الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


والمال بدّل أيديولوجية مسرحية تاجر البندقية

أكرم شلغين

2022 / 10 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


حول الموقف الأمريكي من سوريا والسوريين، ومن العرب عموما، علّق يهودي أمريكي شغل منصبا مدير معهد أسبن في دردشة عابرة في برلين قائلا: لو أتيت بخارطة العالم ووضعتها أمام أي مرشح للرئاسة الأمريكية أو رئيس يتهيأ لفترة ثانية في البيت الأبيض وذكرت له كلمة "سوريا" فقد لا يستطيع الإشارة إليها وإلى موقعها على الخارطة ولن يعني له الاسم شيئا إلا إذا كانت كلمة سوريا تتوارد يوميا في الأخبار...أما إن قلت له كلمة إسرائيل فلن يفكر بمكانها على الخارطة بل سيسارع إلى القول إنها حليفتنا الاستراتيجية وستبقى علاقتنا دوما هي الأفضل! وتابع ذلك اليهودي الأمريكي القول: السوري والعربي عموما يختلف عن اليهودي بما لديه، يختلف بعقليته وطريقة تفكيره؛ السياسة في أمريكا ليست فقط سياسة مؤسسات مقررة وصانعة، بل هي مرتهنة بشكل كبير لقرارات وتوجهات "اللوبيات" وهذا كاف للقول عما يتميز به يهود أمريكا عنكم في الدفع بقيادة الأمور والتأثير في السياسة العالمية وخصوصا في منطقتكم!
لو تمعنا بكلام ذلك اليهودي الأمريكي لوجدنا أنه لا يقول الحقيقة فحسب، بل يضع إصبعه فوق الجرح. وكلامه هذا يعيد إلى الذاكرة ما قاله مرة أبا إيبان (دبلوماسي إسرائيلي وعضو كنيست ومن ثم وزير ثقافة في حكومة بن غوريون) وأخرى ليفي أشكول (رئيس وزراء إسرائيلي سابق) حين أكداها بقولهما: "إننا فقط بضعة مئات (400 ألف) هنا (أي في فلسطين) وعددهم (أي العرب) عشرات الملايين، ولكنهم لن يتمكنوا منا ولن يتفوقوا علينا، فالعقل العربي يسير بنمط تفكير نفهم آليته وآفاقه جيدا ونعرف ماذا يريد..."
تُعلمنا دروس التاريخ أن العرق واللون لا يلعبان دوما الدور الرئيس في تحديد الولاءات والمحاباة ولا اللغة وإنما تكمن القوة في كيفية تقديم الذات والتسويق لها ضمن الخارطة السياسية العالمية. وبالتأكيد فإن اليهود يمتلكون طريقة تفكير تختلف عن تلك التي يفكر بها العربي، فاليهودي المالك للمال يشتري بها قرارا سياسيا وأما العربي الذي يمتلك المال فيسخره لما يسمح به ضيق تفكيره ولكم تخيل ما قد يفعل به العربي الذي يمتلك المال الوفير!
موجز مختصر جدا عن وضع اليهود في أوربا
تحكي كتب التاريخ عن تنافر، من نوع أو آخر، بين اليهود من جهة وعالم صنع القرار (أو مركز الميتروبوليتان) لم ينحصر في العداء بين المسيحية واليهودية من حيث تحميل اليهود مسؤولية صلب السيد المسيح ولا في كره الإمبراطورية الرومانية لليهود ولم تتوقف عند اتهامهم بكل ما فيه الشرور في العالم على مدى التاريخ ولكن أكثر من ذلك. سأتوقف باختصار هنا عند جانب واحد يُركز على علاقة أوربا (وبشكل خاص بريطانيا) باليهود. في العام 1290 وفي عهد الملك إدوار الأول صدر قرار بطرد اليهود من بريطانيا وذلك بسبب تشريعهم للفائدة والربا حيث كان "الربا" مُحَرّما في المسيحية (يحكي عنها فرانسيس بيكون بمقال عنوانه "حول الربا") وبقي اليهود رسميا خارج بريطانيا حتى العام 1656 في عهد أوليفر كرومويل (حامي اللوردية الإنكليزية الإسكتلندية والايرلندية) الذي احتاج للاستدانة من أموالهم حينها فأعادهم قانونيا للبلد (أي تم طردهم بسبب أموالهم وتمت إعادتهم أيضا بسبب أموالهم). في الفترة ما بين طردهم وإعادتهم راجت الحكايات والأقاويل الشعبية والاتهامات لليهود في بريطانيا، وفي كل أوربا حقيقة (كما نقرأ في موسوعة أو كوزموجرافيا سيباستيان مونستر وقتها حيث تحتوي على مئات الصفحات عن اليهود). فعلى سبيل المثال وليس الحصر، عثر مرة على طفل ميت في شمال إنكلترا منتفخ البطن فكان القول إن اليهود صلبوه، وكان الاتهام لليهود بأنهم يرشون السم على مقابض الأبواب كوسيلة لتسميم كل من يلمسها، وكذلك في فرنسا حيث أصاب الطاعون مرة مدينة Aix مدينة إيكس فكان القول إن اليهود سمموا آبار الشرب، والحادثة الأشهر هي التسمم الغذائي الذي أصاب الملكة إليزابيث الأولى فاتهمت طبيبها روديريكو لوبيز (المنحدر من أصول يهودية برتغالية) فأعدمته في العام 1594 في مكان عام مع تنكيل بجثته. (من يقرأ كوزموغرافيا مونستر سيجد أقاويل وحكايا كثيرة من هذا النوع وقد يضحك لضحالة بعضها إذ أن الشائعات وقتها كانت تفيد بأن الذكور اليهود يحيضون كما هو وارد في المجلد المختص من الموسوعة نفسها...إلخ).
اليهود في فترة ازدار المسرح الإنكليزي
لم يكن الحال بالمختلف بالنسبة لليهود في الكتب والمسرحيات (ولاحقا الروايات) التي لا تفتقر إلى تصوير الشخصية اليهودية بما يتماشى مع الثقافة السائدة حينها. فمسرحية "يهودي مالطا" لكريستوفر مارلو وكذلك مسرحية شكسبير الشهيرة "تاجر البندقية" فيهما تقديم لشخصية اليهودي. في الأولى يمارس باراباس (الشخصية المحورية في العمل) القتل هواية وينكل بالجميع ولا ينجو منه أحد، لا راهبات ولا رهبان الدير، ولا الأطفال، ولا أحد فيقتل ويقتل ما يدفع بابنته إلى إعلان براءتها من دين والدها واعتناقها للمسيحية...وفي مسرحية شكسبير يصل الأمر بشايلوك حد إصراره على اقتطاع رطل من لحم التاجر أنطونيو...أي إن المسرحيتين كانتا بالمطلق معنيتان برسم الصورة النمطية التي تشكلت لدى الإنكليز وقتها عن الشخصية اليهودية...من الجدير بالذكر هنا أن مسرحية يهودي مالطا كانت في غاية النجاح وأعيد تمثيلها 48 مرة خلال 11 شهر على مسارح لندن (كما توضح مذكرات فيليب هنسلو، المدير المسرحي كما كان يُسمى في ذلك الحين). وليس من زائد القول هنا أيضا توضيح أنهما كانتا العملين المفضلين لدى هتلر فكان يُعاد تقديمهما ومسرحتهما بطلب منه. أي أن الفهم السائد للعملين كان ما هو موجود في النص وما تنسجه المسرحية وتقدمه حبكتها...وليس العكس!
كان لعودة يهود بريطانيا أثر كبير على مجريات الأحداث السياسية ليس فقط في بريطانيا بل على صعيد أعم في العالم. فثرواتهم وأموالهم وُضِعت لخدمة الأهداف الاجتماعية والسياسية التي ينشدونها لهم ولجميع اليهود في العالم. وهنا أيضا ليس على سبيل الحصر بل المثال فقط، عندما تأسس مخزن (M&S) ماركس آند سباركس ـ الذي أصبح فيما بعد ماركس آند سبنسر ـ في إنكلترا كان ما نسبته 80% من أرباحه تذهب لما سمي حينها (مناصرة أخوتنا في المشرق وتركيا وغيرها...). وفي القرن التاسع عشر كان هناك نائبا (يهوديا) في البرلمان البريطاني.
أما فيما يخص الثقافة السائدة والخطاب السياسي المتعلق فأصبح حينها نشاط اليهود واضحا لا يكل ولا يمل لتغيير نمط الخطاب الاجتماعي السياسي لدى الناس، وهنا ـ كمثال أيضا ـ أعود للمسرحيتين المذكورتين أعلاه "يهودي مالطا" و"تاجر البندقية" كونهما ارتبطتا بما يسمى النص الكانوني (canonical) البريطاني أو النص الذي يتمتع بهالة أو قدسية معينة لدى "الأمة"، وخاصة مسرحية تاجر البندقية، فقد قرر أحد الأثرياء اليهود عرض تمويل سخي أكثر من المتوقع واللازم على أحد الطلاب المتفوقين في دراستهم الجامعية طالبا منه أن يثبت أن تغيير فهم هذه النصوص وبأنها ليست ضد اليهود ولا تعبر عن الشخصية اليهودية ـ وذلك موثق في كتب التاريخ المختصة بتاريخ اليهود في بريطانيا. وبالفعل قام ذلك الباحث الذي يتمتع بمهارات عالية من التركيز على الجمل واجتزائها من سياقها وإعادة تقديمها بشكل يختلف عن الأيديولوجية التي وردت بسياقها في الأساس...وبالطبع ـ كما هو معروف ـ في المسرح قد تُقال العبارة بنبرة معينة وتترافق بلغة جسدية فيؤدي ذلك إلى فهم العكس منها وهكذا وبمرور الأيام أصبحت مسرحية شكسبير لاتعري الشخصية اليهودية بل تُعطي منبرا لليهود للتعبير عن ضيمهم والمظالم الواقعة عليهم ... ولا أستطرد كثيرا حين أورد أن كبار مثقفينا أصبحوا يقتبسون من شايلوك متخذين من الفهم "الجديد" له مثالا للتعبير عن الظلم الواقع على العرب، فللراحل إدوار سعيد مقالا في صحيفة الحياة اللندنية يستشهد بها بتساؤل شايلوك: أوليس لليهودي عينان؟ أوليس له أيدي وأعضاء وأبعاد وأحاسيس يتغذى بنفس الطعام؟ يتأثر بما يتأثر به الجميع، يمرض مثل الجميع ويشفى بنفس الوسائل يبرد شتاء، ويُجرح...إلخ... وكذلك تم حرف التركيز على عنف باراباس في مسرحية يهودي مالطا حيث أصبح باراباس ليس باليهودي الجشع العنيف بل الإنسان الذي نشأ وسط المجتمع في مرحلة الانتقال من الاقطاعية إلى الرأسمالية فهو، أي باراباس، نتاج أوربي بحت (كما ناقش مقال لستيفن جرينبلات). ولم يتوقف الأمر هنا بخصوص شكسبير، بل أكثر إذ ذهب بعض الكتاب والنقاد (منهم هاس Hass) إلى اعتبار شكسبير يهودي الأصل وقد أخفى هويته بسبب الظلم الأوربي لليهود والاستناد في ذلك الرأي هو نفس عمل شكسبير الذي كان مصنفا ضد اليهود إضافة إلى الرسم الذي قيل إنه لشكسبير ويبدو فيه الشعر على جانبي رأس شكسبير أسودا (فهو بذلك الزعم من أصول شرق أوسطية ممن نفت أجدادهم الإمبراطورية الرومانية إلى الجزر ذات الطقس الرديء، أي بريطانيا).
لم أستعرض بهذا الموجز المختصر جدا هذا الجانب اليسير من واقع أو مسيرة اليهود في بريطانيا لألهو، بل للتذكير بأنهم يتمتعون كما هو معروف بعقلية من له هدف ويريد الوصول إليه، فهم ـ كما ذكر أعلاه ـ حين يمتلكون المال يسخرونه لشراء مواقف سياسية تخدمهم أما العربي صاحب المال فيستخدمه فيما تعرفون....
وهذا هو الفرق بين من يمتلك المال ويشتري به وجودا وقرارا سياسيا وآخر يملك المال فيفتتح به ملحمة حلال ويتزوج أربع نساء!

................................................
ملاحظة: لم أذكر المصادر لأن هذا مقال سريع وليس له طبيعة أكاديمية كي أضع أسماء المراجع بكاملها وأرقام الصفحات إلخ...ومع ذلك هنا فقط بعض المصادر باللغة الإنكليزية لمن لديه اهتمام وبها الكثير عن موضوع اليهود في بريطانيا:

Gwyer, John, The Case of Dr Lopez, Transactions of the Jewish Historical Society of England, XVI. 1952.
Heill, Johannes, Shapiro, Shakespeare, and the Jews. Review, Shakespeare Jahrbuch. Bd. 134. 269-272.
Katz, David S., The Jews in the History of England: 1485 1850 (Oxford: Clarendon Press, 1994).
Kermode, Frank, Hail to the Chief, London Review of Books. Vol.13. No.1. 1991. 6.
Lipman, V.D., A History of the Jews in Britain Since 1858 (London: Leicester Univ. Press, 1990).
Pollins, Harold, Economic History of the Jews in England (London: Associated Univ. Press, 1982).
Roth, Cecil, A History of the Jews in England (Oxford: Clarendon Press, 1941/78).
Rubinstein, W.D., A History of the Jews in the English-Speaking World: Great Britain (London: Macmillan, 1996).
Shapiro, James, Shakespeare, and the Jews (New York: Columbia Univ. Press, 1996).
Trachtenberg, Joshua, The Devil and the Jews (New Haven: Yale Univ. Press, 1943).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صنّاع الشهرة - تعرف إلى أدوات الذكاء الاصطناعي المفيدة والمج


.. ماذا وراء المطالب بإلغاء نحر الأضاحي في المغرب؟




.. ما سرّ التحركات الأمريكية المكثفة في ليبيا؟ • فرانس 24


.. تونس: ما الذي تـُـعدّ له جبهة الخلاص المعارضة للرئاسيات؟




.. إيطاليا: لماذا تـُـلاحقُ حكومة ميلوني قضائيا بسبب تونس؟