الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان الجاغوار سيلو

طلال حسن عبد الرحمن

2022 / 10 / 26
الادب والفن



شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ سيلو

2 ـ الجدة

3 ـ ياهولا ـ الأب

4 ـ اودسي

5 ـ يونوي ـ الإنسان الصغير الطيب

6 ـ الجد واهنينوهي

7 ـ الشيخ لاغو

8 ـ نيني موشا ـ زوجة الشيخ




"1 "
ـــــــــــــــــ
غابت الشمس ، وسيلو مازالت غائبة ، وهذا ما أوشك ، أن يُنفد صبر جدتها العجوز ، وجعلها تدمدم : هذه الجاغوار ، متى تقتنع بأنها فتاة وليس فتى ؟
وجاءت الجاغوار ـ سيلو ، وقد خيم الليل ، وأضاءت النجوم قناديلها الخافتة ، في أغوار السماء ، وبادرتها الجدة قائلة : سيلو ، تأخرتِ اليوم .
وجلست سيلو على فراشها ، وقالت : كنتُ عند الجد .. واهينيو هي .
ونظرت الجدة إليها ، وقالت : لا عجب أنكِ تأخرتِ ، فحكايات واهينيوهي لا تنتهي .
وتنهدت سيلو ، وقالت : دعكِ من هذا الآن ، يا جدتي ، أكاد أموت من الجوع .
ووضعت الجدة على السفرة ، طبقاً فيه قطعة من اللحم ، وقالت لسيلو : تعالي كلي .
ونهضت سيلو ، وهي تحدق في الطبق ، وقالت : هيا نأكل معاً ، يا جدتي .
فردت الجدة قائلة : لم يبقَ لدينا غير قطعة اللحم هذه ، كليها أنت ، إنني شبعانة .
وجلست سيلو أمام الطبق ، وراحت تأكل ، وهي تقول : غداً أذهب إلى الغابة ، وأصطاد لكِ ما يفرحكِ .
ورفعت سيلو عينيها المبتسمتين إلى الجدة ، وأضافت قائلة : أنتِ تحبين ما أصطاده لكِ .
ورمقتها الجدة بنظرة سريعة ، وقالت : وأحب أن لا تتأخري حتى عند العجوز واهنيوهي .
ونهضت سيلو ، وعادت للجلوس على فراشها ، وهي تقول : واهنيوهي يعرف الكثير .
وجلست الجدة على فراشها ، وقالت : نامي مادتِ ستذهبين غداً إلى الغابة للصيد .
وبدل أن تتمدد سيلو في فراشها ، وتخلد إلى النوم ، نظرت إلى جدتها ، وقالت : جدتي ..
وتمددت الجدة في فراشها ، وقالت : كان أبوكِ يتمنى أن يكون له ولد ، ليكون صياداً مثله .
وقالت سيلو مسايرة للجدة : فاستجاب الروح الأعظم له ، ووهبه صياداً بارعاً ..
وعلقت الجدة قائلة : تقصدين .. صيادة .
وهتفت سيلو قائلة : وما الفرق ؟
وردت الجدة قائلة : الفرق أنكِ فتاة وليس فتى .
ولاذت سيلو بالصمت لحظة ، ثم حدقت في الجدة ، وقالت : جدتي ..
ورمقتها الجدة بنظرة خاطفة ، ولم ترد عليها ، فتابعت سيلو قائلة بصوت فيه دفء الذكرى : الجد واهينوهي حدثني اليوم عن أبي ..
وأغمضت الجدة عينيها ، وتظاهرت بالنعاس ، لكن سيلو واصلت كلامها قائلة : قال لي ، إن أبي كان صياداً ماهراً ، كان يخرج للصيد كلّ يوم تقريباً ، وقلما يعود إلى البيت ، بدون صيد يفيض عن الحاجة ..
وصمتت سيلو ، لكن الجدة لم تنبس بكلمة واحدة ، فتابعت قائلة : وقال الجد واهينوهي ، إن أبي خرج إلى الغابة ، في يوم كانت السماء فيه مكفهرة غاضبة ، ولم يعد ، وخرج رجال القرية للبحث عنه عدة أيام ، لكنهم لم يعثروا له على أثر ..
وصمتت سيلو ثانية ، وثانية لم تنبس الجدة بكلمة واحدة ، فتابعت سيلو قائلة : وقال الجد واهينوهي ، وبعد أكثر من ستة أشهر ، عاد أبوك من الغابة ، والتف أهل القرية حوله ، ليعرفوا أين كان هذه المدة كلها ، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة عن ذلك ، وبعد سبعة أيام غادر الحياة ، وأخذ سره معه إلى العالم الآخر .
ونظرت سيلو إلى الجدة ، ورأتها ترقد في فراشها جامدة ، فتمتمت بصوت ناعس : يبدو أن جدتي قد نامت ، فلأنم أنا أيضاً .
وأغمضت سيلو عينيها ، استعداداً للنوم ، دون أن تعرف أن الجدة لم تنم ، وأنها سمعت كلّ كلمة قالتها عن أبيها ، كما حدثها به الجد واهينوهي .
وقالت في نفسها ، والدموع تغرق عينيها المغمضتين : لم يذهب ابني ياهولا إلى العالم الآخر ، ويأخذ سره معه ، صحيح أنه لم يسرّ به حتى لزوجته ، لكنه أسرّ به لي ، لقد التقى بالناس الصغار في الغابة ، وأخذوه عندهم في مدينتهم في باطن الجبل ، وأبقوه عندهم فترة معززاً مكرماً ، وعندما أبدى رغيته في العودة إلى القرية ، أعادوه إلى المكان الذي أخذوه منه في الغابة ، وطلبوا منه أن لا يتحدث إلى أحد عنهم ، وإلا مات بعد سبعة أيام ، وبالفعل مات ابني بعد سبعة أيام ، عقب إفضائه لي بسره ، عن الناس الصغار .










" 2 "
ــــــــــــــــــ
أفاقت سيلو ، والشمس تطل من مدخل الخيمة ، فهبت من فراشها ، وخاطبت الجدة التي كانت تعد طعام الفطور : جدتي ، كان عليكِ أن توقظيني .
وابتسمت الجدة دون أن تلتفت إليها ، وقالت : رأيتكِ مستغرقة في النوم ، وبدا لي أنكِ تحلمين ، فلم أشأ أن أنتزعكِ من حلمكِ .
وراحت سيلو ترتدي ثيابها ، وتتهيأ للخروج إلى الغابة ، وهي تقول : ليس لي الحلم ، الذي تفكرين فيه ، إنني لا أريد سوى أن أصطاد .
وصمتت سيلو ، فالتفتت الجدة إليها ، وقالت : جاء اودسي قبل قليل ، يريد أن يحييكِ ، ويتحدث إليكِ ، فقلتُ له إنك مازلتِ نائمة .
وقالت سيلو ، وقد انتهت من ارتداء ملابسها ، التي تخرج بها من الخيمة ، وقالت : آه من اودسي .
وراحت الجدة تضع الطعام على السفرة ، وهي تقول : اودسي صياد ماهر ، وهو من خيرة الشباب ، تحلم به الكثيرات من الشابات في المخيم .
ومدت سيلو يدها إلى الطعام ، وأخذت تأكل ، وقالت بصوت هادىء : نعم ، اودسي صياد ماهر ، لكنه لم يصطد غزالة قلبي .
وهزت الجدة رأسها ، وقالت : آه من هذه الغزالة ، كم أخشى أن تخدعها السنين ، وهي تتجنب شباك أي صياد ، مهما كان جديراً بها .
ونهضت سيلو من مكانها ، وهي مازالت تلوك لقمة الطعام في فمها ، وأخذت القوس وجعبة السهام ، ثم مضت إلى الخارج ، وهي تقول : أنا الصياد ، يا جدتي ، والصياد يصطاد ، ولا يُصاد .
وهزت الجدة رأسها ثانية ، وتمتمت قائلة : آه أيتها الروح العظيمة ، أهي فتاة حقاً سيلو هذه ؟
وصمتت لحظة ، ثم قالت : إنها حقاً جاغوار .
ودخلت الجاغوار ـ سيلو الغابة ، والقوس في يدها ، وعلى كتفها جعبة السهام ، الجدة تريد غزالة ، وهذا ما لا تريده سيلو ، وإنما تريد أرنباً ، أو طيراً ، أو ..
نعم الأرنب عندها ، ليس ألذّ من الغزال ، لكن لأنثى الغزال ، هذه الأيام ، خشف جميل ، يحبها وتحبه ، ولا تريد أن تحرمه من أمه ، التي مازال يرضع منها ، كما لا تريد أيضاً أن تحرم الغزالة الأم منه .
وتراءى لها الخشف ، يتقافز فرحاً حول أمه ، ثم يندس بين ساقيها الخلفيتين ، ويلتقم بشفتيه النديتين ضرعها الممتلىء بالحليب الحلو الدافىء ، ويمتصه بقوة .
وفزت سياو من حلمها ، على صوت غزالة تستغيث ، لابدّ أنها أم الخشف ، الذي تحبه ويحبها ، يا للويل ، أهو صياد من قريتها ؟ من يدري ، ربما قتل الخشف ، أو قتل أمه ، أو ..
وهرعت سيلو منفعلة ، نحو مصدر الصوت ، وتوقفت منصتة خائفة بين شجيرات كثيفة ، قريبة من مصدر الأصوات الدموية المتوحشة من جهة ، والمرتعبة المتوجعة من جهة أخرى .
ومدت يدها ، وأبعدت بعض الأغصان ، وإذا دب أسود ضخم ، يمسك بالغزالة الأم ، وهي تتلوى صارخة متوجعة ، والخشف يهاجم الدب الأسود الضخم ، وكأنما يريد إنقاذ أمه من بين براثن هذا الوحش القاتل .
وعلى الفور ، استلت سيلو سهماً من جعبتها ، ووضعته في القوس ، وهمت أن تطلقه نحو الدب الأسود الضخم ، لكنها توقفت مذهولة ، إذ رأت سهماً ينطلق كالبرق ، لا تدري من أين ، وأصاب الدب الأسود الضخم في خاصرته ، وسرعان ما أطلق الغزالة من بين براثنه ، ولاذ بالفرار ، وهو يجأر متألماً .
وتلفتت سيلو حولها ، وهي مازالت مذهولة ، ترى من هو هذا الصياد الشجاع الماهر البطل ، الذي أنقذ الغزالة الأم ، وأعادها سالمة إلى صغيرها الخشف ؟
وتحت أنظارها المبهورة ، برز من بين الشجيرات القريبة ، شاب ربما أكبر منها بقليل ، وتقدم من الغزالة وخشفها ، وراح يربت على رأس الخشف ، وسمعته يخاطب الغزالة قائلاً : اطمئني أيتها الغزالة ، لن تري هذا الدب المتوحش ثانية .
ثم تابعته سيلو بعينيها السوداوين ، وهو يستدير بهدوء ، ويمضي مبتعداً ، وهو يحمل قوسه وجعبة سهامه ، حتى اختفى بين الأشجار الكثيفة .
وهمت سيلو أن تتقدم من الغزالة وخشفها ، وتداعبهما كما تفعل كلّ يوم ، إلا أنها توقفت حين سمعت حركة وراءها ، فالتفتت وفوجئت برجل قصير القامة ، وسيم رغم تقدمه في العمر .
ونظر الرجل القصير القامة إليها ، وقال بصوت هادىء ، ينم عن طيبته : حقاً إنه صياد شجاع .
وحدقت سيلو فيه ، وقالت : نعم ، أنت محق ..
وصمتت لحظة ، وهي مازالت تحدق فيه ، وقالت : لا أظن أنني أعرفك ، يا سيدي .
وابتسم الرجل القصير ابتسامة طيبة ، وقال : عفواُ عزيزتي ، نحن نتحدث الآن عن الصياد الشاب الشجاع ، الذي أنقذ الغزالة من براثن الدب .
ولاذت سيلو بالصمت برهة ، ثم قالت : هذا الصياد الشاب أيضاً لا أعرفه ، ولا أظنه من مخيمنا .
وابتسم الرجل القصير لها ثانية ، وقال : أنت محقة ، إنه ليس من مخيمكم فعلاً ، وإنما من مخيم بعيد ، يقع وراء الجبل الأخضر ، عند منبع النهر .
ولاذت سيلو بالصمت ثانية ، فنظر الرجل القصير إليها ، وابتسامته الطيبة على شفتيه ، وقال : ليتك رأيته ، وهو ينظر إليك ، دون أن تنتبهي إليه ، ولعله أنقذ الغزالة من براثن الدب الأسود ، لأنه لاحظ أنك تحبينها ، وتحبين خشفها الصغير .
وصمت الرجل القصير ، ثم قال وهو يستدير ، ويمضي مبتعداً : إنه يستحقكِ ، وأنت تستحقينه ، إلى اللقاء ، إذا احتجتني ، ستريني في هذا المكان .
وانتاب سيلو الذهول ، عندما رأت الرجل القصير يختفي فجأة ، وأفاقت على الغزالة وخشفها ، وهما يقتربان متلهفين منها ، فانشغلت بهما عما حولها ، وغاب عن ذهنها ، حتى الصياد الشاب ، والرجل القصير ، الذي ظهر فجأة ، واختفى فجأة كما ظهر .


" 3 "
ــــــــــــــــــ
عادت سيلو إلى الخيمة ، متعبة ، شبه مذهولة ، ويدياها فارغتان من الصيد ، وحين وقفت أمام الجدة وجهاً لوجه ، قالت : يبدو أننا سنصوم اليوم .
لكن جدتها ردت عليها قائلة : لن نصوم ، يا صغيرتي ، لدينا لحم غزال طازج .
وهمهمت سيلو ، وقد أفاقت من الذهول : هم م م م .
وتابعت الجدة قائلة : اودسي صيادكِ الماهر ، سيملأ بيتك في المستقبل باللحم الطازج .
ومدت سيلو يديها ، وأمسكت بكتفي الجدة ، وقالت : لا أحتاج للحم الطازج ، لا من اودسي ولا من أي صياد في مخيمنا ، أنا .. صيادة .
ووقفت الجدة صامتة ، وقد تخافتت فرحتها ، وقالت سيلو : إنني جائعة ، يا جدتي ، دعينا نأكل من هذا اللحم الطازج ، ونشكر من جاء به .
وتوقفت الجدة مفكرة ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، ثم راحت تضع أطباق الطعام على السفرة ، وقالت : تعالي ، يا صيادة ، الطعام جاهز .
وجلستا إلى السفرة ، الواحدة في مواجهة الأخرى ، وراحتا تتناولان الطعام ، وكلّ منهما تحاور عالمها الداخلي ، ولما انتهت سيلو من تناول الطعام ، نهضت ، وتمددت متعبة في فراشها .
وراحت الجدة تلملم بقايا الطعام ، وتعيد الأطباق إلى مكانها ، ثم نظرت إلى سيلو ، وقالت : سيأتي اودسي مساء اليوم ، إنه يريد أن يتحدث معكِ .
ونظرت سيلو إليها دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، ثم أطرقت رأسها ، بينما انصرفت الجدة إلى إتمام تنظيف الخيمة ، وإعادة ترتيب أثاثها .
وأغمضت سيلو عينيها السوداوين المهمومتين ، وامتدت أمامها بدل الغابة ، والأجمة الكثيفة الأشجار ، والغزالة الأم وخشفها الصغير ، شواطىء البحيرة ، والأشجار تحف بها من جميع الجهات .
ومن حيث لا تدري ، برز لها الرجل القصير ، فتوقفت مذهولة ، تحدق فيه ، فنظر إليها ملياً ، ثم قال لها : الصياد الشجاع تسانتاو ينتظرك في قريته ، التي تقع قرب نبع النهر ، وراء الجبل الأخضر .
وفزت سيلو من نومها ، وقد خيم الليل ، على جدتها تهزها برفق ، وتهمس لها : سيلو ..
وفتحت سيلو عينيها السوداوين ، وقد اختف البحيرة وشاطئها وأشجارها والرجل القصير ، وحدقت في جدتها ، ثم تمتمت : جدتي !
فهمست الجدة لها : انهضي ، يا صغيرتي ..
وتساءلت سيلو : ما الأمر ، يا جدتي ؟
فردت الجدة بصوت هامس : اودسي ..
وتساءلت سيلو ثانية : ما له ؟
فاعتدلت الجدة ، وقالت : إنه خارج الخيمة ، ينتظرك .
وتذكرت سيلو حديث جدتها عن اودسي ، فنهضت دون أن تتفوه بكلمة ، ومضت إلى خارج الخيمة ، حيث كان اودسي يقف بانتظارها .
وبادرها اودسي محيياً : طاب مساؤكِ ، يا سيلو .
وردت سيلو قائلة بصوت هادىء : طاب مساؤكَ ، أهلاً ومرحباً اودسي .
ثم نظرت باتجاه البحيرة ، التي لا تبعد كثيراً عن المخيم ، وقالت : الجو دافىء هذه الليلة ، لنذهب إلى البحيرة ، ونتمشى قليلاً على الشاطىء .
ويبدو أن هذا أفرح اودسي ، ولعله أعطاه أملاً فيما يطمح إليه ، فقال متحمساً : أنتِ محقة ، الجو دافىء جداً ، لنذهب إلى البحيرة .
ومضيا تحت سماء الليل إلى البحيرة ، وهناك راحا يتمشيان على شاطىء البحيرة ، التي انعكست في مياهها الداكنة ، صفحة السماء المليئة بالنجوم المتغامزة ، ونظر اودسي إلى سيلو ، وقبل أن يخاطبها بشيء ، قالت له : أشكرك ، يا اودسي ، على اللحم الذي أهديته اليوم لنا ، لقد فرحت جدتي به كثيراً .
وابتسم اودسي ، وقال : رأيتك صباح اليوم في الغابة ، وخمنت أنك ربما لن تصيدي أي شيء .
ونظرت سيلو إليه مندهشة ، فابتسم لها ، وقال : عفواً ، لقد لاحظت أنكِ كنتِ مشغولة بمداعبة الخشف وأمه الغزالة ، اللذين يألفانك ، ولا يخافا منكِ .
ولا تدري سيلو ، لماذا سألته : فقط ؟
وتساءل تسانتاو مندهشاً : ماذا ؟
فقالت سيلو : لا ، لا شيء .
ولابدّ أن اودسي لم يفهم ما الذي قصدته من تساؤلها ، فنظر إلى النجوم البعيدة ، المتغامزة في عمق السماء المعتمة ، وقال : آه ما أجمل السماء ونجومها ، يا للعجب ، كأني أراها للمرة الأولى .
ونظرت سيلو إلى حيث ينظر اودسي ، لكنها لم تعلق بشيء ، وسرعان ما توقفت ، فالتفت اودسي إليها ، وقال : عفواً ، لقد أتعبتك .
وأبعدت سيلو نظرها عن السماء والنجوم البعيدة المتغامزة ، وقالت دون أن تنظر إلى اودسي : لقد ابتعدنا كثيراً ، لنعد إلى المخيم .
وعلى الفور ، وافقها اودسي ، وقال : كما تشائين ، يا سيلو ، هيا نعد .
وفي طريق عودتهما إلى المخيم ، حاول اودسي أن يتبادل الحديث مع سيلو ، لكنها كانت تسير صامتة ، دون أن تبدي رغبة في الحديث معه .
ورمقها اودسي بنظرة خاطفة ، وقال متردداً : أرجو أن تكوني قد تمتعت بهذه الجولة .
ومن غير أن تنظر إليه ، اكتفت بالقول : نعم ، أشكرك .
ورغم جمودها ، قال لها اودسي : أرجو أن نكرر هذه الجولة ، في وقت قريب ، يا سيلو .
وكانا قد اقتربت من المخيم ، فحثت سيلو خطاها نحو خيمتهم ، وهي تقول : طابت ليلتك .
وتوقف تسانتاو ، وردّ قائلاً : طابت ليلتك ، يا سيلو .
وتابعها حتى دخلت الخيمة ، فاستدار ومضى بخطوات حثيثة إلى خيمتهم ، التي لا تبعد كثيراً عن خيمة سيلو وجدتها العجوز .
وفي الخيمة ، استقبلتها الجدة ، وانتظرت منها أن تقول شيئاً ، لكن سيلو تمددت في فراشها ، وهي تقول : إنني متعبة ، يا جدتي ، أريد أن أنام .
وانحنت الجدة عليها ، وقالت بصوت خافت : سيلو ..
لكن سيلو لم ترد على جدتها ، إذ كانت قد أغمضت عينيها السوداوين المتعبتين ، ولاذت بالنوم .



" 4 "
ــــــــــــــــــ
طوال فترة نومها خلال الليل ، أو هذا ما خيل لسيلو ، لم يفارقها الرجل القصير لحظة واحدة ، وظل يتحدث إليها ، رغم أنه لم ينطق بكلمة واحدة .
وأدركت سيلو تماماً ، ما قاله الرجل القصير ، نعم ، قال لها ، انهضي ، يا سيلو ، انهضي ، إن الصياد الشجاع تسانتاو ، ينتظركِ ، وسيبقى ينتظرك ، في خيمته الدافئة ، قرب منبع النهر .
ونهضت سيلو عند الفجر ، قبل أن تفيق الجدة ، التي تفيق عادة قبلها ، لتعد لها طعام الفطور ، وراحت ترتدي ملابسها على عجل ، وهي لا تكاد ترى غير الرجل القصير ، والصياد الشجاع تسانتاو .
وأفاقت الجدة ، واعتدلت في فراشها ، وكأنها تفيق من حلم في حلم ، لم ترَ ما يماثله من قبل ، فنظرت إلى سيلو ، وخاطبتها قائلة : سيلو ..
لم تردّ سيلو عليها ، وواصلت ارتداءها لملابسها ، فتابعت الجدة قائلة : مهلاً ، يا صغيرتي ، الوقت مازال مبكراً ، وأنا لم أعد طعام الفطور بعد .
واستمرت سيلو في ارتدائها لملابسها ، وقالت دون أن تلتفت إلى الجدة : لا أحتاج إلى الطعام .
ونهضت الجدة ، وقالت : لا داعي للعجلة ، تمهلي قليلاً ، ريثما أعد لكِ طعام الفطور .
وردت سيلو قائلة ، وقد انتهت من ارتدائها لملابسها : الطريق طويل ، يا جدتي ، وعليّ أن أذهب الآن ’ لا أريد أن أتأخر أكثر .
ووقفت الجدة في مواجهة سيلو ، وكأنها تريد أن تمنعها من الخروج ، وقالت : أخشى أنك ستذهبين اليوم ، للصيد في شعاب الجبل الأخضر .
ومدت سيلو يدها ، وأبعدت الجدة برفق ، وقالت : بل سأذهب إلى الأبعد ، لن أتوقف عند الجبل الأخضر ، بل سأعبره ، وأمضي إلى منبع النهر .
وفغرت الجدة فاها ، الذي لم يبقَ فيه سوى عدد قليل من الأسنان ، فأسرعت سيلو ، وأخذت قوسها ، وعلقت جعبة السهام فوق كتفها ، ومضت إلى الخارج .
وفزت الجدة ، وكأنها تفزّ من نوم عميق ، ولحقت بسيلو ، وهي تقول : سيلو ، توقفي يا سيلو ، يبدو أنكِ جننتِ ، إن من يعبر الجبل الأخضر لا يعود .
وقالت سيلو ، دون أن تلتفت إلى جدتها ، أو تتوقف : مهما يكن ، سأعبر الجبل الأخضر .
وتوقفت الجدة مذهولة ، لا تدري ماذا تفعل ، أهذا أمر معقول ؟ ماذا جرى للصغيرة سيلو ؟ لعلها رأت حلماً ، هذه المجنونة ، ومضت نحو حلمها ، من يدري .
ودخلت سيلو الغابة ، ومضت مباشرة إلى الأجمة ، التي رأت بين أشجارها الكثيفة الرجل القصير ، ها هي الأجمة بأشجارها السامقة الكثيفة الأغصان ، وتلفتت حولها ، أين هذا الرجل القصير ؟
وفوجئت سيلو بصوت الرجل القصير ، ذي النبرات الهادئة ، التي تنم عن طيبته ـ أو هذا ما تتصوره ـ يأتيها من ورائها : طاب صباحكِ ، يا سيلو .
واستدارت سيلو بسرعة ، وإذا هي أمام الرجل القصير ، لا يبعد عنها سوى خطوات قلائل ، فقالت بصوت مبهور : طاب صباحكَ .
وصمتت برهة ، ثم قالت : جئتُ لأراك ..
وابتسم الرجل القصير ، وقال : وها أنا أمامكِ .
وأشارت سيلو إلى الجبل الأخضر ، وهي تحدق في الرجل الصغير ، وقالت : أريد أن أعبر اليوم هذا .. الجبل الأخضر .
وابتسم الرجل القصير ، وهو ينظر إليها ، فتابعت سيلو قائلة : لابدّ لي أن أصل إلى منبع النهر .
ومن خلال ابتسامته الطيبة الهادئة ، قال الرجل القصير : ومنه إلى .. تسانتاو .
فهزت سيلو رأسها ، دون أن تتفوه بكلمة ، فأشار الرجل القصير بيده إلى الجبل الأخضر ، وقال : الجبل الأخضر أمامكِ ، يا سيلو ، أعبريه .
ولاذت سيلو بالصمت ، لم تدرِ ما الذي عليها أن تقوله حول هذا الأمر ، فتابع الرجل القصير قائلا : هيا ابدئي ، يا سيلو ، وكوني مطمئن ، لن تكوني وحدك أبداً في هذا الطريق ، سأكون معك حيثما تكونين .
ورفعت سيلو عينيها السوداوين المتلهفتين إلى الجبل الأخضر ، وراحت تركض بهما في شعابه وطرقه الوعرة ، حتى القمة ، وتوقفت لحظة تستردّ أنفاسها ، ثم عادت لتنظر إلى الرجل القصير ، و .. أين هو !
وتلفتت حولها بحثاً عنه ، لا فائدة ، لقد اختفى تماماً ، ولم يترك أي أثر ، فهتفت بأعلى صوتها كأنها تستغيث : أيها الرجل الطيب .
وعلى الفور ، جاءها صوته الهادىء الطيب من لا مكان : هيا يا سيلو ، الجبل الأخضر ينتظرك ، ابدئي الآن بعبوره ، أنا معكِ .









" 5 "
ــــــــــــــــــ
بدأت سيلو أولى خطواتها لعبور الجبل الأخضر ، والبدايات دائماً صعبة ، هذا ما تقولها جدتها ، لكن بداية صعود هذا الجبل ، لم تكن بالصعوبة ، التي تصورتها سيلو ، أو قالت عنها جدتها .
وتردد في أعماقها ، صوت الرجل القصير الدافىء الطيب " سأكون معكِ حيثما تكونين " ، وهي بالفعل ممتلئة به ، وتشعر أنه معها ، وهي تتطلع لقهر الجبل الأخضر ، وعبوره إلى الطرف الآخر .
وبخطوات ثابتة وقوية ، شقت سيلو طريقها بين المرتفعات الصخرية ، والأودية العميقة الكثيفة الأشجار ، ومساقط المياه المدوية ، و .. وحوالي منتصف النهار ، توقفت في وادٍ ضيق ، تحيط به مرتفعات صخرية عالية ، و .. أين هي ؟
وبدا لها للحظة ، أنها ضلت الطريق ، وتلفتت حولها حائرة ، ما العمل ؟ لكن .. أهي كانت تعرف الطرق ، في هذا الجبل الأخضر الغامض لتضلّ ؟ ثم .. أين الرجل القصير ، لقد وعدها أن يكون معها حيثما تكون ، ومهما كانت الظروف ، وها هي الآن هنا ، في هذا الخانق الأخضر القاتل ، فأين هو ؟
وخفق قلبها بشدة ، وتحسست قوسها وخنجرها ، حين تناهى إليها من المرتفعات البعيدة ، هدير أشبه بالعاصفة " آآآآآ " ، تردد صداه البشع في أعماق تلك الوديان الخضراء العميقة .
وتلفتت سيلو حذرة خائفة ، هذا ليس صوت ثعلب مراوغ ، أو ذئب جائع ، أو حتى دب ، وارتفع الصوت يهدر ثانية " آآآآآ " آه إنه .. الجاغوار ، نمر الجبل الأخضر ، الذي طالما تحدث عنه الصيادون ، وتجنبوه في محاولتهم للصيد في سفوح الجبل الأخضر .
وركضت عينا سيلو ، تتسلقان الصخور المرتفعة ، كأنها تبحث في هذه المتاهة ، عن منقذ تلوذ به هرباً من الهدير القاتل لنمر الجبل الأخضر .. الجاغوار .
وفي الأعلى ، قريباً من السماء الزرقاء ، على صخرة تطل عل الوادي ، رأت سيلو وعلاً فتياً ، يقف وقرناه خنجران يلتمعان فوق رأسه الشامخ ، أهو الخلاص المنقذ ؟ و ..
وتراءى لها الرجل القصير ، وصوته يتردد في أعماقها " سأكون معك حيثما تكونين " ، آه إنه هو مرشدها ، أو رسول منه ، فلتسرع إليه ، وسيقودها على الطريق ، و .. ستصل إلى حيث تريد .
وأسرعت سيلو بقوة متجددة ، ترتقي الصخور ، وكأنها وعلة تتقافز في بيئتها ، نحو هدفها في الأعلى ، ولما اقتربت من الوعل ، استدار بهدوء ، وسار بخطوات ثابتة وقوية ، كأنه يدعوها للسير في أثره .
وتجمدت سيلو في مكانها ، وقلبها يخفق بشدة ، حين ارتفع هدير الجاغوار ، من مكان قريب هذه المرة ، لكنها سرعان ما تماسكت ، واستأنفت سيرها ، إذ لاحظت أن الوعل لم يحفل بالجاغوار ، ولا بهديره المرتفع الشبيه بهدير العاصفة .
وعندما اقتربت سيلو من القمة ، تمنت بينها وبين نفسها ، لو أن الوعل يتوقف قليلاً ، ليتسنى لها أن ترتاح بعض الشيء ، لعلها تستعيد قوتها .
وجمدت سيلو ثانية ، وراح قلبها يضج في صدرها ، واتسعت عيناها رعبا ، فقد برز فجأة ، من وراء صخرة ضخمة ، كانت بينها وبين الوعل ، جاغوار فتيّ ، تتقد عيناه بالغضب وشهوة الافتراس .
وتراجعت بصورة لا إرادية إلى الوراء ، بينما راح الجاغوار يتقدم منها متحفزاً ، وقد كشر عن أنيابه الشبيهة بالخناجر ، لكنها سرعان ما توقفت ، حين لاحت على مقربة منها هوة عميقة ، تبرز منها حتى القاع ، صخور حادة ، لا تقل حدة عن أنياب الجاغوار .
والآن .. أين الخلاص ؟
الجاغوار وأنيابه الخناجر من أمامها ، ومن ورائها الوهدة وصخورها القاطعة .. وفي خطفة ، كما البرق ، انقض عليها الجكوار ، وقد برزت مخالبه القاتلة ، والتمعت أنيابه الخناجر ، وهو يهدر .. آآآآآ ..
وفجأة تحول هديره إلى صرخة مستغيثة متوجعة ، وبدل أن يسقط بجسمه الثقيل الضخم فوقها ، سقط في الوهدة ، وارتطم ممزقاً بالصخور في القاع .
وفتحت سيلو عينيها شيئاً فشيئاً ، ببطء شديد ، وهي لا تكاد تصدق ، أنها مازالت تقف حية في مكانها على شفير الهاوية ، وإذا الوعل الفتي يقف على مقربة منها ، وقرناه الخنجران يلتمعان فوق رأسه الشامخ .
آه إنه المنقذ ، من الواضح ، أنه أسرع إليها في اللحظة الأخيرة ، ونطح الجاغوار ، برأسه الصلب كالصخر ، وألقاه بعيداً عن سيلو ، إلى الوهدة القاتلة .











" 6 "
ــــــــــــــــــ
توقفت سيلو متعبة ، وتنفست ملء صدرها ، حين وصلت قمة الجبل الأخضر ، وتطلعت من هذا المرتفع الأخضر ، القريب من قبة السماء ، إلى ما هو مفروش أمامها ، سهل فسيح أخضر ، يتلوى فيه نهر ، تتلامع مياهه تحت أشعة الشمس .
وانتبهت إلى الوعل الفتيّ ، الذي يقف على مسافة أمتار منها ، وقرناه القويان يشمخان فوق رأسه الصلب ، وسمعته يصيح كأنما يناديها : مآآآآآآ ع .
فنظرت إليه ، وألفته يتطلع إليها ، من مكانه فوق إحدى صخور المنحدر ، ثم ينزل عنها ، ويمضي بهدوء نازلاً نحو السفح ، الذي تمتد منه غابة كثيفة الأشجار .
وسارت سيلو في أثره ، تنحدر عن الجبل شيئاً فشيئاً ، وتوقف الوعل عند منتصف المنحدر تقريباً ، وأشار برأسه إلى مخيم ، تناثرت خيامه في نهاية الغابة ، قريباً من منبع النهر ، وصاح : مآآآآآع .
ونظرت حيث أشار الوعل ، وراحت تتأمل الغابة الكثيفة الأشجار ، والخيم التي تتناثر في أول السهل الأخضر ، وتطل على منبع النهر ، والتفتت إلى الوعل ، لتقول له ، إنها تكاد تصل بغيتها ، لكنها لم تره في مكانه ، ترى أين هو ؟ يا للعجب ، لقد اختفى .
وتلفتت حولها ، لعلها تقع له على أثر ، لكن دون جدوى ، يبدو أن مهمته معها قد انتهت ، وأدى ما كان مطلوباً منه ، فعاد من حيث أتى ، ومالت الشمس للغروب ، وسرعان ما غاصت وراء الأفق ، وخيم الليل.
وجلست قرب صخرة ضخمة ، وأسندت رأسها المتعب إليها ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، ومن بعيد ، في منامها ، سمعت جدتها تناديها : سيلو .
وهبت سيلو من نومها ، وإذا الشمس مشرقة ، وتلفتت حولها ، إنها الآن تعرف الطريق ، وبغيتها غدت في مرمى نظرها ، وبخطوات قوية وثابتة ، استأنفت سيلو نزولها عن الجبل الأخضر ، نحو هدفها المنشود ، وحوالي العصر ، وصلت إلى أسفل الجبل ، الذي تمتد منه الغابة الكثيفة الأشجار .
وبدون توقف ، وبنية أن تصل المخيم ، قبل غروب الشمس ، واصلت طريقها بين أشجار الغابة ، ومن وراء إحدى الأشجار الضخمة ، فوجئت برجل عجوز يبرز وكأنه برز من العدم ، ويتوقف محدقاً فيها .
وتباطأت سيلو بعض الشيء ، وعيناها الحائرتان تعاينان الرجل العجوز ، أهو حطاب ، أم صياد ، أم رجل عابر ، أم .. ؟ وتوقفت على مسافة آمنة منه ، وقالت مترددة : طاب مساؤكَ ، يا عم .
وردّ الرجل العجوز ، دون أن تفارق عيناه اللامعتان وجهها : أهلاً ومرحباً ، يا ابنتي .
وصمت الرجل العجوز لحظة ، ثم تابع قائلاً : لا أظنّ ، يا ابنتي ، أنكِ من قومنا .
ويبدو أن سيلو ارتاحت كثيراً للهجته الهادئة الطيبة ، فقالت له : أنت محق ، يا عم ، فأنا من مكان بعيد ، يقع خلف هذا الجبل الأخضر .
وتمتم الرجل العجوز : هذا ما خمنته ..
ثم اقترب منها ، وقال بصوته الهادىء : بنيتي ، لي خيمة صغيرة ، في طرف المخيم ، ولكِ أن تأتي عندي ، إذا لم يكن لك مكان تبيتين فيه .
ونظرت سيلو إليه ممتنة ، وقالت : في الحقيقة ، جئتُ أسأل عن شخص ، أظنه يقيم هنا .
وعلى الفور ، قال الرجل العجوز : أنتِ تبدين متعبة ، يا ابنتي ، لقد اصطدتُ أرنباً ، تعالي معي إلى خيمتي ، ترتاحي فيها قليلاً ، ونتعشى معاً ، ثم اسألي عن الشخص ، الذي جئت من أجله ، لعلي أعرفه .
ونظرت سيلو إليه ، ثم قالت : أشكرك ، يا عم .
وقال الرجل العجوز فرحاً : يعني .. موافقة ؟
فهزت سيلو رأسها ، وقالت : نعم ، موافقة مع الشكر .
وسار الرجل العجوز حاملاً الأرنب الذي اصطاده ، وسارت سيلو إلى جانبه صامتة ، ثم نظرت إليه وقالت : اسمح لي أن أطبخ اليوم هذا الأرنب لي ولك .
والتفت الرجل العجوز إليها ، وقال : هذا يسعدني ، فمنذ أن ماتت زوجتي ، وتزوجت ابنتي ، وسكنت بعيداً مع زوجها ، لم آكل مما تطبخه امرأة .
وابتسمت سيلو ، وقالت : ستأكل اليوم .
وحوالي ساعة الغروب وصلا المخيم ، والشمس تسطع في السماء ، وصادفا في سيرهما بين الخيام ، في طريقهما إلى الخيمة ، عدة رجال ونساء وحتى أطفال ، والتفت الجميع ، ينظرون إلى سيلو مندهشين ، لكن أحداً منهم ، لم يعلق بكلمة واحدة .
وفي خيمة الرجل العجوز ، وكانت كما قال ، خيمة صغيرة ، لكنها جميلة ومرتبة ومريحة ، انهمكت سيلو بإعداد الأرنب للغداء ، وحين انتهت من ذلك ، وضعته سيلو في صحنين نظيفين ، وجلست هي والرجل العجوز يتناولانه متلذذين .
وأبدا الرجل العجوز إعجابه بطبخ سيلو للأرنب ، وقال : آه سعيد الرجل الذي ستكوني زوجة له .
وضحكت سيلو محرجة ، فتغامز الرجل العجوز ، وأضاف قائلاً : آه لو كنتُ شاباً .
وبعد الانتهاء من تناول الغداء ، جلسا في الخيمة متواجهين ، وراحا يتبادلان أطراف الحديث ، فحدثها عن زوجته وابنته وقومه عامة ، كما حدثته سيلو عن أمها وأبيها ، وجدتها التي ما تزال ترعاها .
وأخيراً ، وبعد صمت ران بينهما برهة طويلة ، نظر الرجل العجوز إلى سيلو ، وقال لها : حسناً ، لك يا ابنتي ، أن تسأليني الآن ، عن الصياد الذي قلت أنك عبرت الجبل الأخضر ، لتسألي عنه .
ونظرت سيلو إليه صامتة محرجة ، فابتسم لها الرجل العجوز ، وقال : اسألي ، يا ابنتي ، أظنّ أنني أعرف جميع الصيادين الشباب ، في مخيمنا هذا .
وقالت سيلو : اسمه .. تسانتاو .
وابتسم الرجل العجوز ، وقال : يا له من محظوظ .
وقالت سيلو فوراً : لابد أنكَ تعرفه .
ونظر الرجل العجوز إليها ، وقال : لا يوجد في هذا المخيم ، ومخيمات هذا السهل كله ، من لا يعرف الصياد .. تسانتاو ، يا ابنتي .
وصمت الرجل العجوز لحظة ، ثم قال : إنني نعسان الآن ، وأنت متعبة ، نامي وارتاحي ، وغداً عند الضحى ، سآخذك إلى خيمة .. تسانتاو .
فقالت سيلو : أشكرك ، يا عم .


" 7 "
ـــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي ، وبعد أن تناولت سيلو طعام الإفطار مع الرجل العجوز ، تطلعت إليه ، وكأنما تذكره بما وعدها به البارحة .
وعلى الفور ، نهض الرجل العجوز ، وقال : هيا يا بنيتي ، إنه الضحى تقريباً ، فلنذهب إلى خيمة تسانتاو ، وأرجو أن نراه هناك .
وخفق قلب سيلو بشدة في صدرها ، أهو الفرح ، أم الخوف من المفاجآة ، أم .. ؟ ونهضت من مكانها ، وقالت : نعم ، إنه الضحى ، فلنذهب .
وخرجا من الخيمة ، والشمس تطل عليهما ساطعة ، تغمر العالم بالدفء والحياة والفرح ، وسارا معاً جنباً إلى جنب ، وقال الرجل العجوز : خيمة تسانتاو ووالديه ، تقع في الطرف الآخر من المخيم .
ونظرت سيلو إليه ، دون أن تتفوه بكلمة ، ورمقها الرجل العجوز بنظرة خاطفة ، وكأنما عرف ما يجول في أعماقها ، فقال لها : تسانتاو لم يتزوج بعد ، رغم أن الكثير من الفتيات يحلمن بالزواج منه .
وعلى امتداد الطريق ، الذي راحا يقطعانه ، متجهين إلى خيمة تسانتاو ، راح العديد من الناس ، وخاصة النساء والفتيات ، يتوقفن مندهشات ، ويتابعن سيلو بأنظارهن ، كأنهن يتساءلن ، ترى من هذه الفتاة الغريبة ؟ التي تحاكي الشباب في انتصاب قامتها ، وكذلك في نظراتها ، وخطواتها القوية الثابتة .
وقبل نهاية المخيم ، أشار الرجل العجوز برأسه ، إلى خيمة متطرفة ، يجلس في مدخلها شيخ طاعن في السن ، يدخن غليونه ، وقال لسيلو بصوت خافت : تلك هي الخيمة ، وذاك الشيخ هو والد تسانتاو .
ونظرت سيلو إليه ، وقالت بصوت خافت : الصياد تسانتاو يشبهه بعض الشيء .
وابتسم الرجل العجوز ، وقال بنفس الصوت الخافت : هذا ما يقوله ، جميع من يعرف الصياد تسانتاو ووالده الشيخ ، الذي لن تريه إلا وغليونه في فمه .
وتقدما من الشيخ ، وتوقفا على مقربة منه ، وحياه الرجل العجوز قائلاً : طاب صباحك .
ورفع الشيخ رأسه ببطء ، وحملق فيه ، وقال بصوت مرتعش : أهلاً ومرحباً .
ومال عليه الرجل العجوز ، وقال له : جئنا إليكم ، نريد أن نرى نجلك .. تسانتاو .
لم يرد الشيخ مباشرة ، وإنما تنقل بنظره الكليل بين وجه الرجل العجوز ، ووجه سيلو ، ثم قال بصوته المرتعش : أنت َ أم هذه الفتاة ؟
وابتسم الرجل العجوز ، وقال : في الحقيقة .. هي .
ثم اعتدل قليلاً ، وأضاف قائلاً : لقد جاءت من مكان بعيد ، يقع وراء الجبل الأخضر .
وعلى أصوات الحوار ، بين الرجل العجوز والشيخ الطاعن في السن ، أقبلت من داخل الخيمة ، امرأة أصغر عمراً من الشيخ ، وفي ملامحها آثار وسامة ، لم يؤثر فيها الزمن كثيرا .
ونظرت المرأة إلى سيلو ، بشيء من الدهشة والاستغراب ، وقالت : سمعت ما دار بينكم من حديث ، أهلاً ومرحباً بكِ .
وأشار الشيخ بيده المرتعشة إلى المرأة ، وقال دون أن يلتفت إليها : هذه المرأة زوجتي ، أم ابني الوحيد .. تسانتاو .
وردت سيلو قائلة : أهلاً بكِ ، يا سيدتي ، أرجو أن تكوني بخير وعافية .
ونظر الرجل العجوز إلى المرأة ، وقال : التقيت عصر البارحة ، في الغابة ، بها واسمها سيلو ، وكانت وحيدة ، ومتعبة ، فاستضفتها عندي في خيمتي ، وعرفت منها أنها جاءت تسأل عن الصياد .. تسانتاو .
وحدقت المرأة فيها مبتسمة ، وقالت بصوت هادىء ينم عن طيبتها : تسانتاو خرج صباح اليوم ، للصيد في الغابة ، وقد لا يأتي قبل غروب الشمس .
ونظرت سيلو إلى الرجل العجوز ، فقالت المرأة : ابقي معنا ، وارتاحي هنا ، ريثما يعود تسنتاو من الغابة .
ونظرت سيلو إليها ، وقبل أن تنطق كلمة ، قال الرجل العجوز : من الأفضل أن تبقى عندي ، وسآتي بها لرؤية تسانتاو بعد المساء .
فقالت المرأة : كما تشاء .
ثم نظرت إلى سيلو ، وقالت : سننتظرك على العشاء ، أنتِ والرجل العجوز .
وابتسمت سيلو لها ممتنة ، وقالت : أشكركِ ، يا سيدتي ، سآتي عند المساء .
ثم استدارت هي والرجل العجوز ، وقالت وهي تمضي مبتعدة : أستودعك الروح العظيمة .
فلوحت لها المرأة ، وقالت : رافقتك السلامة .
وتابعت المرأة والشيخ سيلو والرجل العجوز ، وهما يسيران جنباً إلى جنب ، وتساءل الشيخ : من هذه الفتاة الجميلة ؟ إنني لم أرها من قبل .
وبدل أن تجيبه المرأة ، قالت وكأنها تحدث نفسها : ترى أين التقى تسانتاو بهذه الفتاة الجميلة ؟





" 8 "
ــــــــــــــــــ
بعد أن انتهيا من تناول طعام الغداء ، تمدد الرجل العجوز في فراشه ، وقال : إنني متعب ، يا بنيتي ، سأرتاح بعض الوقت .
ونظر إلى سيلو ، الواقفة على مقربة منه داخل الخيمة ، وقال لها وهو يتثاءب : بنيتي سيلو ، ارتاحي أنتِ أيضاً في فراشكِ ، إذا كمتِ متعبة .
ورمقته سيلو بنظرة سريعة ، وقالت : لست متعبة ، يا عم ، ارتح أنتَ .
وألقت نظرة إلى الخارج ، عبر مدخل الخيمة ، ثمّ قالت : الجو منعش في الخارج ، سأتجول قليلاً قرب الغابة ، ما دمت أنت ستنام وترتاح .
وهمّ الرجل العجوز أن ينهض ، وهو يقول : لا أريدكِ أن تذهبي وحدكِ ، سآتي معكِ .
فردت سيلو قائلة : لا يا عم ، أنت متعب ، وبحاجة إلى الراحة ، سأتمشى قليلاً ، ثمّ أعود .
واسترخى الرجل العجوز في فراشه ، وهو يغمض عينيه ، وقال : بنيتي ، الغابة خطرة على فتاة مثلك ، لا تتوغلي كثيراً فيها .
وخرجت سيلو من الخيمة ، تاركة الرجل العجوز لأحلامه ، ومضت تسير نحو الغابة ، التي لاحت أشجارها الأولى على مسافة قريبة .
وتراءى لها ، وهي تقترب من مدخل الغابة ، الصياد تسانتاو ، يداعب الخشف ، ويربت على رأسه ، بعد أن أنقذ الغزالة الأم من برثن الدب .
وأفاقت من استغراقها في صور من الماضي القريب جداً ، على صوت هادىء ، لم تسمعه من قبل ، يحييها : طاب يومكِ ، أيتها الفتاة .
وفتحت سيلو عينيها السوداوين ، وعلى الفور ، انتقض قلبها في صدرها ، وراح يخفق بشدة ، أهي تحلم ؟ إنه الصياد ، تسانتاو نفسه ، فابتسم لها ، وقال : أنتِ فتاة شابة ، الأفضل أن لا تتوغلي في الغابة .
وتمتمت سيلو بصوت متحشرج ، وعيناها السوداوان تحدقان فيه : تسانتاو !
وحدق تسانتاو فيها مندهشاً ، فتابعت سيلو تمتمتها بصوتها المتحشرج : أنتَ تسانتاو .
وتساءل تسانتاو : هل أعرفكِ ؟
وردت سيلو قائلة : لا أعتقد أنكَ تعرفني .
وصمتت لحظة ، ثمّ قالت : لكن أنا أعرفكَ .
ومن خلال نظرته المندهشة ، قال تسانتاو : لا أظن أننا التقينا مرة قبل الآن .
واقتربت سيلو منه ، وقالت : نعم ، لم نلتقِ ، لكني رأيتك دون أن تراني ، قبل أيام قلائل .
وصمتت لحظة ، وقالت وكأنها تسرّه : رأيتك تنقذ الغزالة الأم من براثن الدب الأسود الضخم ، الذي أوشك أن يفتك بها وبصغيرها الخشف .
ولاذ تسانتاو بالصمت ، وهو يحدق فيها مذهولاً ، فتابعت سيلو قائلة : ما حدث أمام عينيّ ، ولن أنساه ما حييت ، لم يحدث هنا في هذه الغابة الصغيرة ، وإنما في غابتنا نحن ..
وأشارت بيدها إلى الجبل الأخضر ، وأضافت قائلة : وراء هذا الجبل الأخضر .
وتنهد تسانتاو ، ثم قال لسيلو : أخشى أنكِ واهمة ، فأنا لم أعبر هذا الجبل مرة من قبل ، ولا أذكر أنني أنقذت أية غزالة من برثن أي دب .
وجمدت سيلو ، وتمتمت : لكنني رأيتك بعينيّ هاتين ، يا تسانتاو ..
وصمتت لحظة ، وقالت : ثم إن الرجل القصير ..الرجل القصير .. الذي رأيته قرب الأجمة ..
ولاذت سيلو بالصمت محبطة ، وغاضبة ، فنظر تسانتاو إليها محرجاً ، وتراجع إلى الوراء ، ثم استدار ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول : عودي إلى المخيم ، الشمس توشك أن تغيب ، والغابة شديدة الخطورة الآن .
وظلت سيلو جامدة في مكانها ، رغم أن عينيها السوداوين المذهولتين ، ظلتا تتابعان تسانتاو ، وهو يسير مبتعداً باتجاه المخيم .
وسار تسانتاو متجهاً إلى خيمتهم ، الواقعة في مؤخرة المخيم ، والفتاة الشابة الغريبة ، التي التقاها في مدخل الغابة ، لا تغيب عن باله ، وحين همّ بدخول الخيمة ، خاطبه أبوه الشيخ ، الجالس في المدخل ، بصوت الشائخ المرتعش : تسانتاو ..
ودخل تسانتاو الخيمة ، دون أن يتوقف عنده لحظة واحدة ، لكن أباه تابع قائلاً بصوته المرتعش ، دون أن يلتفت إليه : جاءت فتاة تسأل عنكَ ..
وتوقف تسانتاو ينصت إلى أبيه ، وقد التمعت عيناه ، وسمعه يتمتم بصوته المرتعش : إنها فتاة جميلة .
وأقبلت أمه عليه ، وقد تناهى إليها ما قاله أبوه الشيخ ، وقالت بصوتها الهادىء : نعم ، يا تسانتاو ، جاءت الفتاة ، بحسب ما تقول ، من مكان بعيد جداً ..
ولاذ تسانتاو بالصمت ، لا يدري ماذا يقول ، وماذا يمكن أن يقول ؟ فتابعت الأم قائلة : جاءت من مخيم بعيد ، يقع وراء الجبل الأخضر .
والتفتت الأم تنظر إلى القدر الضخم ، الذي وضعته فوق النار ، وهي تقول كأنما لا تحدث تسانتاو ، وإنما تحدث نفسها : والحق .. إنها فتاة جميلة .
ونظر تسانتاو بدوره إلى القدر ، وقال : يبدو أنك تقيمين وليمة مساء اليوم .
فاستدارت الأم ، ومضت نحو القدر ، وهي تقول : نعم ، ستأتي هذه الفتاة الغريبة الجميلة والرجل العجوز ليتناولا طعام العشاء عندنا .
ووضع تسانتاو قوسه وجعبة سهامه ، في زاوية الخيمة حيث يضعها دائماً ، ثم نظر إلى أمه ، وقال : لا أظن أن هذه الفتاة ستأتي .
وحدقت أمه فيه ، وقالت : لكنها هي نفسها قالت لي ، بأنها ستأتي .
فقال تسانتاو : لقد التقيت بها في الغابة ، قبل قليل ، وتحدثت إليها .
وهزت الأم رأسها ، وهي تستدير ، وتعود إلى القدر ، فقال تسانتاو : لا عليكِ ، لعلها تأتي ، مادمت قد دعوتها ، ووعدتك بتلبية الدعوة .








" 9 "
ــــــــــــــــــ
جلس الرجل العجوز وسيلو ، بعد أن فرغا من تناول طعام العشاء ، يتجاذبان أطراف الحديث ، والليل يرخي سدوله في الخارج ، والسماء تشعل قناديل نجومها ، وتضيء بها عتمة النفوس الحزينة .
ومن خارج الخيمة ، جاء صوت هادىء ، يعرفه الرجل العجوز جيداً ، يهتف : أيها العم .
وفزت تساو ، وخفق قلبها ، وأنصت الرجل العجوز ، ثم قال : أظنه تسانتاو .
واشتد خفقان قلب سيلو ، نعم إنه هو ، هذا صوته الذي سمعته منه ، حين وقفا متجاورين ، وتبادلا الحديث عصر اليوم ، في مدخل الغابة .
ونهض الرجل العجوز ، وهو يقول : عن إذنكَ ، يا ابنتي ، سأنظر ماذا يريد .
وعلى عجل ، خرج من الخيمة ، وإذا تسانتاو يقف جانباً ، فقال له : تفضل ، يا بنيّ ، ادخل .
فنظر تسانتاو إليه ، وقال : عفواً ، يا عمي ، أريد الحديث إلى ضيفتك ، إذا سمحت .
فقال الرجل العجوز : تفضل إلى داخل الخيمة ، وتحدث إليها كما تشاء .
فقال تسانتاو بصوته الهادىء : أشكركَ ، يا عم ، لكن بعد إذنك ، وموافقة ضيفتك ، أريد أن أتحدث معها ، ونحن نسير معاً على ضفة النهر .
وهمّ الرجل العجوز بالدخول إلى الخيمة ، وإذا سيلو تخرج إليهما ، وتنظر إلى تسانتاو ، فقال الرجل العجوز : بنيتي ، أظنّ أنكِ سمعت الصياد تسانتاو .
فردت سيلو قائلة ، وهي مازالت تنظر إلى تسانتاو : نعم ، لقد سمعته ، هواء الليل منعش ، وأنا أيضاً أريد أن أتمشى على ضفة النهر .
وتململ الرجل العجوز محرجاً ، ثمّ نظر إلى سيلو ، وقال : سأنتظرك في الخيمة ، مهما تأخرتِ .
ودخل الرجل العجوز الخيمة ، وأسدل ستار المدخل ، بينما سار تسانتاو ، وإلى جانبه سارت سيلو ، وتحت سماء الليل المرصعة بالنجوم المتغامزة ، اتجها معاً نحو النهر ، الذي بدا خريره في الليل وكأنه الهمس .
وتوقف تسانتاو على الضفة الرملية الرطبة ، وعلى مقربة منه توقفت سيلو ، وظلا صامتين ، صمت النجوم التي تتغامز في عمق السماء .
ونظر تسانتاو ملياً إلى سيلو ، ثم قال لها : نحن هنا نقدس هذا النهر العظيم .
ورمقته سيلو بنظرة خاطفة ، وقالت : إنه يستحق التقديس ، فهو نهر جميل وعظيم حقاً .
وخاطبها تسانتاو قائلاً : لا أدري إذا كان في دياركم نهر مثل هذا النهر .
فردت سيلو قائلة : ليس لدينا نهر في ديارنا ، وإنما لدينا بحيرة ، بحيرة كبيرة جداً ، تحيط بها الأشجار الضخمة الكثيفة من جميع الجهات .
ونظر تسانتاو إليها ملياً ، ثم قال : لا أكاد أتصور أنك عبرت ذلك الجبل الأخضر .
ونظرت سيلو إليه ، وقالت : في مخيماتنا ، التي تقع وراء الجبل ، يطلقون عليّ اسم ..الجاغوار .
وابتسم تسانتاو ، وقال : حقاً أنت جاغوار .
وسارت سيلو على رمال الضفة الندية صامتة ، وهي تتطلع إلى النجوم البعيدة ، فسار تسانتاو في أثرها حتى حاذاها ، وقال : أمي دعتك والعم العجوز على العشاء ..لكنكِ لم تأتي ..
ولاذت سيلو بالصمت ، فتابع تسانتاو قائلاً : كنت أتمنى أن أراكِ ..
فردت سيلو قائلة : ها أنتَ تراني الآن .
ورمقها تسانتاو بنظرة سريعة ، ثم قال : حين التقينا عصر هذا اليوم ، عند مدخل الغابة ، خاطبتني باسمي .. تسانتاو .
وردت سيلو دون أن تتوقف : نعم ، هذا اسمكَ ، أنا أعرفه ، أما اسمي فهو .. سيلو .
وتمتم تسانتاو : سيلو ..
ثم قال : لابد أن أحداً ممن يعرفني ، أخبركِ باسمي .
وتوقفت سيلو ، ثمّ قالت : نعم ، أخبرني به الرجل الصغير ، الذي ذكرته لك في لقائنا عصر اليوم .
وتساءل تسانتاو مذهولاً : الرجل الصغير !
فقالت سيلو : نعم الرجل الصغير ، وهو الذي قال لي ، إنكَ تنتظرني في خيمتكَ ، خلف الجبل الأخضر ، قريباً من منبع النهر العظيم .
وتساءل تسانتاو مندهشاً : أهو الذي قال لكِ ذلك ؟
فردت سيلو بحماس : نعم .
ولاذ تسانتاو بالصمت ، فنظرت سيلو إليه منزعجة ، ثم قالت : آه .. يبدو أن هذا الرجل الصغير قد غرر بي ، يا لي من بلهاء .
واستدارت سيلو منزعجة ، ومضت بخطوات سريعة بعيداً عن النهر ، متوجهة نحو المخيم ، ولحق تسانتاو بها ، وراح يسير قريباً منها ، وهو يقول : توقفي ، يا سيلو ، توقفي ، توقفي .
لكن سيلو لم تتوقف ، وحثت خطاها محاولة الابتعاد عنه ، وهي تقول بصوت منزعج : دعني أرجوك ، أريد أن أعود وحدي إلى الخيمة .
وتوقف تسانتاو ، لكنه ظلّ يتابعها بنظره ، حتى وصلت خيمة الرجل العجوز ، واندفعت إلى داخلها .

" 10 "
ـــــــــــــــــــــ
عاد تسانتاو إلى الخيمة ، عابساً ، مقطب الجبين ، وأوى مباشرة إلى فراشه ، دون أن يلتفت إلى والديه ، أو ينبس بكلمة واحدة .
ونظر الشيخ إلى زوجته ، فرمقت تسانتاو بنظرة خاطفة ، وهمست للشيخ بصوت خافت : إنني خائفة ، يبدو أن الأمور ليست على ما يرام .
فرد الشيخ هامساً : دعيه ينام الآن .
وفي صباح اليوم التالي ، فزّ تسانتاو من النوم ، كأن أحداً هزه بقوة ، واعتدل في فراشه ، كانت أمه تعد طعام الإفطار ، وأبوه متمدداً في فراشه ، فخاطب أمه قائلاً : أمي ، لماذا لم توقظيني في الوقت المناسب ؟
وردت أمه ، دون أن تلتفت إليه : ولماذا لم تستيقظ أنتَ ، في الوقت المناسب ، كما تفعل كلّ يوم ؟
ونهض تسانتاو من فراشه ، فاعتدل الشيخ ، وقال : لا تلوميه ، يا امرأة ، لعله أرق البارحة لسبب من الأسباب ، وربما لم ينم إلا في ساعة متأخرة من الليل .
وعلقت الأم قائلة : لا عجب أن تفوته الشمس ، عند شروقها اليوم إذن .
ولاذ تسانتاو بالصمت ، فنظر أبوه الشيخ إليه ، والغليون في فمه ، وقال : بني .. تسانتاو ..
ونظر تسانتاو إليه صامتاً ، فتابع الشيخ قائلاً : الشمس ، يا بنيّ ، لا تشرق إلا مرة واحدة في العمر .
والتفتت إليه أمه ، وقالت : أبوك لم يكن أقوى صياد في المخيم ، عندما رآني وأرادني ، واضطر أن يقاتل صياداً أقوى منه بكثير ، كان يريدني هو الآخر ، وغلبه ذلك الصياد ، وأدماه ، وكاد يجهز عليه ، لكني لم أختر الغالب ، بل اخترت أباك المغلوب ..
وصمتت لحظة ، رمقت خلالها زوجها الشيخ ، ثم قالت : لأنه قاتل بكل قوته من أجلي ، رغم أنه كان يعرف أنه لن يغلب ذلك الصياد .
وأطرق تسانتاو رأسه حزيناً ، وتمتم قائلاً بنبرة استسلام : أظنها ستمضي اليوم إلى مخيم قومها ، في الطرف الثاني من الجبل الأخضر .
ونهض الشيخ من فراشه ، واقترب من تسانتاو ، وقال : لا أظن أن الأوان قد فات الآن .
وخاطبته أمه قائلة : حتى لو مضت ، فإنّ الطريق طويل عبر الجبل الأخضر ، الحق بها ، يا بنيّ ، إذا كنت لا تريد لهذه الشمس أن تغيب عن حياتك .
ووقف تسانتاو حائراً متردداً ، فمد الشيخ يديه الشائختين ، ودفعه إلى خارج الخيمة ، وهو يقول : اذهب وإلا ستندم حياتك كلها ، ولن ينفعك الندم .
وعلى الفور ، انطلق تسانتاو نحو خيمة الرجل العجوز ، وصاح بأعلى صوته : أيها العم .
وما إن خرج الرجل العجوز ، ورأى تسانتاو ، حتى قال له : لقد ذهبت سيلو ..
وصاح تسانتاو : ذهبت ! متى .. ؟
فقاطعه الرجل العجوز قائلاً : أسرع في أثرها ، قبل أن تختفي في شعاب الجبل الأخضر ، هيا أسرع .
وأسرع تسانتاو مقتفياً أثر سيلو ..
لكن أين أثرها ليقتفيه ؟
واجتاز الغابة بسرعة الغزال ، وراح يتسلق الجبل الأخضر ، وتوقف فوق صخرة في بدايات الجبل ، لا ليسترد أنفاسه فقط ، وإنما أيضاً ليعرف أين يتجه للحاق بتلك الجاغوار .. سيلو .
ومالت الشمس للغروب ، وهو يضرب على غير هدى ، ثمّ خيم الليل ، وسطعت النجوم في السماء ، بل وأشرق القمر أيضاً ، وهو ما زال يسير ، لعله يرى سيلو ، أو يقع على أثر لها ، لكن دون جدوى .
وتوقف تسانتاو محبطاً ، لكنه لم يفكر بتاتاً بالعودة من حيث أتى ، سيبحث عن سيلو حتى النهاية ، مهما يكن الأمر ، لكن .. ما هو الطريق إلى سيلو ؟
ومن مكان قريب ، تناهى إليه صوت غريب ، لم يسبق له أن سمع ما يشبهه ، يقول : أنا أعرف الطريق إلى سيلو ، التي تريدها .
والتفت تسانتاو إلى مصدر الصوت ، وفوجىء برجل قصير القامة ، يجلس على صخرة قريبة ، وقبل أن ينطق بكلمة واحدة ، أشار الرجل القصير بيده ، وهو يقول : انظر ، تلك شجرة عالية ، كثيفة الأغصان ، سيلو التي تريدها ، تجلس الآن هناك ، تنتظرك .
وهمّ تسانتاو أن يخاطب الرجل القصير ، لكنه صمت مذهولاً ، حين اختفى الرجل القصير عن الصخر ، حيث كان يجلس قبل قليل .
وتلفت حوله حائراً ، فجاءه من الظلام ، صوت الرجل القصير ، الذي كان يتحدث إليه منذ لحظات ، يهيب به قائلاً : اذهب إليها ، يا تسانتاو ، اذهب إلى سيلو ، لا تدعها تنتظر في هذا الليل .
وعلى الفور ، أسرع تسانتاو إلى الشجرة العالية الكثيفة الأغصان ، وإذا سيلو تجلس متكئة إلى جذعها الضخم ، وقد أغمضت عينيها ، فتوقف على مقربة منها مبهور الأنفاس ، وهتف بصوته الهادىء : سيلو .
وخفق قلب سيلو بشدة ، بل ودمعت عيناها السوداوان ، إنه تسانتاو ، نعم تسانتاو ، وفتحت عينيها السوداوين المتعطشتين ، وإذا هو تسنتاو فعلاً ، و ..
واقترب منها ، وقال : الطريق محفوف بالمخاطر ، يا سيلو ، سأرافقك حتى مخيمكم ، و ..
فقاطعته سيلو ، لكن بشيء من الرفق ، وهي تنظر إليه ، وقالت : لا تهمني المخاطر ، فأنا .. الجاغوار .
وجلس تسانتاو إلى جانبها ، وعيناه تعانقان عينيها السوداوين : وقال : أريد أن أرافقك ، لأقابل جدتكِ ..
وحدقت سيلو فيه صامتة ، فمال تسانتاو عليها ، وأضاف قائلاً : سآخذكِ منها .
وانتفض قلبها فرحاً ، لكنها ولأنها الجاغوار كتمت فرحتها ، وقالت له : الوقت متأخر ، لننم الآن ، فالطريق طويل أمامنا يوم غد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان حكيم بالكحلة.. ضيف صباح العربية


.. بطل الفنون القتالية حبيب نورمحمدوف يطالب ترمب بوقف الحرب في




.. حريق في شقة الفنانة سمية الا?لفي بـ الجيزة وتعرضها للاختناق


.. منصة بحرينية عالمية لتعليم تلاوة القرآن الكريم واللغة العربي




.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات