الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في كتاب المغرب قبل الاستعمار... المجتمع والدولة والدين (1792-1822)

صلاح الدين ياسين
باحث

(Salaheddine Yassine)

2022 / 10 / 30
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


صدر سابقا للباحث المغربي في التاريخ محمد المنصور كتاب موسوم ب " المغرب قبل الاستعمار... المجتمع والدولة والدين (1792-1822)"، يمكن اعتباره بمثابة دراسة تاريخية قيمة اعتمدت على كم كبير من المراجع والإحالات، إذ تغطي إحدى أخصب الفترات في تاريخ المغرب، والتي كان لها ما بعدها على صعيد الدولة والمجتمع المغربيين، وهي فترة حكم كل من المولى محمد بن عبد الله (1710-1790) وخلفه المولى سليمان (1760-1822) على امتداد النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والنصف الأول من القرن التاسع عشر، لما عرفته من تحولات سياسية واجتماعية هامة وغير مسبوقة، وفيما يلي سنحاول تحليل أبرز مضامين الكتاب والإضاءة عليها:
إضاءة تاريخية على مورفولوجيا وواقع المجتمع المغربي
من حيث توزيع السكان مجاليًا، كان معظم سكان المغرب خلال الفترة المشمولة بالدراسة، وحتى بدايات القرن العشرين، يعيشون بالبوادي (حوالي 90 في المائة من السكان)، بينما لم تكن تغطي المدن سوى نسبة ضئيلة من الكثافة السكانية وقتئذ. وتبعا لذلك، لطالما شكلت القبائل الإطار الأساسي للتنظيم الاجتماعي في مغرب ما قبل الحماية، بحيث كانت تمنح الفرد شعورًا بالانتماء لتشكل بذلك أحد ثوابت هويته. وفي هذا الصدد، ينفي المؤلف عن القبائل المغربية صفة الانغلاق والجمود، إذ ما كان الانتماء يتحدد على أساس عرقي أو سلالي، بقدر ما يتم قبول انضمام كل من يوافق على ربط مصيره بمصير القبيلة المعنية.
ويمكن تاريخيًا تصنيف القبائل المغربية اعتمادا على معايير مختلفة كالانتماء اللغوي (قبائل أمازيغية في مقابل قبائل عربية)، أو نمط العيش (قبائل مستقرة ضدا على قبائل تعتمد على نمط الترحال)، إلى جانب معيار آخر لا يقل أهمية وهو طبيعة العلاقة مع المخزن (قبائل موالية في مقابل قبائل عاصية). غير أن الكاتب ينتقد التضخيم الذي طال ثنائية بلاد "المخزن" وبلاد "السيبة" في كتابات الأنثروبولوجيين والمستشرقين الغربيين ذات الأغراض الاستعمارية، فحتى القبائل الخارجة على سلطة المخزن، كانت تميز بين سلطة السلطان الزمنية موضوع الرفض والاعتراض والتي يجسمها موظفو المخزن (قواد، عمال...)، ومكانة السلطان الدينية والروحية التي كانت توقرها باعتباره وارثا ل "البركة الشريفة".
وينسحب ما سبق ذكره على تضخيم التنافر القائم بين سكان القرى والمدن، إذ يقر المؤلف بوجود نوع من الاعتماد المتبادل بين هذين المجالين الحيويين، فسكان البوادي كانوا في حاجة إلى تصريف وتسويق منتجاتهم الزراعية للحصول على مورد عيشهم من خلال تغطية الحاجات الاستهلاكية للمدن من المواد الأساسية للعيش، ناهيك بإقبال سكان البوادي على اقتناء ما ينتجه صناع وحرفيو المدن. هذا دون إغفال البعد الثقافي والروحي لتلك العلاقة المركبة، فقد كانت بعض المدن والحواضر المغربية تستقطب مجموعة من الطلبة القادمين من العالم القروي، الراغبين في تحصيل العلوم الشرعية. وفي المقابل لطالما اجتذبت الزوايا والطرق الصوفية بالبوادي أتباعًا لها من ساكنة المدن.
أما على مستوى الفئات الاجتماعية، تجب الإشارة إلى التصنيف الدارج الذي يميز بين خاصة الناس، التي تحيل إلى العلماء والشرفاء والوجهاء وشيوخ الزوايا والتجار وموظفي دار المخزن... إلخ، وعامة الناس (من الفلاحين والحرفيين وصغار التجار) المغيبة عن المشاركة في تقرير الشؤون العامة.
وفيما يخص قلب السلطة المركزية، ونعني بذلك السلطان، فقد كان يتوفر على اختصاصات غير محدودة تغطي، على سبيل المثال لا الحصر، قيادة الجيش والسياسة الجبائية للدولة، دون إغفال إدارة العلاقات الخارجية. كما تعددت وظائف السلطان ذات الطابع الثيوقراطي، وفي طليعتها حفظ الدين والشرع اعتبارا للمكانة الدينية للسلطان. ومن هنا كان السلطان يقدم على تعيين القضاة والمحتسبين وتنظيم خطة الإفتاء، وترجيح كفة الشرع على حساب العرف القبلي، دون إغفال واجب "الجهاد" والدفاع عن حوزة دار الإسلام.
سياسة الانفتاح على التجارة البحرية وتداعياتها
إذا كانت الفلاحة قد شكلت وما تزال المورد الأساسي لعيش سكان البوادي، فإن الصناعة لطالما اعتُبرت مصدر عيش قسم كبير من السكان الحضريين، إذ امتاز الصناع المغاربة ببراعتهم وشطارتهم، وهو ما تدلل عليه الشهادات الموثقة للأجانب الذين فُتنوا بالمنتجات الصناعية المغربية. غير أنه يُسجل بأن بنية القطاعات الاقتصادية الأساسية (الفلاحة والصناعة والتجارة) ظلت في جوهرها تقليدية ولم تواكب التحولات التكنولوجية التي عرفتها أوروبا.
وقد شهدت فترة حكم المولى محمد بن عبد الله (1710-1790) طفرة نوعية في التوجه الاقتصادي للبلاد لجهة الانفتاح على التجارة البحرية مع القوى الأوروبية، اعتمادًا على الموانئ المغربية. وكان الهدف الأساسي من تلك السياسة الجديدة يتجسد في تنويع موارد بيت المال، والتقليص من تبعية المخزن للقبائل من حيث تحصيل الجبايات المفروضة على منتجاتها الزراعية، فقد كانت هذه الأخيرة تعبر عن تمردها على سلطة المخزن من خلال الامتناع عن أداء ما يتوجب عليها من تكاليف لبيت المال، الأمر الذي كان يحمل السلطان على تعبئة جيشه وقيادة حملات عسكرية "حركات" لإخضاع تلك القبائل "العاصية".
وهكذا أسفرت سياسة الانفتاح التجاري التي نهجها المولى محمد بن عبد الله عن تداعيات مهمة، فقد أفضت إلى انقطاع مجموعة من التجار المغاربة عن تجارة القوافل التقليدية (كتلك المتوجهة إلى المشرق وبلاد السودان) وتوجههم إلى التجارة البحرية، بحيث جاب التجار المغاربة أرجاء أوروبا لتسويق منتجاتهم. بيد أن ذلك لم يسهم بالضرورة في تكوينهم لثروة مهمة بفعل ضَعف الرأسمال المادي، من جهة، وسطوة القيود الدينية والفقهية، الشيء الذي يفسر رفضهم التعامل بالكمبيالة وانعدام الخدمات المصرفية والتأمين، من جهة ثانية.
وفي المقابل، يمكن اعتبار اليهود المغاربة الذين امتهنوا النشاط التجاري المستفيد الأكبر من تلك السياسة لما عُهد عنهم من حس تجاري مرهف، حيث غادر العديد منهم المناطق الداخلية التي كانوا يقيمون فيها ويمموا وجوههم شطر الموانئ البحرية (الصويرة على وجه الخصوص)، إذ تمكنوا بفضل ذلك من تكوين ثروات هائلة. كما احتفظ العديد من التجار اليهود بعلاقات جيدة مع المخزن السلطاني، فقد كان السلطان يَعهد إليهم ببعض أمواله لاستثمارها في تجارة التصدير والاستيراد. غير أن تلك الوضعية المتميزة أثارت حفيظة بعض الفقهاء المغاربة وعامة الناس لما رأوا فيها من خروج على وضعية أهل الذمة التقليدية، لا سيما وأن بعض اليهود المغاربة أمسوا متشبعين بنمط العيش الغربي بفعل الاحتكاك بأوروبا.
ومع تولي المولى سليمان خلف محمد بن عبد الله للحكم سنة 1792، ستعرف أوائل فترة حكمه تراجعًا عن سياسة الانفتاح التجاري التي نهجها والده، إذ سينهج سياسة حمائية انعزالية تمثلت في فرض قيود على تصدير المنتجات المغربية، دون إغفال تقييد سفر الرعايا المغاربة إلى البلدان الأوروبية، وهذا كان يُعزى إلى توجهاته الدينية السلفية التي عززها موقف العلماء المتحفظ من الاتجار مع "دار الكفر" والإقامة فيها من ناحية، إلى جانب الاعتبارات الموضوعية التي كانت في أساس انحسار التجارة البحرية والمبادلات مع الخارج، مثل الحروب النابليونية التي تسببت في اضطراب الحركة البحرية، فضلا عن الكوارث الطبيعية التي عرفها المغرب (أبرزها طاعون 1799-1800 الذي قضى على حوالي نصف سكان المغرب).
على أن السياسة الجبائية التي نهجها المولى سليمان أسهمت في التخفيف من وقع ذلك التوجه الانعزالي، وهو ما انعكس إيجابًا على النشاط التجاري ووفرة السلع والمنتجات في الأسواق المحلية، إذ جرى تخفيض رسوم الاستيراد المفروضة على التجار المغاربة وإلغاء ضريبة المكوس، إلى جانب إبطال الاحتكارات المخزنية لبعض المواد. غير أن تخفيف العبء الضريبي على المدن في مقابل تشديده على البوادي، سيعزز اعتماد المخزن على دخل غير قار مرتبط بمدى انتظام التساقطات المطرية، الأمر الذي سيتأكد مع القحط الشديد الذي ضرب المغرب ابتداء من العام 1815، وأدى بالمحصلة إلى مجاعة دامت حوالي سنتين. ومما زاد الطين بلة التوترات بين المخزن والقبائل المتمردة، التي أسفرت عن شل الحركة التجارية في بعض الطرق الحيوية. وكنتيجة لذلك، سيعيد المولى سليمان إحياء سياسة الانفتاح التجاري على أوروبا لوقف تقلص موارد بيت المال، بعدما أصبح مقتنعا بصواب نهج والده القائم على تبني التجارة البحرية كمصدر أساسي لدخل الإيالة الشريفة.
صراع المولى سليمان ضد القوى المحافظة
لعبت القوى الدينية المحافظة دورا أساسيا في مغرب ما قبل الحماية بحكم النفوذ الروحي الذي كانت تتمتع به في أوساط العامة وأروقة الحكم. وفي طليعة تلك القوى، نجد فئة العلماء بوصفها المؤتمَنة على حفظ الشرع، وهو ما ينطبق أيضا على فئة الشرفاء المنتسبين إلى آل البيت، الذين يستمدون نفوذهم من تأثير الحركة الصوفية بالمغرب التي استندت إلى تبجيل الرسول وذريته، ولذلك اهتم السلاطين الذين تعاقبوا على حكم البلاد بالتقرب إليهم واستمالتهم عن طريق إغداق الامتيازات المادية عليهم وتكريس طقوس الاحتفال بالمولد النبوي، اعتبارًا للنفوذ الاجتماعي الذي كانت تكتسبه تلك الفئة.
غير أن علاقة المولى سليمان مع القوى المحافظة الأساسية داخل المجتمع المغربي (الشرفاء، الزوايا والطرق الصوفية، لفيف من العلماء ذوي النسب "الشريف"...) انطبعت بالنفور المتبادل. وبمنأى عن الاعتبارات الدينية، لطالما رأى السلطان العلوي في تلك القوى عائقا أمام سياسة المركزة الشديدة التي اتبعها. وقد جاءت فتنة فاس (1820-1822) لتتوج وتُخرج إلى العلن ذلك الصراع الكامن، حيث سيقدم ثلة من وجهاء وشرفاء المدينة، إلى جانب بعض العلماء والتجار على التصريح بخلع المولى سليمان وتنصيب سلطان منافس له (المولى إبراهيم)، لتدخل البلاد في دوامة من الاضطرابات التي تعكس مصالح وإرادات متنازعة.
وقد تضافرت جملة من العوامل المتداخلة في حدوث فتنة فاس، من أبرزها مواقف المولى سليمان واقتناعاته الدينية، فبالرغم من كونه ظل متشبثا بالمذهب المالكي الرسمي والعقيدة الأشعرية، إلا أنه أبدى تعاطفًا ملحوظًا مع بعض جوانب الدعوة الوهابية، لا سيما من حيث إدانته ل "البدع" و"الانحرافات الدينية" التي تحدث داخل الزوايا والطرق الصوفية، وهو الموقف الذي لم يخلُ من خلفيات سياسية تروم تحجيم النفوذ الروحي المتعاظم للزوايا، والذي كان ينازع المكانة والشرعية الدينيتين للسلطان. والواقع أن تَجَذر الإيديولوجيا الصوفية بالمغرب أبطل مفعول مواقف السلطان وتوجهاته الدينية، كما يشير إلى ذلك مؤلف الكتاب، وظلت الدعوة الوهابية موضوع رفض وإدانة من عامة الناس وخاصتهم على السواء.
وعطفا على ما سبق، تطفو إلى السطح عوامل أخرى، مثل إحياء سياسة الانفتاح التجاري بعد سماح السلطان بتصدير بعض المنتجات المغربية في خضم أزمة الجفاف والمجاعة وارتفاع الأسعار، مما أثار معارضة دينية وشعبية قوية لذلك الإجراء، فضلا عن قرار المولى سليمان القاضي بتفكيك الأسطول البحري المغربي في العام 1817 بسبب تقادمه ولإبداء حسن النية إزاء القوى الأوروبية، الأمر الذي نظرت إليه تلك القوى المناوئة بوصفه تخليا عن واجب "الجهاد" البحري ضد "النصارى"، وصولا إلى واقعة زيان 1819 حيث مُنيت جيوش السلطان بهزيمة مذلة على يد قبائل المنطقة، مما أصاب المخزن السلطاني بالعجز والشلل، وتَرَكَ المدن الكبرى، وفي مقدمتها فاس، عرضةً للنهب وانعدام الأمن، بحيث توفرت الأجواء المثالية لقيام حركة التمرد التي تزعمتها القوى المحافظة ووصل صداها إلى مدينة تطوان.
غير أن ما سمي بفتنة فاس، وعلى عكس ما كانت تأمله القوى المحافظة، نجم عنه ضخ دماء جديدة في المخزن السليماني، إذ ما لبث أن خرج المولى سليمان من عزلته التي أملتها ظروف الهزيمة، وشرع في تعبئة الحلفاء فور علمه بتنصيب سلطان منافس له، قبل أن ينجح في إخضاع خصومه وتوطيد أركان حكمه.
وبغض النظر عن التفاصيل والوقائع التي تعج بها الفترة المدروسة، يخلص الكاتب إلى وجود دينامية تاريخية ناظمة لها قوامها النزوع إلى مركزة السلطة، والانفتاح على التجارة البحرية مع الخارج. والحق أنه يصعب الفصل بين المظهرين كما يقر المؤلف، ذلك أن التوجه نحو التجارة الخارجية كان يتوخى تكريس المركزية من طريق ضمان استقلالية المخزن من حيث الموارد المالية، إضافةً إلى التحولات الاجتماعية والثقافية التي أسفر عنها ذلك التوجه، والمتمثلة في احتكاك فئات اجتماعية بنمط العيش الغربي، مما أضعف، بهذه الدرجة أو تلك، نفوذ القوى المحافظة بالمجتمع المغربي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف قطاع الطائرات المسيرة


.. ماكرون يدعو لبناء قدرات دفاعية أوروبية في المجالين العسكري و




.. البيت الأبيض: نرعب في رؤية تحقيق بشأن المقابر الجماعية في قط


.. متظاهرون يقتحمون معهد التكنلوجيا في نيويورك تضامنا مع جامعة




.. إصابة 11 جنديا إسرائيليا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة ا