الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلاقة بين السياسة والحرب

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2022 / 10 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


لم تكن لغة السياسة في يوم من الأيام لغة وصفية خالصة ، والاّ لأمكن اليوم مع تقدم الاعلاميات ، الاستعاضة عنها برموز ، وترجمتها آلياً في الكمبيوتر . لكن لغة السياسة كانت دوما لغة متعددة المستويات والمراجع . فهي لغة يختلط فيها الوصف بالتقييم ، والتدوين بالأمر ، والرصد بالتوصية . وهي لغة تقتبس من العلم والدين ، كما تقتبس من التكنولوجيا ، والشعر ، والفن ، والاسطورة .
وبما ان السياسة هي قفل ومفتاح الكل الاجتماعي ، من حيث هي فن تسيير وتدبير لمختلف مظاهر الحياة الاجتماعية ، فخطابها منفتح على الخطابات الاجتماعية القطاعية الأخرى كلها . بمعنى انه يستقي ويستعير قاموسه ودلالته من هذه الحقول مجتمعة .
إنّ أحد المداخل الممكنة لملامسة هذه الاثار القطاعية والاجتماعية المختلفة على اللغة السياسية ، هو التعرف على دور الدلالة في اللغة السياسية . ونحن هنا لن نتطرق الى موقع الدلالة في الخطاب السياسي من زاوية ان الدلالة بصْمة بلاغية . فالذي يهمنا ليس بلاغية الخطاب السياسي ، كما تتمثل في توظيف الدلالة ، بل الدلالة كآلية تعبيرية ضرورية أولا ، ثم محاولة استخراج ماهية السياسة من خلال رصد بعض المظاهر الدلالية في لغتها .
إنّ رصد الدلالة في اللغة السياسية ، يضعنا منذ البداية امام المستويات المعجمية ، والتركيبية ، والدلالية ، وليس امام المستوى الصوتي ، لان الدلالة لعبة الفاظ ، وعلاقة بين معانٍ ، ومقاربة بين مراجع المدلولات . فالحديث عن الدلالة في اللغة السياسية ، يلامس في الدرجة الأولى المعجم ، ثم التركيب والأسلوب ثانيا ، ثم الدلالة والمعنى في مستوى ثالث . فكثيرا ما يتحدث عن السياسة بلغة العمل الفني ، حيث يشار الى الاعمال السياسية وكأنها من فعل فنان ماهر ، غالبا بالمعنى الواسع .
سيضع كريستوفر Christophe " اللمسات الأخيرة " على المشروع .. إعادة " رسم " السياسة الامريكية في المنطقة .. كما يتحدث عن السياسة أيضا بلغة الرياضة ، أي الدلالة في الحقل الرياضي : " الجولة " الثانية من المفاوضات او المباحثات .. " الكرة " الآن في " ملعب " الطرف الآخر .. يجب ان تتحلى كل الأطراف في " اللعبة " السياسية " بروح رياضية " .. شكل هذا القرار " ضربة قاضية " .. " الدورة " البرلمانية .. " الفريق " البرلماني كذا ...
ويتحدث عن السياسة أيضا بلغة التعمير والبناء ، حيث تشبه الاعمال السياسية بعملية بناء او اصلاح للبناء :
" تشييد " الاجماع الوطني او القومي .. " إعادة بناء " العلاقات العربية .. " ترميم " العلاقات العربية .. " رأب الصدع " ..
والدلالة النسيجية واردة أيضا في اللغة السياسية ، حيث يتم الحديث عن " تمزيق " وحدة الشعب ، او وحدة الامة ، او وحدة الطبقة العاملة ، او " تمزيق " الصف العربي ، او عن " رتق فتق " العلاقات العربية المتدهورة .
ان الدلالة الصناعية واردة بدورها في الخطاب السياسي ، حيث يتحدث عن السياسة كصناعة : " صهر " الموقف ، " صياغة " الموقف ، " صنع " القرار الديبلوماسي .
وحتى الدلالة الجنسية والغرامية متداولة بدورها في الخطاب السياسي : الارتماء في " أحضان " الغرب .. ، " اغتصاب " الحقوق .. " ، مغازلة " السلطة .. ، " انتهاكات " حقوق الانسان .
لكن انّ اكثر أصناف الدلالات تداولا في اللغة السياسية ، هي دلالة الرياضة والحرب . بل ان الدلالة المهيمنة في هذه اللعبة هي تلك الحربية : نجاح " ساحق " للإضراب .. ، وضع " خطوط حمراء " امام العدو .. ، هذا مجرد " لغم " سياسي .. ، " الهجوم " الحكومي على القدرة الشرائية للفقراء .. ، " استيلاء " الحزب الفلاني على المقاعد .. ، " خوض " النضالات الضرورية .. ، " ضرب " الحريات النقابية .. ، " فصائل " الشغيلة .. ، " المعركة " السياسية .. ، " السلم " الاجتماعي .. ، " التراجع " التكتيكي .. ، " الانسحاب " من البرلمان .
هذا إضافة الى التداول الواسع لمصطلحات علم الحروب في الخطاب السياسي : الاستراتيجية – التكتيك – الخطة .
سؤالنا الآن . ما سر طغيان الدلالة الحربية في اللغة السياسية ؟
لقد بين لنا الاستعراض السريع لنماذج الدلالات المتداولة في الخطاب السياسي ، طغيان واستشراء الدلالة الحربية ، وندرة الدلالة الغرامية . فهل السياسة في عمقها اقرب الى الحرب منها الى الحب ؟
قبل الإجابة عن ذلك ، نود الإشارة الى ظاهرة فريدة وغريبة خاصة بعصرنا هذا ، لا فرق فيها بين بلد متطور او بلد متأخر ، وهي طغيان المصطلحات والمفاهيم ، بل التصورات العسكرتارية في مجالات الثقافة والتعبير كافة .
فقد أخذ الجميع اليوم يتحدث بهذه اللغة العسكرتارية من دون خوف ولا حرج ، مما يدل على ان النفوس والعقول ذاتها قد تعسكرت : " الامن " الغذائي والفكري .. ، " الامن " الثقافي .. ، " الحملات " الإعلامية .. ، " المعارك " الاقتصادية .. ، " الغزو " الفكري .. ، " تطويق " المشاكل الاجتماعية .. ، " فك " الاشتباك بين القضايا .. ، " تصفية " الجو السياسي .. " ، الجبهة " الثقافية .. ، " تمشيط " الجبهة الداخلية .. " ، ردع " المعارضة .. ، " الدفاع " الاجتماعي .. ، " التدخل " الحاسم ....الخ .
بل لقد طاولت اللغة العسكريتارية ميدان الرياضة ، واحتلته احتلالا كاملا تقريبا : الدفاع . الهجوم . الجناح الأيمن . الجناح الايسر . الوسط . الاحتياط .
كما تسللت المصطلحات العسكريتارية الى ميدان السياحة نفسه ، حيث أخذ المشتغلون بها يتحدثون في وصف المجمعات السكنية عن " الخطوط الأولى ، " أي ( الجبهة ) ، ويقصدون بها المجموعة السكنية المشرفة مباشرة على البحر ، ثم الخطوط الثانية والثالثة وهكذا ..
إذن لا تنفرد اللغة السياسية استيرادها المستمر للمصطلحات الحربية ، وان كان حضورها قويا وشبه كلي في هذه اللغة . فاللغة السياسية اذن تعكس طغيان المصطلحات والمفاهيم العسكريتارية في الثقافة ( المعاصرة ) كلها . لكن ربما كان ما يؤهل لغة السياسة – اكثر من غيرها – لتقبل نموذج الحرب والدلالة الحربية ، هو ماهية السياسة نفسها . فالأخيرة بالمعنى العام ، هي العلاقة بين مختلف مفاصل الكل الاجتماعي ، فهي القفل والمفتاح بالنسبة لهذا الكل . وبمعنى خاص ، فالسياسة فن إدارة وتدبير مسار هذا الكل الاجتماعي .
ومن حيث ان السياسة هي رهان اجتماعي كلي حول حيازة الخيرات والرموز ، فإنها تصبح مدار هذا الصراع . والصراع حول السلطة هو في الوقت نفسه صراع حول حيازة الخيرات والرموز ، وهذا ما يعطي نوعا من الحظوة والاولوية للمجال السياسي باعتباره مفتاحا ، ليسبغ عليه طابع الصراع والحرب . لذلك نفترض ان الدلالة الحربية في السياسة دلالة عضوية وليست طارئة .
وقد سبق للمفكر الفرنسي Michel Foucault ان درس العلاقة بين السياسة والحرب جزئيا في كتاب " La volante de savoir " مستخلصا ان علاقات القوى التي وُجدت طويلا في الحرب ، قد اخذت تعبيراتها الأساسية تستثمر تدريجيا في نظام وفي لغة السلطة السياسية . لذلك تصل البلاغة السياسية ذروتها عندما تستعير النموذج الحربي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخابات تونس.. فوز محسوم لقيس سعيد؟ | المسائية


.. هل من رؤية أميركية لتفادي حرب شاملة ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الهلال والأهلي.. صراع بين ترسيخ الاستقرار والبحث عنه


.. فائق الشيخ علي يوجه نصيحة إلى إيران وأخرى إلى العرب




.. مشاهد لاعتراضات صواريخ في سماء الجليل الأعلى