الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الماضي يُطل من جديد … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2022 / 10 / 29
الادب والفن


تدخل ( كريمة ) وهي صامتة وتذهب مباشرةً الى مكتبها وتستكين في مقعدها .. تنهمك في عملها وهي ساهمة غارقة في تفكير عميق .. يعاجلها زميلها ( رحمن ) :
— ماذا يريد منكِ المدير .. هذا المتصابي .. كل يوم والثاني وهو يستدعيك .. ؟
— أرجوك استاذ عبد الرحمن لا تقحم نفسك في أمور لا تعنيك .. من أعطاك الحق لتكون وصياً علي .. ؟
يسكت الشاب مجبراً ..
وكريمة موظفة جديدة تم تعينها على شهادة الإعدادية .. فتاة جميلة تخطت الثلاثين .. نحيفة .. وجهها يميل الى الشحوب قليلاً .. تبدو في عينيها نظرة غائمة تائهة لا تعبر عن شئ .. ترتدي جبة واسعة تنسدل على جسمها وتحف بالأرض .. وحجاب لا يظهر سوى إستدارة وجهها الخالي تماماً من المساحيق .. !
لم يمضي وقت طويل على جلوس رحمن حتى يقوم من مكانه ويقترب منها بحذر وهو يتلفت حوله في تردد .. خوفا من دخول أحد .. ثم يهمس وفي عينيه نظرة حالمة :
— لن أكون وصيا عليك فقط بل سأكون كل شيء في حياتك .. يومين ثلاثة وسترين ..
بدا وجهها أكثر صرامة :
— اذا كنت تقصد الزواج .. قلت لك أنا لا أفكر في الزواج .. ظروفي لا تسمح .. فأرجوك ابحث عن فتاة غيري .. الدائرة مليئة بالفتيات الجميلات ويتقاتلن عليك لتتزوجهن ..
— أنا لا أريد سواك .. أحبك .. ليس بيدي .. !
أرجوك لا ترفع الكلفة بيننا الى هذا الحد .. نحن في مكان عمل ..
ينسحب مكرهاً بعد أن يدخل زميلهم حجي أحمد ..
رحمن شاب ممتاز لا يفوّت .. أمنية الكثيرات .. وهي تميل اليه وربما تحبه .. لكنها مشوشة الفكر لا تستطيع أن تتخذ قراراً .. ظروفها لا تحتمل خطوة كهذه ..
تمر الأيام ورحمن لا يهدأ وهي تتعذب .. حتى جاء يوم قال لها بأنه سيبعث أمه وشقيقته لزيارتهم .. لم تقبل ولم ترفض .. فهي لم تعد صغيرة والعمر يجري وفي أعماقها تتوق الى الزواج وتكوين عائلة مثل بقية الفتيات لكنها لا تستطيع أن تمضي قدما في خطوة مصيرية كهذه دون ان تُفرغ ما في أعماقها وتريح ضميرها فهي لا تريد أن تخدع رحمن فهو شاب طيب لا يستحق منها ذلك .
وفي المساء .. تجلس مع أمها بعد أن خرج الضيوف وتسألها عن رأيها فتقول ألأم بمرارة :
— لا أدري ماذا أقول .. الله ينتقم ممن كان السبب .. اسمعيني بنتي .. أنت تعرفين مدى خطورة مرضي ولم يتبقى لي من العمر إلا القليل .. لا أريد أن أتركك وحيدة من بعدي .. وكما أرى أنك تحبين الشاب والشاب يحبك .. فانسي الماضي وتوكلي على الله وتزوجي .. ويكفينا ما حدث ..
تقاطعها كريمة محتجة :
— كيف لي أن أتزوج يا أمي .. وأنت تعرفين المستور .. ما ذنب رحمن يأخذ واحدة ملوثة مثلي .. ماذا سأقول له عندما يكتشف أني لست عذراء وماذا لو اكتشف الماضي المخفي ..
تصمت الأم ثم أخذت تهتز باكية .. رفعت يديها الى السماء تدعو على الذي كان السبب في مأساتهما .. !
تقول كريمة في إصرار :
— قررت أن أصارحه وأترك له بعد ذلك الخيار ..
— لا لا .. يا بنتي .. لا هو ولا أي رجل يمكن أن يتقبل ويتفهم الذي ستقولينه .. أنا أرى أما أن ترفضي الزواج نهائياً والاسباب والمبررات كثيرة وتقفلي على الموضوع وتواصلي حياتك كما هي .. وأما تقبلين بالزواج وتستمرين في الطريق الى نهايته ولكن بدون هذه المكاشفة التي لا أرى لها ضرورة .. يمكنك في أسوء الأحوال أن تقولي بأنك سبق وأن تزوجتي لفترة قصيرة وتطلقتي .. وعليك أن تجدي عذرا مناسبا لهذا الطلاق .. والباقي على الله .. هو العارف بحالنا وبما جرى لنا .. !
وتمضي الأيام والحال جامد كما هو لم يُتخذ فيه قرار من كريمة .. ورحمن ينتظر ويلح ويعيد عليها في كل لحظة حبه لها وانه بات لا يستطيع الانتظار أكثر من ذلك ..
حتى جاء ذلك اليوم ..
عندما دخل عليهم مراجع وكانت كريمة مطرقة على الملف الذي أمامها فلم تنتبه .. استدار الرجل والقى عليها نظرة طويلة صامتة ثم قال :
— ثريا .. كيف حالك وكيف حال الوالدة .. ؟
اتجهت رؤوس الجالسين الى الرجل ثم تحولت انظارهم الى كريمة التي أخذ قلبها يدق في عنف .. وتحول لون وجهها الى لون الليمونة عندما سمعت بأسمها الحقيقي .. التقت عيناها بعينيه .. إنه هو .. أبو ريا .. شلت المفاجأة جسدها .. لم تتوقع أن يبرز الماضي فجأةً أمامها هكذا ، لكنها استطاعت أن تتمالك نفسها .. وتبحث عن صوتها حتى وجدته اخيراً .. حدجته بنظرة قاسية وقالت بصوت باتر سمعه الجميع :
— غلطان حضرتك .. انا أسمي كريمة ..
بقي حائراً لا يدري ما يقول .. أيصدق كلامها أم يصدق عينيه اللتان لا تخطآن امرأة مثل ثريا كان له معها صولات وجولات .. لكنه فضل التراجع فقال :
— يجوز .. أعرف واحدة أسمها ثريا شبهك الخالق الناطق ..
قال حجي أحمد معلقاً بحسن نية :
— يخلق من الشبه أربعين .. استاذ .. !
خطا نحو الباب منصرفاً .. ثم خرج رحمن وراءه .. أما كريمة فقد تيبس جسدها ولم تعد قادرة على أية حركة .. لكنها تظاهرت بعدم المبالاة .. لم تكن تتوقع بعد كل هذه المعاناة وهذا التخفي أن يعود الماضي ويطل بوجهه القبيح من جديد .. اعتقدت بأنها سوّت حسابها معه وانتهى لكن يبدو أنه لم يسوي حسابه معها بعد .. هل يعقل انها بعد أن سارت كل هذا المشوار الطويل واجتازت حقول ألغامه وفي النهاية تعود الى نقطة الصفر .. !
وسرح فكرها من جديد وتذكرت هذا الخسيس أبو ريا عندما استغل وفاة أبيها السريعة وظروف الحصار القاسية ومرض أمها ليضغط عليها وهي في عمرها الغض الذي لم يكن يتجاوز السادسة عشرة .. بدأ يساوم أمها عليها وأمها ترفض وتطلب منه أن يجد لأبنتها عملاً شريفاً .. فقال بأن البلد مشلول ليس فيه عمل والحياة معدومة في المدينة .. حتى كادتا أن تهلكا من الجوع .. ورضخت الأم أخيراً .. ووافقت على ضرسها .. وتحدد المبلغ .. ستون ألف دينار .. ثمن بخس كأنه التراب لأغلى ما تملك .. بكارتها .. وأصر سقط المتاع هذا أن يكون صاحب الليلة الأولى .. وكان له ما اراد ولم يكتفي بذلك .. بل تنازل عنها الى صديقه بعد أن ارتوى منها وصديقه الى صديقه .. وهكذا بدأ مشوارها في السقوط في وحل الرذيلة .. وعندما سقط النظام فرتا من مدينتهما وجائتا الى هذه المدينة باسم جديد وهيئة جديدة .. !
وبعد فترة عاد رحمن بوجه آخر وقال بأن هذا الرجل دخل على المدير يبدو أنه صديق له أو ربما قريب ثم همس :
— أتعرفين هذا الرجل .. ؟
رفعت حاجبها مستغربة من السؤال :
— أي رجل .. ؟
— الرجل الذي توهم بإسمك قبل قليل .. ؟
قالت ممتعضة :
— ومن أين لي أن أعرفه .. ثم تعال .. بأي صفة تسألني هذا السؤال السخيف .. ؟
صمت رحمن على مضض .. لكنه غير مقتنع ..
وصلت الى البيت خائرة القوى ، حتى أوشكت أن تسقط مغشيا عليها .. ولم تنتظر الى المساء كعادتها عندما تريد التحدث لأمها .. فأخبرتها من فورها بكل ما جرى .. أخذت الأم تلطم على خدودها وتولول .. ثم اقترحت على أمها بأن تنتقل الى فرع آخر .. لكن الأم قالت :
— أبداً يا بنتي .. وهل يصعب عليه أن يصل الى هذا الفرع الجديد إذا أراد لك سوءاً .. ؟ أرى أن تواصلي حياتك ولا كأن شيئاً قد حدث .. وإن عاد وأتصل بك .. هدديه بأنك ستكشفين سره هو الآخر .. سيخاف ولن يتعرض لك بعد ذلك .. !
انخرطت كريمة في تنظيمات وتجمعات نسوية فعالة في المجتمع الجديد واستطاعت بلباقتها وجرأتها أن تحتل مكانة متقدمة .. وصار لها شأن بين الناس .. حتى توقع البعض لها بمستقبل سياسي جيد !
تمر الايام .. ورحمن قد خمد حماسه وأخذ يبتعد عنها تدريجياً .. وبعد فترة سمعت بأنه خطب فتاة أخرى .. هل عرف الحقيقة .. ؟ هل أخبره أبو ريا .. ؟ لا تدري .. ولا يهمها أن تدري ..
حتى إستدعاها المدير يوماً .. وعندما دخلت عليه طلب منها أن تستريح لأنه يريد أن يحدثها في موضوع شخصي طويل .. !
أدركت نوعية الموضوع من تخلي المدير عن صرامته الشكلية وبدا ودوداً على غير عادته .. ردت عليه بأنها تفضل أن تسمعه وهي واقفة .. قال وهو يصب عليها ابتسامة رقيقة ليست في محلها :
— لا أدري بأي إسم أناديك .. ثريا أم كريمة .. ( وهو يبتسم إبتسامة صفراء ) .. ليس مهم .. لعلمك أنا أعرف بموضوعك وبالتفصيل .. لا بأس .. انها حياتك الخاصة وأنتِ حرة فيها رغم أنها لو إنتشرت قد تُسئ الى سمعتكِ وقد تدمركِ .. عندي طلب حتى أنسى الموضوع من أساسه وأقطع دابره ..
فهمتْ .. قبل أن يُكمل بأنه يريدها محظية رخيصة .. فقاطعته بشجاعة العاهرة وصلفها .. وقفت أمامه بثبات كنمرة متحفزة .. حان الوقت لتفرض شخصيتها الجديدة ولتكن البداية من رأس السمكة العفن .. وأن تُشعر هذا السافل ضآلته وانه لا شيء سوى خيال مآتة متهرئ .. جائوا به من الحضيض وأجلسوه في مكان كبير عليه .. لا يستحقه ولا حتى يليق له .. فقالت .. كأنها بأنتقامها منه قد انتقمت من كل الأنذال الذين مروا عليها في حياتها :
— فهمتك .. إذا تتصورني لقمة سائغة .. وتريد إبتزازي فقد أخطأت العنوان .. الوضع تغير وأستطيع باشارة من إصبعي ( ترفع سبابتها في وجهه .. ) .. أن أرفعك من هذا الكرسي وأرميك في أقرب مكب للنفايات حيث مكانك الطبيعي .. ( تصرخ في وجهه .. ) .. سامع .. وإياك والتعرض اليّ مرة أخرى وإلا ستندم طوال حياتك .. !
استدارت وخرجت وصفقت الباب خلفها ..
هبط سكون غريب على المكان .. صمت المدير ولم ينبس بحرف واحد كأن القط أكل لسانه .. أصيب بالذهول .. بدا ذابلاً مهزوماً .. ذابت نظراته الحادة كما ذابت أحلامه الدنيئة في صيد سهل .. وبلع الاهانة .. ولم يتعرض لها بعد ذلك .. !
واصلت الأيام سيرها تباعاً .. وفي يوم كانت جالسة مع أمها في البيت تشاهدان التلفزيون وهو يعرض صور المرشحين للبرلمان لدورته الجديدة .. تفاجأة بصورة لأبو ريا بالحجم الطبيعي واقفا وهو يرتدي بدلة أنيقة وربطة عنق زاهية الألوان .. مبتسماً إبتسامة تصوير مزيفة كأنها تكشيرة ذئب في ثوب حمل .. مرشحاً كنائب في البرلمان عن مدينتها التي غادرتها .. ابتسمت بمرارة وقالت في همس مسموع :
— الأوغاد أمثاله .. من طرح البحر .. دائماً يفوزون .. !!

( تمت )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟