الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من القديم الراهن 1

أحمد التاوتي

2022 / 10 / 25
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


ثقافة أخرى أو الكارثة
الوقت الأسبوعية. عدد 74. 8 ماي 1995.


نظامنا الديمقراطي في شكله الحالي ثمرة تجربة طويلة أسلمت الإنسان المعاصر إلى التنظيم العملي التقني المحايد للحكم.
و الأدوات في عرف جميع المجالات لا تقوم بطبيعتها إلا إذا استغرقتها طبيعة اللا- لون.
و من هنا تبدأ قصة تعاسة الأداة مع ألوان ما قبل العقل المدني الحديث...
هذه الألوان قفزت على مراحل معرفية، و حقب من زلازل الاجتماع البشري خطيرة، لتستلم النظام الديمقراطي هكذا بدون عناء.
نتفاءل خيرا.. و لو أنها ألوان ناهدة بطبيعتها إلى الإطلاق. يعشش فيها الخلط بين حقائق الوجود و زوابع الحياة.. كلية الفلسفة و نسبية العلم.. جموح الشعر و قسر الواقع.
هو نظام بشري خالص من محض ما يسمى في أدبيات الإسلام بشؤون الدنيا. يؤخذ بوصفه صيغة حياة تقنية، تنظم الحياة بين الألوان المختلفة، و تخطط لمستقبل يسع الجميع و يسعد الجميع.
و التجارب السياسية الحديثة أكدت على نجاعة إجراءين عمليين لذلك:
- الاستبعاد الصارم للايديولوجيات المطلقة عن الحكم،
- و احترامها في نفس الوقت كمؤسسات في المجتمع.
لكل إجراء مجاله و قدره..،
- فالخروج عن المجال كأن تطال الأيديولوجيات المطلقة الحكم، يخل بدعامة ( الوطن للجميع).
- و الإفراط في القدر كأن تتسع دائرة الاستبعاد إلى المجال الاجتماعي يخل بدعامة (حرية المبدأ).
هذا تقسيم توضيحي.. أما الواقع فيشهد بتلازم الخللين معا.
فالاتحاد السوفيتي حكم عقيدته المطلقة، و لم تكن تماما من حي الفكر الماركسي فضاق الوطن بأبنائه، و لزم منه مطاردة الآخر حتى بوصفه مؤسسة اجتماعية لا تطمح إلى السلطة.
و الأنظمة العربية، و لم تكن على مرمى طموح النهضة العربية، ضيقت على مؤسسات ( أقليات عرقية و دينية و ثقافية، أو توجهات دينية) فلزم تطلعها إلى الحكم أو الاستقلال.
و التجارب الإسلامية المعاصرة ، و لم تكن في كثير من وحي الإسلام، أقصت الآخر من سعة الدنيا و رحمة الآخرة على سواء، و أشفت غليلها في المتعبين جلدا و تقطيعا.. فلزم منه ما نرى من مؤسسات سياسية و ثقافية موازية في الغرب.
و لو حققت هذه قلب أنظمة بلدانها لبدأت هي الأخرى من حيث بدأ الاتحاد و انتهت إلى ما انتهى بالأنظمة العربية على ألطف الأحوال. و الدورة تدور في شكل طاحونة شقاء أبدية لا ينجي منها سوى الصدور هذه المرة في كل أمورنا عن أشياء ليست هي "رد الفعل" أو إعادة الاعتبار أو إعطاء الدروس.
و التجارب الحديثة لم تعرف لها طريقا إلى الاستقرار في مجال الحكم إلا باحترام شروط التعامل المدني مع الآخر بعيدا عن مهاترات اللون و المذاق. صانت للكنيسة حقوقها الأدبية و المعنوية و المدنية. و أفادت من آدابها و من دلائلها الانتربولوجية . و تركت لها حرية العمل الدعوي للعقيدة، و لكن مع تجنب أن ينزل الرهبان و القساوسة منزلة خبراء الدولة. و الفرق واضح في سياقنا بين لاهوت و شريعة، لولا أن هذه انتعشت بالحياة زمنا ثم انتعشت بها صورية الفنون في المتون أزمانا.
ثم احترم الغرب فيما احترم اتجاهات البروليتاريا، فافاد من توجهاتها في الاقتصاد و الاجتماع و ترك لها حرية العمل السياسي في جمعيات و أحزاب يسارية، و لكن مع تجنب أن يسمح للفكر المتطرف أن ينمو دون فكر مواز يفنده. و هو لم يمنعه بالحديد و النار. فأصحابه أحياء يرزقون هناك. و دور النشر تصدر لهم. و احترامهم مصون، و حقوقهم المدنية محفوظة باعتبارهم –كيفما كانوا- أفراد و مؤسسات في المجتمع. إنما كان الأمر تهيئة للجو العام أمام أدباء و إعلاميين قارعوا الوهم بالحجة و الدعاية بشارات التعرية. و هكذا ضيقوا على التيار. فكان آن صقل السليم منه عملا نقابيا فأنتج عدالة أوسع. و لو كان فكرا متطرفا لأنتج حقدا و تطاحنا أوسع. و نفس الأمر حدث مع الفكر العنصري لليمين المتطرف.[تمثيلا لا حصرا، كل من لوبان/يمين و مارشيه/يسار بفرنسا].
هكذا الغرب، و هذا سر نجاحه. لم يخنقوا آخر ثائر بأمعاء آخر شاعر. و لم يملئوا نقص مشاعرهم بمحاباة أرباب الشعائر. و إنما فتحوا لكل واحد مجاله، و ليس سوى مجاله.
و البشر مصير واحد أمام قوانين الاجتماع.. يخضعون لها جميعا بنحو واحد كما يخضعون جميعا لقانون الموت و الولادة.
أيضا يؤكد هذا أن الغرب انطلق هو الآخر من "تشريق" في رحلة ازدهاره. و لو أخذته العزة بالإنية يومها لما اهتدى إلى ضحاه بالمرة.
قد يبدو هذا الكلام لغوا في هذا الوقت بالذات. فنحن اليوم مقتنعون بالنظام الديمقراطي على معرفتنا "الجيدة" بشروطه. و كواليس الحكم قضت شوطا في تصييغ الصيغة و تدبير شؤون الرئاسيات. و جرائدنا عفت منذ زمن عن مناقشة ما بين الجزائر و الديمقراطية إلى مناقشة المقاس الديمقراطي الملائم و سبل تكريسه.
أرجو ذاك و إن كنت أبحث عنه في عمق الشعب. و أستجدي الأيام في أن تجعل التغيير السياسي لا يخدش فقط في العقل الاجتماعي بل يغيره أيضا. و أغازل ظني في أن إدماجا ثانيا لثورة الريف في اللعبة هو القطرة الباقية لإفاضة كاس السلام. فثورتنا اليوم – دع التحامل- لم تعد في شيء من الثأر الجزافي و لا الثوران المجازف.
على أني أفضل اقتراحا ما يزال لفيفا من مفكرينا الشباب/الشياب عبر الوطن يلحون عليه. لماذا لا نحاول مع هذا العقل بعقل نظير؟ فالتحولات الكبيرة تأبى أن تأخذ ضريبتها ألا من دم الفكر الحر.
لو كنت من هواة تبرير الخيبات و الإحالة على مؤامرات الخارج لقلت مع كثير غيري بأن مؤامرة ما، تروج لصيغة الحكم هذه في العالم الثالث و هي تعلم بأنها لا تزيده إلا خبالا لعدم توفر شروطها المعرفية بالمنطقة. غير أن استثناء طفوليا في قاعدة "الرشد المسايراتي" صقلني على رد كل هذا إلى أمرين:
الأول، عموم مارد الشرق.. المستعجل في أمره.. الهارب من الماضي خوفا من هروب الحاضر.. الآبي إلا أن يأخذ عن مناهج الآخر، ثم يسبه غير مأسوف عليه.. ثم لا يهدا له بال حتى يمرر يده القروسطية [الدينية] عليها لتحمل بصمات يرى من خلالها مشاركته و أهميته في هذا العصر الذي شتته و حيره مع نظير سلبه خيراته و ظلمه كثيرا في عقود خلت.
الثاني، خصوص تخاذل ما يسمى بالنخبة التي تعرف جيدا - فيما حملت- عن ضريبة ما قبل التحول الحضاري العميق. و عن كون التحول السياسي السطحي إذا تم بقوة الأشياء أو بمنطق القوة هكذا بدون قلب معرفي لا يسلم بحال إلا إلى نظام مثيل أو أشد أو أخف بؤسا، أو إلى اليوتوبيا/الخراب.
مرير أن نتفرج على الدماء البريئة التي تسفك في مجرتنا.. و مرير أكثر أن يؤول هذا ذاكرة الشعب و يقلص حجمه إلى مجرد أحداث لتكتلات و حسابات و وضعيات سياسية، مما يحرمنا حتى من العبرة [الموضوعية].. و يكشف عن تعفن ثقافي رهيب قعد بالشارع عن ان يقف الولاء لها بملأ بعض أبعادها على الأقل.
و لعنة القصيد كلها في تواطؤ جماعي رخيص على المأنوس من الفكر و العرف و الواقع.
فقلب المنظومة المعرفية رأسا، و هو الخطوة الأساس للانفراج الحقيقي وحش لا يقربه أباطرة الفكر عندنا. فهم يفضلون الرم بالكلمات، و الخوض في المعميات. أو يفضلون في أجرئ الحالات الاشتغال على نقائض الأحزاب. و السير على إيقاع الزمن السياسي. و هو إيقاع، من أجمل بركاته أنه جرى على البساط الاجتماعي الثقافي البطيء بطبيعته، فجرف معه الأدوات و الأفكار و العقائد بخلط و تلفيق و تعسف.. و مكن لشعيب لخديم السياسي "أستاذ الجيل" بنحو أعمق من ذي قبل.. و ليتنا نعرف طريقا إلى التخاطب و التحاور معه.
لا تجاوز لهذا الواقع إلا بالاستقلال النفسي للمثقفين و انتظامهم في سير فكري خالص من شوائب التنشئة و من أوامر المؤسسة. يأخذ بأطراف المجتمع و يغوص في أصوله الانتربولوجية، و يقتحم تابوهاته الوضعية..
لماذا يهون دم الإنسان و منجزاته و مكاسبه المادية و تبقى المؤسسة المعنوية وحدها لا تمس لولا أنها العلة الأولى لهذه الأزمة و المستفيد الرئيس من دوام أنصاف الحلول لها.
و لعلها - كما التاريخ يقر- ، تصعيدا لمواجهتها يكون العامل الأكبر لتعجيل الثورة الحقة.. تلك الثورة التي كنا منذ أمد نغازلها بصفائنا ثم نعيرها كل مرة لباسا من كدرنا. و على ذكر الصفاء، فالأمل باق.. يبقى أن نتعلم فقط كيف نحطم إلى الأبد - و ليس نتجاوز- خلافنا من أجل وحدتنا. كيف نتنازل عنا من أجلنا جميعا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس