إلى دولة فاشلة وجدت لها مكاناً في أسفل سلم الدول الفاشلة في العالم.
كان من الطبيعي أن تغرق الجمهورية الثانية في مستنقعات الفساد وأن يتلاشى أي دور إصلاحي للنخب الحاكمة مع انضمام آخر فريق من أفرقاء الحرب الأهلية إلى الجمهورية الثانية، وهو الفريق العوني الذي لم يكن في الأساس موافقاً على اتفاق الطائف في جزئه الإصلاحي.

مع دخول الفريق العوني دخولاً كاملاً الى السلطة بكل ما يحمله من أحقاد وأوهام وجشع ونزوع سلطوي وما يضمره من توق إلى الهيمنة ووإخضاع المجتمع لنزوات قادته المصابين بهوس السلطة، إكتمل سقوط الدولة في أيدي أمراء الطوائف الذين أوكلوا إدارة الأمور المالية للدولة إلى أحد كبار مهندسي سرقة خزائن الأموال المودعة في المصرف المركزي وفي المصارف الخاصة.

سنوات عدة تم تضييعها قبل الانتباه إلى نفاذ الأموال من خزائن الدولة وتراكم الديون وتعمق الاختلالات الاقتصادية. بل يمكن القول أنه مع انتباه الموكَلين بأمور الدولة إلى استنزاف الاحتياطات وتصاعد العجز المالي، كان هناك مايسترو محنك وضليع بتنظيم وتشريع السرقات يقوم بعمله على أكمل وجه في خدمة الطغمة الحاكمة، وهو يقوم بوضع ما يلزم من خطط من أجل توسيع الفجوة المالية وتضليل الناس والإعلام بالكلام عن قوة العملة الوطنية وصلابة النظام المصرفي اللبناني. كل ذلك من أجل إطالة عمر النظام المتهالك عبر استقدام المزيد من أموال المودعين، بكل أساليب الخداع، كي تغذي خزائن الدولة الفارغة ومن ثم تغادرها إلى الخارج لتنام في حسابات كبار السياسيين وأعوانهم وأنسبائهم وحسابات أصحاب المصارف المسجلة في البنوك الغربية وفي الجنات الضريبية التي ساعد المايسترو المحنك أركان السلطة وأعوانهم في تهريبها إليها بجميع الطرق المشروعة والملتوية.

مع بدء انتفاضة ١٧ تشرين لم يتوقع اللبنانيون حجم الخراب والاهتراء الذي كان قد أصاب دولتهم ونخرها. افترش الثائرون الساحات وحناجرهم تصدح ضد المنظومة السياسية بشعار "كلن يعني كلن".. حمل المنتفضون بكل براءة أحلامهم بدولة حديثة تلبي حاجات الشعب وتطلعات الشباب والصبايا الثائرين. شكَّلت انتفاضة ١٧ تشرين متنفساً عن الاحتقان وتعبيراً فولكلورياً عن مشاعر النقمة والغضب التي تختزنها النخب المتعلمة المتحدرة من الطبقات الوسطى، وتطلعاً لجمهورية مدنية لا تمييز فيها بين المواطنين.

سرعان ما تم وأد الثورة وأحلام الثائرين وأوهامهم عندما اصطدموا بالحائط الصلب لنظام التحاصص الطائفي. كان الواقع العفن أكثر صلابة من أحلام الثائرين.
بعد أخذ ورد وإسقاط حكومات استطاعت قوى الثورة المضادة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولم يتمكن الثائرون من تشكيل قيادة موحدة لهم تجمع صفوفهم المشرذمة وتواجه الطغمة الحاكمة التي توحدت في مواجهة الشارع الغاضب.
بحماية السلاح غير الشرعي للدويلة التي هيمنت على الدولة واستتبعت مؤسساتها، استطاعت منظومة "كلن يعني كلن" استعادة المبادرة وكسر شوكة المنتفضين على سلطتها.

لم تتمكن قوى الاعتراض من تنظيم صفوفها وانقسمت مجموعات متفرقة وشللاً متناحرة وأحزاباً تقليدية على رأسها قادة لا ينتمون للمستقبل بل للماضي. غرق المنتفضون في صراعات فئوية ولم يتوصلوا لإنتاج قيادات رؤيوية، متناغمة فيما بينها، تحمل فعلاً قِيَمَ الجمهورية ولا تحلم بها فقط.
خاضت قوى الاعتراض بعد جهود مضنية معركة الانتخابات النيابية بما أمكن من لوائح تغييرية موحدة. اصطدمت تلك اللوائح الموحدة بنفس العقليات الجامدة وبنفس الأنانية والعصبوية التي صبغت مجموعات الانتفاضة وغطت على خطابها الثوري.
كان يمكن لمعركة الانتخابات النيابية أن تحقق نجاحات مهمة لو لم يتمترس بعض المرشحين خلف أوهامهم وطموحاتهم الشخصية المبالغ بها.

لكي تحجز قوى التغيير والتجديد موقعاً متقدماً ومتميزاً لها مستقبلاً في الصراع الدائر حول هوية الوطن وشكل الدولة التي يحلم الكثير من اللبنانيين بقيامها، ينبغي أن تبذل تلك القوى جهوداً مضاعفة لتشكيل قوة
سياسية منظمة تدعمها كتلة اجتماعية عابرة للمناطق والجماعات الأهلية، ويلتف حولها ائتلاف واسع لقوى الاعتراض والتغيير ويحمل مشروعها تكتل نيابي وازن في البرلمان.

لا بديل عن الانتظام الحزبي المستند على برنامج سياسي جامع ونظام داخلي يدمج بين المركزية والديمقراطية من خلال صيغة مرنة وقابلة للتطوير.
هذا البرنامج السياسي الجامع ينبغي أن يتركز حول شروط انتقال لبنان من كيان ذي نظام سياسي هجين هو نظام اللادولة، إلى لبنان الدولة المدنية الحديثة، والخطوات الآيلة لاتخاذ الإجراءات الأساسية المسرِّعة لقيام تلك الدولة، والتي ينص على بعضها الدستور واتفاق الطائف الذي أصبح جزءاً من الدستور، وعلى رأسها:

- وقف كافة أشكال الانتقاص من السيادة ومن هيبة الدولة وسلطتها على جميع الأراضي والمعابر بقواها الأمنية الشرعية.
- إقرار قوانين استقلالية القضاء والإدارة وتطهير القضاء والإدارة من كل ما اعتراهما من شوائب وخضوع لأصحاب النفوذ.
- إنهاء التوزيع الطائفي للمراكز والمناصب والوظائف وفي البرلمان، مروراً بمرحلة انتقالية تتشكل فيها حكومات الأكثرية النيابية مناصفة ومداورة بين المسلمين والمسيحيين من دون تخصيص مذهبي.
- إقرار قانون عادل وعصري للانتخابات على أساس النسبية والدوائر الكبيرة والمختلطة.
- إقرار قانون جديد للأحزاب يشجع على قيام أحزاب وطنية مدنية لاطائفية وديمقراطية غير تابعة للخارج، كمدخل لتداول السلطة عبر الانتخابات الحرة.
- التوصل لتوافق سياسي على منع تدخل رجال الدين في السياسة ووضع حد لتحكمهم بخيارات الناس في نظام وأسلوب حياتهم واجتماعهم، مقابل منح الكيانات الطائفية دوراً محدوداً من خلال مجلس شيوخ محصور الصلاحيات، يضمن احترام الحقوق الثقافية وحرية المعتقد لكل الأفراد والمكونات اللبنانية.
على هذا المسار القصير والمتوسط والطويل المدى يجب أن ينعقد الرهان التغييري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس كولومبيا يعلن قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ويعتب


.. -أفريكا إنتليجنس-: صفقة مرتقبة تحصل بموجبها إيران على اليورا




.. ما التكتيكات التي تستخدمها فصائل المقاومة عند استهداف مواقع


.. بمناسبة عيد العمال.. مظاهرات في باريس تندد بما وصفوها حرب ال




.. الدكتور المصري حسام موافي يثير الجدل بقبلة على يد محمد أبو ا