الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة59

محمود شقير

2022 / 10 / 22
الادب والفن


أذهب إلى مكتب وزارة الداخلية في شارع نابلس، أقف في الطابور الطويل كما هي العادة في كل مرة، أنتظر وقتاً غير قليل تحت وهج الشمس، ثم أجتاز المبنى إلى الداخل وأدخل في انتظار آخر مديد. ثمة وفرة من الوجوه، لرجال ونساء، كما في كل مرة. أمارس هوايتي في تأمل الوجوه، ومقارنتها بوجوه أناس أعرفهم. يطول انتظاري.
أخيراً، يصلني الدور، أستفسر عما آل إليه طلبي من أجل تجديد وثيقة السفر الخاصة بي، يأتيني الجواب، بأن المعاملة أرسلت إلى مقر وزارة الداخلية الرئيسي في القدس الغربية، ليجري البت فيها على أعلى المستويات هناك، وذلك بسبب كوني انقطعت عن الإقامة في المدينة ثماني عشرة سنة، هي مدة إبعادي القسري عنها.
أغادر المبنى وأنا شديد القلق، فإذا لم أتمكن من تجديد وثيقة السفر، فهذا يعني أن المسؤولين الإسرائيليين في وزارة الداخلية يقومون بخطوة تمهيدية لسحب بطاقة الهوية الشخصية مني، وهذا بدوره يعني، أنني سأفقد حقي في الإقامة في القدس، استناداً إلى القانون الإسرائيلي الذي يحرم الفلسطيني من حقه في استمرار إقامته في المدينة إذا غاب عنها سبع سنوات متصلة. أهم بالذهاب إلى أحد المحامين ممن عملوا في هذا الميدان، ثم أرجئ الأمر إلى وقت آخر، لأنني لم أكن بعيداً عن القدس طوال الفترة الماضية برغبتي.
أسير في شارع نابلس متجهاً نحو باب العامود، وأنا بادي الحنق على هذه المفارقات التي نتعرض لها. أمضي عبر باب العامود إلى طريق الواد، ثم أنعطف يساراً نحو درب الآلام. أتأمل محلات التحف الشرقية التي يقف أصحابها على مداخلها منتظرين فرصة مرور بعض السياح. أصعد ناحية اليسار، أسير ببطء فوق درجات عقبة الراهبات في الزقاق الضيق المحاط بأبنية قديمة، أتجه نحو اليمين، أدخل طريق المئذنة الحمراء، ثمة عدد محدود من الحوانيت، وثمة عدد قليل من الناس يسيرون في السوق، تمضي أمامي فتاة في العشرينات من عمرها، ترتدي فستاناً يصل طرفه الفضفاض إلى كعبيها، وعلى رأسها إيشارب أبيض، تتلكأ في مشيتها، يمر من جواري شاب يرتدي بلوزة تكشف عضلات ذراعيه، وبنطال جينز، يحاذي الفتاة، يتبادل معها الهمس على عجل، ثم يسبقها. ثمة قصة حب تتخلق في قلب المدينة.
ما الذي قالته البنت لأمها، كي تبرر خروجها من البيت الذي يبدو أنه بيت محافظ؟
تؤكد ذلك ملابس البنت، ويؤكده الحذر الذي يبدو مرتسماً على وجهها.
ما الذي ستقوله البنت لأمها، حينما تعود متأخرة إلى البيت؟ قد لا يختلف موقفها كثيراً عن موقف إنانا بطلة الأسطورة السومرية، وهي تتساءل أمام حبيبها دوموزي: "أية كذبة سوف أرويها لأمي؟"
يقول لها دوموزي المتيم بحبها: "سوف ألقنك كيف تكذب النساء. قولي لها صديقتي كانت تمرح معي في الساحة، رقصت حولي على وقع الطبلة، وغنت لي الأناشيد الأكثر عذوبة، وهكذا أمضيت الوقت أتذوق حلاوة اللذة".
أقترب من الطريق المؤدية إلى باب الساهرة، هناك أرى الشاب ينتظر الفتاة، محاولاً عدم لفت الإنتباه إليه، يروقني هذا المشهد الذي يتكون في الخفاء، أفكر بالتباطؤ في سيري لرصد ما سيقترحه عليها، أو ما ستقترحه عليه، لكنني أخشى أن أفسد عليهما متعة اللقاء (أقول: ما زال موقفنا من المرأة محكوماً بالتناقض، نمضي نصف عمرنا الأول في البحث عن جسدها، ونمضي نصفه الثاني في قمع هذا الجسد وتخوينه! كيف ننهض إذاً!)، أتركهما لشأنهما، وأمضي مبتعداً نحو طريق باب حطّة، أدخل مقهى "جابر".
يتجمع في المقهى عدد غير قليل من المتقاعدين، ومن الحرفيين ومعلمي المدارس الذين يقضون الأيام الأخيرة من عطلتهم الصيفية. كانوا يدخنون النراجيل وهم منهمكون في لعب الورق، ويترنمون على صوت أم كلثوم يصدح بأغنية تنطلق من مذياع كبير مركون في زاوية المقهى، ولا يصرفهم عما هم فيه سوى مرور جنازة متجهة نحو المسجد الأقصى، للصلاة عليها. يخيم الصمت لحظة، ينطفئ المذياع، يتوقف الجميع خشوعاً واحتراماً للجنازة ولأهل الفقيد، ثم يعودون إلى اللعب والتدخين والترنم، بعد لحظة واحدة من مرور الجنازة (أقول: يمارس الناس حياتهم ببساطة، وببساطة يصمدون في مدينتهم رغم العسف والهوان).
يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو


.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق




.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس


.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم




.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب