الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- عطر - قصة حياة قاتل

شريف حتاتة

2022 / 10 / 19
الادب والفن


"عطر".. قصة حياة قاتل
---------------------------------------------
توقفت في الصالة الرخامية اللامعة أمام الإعـلان المثبت على عامود. كرهت أفلام القتل، والعنف تحتـل شاشاتنا منذ سنين، فترددت. لكن جذبني إليه التناقض في عنوان الفيلم، وكوني أعرف أنه مبني على رواية الكاتب الألماني المعروف "باتريك زوسكيند" الصـادرة سنة 1985.
بعد قليل وجدت نفسي جالسا في الظـلام، أتطلـع إلى المشاهد الأولى في فيلم "العطـر"، وأسـتمع إلـى مقدمة الراوي "جون هيرت" لأستغرق بعدها في العرض الذي يحكي قصة شخصية خيالية تدعى "جان باتسـيت جرينوي ". صانع عطور ، عاش في فرنسا في أواسـط القرن الثامن عشر ، ( قام بدوره الممثـل الإنجليـزي "بينيدكت ويشاو" ) اشتهر بأنه منذ ولادته كان يتمتـع بقدرة خارقة على إلتقاط مختلف الروائح، ومعرفـة أنواعها، ومصادرها، والفروق بينها مهما كانت دقيقة. وقد تمكن هذا الشاب الصامت دائما من إختراع عـدد كبير من العطور ، لاقت نجاحا مشهودا بين نساء الأسر الغنية في "باريس"، وهذا أثناء عمله مساعدا لصـانع عطور إيطالي اسمه "جوسيبي بالديني " كـان يمتلـك وكالة لبيعها (قام بدوره الممثل الأمريكـي المشهور "داستین هوفمان").
لكن قبل أن يلتحق بالعمل مع "بالـديني" يقـع لـجـان باتسيت" حادث مؤلم يعجز عن نسيانه، ويولد عنده رغبة طاغية تتحول إلى حلم مجنون في أن يتمكن من عزل العناصر الأساسية التي تتكون منها رائحة الانسان ثم حفظهـا. لذلك يترك عمله مع "بالديني" بعد أن تعلم منه بعض أسرار المهنة ، وإقتنع بقوله أن العبقرية والنجاح لا يعتمدان علـى الموهبـة وحدها، وإنما أيضا على الصبر والجهد الطويل.
ينتقل "جان باتيست" من "باريس" إلى مدينـة "جـراس " المعروفة بتملك تجارها أسرار تقطير العطور. هناك أثناء عمله في أحد المعامل يكتسب ثقة المرأة التي تقوم بإدارتـه ، نتيجـة حذقه وحساسيته في التعامل مع الورود والزهور أثناء إعدادها لتقطير العطر. هكذا تمكنه من الإنفراد "بالبدروم" الواسع أثناء ساعات الليل ليقوم بتجاربه الخاصة تدفعه للقيام بهـا رغبتـه المهووسة في أن يستعيد رائحة الفتاة التي انجذب إلي رائحتها ، وتتبعها في سوق " باريس " أثناء فترة سابقة ، عمل فيها صبياً في دبغ الجلود.
يقوده هذا الدافع الملح إلى التورط فـي القيام بتجـارب مروعة، غير عابيء بأية موانع أو أخطار، إلى القيـام بقتـل أعداد من النساء الشابات وتقطير رائحتهن بغية الوصول إلـى الرائحة الوحيدة التي أحبها، والتي أخرجته من قـبح حياتـه وبؤسها في معمل لدبغ الجلود، من عفن الروائح التي كانـت تحيط به في النهار والليل.
أثناء هذه التجارب كان يغطي جثة الضحية بطبقـة مـن الدهن الحيواني ويلفها بإحكام في ثوب من التيل السميك، ثـم عندما ينتهي من كل هذا يقشط طبقة الدهن التي غطـى بهـا الجثة ويقوم بتقطيره. فقد اكتشف أنه بهذه الوسيلة يستطيع أن يصل إلى استخراج الرائحة التي يبحث عنها وحفظها في قنينة صغيرة.
كانت هذه الخطوات تشبه في بعض تفاصيلها عمليـات تحنيط الأموات التي لجأ إليها الفراعنة لحفظ الجثث بعد الوفاة. فعندما كان يعمل معاونا لتاجر العطور "بالـديـنـي قـال لـه إن الفراعنة تمكنوا من استخراج ثلاثة عشرة رائحة، منها اثنتـى عشرة رائحة أمكنهم تحديدها، ومعرفة خصائصها. أما العنصر الثالث عشر، فلم يستطع أحد الوصول إليه رغـم أنـه كـان أهمهم. ذلك أن أثره كان يسيطر على الناس ويصيبهم بنشـوة غريبة. فظل هذا العنصر أسطورة عجزوا عن التعرف عليها.
تمكن "جان باتيست " من قتل إثنتي عشر إمـرأة وحفـظ رائحة أجسادهن في عدد مساو من القنينات الزجاجية الصغيرة دون أن يعثر على رائحة فتاته. وحتى يصل إليها كان لابد لـه من قتل ضحيته الثالثة عشرة. وهـي أجمـل فتيـات مدينـة "جراس"، وابنة أكثر تجار العطور ثراءا ونفوذا. كما أنها كانت تشبه في ملامحها الطفولية الرقيقة وشعرها الأحمر المشتعل حول رأسها ، فتاة السوق التي لم يستطع أن ينساها.
خيال له معانيه
----------------
الاستمتاع بالأعمال الفنية، وتفسيرها عملية ذاتية، تتأثر بثقافة وشخصية المشاهد أو القاريء. لقـد اسـتمتعت بهـذا الفيلم، وبالمعاني التي رأيتها فيه رغم كل الغرابة التي اتسـم بها. رأيت فيه عملا فنيا يعتمد على الفانتازيا، وعلى خيال غير عادي. مع ذلك لم يكن هذا الخيال مفصولا عن نـواحـي مـن الواقع الذي نعيشه. كان يرمز إليها فـي مواضـع، ومشـاهد كثيرة. موضوعه الأساسي هو روائح الحياة. الجميلة والكريهة على حد سواء . رائحة الحياة نفسها تظل الأقوى والأكثر تأثيرا . وأجمل رائحة هى التى تنبعث من الأشياء التى نعشقها الى حد الموت . رغبتنا فى الحياة ممتلئة بالثراء والتنوع ، يغرينا ويحفزنا ، نقاتل للحفاظ عليها . بل نحن على استعداد للقتل من أجل استمرارها .
نجح المخرج الألماني " توم تيكوير " في الاستحواذ علـى اهتمام المشاهد، وتركيزه طوال الفيلم من الإحتفـاظ بـوتيرة التوتر، والتوقع أمام ما هو حادث، وأمام احتمالات ما قد يحدث دون أن يعرض مشاهد القتل أو الدماء وهي تراق. نجح فـي تحويل القبح الذي كان سائدا في "باريس" منذ ثلاثمائة عام إلى شيء جميل، بأسلوب عرضه للفقراء مـن الرجـال والنسـاء والأطفال الذين اكتظت بهم شوارع وأحياء المدينـة، ليرقـات الحشرات تزحف في السوق بالملايين، لأحشـاء الحيوانـات الملقاة على الأرض وفي السلال، للأجسام المتقيحة للبشر تلفها الأثمال، لجثث النساء الشابات بعد وفاتهـا، لمدينـة تنضـح بالعفونة والقذارة. ذلك أن تصوير القبح يمكن أن يكـون لـه جماله.
شارك "توم تيكوير " أيضاً في كتابة السيناريو ، وفي تأليف الموسيقى التصويرية ، الذي قامت بتأديته فرق موسيقية ذات مستوى رفيع مثل فرقة "برلين الموسيقية " وفرقة "برشلونة".
في رأيي أن الفيلم كان يرمز بطريقـة عميقـة لتمسـك الإنسان المبدع بالحياة، بالأشياء التي يحبها وبالسـعي إلـى تحقيقها، تجسد هذا في مشهد ولادته داخل سوق السمك حيث ألقت أمه، بائعة السمك، بطفلها الوليد "جان باتسـيت" وسـط الرؤوس المقطوعة والأحشاء المتناثرة للسمك ، فيصرخ بقـوة رافضا الموت .
بجسدها الشاحب الصغير المغطى بالدم وسط القمامة ، تعلن عن تمسكه بالحياة استمساكه بالحيـاة ، بينما هى تتركه ليموت، كما تركت غيره من أطفالها، فيمسـك بها الناس، ويقودونها إلى المشنقة بتهمة القتل. هكذا تنتهـي حياتها ليعيش هو، وليباع إلى إمـرأة تـدير ملجـأ للأطفـال اليتامى. وفي الملجأ نشاهد قدرته على الإفلات مـن عـدوان الصبية الآخرين معتمدا على حاسة الشم الحيوانيـة الخارقـة التي وهبتها له الطبيعة. إنه يتشمم مواضع الخطر ويتفاداهـا إلى أن يشب ويصبح صبيا فارعا، فتقوم مديرة الملجأ ببيعـه إلى رجل جسده عملاق، ونفسه محقونة بالقسوة، رجل مهنته دبغ الجلود والمتاجرة فيها. هكذا ينتقل "جان باتيسـت" ليحيـا وسط الروائح الكريهة للجلود، ضحية لأقسى أنـواع العقـاب والعذاب، والضرب المبرح بقضيب من الحديد علـى جسـمه النحيل. أما مديرة الملجأ فتقوم عصابة من اللصوص بـذبحها ، والاستيلاء على النقود التي حصلت عليه مقابل بيعها له.
يلف "جان باتیست" نفسه في الصمت ويتحمل، لكـن فـي أحد الأيام يصطحبه العملاق إلى "باريس " حيث يسـعى لبيـع الجلود في السوق. وهناك أثناء سيره فـي المدينـة تجتذبـه رائحة فتاة ذات ملامح جميلة وهالة من الشعر الأحمر، تحمـل سلة من البرقوق تقوم ببيعها فيتتبعها إلى ميدان صغير مهجور سائرا ورائها في الحواري، ليقترب منها ويحاول أن يستنشق رائحتها. لكنه أثناء محاولاته يسمع خطوات أحد المارة فيضع يده على فمها حتى يمنعها من الصراخ والاستنجاد بمـنْ قـد يؤذيه. بعد أن تبتعد الخطوات يتركها ، ليكتشف أنهـا اختنقـت وفارقت الحياة فيتهاوى فوقها، ويتشمم جسدها وهـي راقـدة على الأرض ليحمل رائحتها معه ذكرى لا يريد أن ينساها.
في هذه الأثناء يبحث عنه تاجر الجلود، وعندما يعثـر عليه ينهال عليه ضربا بقضيب من الحديد حتى يفقـد وعيـه . عندما يعود إلى اليقظة تبرق عيناه ، كأنه تنبه إلى شيء مهم ، وينطق بجملة معناها أنه أخيرا اكتشف مشروع حياتـه . منـذ الآن سيسعى إلى استعادة رائحة الفتاة التي لم يعد قادراً علـى نسيانها. كانت لحظة الجمال والضوء، ولحظة رائحـة الحيـاة الجميلة الوحيدة التي عرفها منذ أن ولد. يصبح فاقد الإحساس بكل ما يدور من حوله، صامتا تماما، عاجزا عن الإهتمام بكل شيء سوى البحث المحموم عن ذكرى استحوذت على حياته، واستولت على خياله، عن سر يستطيع أن يقوده إلـى مـقـدرة الإحتفاظ برائحة الجسم الانساني، برائحة جسم المرأة الشـابة التي التقى بها وسط مستنقع القبح والقسوة والمعنـاة الـذي عاش فيه.
في اليوم التالي يحمل لفة من الجلود إلى تـاجر العطـور الإيطالي "جويسبي بالديني" تنفيذا لأوامر صاحب مدبغة الجلود. هناك يكتشف التاجر مقدرته الفذة علـى اكتشـاف العناصـر المكونة للعطور عن طريق حاسة الشم التي تمتع بها، ومـن بينها عطر جديد اسمه " الحب والروح" ، صـنعه منـافـس لـه فيوافق على الإستفادة من قدراته كمساعد . أما صاحب مدبغـة الجلود ، فأثناء سیره على حافة قناة للمياة وهو ثمل ، يسقط فيها ويغرق في المياه.
خلال الفترة التي يعمل فيها مع تاجر العطور "بالـديني يتمكن "جان باتيست" من استنباط عدد كبير من العطور الجديدة التي تباع للنساء المنتميات للأسر الأرستقراطية الثرية ، فتروج تجارة بالديني" بعد أن أوشك على الإفلاس. أما "جان باتسيت " فيتعلم من خبرات الرجل ويستوعبها. لذلك يقـرر مـغـادرة باريس " والذهاب الى إمدينة "جراس " حيـث يوجـدأشهرصناعةعطورفي فرنسا ، حتى يواصل البحث في تقطير وحفظ رائحة الجسد الإنساني. لكن يوم أن يترك وكالـة "بالـديني " تنهار البناية التي يقيم فيها الرجل وهو راقـد فـي سـريره ويموت تحت الأنقاض. هكذا تقترن كل مرحلة في حياة "جـان باتيست " بموت الشخص رجلا كان أو إمرأة ، الذي كان عقبـة تقف دون مواصلة مشروعه . وكأن الفيلم يقول أنه لا جديـد إلا بموت القديم، أنه لا يوجد طريقة للإكتشاف، للإبداع، لتحقيـق مشروع له قيمة سوى بزوال العقبات والقوى المعطلة للتقـدم التي تصر على ممارسة القهر، واستيلاب الانسان المتطلع إلى تحقيق أحلام الغد.
هكذا يتعرف "جان باتيست" على الطريق الـذي يجـب أن يسلكه لتحقيق مشروع حياته. لكن أثناء السير إلى "جـراس" يدخل إلى كهف ليتسريح من مشقة المشي، وهناك يشعر بجو من السكينة والهدوء بعيدا عن المعاناة والقهر، بأن التأمل في جو من الهدوء فيه متعة لم يعهدها. يسقط في النوم وأثنـاءه يرى الفتاة بائعة البرقوق في حلمه. أما هي فـلا تـراه رغـم وقوفه أمامها. عندما يستقيظ يكتشف أن جسـده بـلا رائحـة فيحس بالفناء، ويدرك أنه لابد من مواصلة مشروعه، من أن يحيا وسط الناس فينفض عن نفسه جو الخمول الذي استولى عليه ويخرج من الكهف، من العزلة في بطن الجبل ليستأنف مسيرته.
إن المعرفة التي حصل عليها لم تكن لتتحقق بسهولة. كان لابد أن يمر بتجارب مختلفة فيها قسوة، أن يشك، أن يعـانـي فوضى البحث وسط غيوم تعترض رؤيتـه، أن يدرك معنـى الإخلاص لهدف واحد، وأن يزيح عن طريقـه كـل المـوانـع والعواطف، والعلاقات التي تعرقل مسيرته.
انتصار مسيح الحب
----------------------
هذا ما أوحى به إليَ فيلم "عطر" . تم هذا بأسلوب فيه خيال قاس وشذوذ غير مألوف. مع ذلك حدثني عـن الحـب، عـن الإبداع، عن مشروع للحياة، عن أهمية الإصرار والصبر، وعن أن المعارضين لحلم "جان باتيست" بإكتشاف عطر الحياة ، كانوا من أغنياء القوم، أصحاب السلطة و أقطاب الكنيسة فـي " جراس " ، فهم الذين طاردوه، وحاصروه، وسجنوه، وعذبوه ، لينتزعوا سر ما كان يسعى إليه. بينما ظل هـو يتحمـل فـي صمت، ويحيا حياة التقشف والإستغناء والجهد، ويكرس كـل لحظة، وكل خطوة، وكل جهد للحلم الذي استولى عليه. وتم كل هذا عن طريق الصـور والأحـداث، دون خطـب، أو وعـظ، وبأسلوب لم أمله طوال الفيلم.
بعد أن اكتشفوا جرائم القتل التي نفذها في ضحاياه، أي في إثنتى عشر من النساء الشابات، قام والد الفتاة " لـورا" أغنـى أغنياء مدينة "جراس"، وصاحب النفوذ الأكبر في هيئات الحكم بتهريبها من المدينة تمهيدا للسفر بحرا لتزويجها من الأميـر الماركيز "مونتسيكيو ". في الطريق إليه يتوقفان في استراحة على جبل يمتد داخل البحر ليقضيا فيها الليلة . ومـرة أخـرى عرض الفيلم مشهدا طبيعيا بديعا ، أضيف إلى المشـاهد التـي التقطت من قبل في شوارع "باريس"، وقصور "جراس"، وأثناء تنقل "جان باتیست " مسافات طويلة سائرا علـى قدميـه فـي البراري والجبال. لكن لم يمر إختفاء "لورا " دون أن يكتشـفه "جان باتسيت" بحاسة الشم التي وهبتها له الطبيعة، فينطلق في الاتجاه التي صارت فيه هي وأبوها ممتطين ظهري حصـانين ، ليصل إلى الإستراحة في ظلام الليل. وهناك يتمكن من التسلل خلال الغرفة التي تنام فيها النساء المشرفات على الاستراحة، وتخطي الكلب الراكد عند الباب وكأنه روح بـلا جسـد، واستطاع الدخول إلى الغرفة التي يحتلها الأب والاستيلاء علـى مفتـاح حجرة "لورا"، ثم فتح الباب المفضي إليها وتنفيذ جريمته.
في اليوم التالي يتم القبض عليه ويوضع في السجن إلـى أن يصدر الحكم بصلبه. وقرب نهاية الفيلم يخرجونـه مـن الزنزانة التي يرقد فيها مكبلا بالحديد، ويسوقونه وسط صراخ وتهليل عشرات الآلاف من سكان المدينة ، تجمعـوا ليشـاهدوا صلبه على يد أحد الجلادين. هذا بينما يقـف أغنيـاء القـوم ونساؤهم، ورئيس أساقفة الكنيسة في "جراس" علـى شـرفة عالية ليتابعوا المشهد.
لكن "جان باتيست " يصعد السلالم إلـى منصـة الصـلب بخطوات ثابتة مرتديا بزة زرقاء زاهية اللون وحذاء مـن ذات القماش مغلقا على قدميه ، تمكن من الاستيلاء عليهما باستخدام قنينة العطر التي كان يخفيها في ثيابه الرثة. يتطلع بهدوء إلى الجماهير المحتشدة في الميدان وهي تطالب بالقصـاص منـه صارخة بأعلى صوت، رافعة قبضاتها في الجو. بعد أن يهدأوا قليلا يخرج قنينة صغيرة فيها سائل أحمر اللون ، ويصب منـه نقاطاً على منديل أبيض يلوح به في الجو، ثم يلقيه من أعلـى لیتهادی ساقطا فوق رؤوس الحشد. وفجأة يتغير كل شـيء. يتبادل الناس الأحضان والقبل، وتشـرق وجـوههم بالفرحـة والحب، ويخلع الجلاد ملابسه السوداء ، ويقف رئيس الأساقفة رافعا ذراعيه ناطقا : "إنه ملاك، بل إله، وليس إنسانا مثلنا".
هذاالمشهد يعيدإلينا قصةالمسيح . "جان باتيست " لم يكن رجلا شريرا ، وإنما روح طاهرة تنثر عطر الحب علـى الناس بعد أن اكتشف سر صناعته، وارتباطه بجسد المرأة التي انجذب إليها، وبجسد "لورا" التي تشبهها.
هذا التحول الفجائي في الفيلم لم يكن مقنعا بالنسبة إلىَ، أحسست أنه يتناقض مع ما سبقه، لكني التمست لصناع الفيلم العذر. ختموه بطريقة ممعنة في الخيال. مع ذلـك طالمـا أن الخيال هو جوهره ، ربما يمكن قبول شـطحة أخيـرة فـي ذات الإتجاه. بالإضافة فإن هذا التقابل مع المسـيح ، أعطـى للنهاية نغمة روحية دينية لم تقنعني ، حتى وإن كانت تعبيرا عن شخصية "جان باتيست" التي بدت في كثير من أجـزاء الفيلم وكأنها روح بلا جسد ، تستطيع أن تتخطى كل العقبات الماديـة في طريقها وأن تتحمل مالا يتحمله إنسان ، لتعيد إلينا قصة يسوع الذي ذاق أبشع أنواع العذاب ، من أجل خلاص الإنسانية جمعاء.
أما آخر مشهد في الفيلم ، فقد سـار فـي هـذا الطريـق خطوات أخرى. يعود "جان باتيست " إلى ناسه، إلى الفقراء في سوق السمك، وهناك يتجمعون حوله، ويغرقونـه بالأحضـان والقبل إلى درجة تؤدي إلى تلاشي جسمه لم يبق منه سـوى ملابسه يعبث بها الأطفال. ليبدو وكأن الفيلم يريد أن يؤكد مـا جاء في بعض فقرات الإنجيل حول تضحية سيدنا "عيسـى" بلحمه من أجل إنقاذ البشرية جمعاء.
خـاتـمـة
----------
قرأت ما كتبه النقاد الأجانب عن فيلم "العطر"، لم أجد فيه أدنى تقارب مع التحليل الذي أوردته في هذا المقال. هذا ماعداالجزءالخاص بقصة المسيح. لا شيء عن كونه يرمز من قريب أو من بعيد ، إلى قضايا تتعلق بالإبداع، بمشروع للحيـاة يستحوذ على خيال الإنسان، بالصراع بين الفقراء والأغنيـاء، بين موت القديم تمهيدا لولادة الجديد، بعطر الحياة وقوة تأثيره على الناس، بصراعهم من أجل الحفاظ عليها، بجمـال القـبح عندما تتناوله يد الفنان. لم ير فيه هؤلاء النقاد ، سـوى قصـة خرافية عن إنسان غريب لديه قدرة خارقة على التمييز بين الروائح والوصول إلى عناصرها، انسان استولت عليه نـزوة شاذة ارتبطت بقدرة حيوانية خارقة قادته إلى القتل. وذلك رغم تقديرهم لنواح فنية في الفيلم. لكن ربما يعني هذا أن التـذوق الفني قضية معقدة ترتبط بعوامل كثيرة إجتماعية، وسياسـية، وثقافية، وذاتية، وأن الأحكام الجامدة ليس لها فيه مكان.
من كتاب " يوميات روائى رحَال " 2008
------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي