الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية -لفائف كيسليف-... ما بين تعدد ووحدة الهوية

أحمد غانم عبد الجليل

2022 / 10 / 22
الادب والفن


رواية "لفائف كيسليف"
ما بين تعدد ووحدة الهوية

تصوغ رواية "لفائف كيسليف" للأديب السوري نصار الحسن، الصادرة عن دار ابن معيط 2022، عوالمها الانسانية برؤية فنية غير نمطية، تغاير الأفكار التقليدية التي تحولت بمرور الزمن إلى (تابوهات) فكرية جامدة، فقد أخذ الكاتب على عاتقه رسم شخصيات النص بأطر متجددة، وإن بدأت باستعراض الحياة اليومية العادية لأفراد عائلة فلسطينية بسيطة تم تهجيرها من بلدها بعد حرب 48 لتقيم في دمشق على أمل العودة سريعًا إلى أرض الأجداد، تتمثل بالأب والأم والابن الوحيد وزوجته والأحفاد الصغار، الذين يكادون لا يعرفون شيئًا عن أصولهم سوى عبر أحاديث الكبار وحكاياتهم، لتتداخل بصمات الماضي والحاضر متنقلة بين العديد من المدن التي تشهد الكثير من الأحداث والتغيرات الجذرية على مختلف الأصعدة، تنعكس على سلوك الشخصيات متعددة الهويات الدينية والعرقية، بينما يبقى جوهر المظالم وأهوال الحروب وويلات التشرد ذاته في كل العهود، على اختلاف توجهاتها وأهدافها، يجسد المحور الأساس في تشكيل البناء الدرامي للنص، ليبدو كما لو كان منحوتة تكتسب جماليتها وقوتها من دقة التفاصيل وتعدد الرؤى، خاصة تلك التي تم غض الطرف عنها طويلًا.
يتنقل زمن الرواية بين مرحلتين مهمتين في تاريخ الشرق الأوسط، الأولى تمثل السنوات الأخيرة من الاحتلال العثماني ومن ثم تداعيات إقصائه عن بلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى، والمرحلة الثانية تمثل قيام دولة إسرائيل وما أفرز الاحتلال الاستيطاني من تهجير جماعي، حيث تبدأ حكاية اللفائف التي تحفظ عبق زمن انتهى وما له من عودة إلا عن طريق سرد الكثير من الذكريات المتشعبة ما بين اسطنبول ودمشق ودير الزور وحلب.. ورغم تعدد الأماكن والأزمنة التي تطرح مفارقات كثيرة إلا أن الرواية تظل محافظة على وحدة الفكرة حتى النهاية، عبر تنقلات سردية تتداخل من خلال شخصيتين أساسيتين تعيشان في زمنين مختلفين لكنهما تبدوان متلازمتين كثيرًا، امرأة مسلمة بالكاد تغادر الدار برفقة عائلتها، ورجل يهودي يعيش حياة شديدة القسوة في خضم ظروف تمازج بين الخاص والعام، مع ذلك لا تطرق باله فكرة الهجرة إلى (أرض الميعاد) خاصة وأنه أيضًا من ضحايا الكهنوت الديني اليهودي قبل أي شيء آخر، مما أخضعه إلى قيود الغربة بين أبناء طائفته، ذلك الشعور المقيت بالنبذ تجلى من خلال جارته، والدة حبيبته، ومن ثم فقدانه والده، ليجد نفسه منفيًا إلى مدينة (دير الزور) الحدودية، وهناك تبدأ رحلة من طرازٍ آخر.
يعيش في المنفى حياة المهجَرين داخل أوطانهم، فيلتقي هناك بخليط غريب من ضحايا القهر والطغيان، يمثل التباين والقدرة على التعايش في آنٍ واحد، خاصة عندما يعتصر الجميع الجوع والفقر والشعور بالمهانة وانعدام الأمان والخوف، الخوف من القادم وفي نفس الوقت الخوف ألا يتغير شيء، بينما تتباعد الذكريات ويشقي النفس الحنين، إلى المدينة وشوارعها وكل دروبها وحاراتها، إلى الحبيبة التي ظل يبحث عنها في كل امرأة رافقها، فقط ليشعر بشيء من الدفء والسكينة المغيّبة في أزمنة الحروب، إلا أن حتى تلك الأحضان صارت مثل مياه البحر تمامًا، ليس لعدم قدرتها على الإرواء فحسب، إنما أيضًا من حيث ما تشير إليه من اغتراب على نحو أوسع وأكثر شمولًا، عبر المهجَرين الآخرين في سوح البلاد العثمانية مترامية الأطراف، سواء من الأرمن أم من سكان دول شرق أوروبا التي خضعت ردحًا من الزمن إلى حكم خليفة المسلمين، إذ يواجه سطوة الكهنوت الديني مجددًا، من خلال المزيد من الضغوط الأمنية وفرض ضرائب أكثر تضاعف من محنة الفقراء إلى حد اضطرارهم أكل لحوم القطط والكلاب والتهام الجراد، حيث نجد الشاب اليهودي يدس في يد ابنة الشيخ، المسلم المعتقل، الصغيرة أرغفة الخبز كي لا تهلك أسرته جوعًا، من جهة أخرى يأوي أمًا وابنتها من الناجين من مذابح الأرمن، فالعازة لا تمتلك أية هوية، كذلك كل أهوال الحروب وآثارها المرتسمة فوق قسمات الوجوه المنقادة نحو مصائرها في خضوعِ تام، ورغم ذلك تبقى المشانق معلقة هناك وهناك، بينما يصل الحال إلى عرض بعض النساء أجسادهن الضامرة في الخفاء مقابل سد رمق أولادهن.
يسترسل مسار الأحداث من حبكةٍ إلى أخرى ضمن سرد مكثف، دون أن يغفل عن التصوير الدقيق للحياة اليومية في ظل أوضاع شديدة الاضطراب من جهة، والسلوكيات المعبرة عن الاختلال النفسي الذي قد نجده حاضرًا حتى أثناء المعاشرة الزوجية من جهة أخرى، أو من خلال العشق الأول الذي يبقى يطارد البطل أينما ارتحل، كهاجس حنين يرتبط دومًا بمدينة الطفولة والصبا والمراهقة وسنوات من الشباب.
عشق يتحول إلى هوس لا يجد ملاذًا آمنًا إلا ضمن لقاء حميم يعبر البلاد سريعًا في رحلة بحث عن بقايا دار يمكن بيعها من أجل مجابهة مشاق الحاضر في البلد البديل، عندئذٍ تعثر الحبيبة في العاشق القديم على فرصة جديدة للخلاص، عبر تحرير الشبق القديم من أغلاله، وأيضًا من خلال ما جمع العاشق (الرحَّال) من مال على مدى سنوات غربته في سوح البلاد التي يظل لا يفكر في مغادرتها أبدًا مهما اشتدت وطأة الظروف عليه لتحفزه على بدء حياة جديدة في أرض ليس لها أن تكون أرضه بأي حال من الأحوال، بل يفعل العكس تمامًا، يتخذ من قبو البيت، أكثر الأماكن أمانًا لديه، مكمن انتظار، لعل حبيبته تعود إليه يومًا، بعد أن تستطيع التحرر من قيودها الجديدة، بينما يظل يكتب معايشاته العصيبة منذ أن وعي يتيم الأم، في كنف أب يحدثه طويلًا عن حكايات الأجداد هنا وهناك، تلك الأحاديث المتشعبة تهبه بذرة أو بداية الحكاية التي يظل يكتب تفاصيلها شيئًا فشيئًا ضمن لفائف تكاد لا تلفت الانتباه حتى يدرك نهايته، دون أن يدرك أن ذات البيت سيكون في عقودٍ قادمة مآل مجموعة من النازحين عن بلادهم، وكأنه بذلك، ولو دون وعي منه، يحاول تقديم شيء من الاعتذار للعائلة الفلسطينية عما فعله الصهاينة من انتهاكات ومجازر ستبقى آثامها تتنقل من جيل إلى آخر، ورغم هذا تظل العائلة الفلسطينية تأمل العودة إلى بيتها البعيد، شأن (كيسليف) اليهودي عندما عاد إلى بيته بعد طول غياب ظنه لن ينتهي أبدًا، فقد تزوج في المدينة الحدودية ومن ثم تقرر الانفصال رغمًا عنه، في إشارة أدركها جيدًا أن حياته الحقيقية لا بد وأن تستأنف مضيها في البيت الذي خلفه له والده.
مفارقات سردية ظلت تتوالى مع تراص الأسطر وتقلب الصفحات، نجح الروائي نصار الحسن في تجسيدها إلى حد كبير، وبحرفية نأت بالنص عن التشتت، رغم تنوع المواقف والرغبات والمعتقدات، وتعدد الهويات المركبة بما تتضمنه من تأرجح بين أكثر من انتماء، فقد جاء بأسلوب مكتنز المعنى، مع الحفاظ على كل الدلالات الرمزية التي تهبه أكثر من قراءة، لذا من يتمعن في جوهر الرواية يدرك أنها قد تطرح رؤى مستقبلية من خلال سرد أحداث عقودٍ خلت، فمدننا اليوم تشهد ذات فوضى الحروب والصراعات، مع تضاعف أعداد خيام اللاجئين في هذا الوطن وذاك، لأن حتى البيوت القديمة بدأت بالتهاوي مع أسرارها وذكرياتها وسحر الحكايات مهما بلغت آلام أحزانها المتراكمة عبر عقود تأبى حروبها، المعلنة وغير المعلنة، الانتهاء.
رواية "لفائف كيسليف" كما تم التنويه آنفًا، تتمرد على المألوف من الأفكار المتخذة ذات الإيقاع الرتيب، وهذا دور الأدب الحقيقي الذي يتحرى المصداقية بعيدًا عن المزايدات الوطنية والقومية والدينية، أدب يمهد لصياغة محاور جديدة تشرَع الباب أمام الفكر العربي والإنساني عمومًا كي يتحرى ما لم يتم تأمله ومن ثم إدراكه وسبر غور دلالاته من قبل.
من الرواية:
"كان قبراً يوماً ما لرجلٍ بدأ حياته يتيم الأم من قبل أن يرضع حليبها، ومات وحيداً حزناً وكمداً على ذكريات لم تفارقه أبداً، يوماً ما سنغادر هذه الدار، وعندها سأقص على أولادي ولربما أحفادي حكاية لفائف كيسليف"
ص 168


كاتب عراقي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا