الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البنية الإيقاعية في قصيدة -ليلى- لبدر شاكر السياب

محمد الفهري
أستاذ باحث

2022 / 10 / 22
الادب والفن


البنية الإيقاعية في قصيدة «ليلى«
لبدر شاكر السياب
محمد الفهري
تمهيد
سوف نحاول في هذا العرض رصد جملة من قوانين البنية الإيقاعية في قصيدة     "ليلى" للسياب [1]. وهي قصيدة نظمها بالكويت. لما نقل إلى المستشفى الأميري بعد تدهور حالته. وكان الذي أثار هذه القصيدة أن  »السبتي» سافر إلى لبنان ، وعاد يحمل إليه - أي إلى السياب- أنباء من أحبائه  في بيروت أي عن هواه فيها . وشاع السرور في نفسه لان »الأحباء» وعدوا بان يكتبوا إليه. ولعل »السبتي» إنما ألف قصة اللقاء والرسالة لينعش صديقه بشيء من الأمل[2].
 
 
قبل الشروع في رصد البنية الإيقاعية في قصيدة »ليلى»، نود أن نشير أولا إلى أن شعرية الإيقاع عرفت نوعا من التطور. فالإيقاع لم يعد يقتصر فقط على البحر الشعري،  بل تجاوزه إلى غيره من المكونات،  وبذلك يصبح العروض عنصرا واحدا من جملة العناصر المتعددة التي تدخل جميعا في علاقة لتشكيل الإيقاع.
والإيقاع باعتباره مكونا أساسيا في عملية الإبداع الشعري ، فان وظيفته لم تعد تقتصر على المظهر الشكلي الصوري، وإنما تعدت ذلك إلى نسقية تساهم في إنتاج دلالية النص.
 
إن القصيدة" الحداثية "عملت على إعادة بناء الإيقاع. وسوف نحاول أن نستقصي بعض الإبدالات المتحققة في البنية الإيقاعية عند السياب، باعتباره رائدا من رواد حركة الشعر الحر. بل فاتح لبابه في عالمنا العربي.
             إن ما يميز تجربة "السياب" في قصيدة ليلى  هو ذلك التشكيل المزدوج الذي يجمع فيه بين إيقاع محكوم ببنائه المتوازي .وهو كما نعلم جميعا،  موروث عند القدماء وبين إيقاع ينفلت بعض الشيء من نمطية القديم وينزع نحو التحرر والتنوع وقد اختار السياب للإيقاع الأول(الشكل العمودي) وزن بحر البسيط الذي يتكون من تفاعيل متجاوبة. وللإيقاع الثاني ( الشكل التفعيلي) وزن بحر الكامل الذي يتكون من تفاعيل متساوية.
 
يبدو لنا السياب من خلال الشكل الأول (العمودي) قابضا على ناصية الشعرية الكلاسيكية، حريصا على أن لا يخرج من القواعد العروضية . ويتجلى لنا ذلك من خلال ثلاث مؤشرات :
 
أولها: في إتباع القدماء في تصريع المطلع. والتصريع كما هو معلوم هو المقابلة بين الضرب والعروض في الروي والإيقاع وعلى أساس استبدالي.
وهكذا نجد السياب قد غير العروض التي ينبغي أن تأتي مخبونة ، وجعلها مقطوعة حتى توافق الضرب.
 
يقول السياب في مطلع قصيدته:
 
قرب بعينيك مني دون إغضاء       وخلني أتملى طيف أهوائي
 
إن التصريع يعتبر مكونا له أهميته في الشعرية الكلاسيكية،  وقد حرص "السياب" على استعماله باعتباره محسنا يؤدي وضيفة موسيقية خارجية تتلاحم مع تلك الموسيقى الداخلية من اجل تعميق التجربة وإعطائها بعدا عاطفيا أعمق[3].
 
ثانيها :في استعمال الزحافات والعلل استعمالا عروضيا سليما . وقد اختار في تشكيله للبحر العروضة المخبونة ذات الضرب المقطوع .
 
ثالثها :في استعماله القافية من حيث رويها وحركاتها استعمالا محكما وصارما.
فهو يطالعنا بتشكيلتين تتتعاقبان إلى السمع، ويعطي كلا منها وقعا معينا يختلف عن وقع الأخرى.
 
هذا وقد أتى الشاعر بمقطع شعري يتكون من  أربعة أبيات، وهو في الواقع عبارة عن تضمين للموروث الشعري العذري ، ويعكس لنا بشكل جلي مدى انشداد السياب إلى بعض وجوه الشعر الكلاسيكي وإعجابه  به.
إن تضمينه هذا لم يكن مقحما،  بل أتى منسجما مع النسيج العام ، فقد وظفه الشاعر توظيفا ذكيا ، حيث عمل على إلغاء كل المسافات ، فتداخلت بذلك الأزمنة والأمكنة وتناسخت العواطف والأحاسيس.
 
                أما فيما يخص الشكل الثاني ( النمط التفعيلي )، الذي اختار له وزن بحر الكامل فقلما نعثر في إطار البيت الواحد على»متفاعلن» بشكل مضطرد ، بل  ما يدخل  عليها الإضمار فتصير » مستفعلن ». وهذا ما دفع إبراهيم أنيس إلى القول بأنه "يحق لنا ان نعد المقياس »مستفعلن» مقياسا للبحر الكامل مثله مثل »متفاعلن » سواء بسواء [4]بل انه يعتبر تفعيلة» متفاعلن »تعادل في الوزن الموسيقي »مستفعلن » وكلاهما حسن جيد في الكامل [5].
                             إن  هذا التشكيل الذي يلحق »متفاعلن» يكمل لعمل الفني ، ويضفي عليه نوعا من الانفعالية والحركية ، وبذلك يصبح التشكيل الإيقاعي ذا صبغة آلية وصورية بل يساهم هو الأخر إلى جانب المحتوى،  وبشكل متواز في القصيدة في خلق دلالة النص.
هذا وإن عدد التفاعيل كان يتراوح في البيت الواحد بين تفعيلتين وست تفاعيل.
جدول خاص بنسبة تراكم التفاعيل في البيت الشعري :
كم التفاعيل
عدد الأبيات
تفعيلتان
ثمانية أبيات
ثلاث تفاعيل
خمسة أبيات
أربع تفاعيل
ثمانية عشر بيت
خمس تفاعيل
ثلاثة أبيات
ست تفاعيل
بيت واحد
 
             وإن التفاوت في تدفق التفاعيل داخل البيت الشعري يخلق  دون شك ، تشكيلا معينا جسر الصفحة. وانه يحلو لبعضهم أن يدرس معمارية الكتابة عند  الشاعر اقتداء بأصحاب الفن التشكيلي، بل إنهم يسقطون عليها دلالة تتماشى،  طبعا مع »رؤيا القصيدة».
بعد هذا يمكننا أن ننتقل إلى القافية في النمط التفعيلي باعتبارها مكونا إيقاعيا وجماليا في القصيدة . ولقد استعمل السياب ثلاثة تنويعات بالنسبة للتفعيلة الأخيرة من بين التنويعات الذي يتيحها هذا البحر. وهي الشكل الصحيح والمرفل والمذيل[6] . فأورد ستة وعشرين الواقعة في أخر البيت،  مرفلة وتسع مذيلة وواحدة صحيحة .
إن الشعر العمودي لا يسمح  للشاعر باستعمال هذه التنويعات في إطار القصيدة الواحدة، بل إننا نجد ناقدة وشاعرة رائدة في مجال الشعر الحر ترفض  هي الأخرى استعمال هذه التنويعات،   وتؤكد بنبرة آمرة انه لابد للشاعر من أن يستوعب  في ذهنه فكرة الاستقلال البحر عن التشكيلة، وأن يفهم أن لكل بحر من البحور تشكيلات مختلفة لا يمكن  أن تتجاور في قصيدة واحدة ، وان ينبغي أن تستقل كل قصيدة بتشكيلة ما  ، وان تمضي على ذلك لا تحيد عنه إلى أخر شطر فيها[7] .
لكن السياب، بوعي منه يسعى إلى بناء قافية غير متجانسة ، فالمقاطع تتكرر فيه القافية بشكل متوال Embrassée (أ - ب- ب- أ ) أو متناوب croissée  (أ-ب أ -ب) أو متواطئ  plate (أ- أ) .
             وهذا نوع من التحرر و الانعتاق من القديم في حدود ما تسمح به اللحظة التاريخية ، كأنه يسعى في بعض الأحيان، إلى سوق تفاعيل متماثلة أو متناظرة لفظا وعنى، وتجدر الإشارة إلى أن التصور القديم كان ينظر إلى التكرار من قبل الشاعر  لأنه يجلب التماثل. ولقد كانت الشعرية العربية  القديمة تسمي اتفاق قافيتين  في كلمة واحدة )بالمعنى الوارد)  "إيطاء"  وصنفت هذه الطريقة عامة في  خانة عيوب القافية أما مع تجربة الشعر الحر أصبحت قراءتها في ضوء مناداة الدوال على بعضها البعض حاملة بذلك سلما من تموج الاندفاق المتجدد في النص وهو يبني معناه[8].
وندرك هذا في قوله :
فأظل بالكفين أسقيك المياه فترتوين        
 أسقي صداك فترتوين
بعد هذه الملامسة الخاطفة لموسيقى الإطار في القصيدة، يمكننا أن ننتقل لاستكشاف حضور موسيقى الحشو باعتبارها بنية لها أهميتها  في البناء العام، وكيفية توالده واشتغالها في القصيدة.  وإن استكشاف هذه البنية سيتم من خلال مجموعة من  المستويات وهي :
 
1.      المستوى التركيبي
2.      المستوى الصرفي
3.  المستوى اللغوي
 
بالنسبة للمستوى الأول ينبغي أن  نقف فيه على إيقاع الجمل من حيث طبيعتها الاسمية أو الفعلية ، وكذلك على انتظام  التراكيب اللغوية في لا في أنساق من الموازنات .
وما يلاحظ من خلال قراءة القصيدة أن هناك هيمنة للجمل الفعلية الدالة على حدوث في زمن معين ، على الجمل الاسمية التي تفيد بأصل وضعها ثبوت شيء لشيء من غير نظر إلى حدوث أو استمرار.
إلى جانب هذا،  إن الشاعر عمل  على تنويع الأساليب اقتداء بالقدماء في أساليبهم ، فكان ينتقل من النداء إلى الاستفهام  إلى التعجب إلى الأمر.
وفي هذا الصدد تحضرني إشارة  للأستاذ  « الدكتور حسن طريبق»  حيث يذكر أن » السياب  «كان ينوع في سياق الأبيات ، ولاسيما  في الاستهلال حتى  يبقي ترسلها  قائما على  تتابع متشابه وممل،  وهذا نمط القدماء أيضا لأنهم كانوا يعتبرون الأبيات   المتصلة عن طريق تشابه  الأفعال ، وترابط هذه الأفعال  من العطف من العيوب  إلي  التي يصف بها الشاعر وكانوا يؤثرون أن تأتي استهلالات الأبيات متنوعة بأنماط منها التعجب والاستفهام والندبة والنداء ».
ولقد حافظ الشاعر على هذا الرأي ليس إخلاصا للقديم ، وإنما  توظيفا له في تركيب  الجملة على أصلها العربي، ثم في توظيف هذه الجملة في تأسيس شعري جديد[9].
لا بأس أن نتأمل هذا الاستهلال الذي استعمل فيه "السياب" أسلوب الأمر الذي خرج عن معناه الأصلي وأفاد الالتماس.
قرب بعينيك مني دون إغضاء         وخلني أتملى طيف أهوائي
فهذا التركيب يماثل إلى حد ما  كثيرا من تراكيب الشعراء القدماء من مثل قول النابغة :
خليني لهم يا اميمة ناصب      وليل أقاسيه بطيء الكواكب
أو قول البحتري :
مِيلُوا إلى الدّارِ مِنْ لَيْلَى نُحَيّيهَا         نَعَم، وَنَسألُها عَن بَعضِ أهْليهَا
إلى جانب هذا، إن الإيقاع يتولى أيضا من خلال الموازنات التركيبية التي يعمد إليها الشاعر، والتي تساهم إلى جانب موسيقى الإطار في خلق إيقاع القصيدة .
لننظر مثلا إلى هذا المقطع الذي يقول فيه السياب :
ليلى هواي مناي شعري
روحي الأعز علي من روحي و آمالي و عمري
فلقد أورد الشاعر تراكيب لها نفس الإيقاع الموسيقي :( هواي= مناي / شعري =روحي)
وما يشد انتباهنا أكثر هو تلك النبرية المعتمدة على الكم  التي ميزت جملة »  الأعز علي من روحي وآمالي وعمري»  فقد أتى هذا التركيب كتدفق بعد الوقفة التي تقتضيها  عملية القراءة بعد كلمة  »روحي» وان هذه الكمية تعكس الانفعال الذي الم بنفسية الشاعر من فعل الذكرى.
وكذلك الشأن بالنسبة لقوله :
 للرمل همس تحت أرجلنا بها للرمل قلب
يهتز منها أو ينام وللنخيل بها أنين
 فالمقطع يشتمل على تراكيب متوازية :
للرمل همس  = للرمل قلب = للنخيل أنين
وكذلك في قوله :
 أو تذكرين  لقاءنا في كل فجر
وفراقنا في كل أمسية
 فالمقابلة الموجودة بين هذين اللفظين تشتمل أيضا على توازي إيقاعي :
لقاءنا/ في /كل/ فجر              فراقنا/ في/ كل/ أمسية
                             أما بالنسبة لعلاقة الإيقاع بالمستوى الصرفي، فيتمظهر أساسا في تكرار كلمات معجمية بعينها  مثل اسم العلم »ليلى»  الذي تكرر ست مرات وكذلك في تكرار مفردات متوازنة من حيث  الحركات والسواكن والتوقيع على  حرف من حروفها كما هو الشأن في :
إغضاء - أهواء - أعضاء – صحراء
 على أن مثل هذه التكرارات وغيرها لا تقتصر وظيفتها على توليد الإيقاع فقط ، بل إنها تولد دلالتها أثناء توليدها لإيقاعها . فالإحساس الصوتي الذي يحدثه المد في الكلمة هو في الوقت نفسه إحساس بالامتداد في الذكرى .
  أما في ما يخص المستوى اللغوي  فرغم أن اللغة قديمة، فالسياب حاول  تفجير طاقاتها وتوظيفها توظيفا  جديدا حتى تساهم إلى جانب العناصر الإيقاعية الأخرى في تشكيل البنية الإيقاعية للنص.
قبل أن ننهي هذا العرض أود أن أشير إلى أن هذه المكونات جعلت النغمة الغنائية هي المسيطرة على النص.وهذه النغمة تتمثل في الإيقاع والأوزان والقوافي واللغة، وفي مجموع أثر الامتداد التراثي، وفي تقابل القيم الفنية غير أن القصيدة لا تخلو أيضا من النغمة الدرامية التي تظهر من خلال مكونات » الدراما اللفظية«  على حد تعبير الأستاذ الدكتور »حسن طريبق»  ويمكننا أن نستشف ذلك من خلال قول الشاعر :
 
أبصرتها كادت الدنيا تفجر في               عينيك دنيا شموس ذات آلاء
وكذلك في قوله :
ليلى هواي الذي زاح الزمان به        و كاد يفلت من كفي بالداء
وإن هذا التشارك بين العنصرين يبقى مكتسبا اعتبارا مميزا في التجربة الشعرية الحديثة والمعاصرة.
وأود أخيرا أن الفت الانتباه إلى أن العرض لا يدعي القبض على جميع القوانين الإيقاعية المتحكمة في النص وان كان من فضل له فيتجلى في كونه حاول طرق هذا الباب.


[1] بدر شكر السياب  : شناشيل ابنة الجلبي، دار الطليعة بيروت 1964 – ص126
[2]  إحسان عباس :    ااتجاهات الشعر العربي المعاصر 1978 ص:    362-361:
[3]  - محاضرات ألقاها الأستاذ "حسن طريبق" بجامعة سيدي حمد بن عبد الله بفاس سنة  1985على طلبة شعبة الأدب العربي بالسنة الثانية من الفصل الثاني.
 
4   إبراهيم أنيس : موسيقى الشعر دار القلم بيروت لبنان ط الرابعة 1972، ص74.
 [5]  نفس المرجع، ص 120.
  الترفيل: هو زيادة سبب خفيف على ماخره وتد مجموع.
  التذييل :هو زيادة ساكن على ماخره وتد مجموع.
   6 التنديد من عندنا.
[7]    نازك الملائكة   :قضايا الشعر المعاصر دار العلم للملايين بيروت ط السادسة 1981 ص91.
[8]   محمد بنيس :    الشعر العربي الحديث بنياته وابدالاته ( الشعر المعاصر) ص148 وما بعدها.
[9]  محاضرات ألقاها "الأستاذ الدكتور حسن طريبق" على طلبة السنة الرابعة بجامعة محمد بن عبد الله بفأس سنة 1985








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح