الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أكتب لكم من الجنوب

علي فضيل العربي

2022 / 10 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


أكتب لكم من الجنوب ، من إفريقيا السمراء ، و من قرنها الذي يشبه قرون ثيرانها الراتعة في أدغال البريّة السافرة ، المستظلة تحت سماء عطشى ، أكتب لكم من الصومال الرائعة ، الأرض الرائعة ، المنهكة الروح و الجسد ، الضائعة في غياهب النسيان و الجحود و النكران .
يا أهل الشمال الملتحفون بنور العلم و الحضارة ، البعيدون ، كل البعد ، عن روائح عذابات الجوع و العطش و المرض و الأرق .
باديء ، ذي بدء ، أعذروني ، لو تأخّر وصول رسالتي إليكم ، سأرسلها مع طائر مهاجر . بحثت عن حمامة زاجلة ، فلم أجد لها ظلاّ . لقد هجر الحمام أرضنا ، و انقرض ، وحدها الغربان ، مازالت تحوم في الفضاء ، تترقّبنا حين نمسي جثثا مهملة . لا لتعلّم الناجين منّا ، كيف يواروننا التراب ، كما فعل ، غراب هابيل و قابيل .
نحن لسنا مثلكم ، نحن متخلّفون جدا ، و متأخّرون جدّا مئات السنين ، أو – ربّما - آلاف السنين . نحن مرميّون وسط الموت ، أكوام من البشر ، يشبهون البشر – يكادون ينسون أنّهم بشر – في بقعة قاحلة ، لا نملك بيوتا ، و لا سقوفا ، و لا ظلالا ، ولا مراحيض ، ولماذا المرحاض ؟ نحن لسنا في حاجة إليها ، لأن بطوننا فارغة على الدوام من الفضلات .
بيوتنا – عفوا بل بقعنا الترابيّة - سقفها السماء ، و جدرانها الفراغ ، و أرضيتها الأشواك و الغبار .
عذرا يا سادتي في الشمال ، يا من رفعتم شعارات الحرية و المساواة و الأخوّة و حقوق الإنسان و حقوق الحيوان . لكنّكم قتلتم إنسان الجنوب – في زمن مضى ، لم يطوه النسيان بعد - استعبدتموه ، و سلبتم حقوقه الفطريّة ، و سلّطتم عليه ألوان العذاب و القهر ، و اليوم تطعمون كلابكم ، و نحن نتضوّر جوعا . تتباكون على طائر نفق في البريّة ، و تغضّون الطرف عنّا مآسينا . نحن بين أنياب الردى ، نحن نموت و نموت و نموت ..
لا أملك هاتفا محمولا و لا موضوعا ، و لا أملك جهاز كومبيوتر ثابتا و لا متنقّلا ، و لا خط أنترنت و
يا سادتي الكرام في الشمال ، يا من شغلتكم الحرب القذرة ، و أهدرتم فيها تريليونات من الدولارات و الأوروات . نحن هنا ، في الجنوب ، نعاني من قسوة الجوع و غاراته علينا في كلّ حين ، و من سطوة الجفاف و العطش . و ها هو الموت يتهادى بيننا و يختال ، و يخطف منّا بسمة الحياة .
يا سادتي ، في الشمال ، متى تضع حربكم أوزارها ؟ متى تعود عقولكم إلى معاقلها ؟ متى تصفو النفوس من الحقد و الكراهيّة و البغضاء ؟ متى تستيقظ فيكم الرحمة و الإنسانيّة ؟
آه منكم ، و من أفعالكم ، و من جنونكم و رعونتكم ؟ ألم تبلغكم أنّات الشيوخ و صرخات النساء و عويل الأطفال ؟ هناك في كييف و ضواحيها ، و في خيرسون و خاركيف و أوديسا و دينبرو و دونيتسك وزاباروجيا و ميكولايف و ماريوبول ، و في مدن أوكرنيا قاطبة . دموع و دماء و آلام و رعب و موت فظيع . أيعقل ، يا أبناء الحضارة الأوروبيّة ، أن تمارسوا ( سادية ) الانتحار البطيء و السريع ، و قد بلغتم ذروة العلم و التكنولوجيّا . ألا ، تبّا لعقولكم التي فتنتها ألاعيب السياسة المفلسة ، و نزوات الشيطان الرجيم ، و زيّنت لكم سبل الجحيم .
حربكم المجنونة - يا أهل الشمال - لا غالب فيها سوى الموت و الدمار و الجنون . رفقا بالأبرياء ، و بالنساء و الأطفال .
أنا على يقين ، أنّكم ستندمون يوم لا ينفع الندم . ستجمعون أشلاء قتلاكم ، و تشيّدون لهم مقابر الأسمنت و الرخام . و ستكتبون على قبورهم أسماءهم و ألقابهم و تاريخ ميلادهم و تاريخ مقتلهم . و ستنثرون على قبورهم أكاليل الورود ، و سيتلو عليهم الكاهن كلمات من الكتاب المقدس . ثم ، لا شيء بعد ذلك غير أحزان الأمّهات و الآباء و الإخوة و الأخوات و البنات و الأبناء و الزوجات و الحبيبات و العشيقات .
أمّا نحن ، في الجنوب ، فإنّنا قابضون على الحياة بالنواجذ . متشبثون بها حتى أخر رمق . لقد بنى الموت في أرضنا أبراجا عاليّة ، و شيّد مدنا للدود تحت التراب . كان الأحرى بكم أن تدفعوا عنّا الجوع و العطش و المرض و التخلّف .
آه ، رَوْا ، ببصيرتكم ، لا بأبصاركم ، جوع أطفالنا و عطشهم ، و أجسادهم ، بل هياكلهم ، التي فقدت صورة الأجساد . إنّهم يموتون ، و أنتم غارقون في حرب خاسرة . إنّهم بلا خبز ، بلا ماء ، بلا دفء ، بلا نوم ، بلا أحلام معسولة ، بلا أمن ، بلا طمأنينة ، بلا حياة .. أمّا أنتم ، فتهدرون آلاف الملايير بلا طائل . هل سألتم أنفسكم : كم يطعم و يسقي و يعالج ثمن صاروخ واحد طويل المدى أو قصيره ، من الجوعى و العطشى و المرضى في جنوبنا ؟
عودوا إلى رشدكم ، أيّها المتحاربون ، و أطفئوا هذه الحرب الملعونة ، كي يعيش العالم في مودّة و سلام و إخاء ، بعيدا عن النار و الدخان و الرعب و الترهيب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل مستعدة لتوسيع عملياتها العسكرية في غزة إذا فشلت المف


.. واشنطن متفائلة وإسرائيل تبدي تشاؤما بشأن محادثات هدنة غزة




.. التصعيد العسكري الإسرائيلي مستمر في رفح .. فماذا ستفعل واشنط


.. الصفدي: نتنياهو يتجاهل حتى داعمه الأول.. ومواصلة اجتياح رفح




.. الجيش الأميركي: الحوثيون أطلقوا 3 مسيرات من اليمن دون خسائر