الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أطروحة البحر

مصطفى الحسناوي

2022 / 10 / 23
الادب والفن


أسئلة البحر ماتني تتناسل هنا/ الآن وتتفاقم بشكل مأساوي أحيانا كثيرة، حين نرى البحر الأبيض المتوسط الذي سماه الرومان Mare Nostrum يبتلع عشرات بل مئات الجثث من المهاجرين الغرقى، ونرى الجانب الشرقي منه عند جنوب اليونان غرب تركيا المسمى بحر ايجة الذي خلدته الإلياذة و الأوديسة،ملحمتا هوميروس الشاعر اليوناني الأعمى ،نراه وعشرات اللاجئين يغرقون فيه،وليس أدل على ذلك من أيقونة الموت الفاجعة،جثة الطفل أيلان كردي نائما على بطنه مسلما خده الغض للرمل المبلل على ساحله بعد أن لفظها هذا البحر الأسطوري. البحر سؤال مركب،متألق،غامض،مظلم،واهب،قاتل حوله تبنى الحضارات الثقافات وتزدهر التجارة والتلاقح بين الأعراف والمعتقدات والشعوب،وحوله/ بسببه أيضا تخاض الحروب المدمرة بين الدول والأقليات والطوائف والميليشيات من أجل ممر حيوي،قاعدة بحرية،مرفآ سري لتهريب الأسلحة أو المخدرات أو الرقيق الأبيض. البحر بان وهدام، لا في ذاته،لأنه مجرد ظاهرة طبيعية ولكن بسبب العامل الإنساني الذي يتدخل فيه،من أجل الثروات البحرية والمعدنية الموجودة في قاعه من أجل الممرات المائية وضمان أمنها الى غير ذلك. لقد كان البحر دوما رهانا عسكريا،تجاريا،استعماريا،استراتيجيا ولكنه أيضا كان رهانا روائيا بامتياز، ويكفي أن نستحضر في هذا السياق رائعة هرمان ملفل (موبي دك) العمل الروائي المطلق الذي يحاكي السرد الإنجيلي في الكثير من مقاطعه وفصوله،وخصوصا عبر الصراع الأزلي والميتافيزيقي بين القبطان أخاب قائد سفينة الصيد "بيكوود" والحوت الأبيض، بغاية قتل هذا الأخير انتقاما منه لا مجرد صيده.الأطروحة الأولى هي تلك المتعلقة إذن برواية (موبي دك)لملفل ،البحر فيها نشكوني،ميتافيزيقي،أخروي داخل خضمه يتم اللقاء مع الحياة ومع الموت أيضا،بحر يوزع الحيوات والميتات، ويحضر كفضاء للصراع بين الخير والشر،للمجابهة بين الرغبة المدمرة في الانتقام من جهة والحوت الشرس الذي تضفى عليه من جهة أخرى سمات الشر الإنساني.في إحدى أشهر الجمل الافتتاحية incipit في الرواية العالمية يقول السارد على لسان إسماعيل الذي ندين له بسرد الحكاية (لأنه حتى داخل الخراب والدمار والمأساة لا بد أن يظل سارد ما قيد الحياة ليحكي الحكاية) : (سموني إسماعيل.حدث منذ بضع سنوات،لايهم كم هي ،أن كانت حافظة تقودي فارغة تقريبا .لاشيء كان يبقيني في المكان ذاته وفكرت في ركوب إحدى السفن لأبحر في العالم الشاسع.إنها طريقة خاصة بي لأخلخل الأفكار السوداء داخلي،حين أشعر بأنني حزين وكئيب.حين أبدأ في الإحساس بالرغبة في مهاجمة أول عابر وضرب المارة،حينها إذن يحين الوقت بالنسبة لي لركوب البحر.لا شيء مدهش في ذلك.أي رجل لا تنتابه يوما ما الرغبة في الإبحار داخل المحيط؟) .كل شيء يحيل على الحكاية الإبراهيمية كما وردت في الإنجيل الاسم والبحر،وما يشبه الرغبة العارمة في ركوب المغامرة والمجازفة أي ركوب البحر.إسماعيل هو بداية الأشياء والكائنات، وهو في النهاية الرغبة التي ستظل دائما رغبة كما القصيدة عند روني شار.لايمتطي إسماعيل سفنا ويركب البحر،يمخر عباب المحيط كقبطان وقائد سفينة أو ليوتنان تابع له،بل فقط كبحار يصعد الصاري ليراقب الأشرعة،يتلقى أوامر ويعمل على تنفيذها،ويقفز مثل جرادة من هذا الصاري الى ذاك : (هذا متعب قليلا حين يكون المرء مثلي معلما في البادية.لكن ماذا؟لقد علمتنا الفلسفة والأقدمون بأن ربط حبال الأشرعة وحلها شيء قليل ...أمام الأبدية.من لا يكون عبدا بطريقة أو بأخرى؟ إنني أسألكم .وبإبحاري فإنني انخرط دائما كبحار.لماذا هذه المرة،تخيلت امتطاء سفينة لصيد الحيتان ؟لا أعرف).سيعيش إسماعيل وسيختبر بعمق الصراع الوجودي بين أخاب والروح الانتقامية التي تسكنه، وتقوده الى اللهاث خلف فكرة وحيدة قتل موبي دك الحوت الضخم الذي جعله يمشي برجل خشبية .انه الصراع بين الإنسان والحيوان الذي يفقد فيه الأول علامات إنسانيته ويصير حيوانا هو الأخر.سيدمر موبي دك الحوت الضخم في النهاية السفينة وركابها ويترك الخضم اللجي للبحر يطوي الأجساد والحيوات،ونشر الكفن الكبير للبحر مجددا كما نشر منذ بدايات الأزمنة السحيقة .الأطروحة الثانية هي التي صاغها النفري في ( موقف البحر)ضمن كتابه(المواقف والمخاطبات) : (أوقفني في البحر فرأيت المواقف تغرق والألواح تسلم،ثم غرقت الألواح ،وقال لي لا يسلم من ركب وقال لي خاطر من ألقى بنفسه ولم يركب .وقال لي هلك من ركب ولم يخاطر.وقال لي في المخاطرة جزء من النجاة،وجاء الموج فرفع ما تحته وساح على الساحل.وقال لي ظاهر البحر ضوء لا يبلغ وقعره ظلمة لا تمكن ،وبينها حيتان لا تستأ من (...)وقال لي في البحر حدود فأيها يقلك).انه بحر التجربة الجوانية الانخطافية.البحر الصوفي بامتياز والذي داخله تفقد الذات براهينها وتعوض البرهان بالعرفان .داخل هذا البحر لا يعثر الراكب على شاهد يشهد ركوبه/يشهد له.إسماعيل في رواية (موبي دك)نجا وحده من الغرق في اللج العظيم ليحكي الحكاية ،ليصير سارد الرواية،أما بحر النفري فملتبس غامض،لا أحد سيسرد حكايته .انه بحر لا نجاة ولا خلاص فيه لايسلم من ركبه، مبني على معادلة غريبة جدا فالإلقاء بالنفس في البحر بلا ركوب مخاطرة، والركوب بلا مخاطرة هلاك، معنى هذا أن المخاطرة هي سقف هذا البحر الجواني العرفاني،حيث تتوحد التجربة الوجودية المتمثلة في الانخطاف والمشاهدة والحدس بتجربة الكتابة التي تكتب هذا الركوب- المجازفة .هل الكتابة هي الخلاص والنجاة... النفري يقول لنا في موقف آخر : (ولكل كاتب كتابته).أن تكتب تجربة التعرض للهلاك هو نوعا ما الخلاص.فموقف البحر،هو بالذات موقف كتابة هذه المخاطرة،لأن الكتابة العرفانية-الحدسية-الانخطافية هي بالذات جوهر هذه المخاطرة ،والبحر ذو القعر اللجي المظلم هو ماء الحروف ،المعاني،الكلمات،الحمل،العبارات التي تضيق أحيانا بمعانيها كلما اتسعت الرؤية.لكن في المخاطرة جزء من النجاة،يقول لنا النفري،وهو يتصادى مع قول الشاعر الألخيميائي- الافتتاحي هولدرلين في إحدى قصائده التي أنصت إليها هيذغر في مقارباته :(حيثما ينعلن الخطر تلوح أيضا علامات النجاة).المخاطرة أول النجاة.هذا ما قاله النفري وهو لدرلين في زمنين،ثقافيين ،لغتين مختلفتين،الآن تقرأ لفلاسفة مثل الفيلسوف الألماني الراحل أورليخ بك ما يسمى بتدبير المخاطر la gestion du risque ،ونجد دائما في بعض المواد التي تتضمنها العقود المرتبطة بالقروض المالية أو في التأمينات كما في بوليصة التأمين على المخاطر التي قد تتعرض لها حياة فرد ما،نجد الحديث عن ضمان القروض ضد خطر الموت مثلا.قد يرتبط كل هذا الذي أشرنا إليه ببحر آخر أوسع وأشسع هو بحر الحياة المتعددة،المتنافرة،الهشة،السريعة العطب،الحياة التي صارت مثل ماركات أخرى مجرد ماركة تجارية معولمة.البحر بالرغم من أنه الفضاء المشترك فانه يظل شديد الخصوصية،اذ لكل فرد بحره (ومن لا بحر له لا بر له)كما قال محمود درويش.نتوهم بأننا نركب البحر ولكننا في الحقيقة لا نمخر غير بحرنا الخاص، وهو ما ذهب إليه النابغة الذبياني حين قال :(وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي).إنها الحدود الكامنة في البحر ونحن لا يقلنا داخلها غير الحد الخاص بنا لأننا أصلا لا نستطيع ركوب البحر كله،اختراق هذا الخضم العباب الذي يجسد روح المخاطرة.داخل أمواج البحر العاتية يغرق ويموت الآن المقصيون/المنفيون الجدد الهاربون من حرائق"الربيع العربي"من الدكتاتورية والجوع والجهل والبطالة وانسداد الأفاق.البحر يظل دوما مانحا للحياة وواهبا للموت.لكن كل الذين يركبونه يضطلعون سلفا بالمخاطرة ولا يخشون الغرق.هكذا تنرسم الأسئلة على ساحل رمله المبلل لتأتي الموجات وتمحوها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال