الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة61

محمود شقير

2022 / 10 / 30
الادب والفن


شارع القدس - رام الله، أجتازه كل يوم. يأخذني الشارع إلى عمارة الريان، إلى مكتبي في وزارة الثقافة. هنا يعمل عدد غير قليل من أصدقائي، أصدقاء مجلة الأفق الجديد، وصحيفة الجهاد في ستينيات القرن العشرين. وأصدقاء تعرفت إليهم في المنافي، وها هم يودعون المنافي ويعودون إلى الوطن.
شجعني وجود هؤلاء الأصدقاء في وزارة الثقافة، على العمل فيها: ياسر عبد ربه هو أول وزير لأول وزارة للثقافة الفلسطينية، التقيته أول مرة في بيروت العام 1975 ، حينما وصلتها مبعداً من الوطن. جاء إلى مكتب الجبهة الوطنية الفلسطينية، للسلام علينا. انهمك فور وصوله في حوار سياسي مع سليمان النجاب. كنت أستمع إليهما حيناً، ثم لا يلبث ذهني أن يشرد بعيداً حيناً آخر، وبقيت صامتاً حتى نهاية الحوار. منذ ذلك الوقت لم تنقطع لقاءاتنا، التقينا في تونس، براغ، عمان، وأخيراً ها نحن نلتقي في رام الله.
يحيى يخلف هو أول وكيل وزارة فلسطينية للثقافة (ثم وزير للثقافة فيما بعد)، التقيته أول مرة في رام الله العام 1965، كنت مدرساً في المدرسة الهاشمية الثانوية في البيرة، وكان يحيى ما زال طالباً في دار المعلمين في رام الله، وقد جمعت بيننا آنذاك مجلة الأفق الجديد التي اعتدنا الكتابة فيها، واللقاء معاً في مكتب رئيس تحريرها. انقطعت الصلة بيني وبين يحيى بعد نكسة حزيران، ولم نلتق من جديد إلا بعد إبعادي من الوطن. جاء من دمشق إلى بيروت للسلام علي، وكنا على صلة دائمة طوال سنوات إقامتي في المنفى.
ثمة أصدقاء آخرون. على سبيل المثال: القاص والناقد خليل السواحري؛ ابن عشيرة الشقيرات التي أنتمي إليها، وزميلي في المدرسة الهاشمية الثانوية في البيرة، الناقد محمد البطراوي الذي لطالما دارت بيني وبينه حوارات سياسية وثقافية، ولطالما التقينا في مقر مجلة الأفق أو في بيته. الشاعر أحمد دحبور، مدير عام الوزارة في غزة، الذي تعرفت إليه أول مرة في دمشق العام 1975. القاص نمر سرحان الذي تعرفت إليه في رام الله العام 1963. ليانة بدر التي كانت على مقاعد الدراسة في المدرسة، حينما نشرت أول قصة لها في صحيفة الجهاد. الشاعر علي الخليلي الذي التقيته أول مرة في المنفى العام 1977 ، ثم عاد بعد ذلك إلى الوطن. الشاعر زكريا محمد الذي التقيته أول مرة في مقر رابطة الكتاب الأردنيين بعمان العام 1975، وكان يومها يحمل اسمه الأصلي، داود عيد. غسان زقطان الذي التقيته أول مرة في مقر رابطة الكتاب الأردنيين بعمان العام 1975 ، وهو يقرأ أشعاره الأولى آنذاك. والشاعر منذر عامر الذي التقيته أول مرة في الجزائر العام 1987 ، وذلك أثناء انعقاد المؤتمر التوحيدي للاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين.

***

أمضي إلى مكتب وزارة الداخلية في شارع نابلس.
منذ ثلاثة أشهر وأنا أنتظر الحصول على وثيقة سفر دون جدوى. يقترب موعد سفري، تلبية لدعوة من صحيفة اللومانيتيه، لحضور مهرجانها السنوي الذي ينعقد في ضواحي باريس.
أجتاز كل الإجراءات الروتينية التي أصبحت مألوفة لي كلما جئت إلى هذا المكان، بدءاً من الانتظار الممض في الخارج تحت حرارة الشمس وعنجهية الحراس، وانتهاء بالخروج من المبنى بجواب غامض يضطرني إلى الانتظار فترة أخرى. قررت هذه المرة الاستعانة بمركز للدفاع عن حقوق الفرد، تعمل فيه فتيات فلسطينيات وإسرائيليات. اتجهت إلى شارع أبي عبيدة بن الجراح نحو المكتب الذي لا يبعد سوى بضعة أمتار من مقر المسرح الوطني الفلسطيني.
تولت الأمر في البداية فتاة فلسطينية، نحيفة سمراء، تبدو في عينيها مخايل الذكاء، اسمها مها. أخذت مني كل المعلومات المطلوبة، ثم حولت الأمر في سرعة قياسية إلى زميلتها الإسرائيلية، نيتا، وهي نحيفة شقراء، تتحرك بخفة من مكان إلى آخر حاملة أوراقاً وملفات. طلبت مني مها أن أنتظر ريثما تقوم نيتا بمهاتفة مكتب وزارة الداخلية في القدس الغربية، للاستفسار عن مصير معاملتي (أخبرني الموظف الإسرائيلي الذي أدمنت رؤية خلقته، طوال ثلاثة أشهر، أن المعاملة أرسلت منذ أسبوع إلى القدس الغربية)، فلما أنكر العاملون هناك وجودها لديهم عادت إلي نيتا، تخبرني بالأمر، فلما أكدت لها ما سبق أن قاله لي الموظف إياه، أعادت الاتصال بهم ثانية، فاضطروا إلى الإقرار بوجود المعاملة لدى جهاز الشاباك (أحد أجهزة الأمن الإسرائيلية)، وحينما يفرغ المسؤولون فيه من دراستها فسوف يكون ثمة جواب، والمهم الآن متى يفرغون من ذلك!
قالت لي مديرة المكتب الإسرائيلية واسمها داليا:
- نحن نحاول الاستفسار، لكننا لا نملك الضغط على أحد.
وقالت:
- سنواصل الاستفسار، وقد نستعين بأحد المحامين لمتابعة الأمر.
شكرت النساء الثلاث وغادرت المكتب.
تأملت، وأنا أجتاز مبنى المسرح الوطني الفلسطيني، السطح الهرم للمكان، وتذكرت أيام كان يطلق عليه اسم سينما "النزهة" التي كنا نأتي إليها في سنوات العمر الأولى، ونحن متحمسون لمشاهدة أفلام العنف، ثم نغادرها ونحن ممتلئون بالرغبة في تقليد الممثلين الذين يطلقون النار من مسدساتهم ببراعة واقتدار. وفيما بعد صارت تشد انتباهنا رقة الممثلات اللواتي يؤدين أدوار نسوة، يتقلبن على جمر الفراق الذي يتسبب فيه حبيب مسافر، أو عاشق غدار. الآن يقوم المسرح الوطني بعرض مسرحيات محلية (عرضت على خشبته أربع مسرحيات قمت بكتابتها بعد عودتي إلى الوطن) ويقوم بتنظيم العديد من الأنشطة الثقافية والندوات، ويتعرض بين الحين والآخر للإغلاق بالشمع الأحمر على أيدي سلطات الاحتلال.
اتجهت إلى شارع صلاح الدين، تجاوزت مبنى سينما الحمراء الذي ما زال مهجوراً منذ اندلعت الانتفاضة الأولى (قلت: كأننا نعاقب أنفسنا!).
كان الشارع يستسلم لكسل واضح تحت وهج الظهيرة.
انعطفت نحو شارع الزهراء، ولم يكن ثمة أحد في شرفة الفندق الوطني المطلة على الشارع. ثمة سكون واضح عند مدخل الفندق الذي كان يعج بالحركة والنشاط في زمن سابق، وأقول لنفسي: إنه الحصار الذي تعيشه القدس فيجعل حياتها عرضة للذبول والخراب.
تقدمت في الشارع نحو محل الحموري الذي حوله صديقي زياد بعد وفاة والده، من محل لألعاب الأطفال إلى محل للملبوسات. غير أن المحل مغلق الآن، فقد جاء موظفو الضريبة الإسرائيليون إليه، مثلما جاءوا إلى محلات أخرى، وصادروا ما فيه من بضاعة، وطالبوا بضريبة مقدارها ربع مليون شاقل إسرائيلي، ما اضطر "زياد" إلى إغلاق المحل، وإعادته إلى مالكيه الأصليين تجنباً لقيام الإسرائيليين بمصادرته ووضع أيديهم عليه.
عدت إلى البلدة القديمة، عبر باب العمود. ثمة جنود إسرائيليون يرابطون عند مدخل السور وعلى قمته. سألت نفسي وأنا أراهم يتفحصون وجوه الناس بارتياب: هل يعقل أن يبقى هؤلاء الجنود المدججون بالأسلحة في المدينة، ولا أبقى أنا! (تذكرت ألوف المواطنين المقدسيين الذين سحبت منهم بطاقات الهوية خلال السنوات القليلة الماضية، تحت هذه الذريعة أو تلك، ثم أصبحوا فاقدين لحق الإقامة في المدينة، وذلك لتفريغها من أهلها الشرعيين، وللاستمرار في تهويدها). في الأيام التي أعقبت عودتي إلى الوطن، جاء إلى بيتي مراسل إحدى محطات التلفزة الأوروبية، سألني عن موقفي إزاء مشكلة القدس.
قلت:
- ثمة محاولات إسرائيلية لفرض وجهة نظر واحدة على مدينة انبنى تاريخها على أساس التعددية وتفاعل الثقافات.
قلت:
- هي مدينة السلام، وينبغي تكريسها مدينة للسلام.
وقلت:
- إن تهويد المدينة مخالف لتراث المدينة. التراث الذي تناسل من ثقافات عدة، ثم تمت صياغته في السنوات الألف الأخيرة على نحو جديد.
واصلت هبوط الدرجات المؤدية إلى باب العمود، اجتزت البوابة التي ما زالت تحتفظ ببهائها، رغم ما شاب حجارتها من شحوب. وقفت لحظة تحت قوس البوابة، ورحت أستذكر من مروا هنا عبر تاريخ المدينة الطويل.
غزاة كثيرون مروا من هنا، ثم مضوا، قادة جيوش ومحاربون، علماء ومفكرون وقادة مجتمع مروا من هنا، أناس عاديون يبحثون عن الرزق الحلال مروا من هنا، ماجد أبو شرار، فتحي الشقاقي، أختي أمينة، جدي لأبي، وجدي لأمي، مروا من هنا. وأنا، أنا الذي لم أغب عنها إلا مضطراً، سأسعى جاهداً لكي أواصل المرور من هنا.
مشيت. رحت أبحث عن مكان هادئ، انعطفت يساراً نحو مقهى باب العمود. جلست أتأمل حركة الناس حتى ساعات ما قبل المساء، كان ثمة حزن يخيم على ما حولي من بشر وأمكنة وظلال.
ولم يكن في المقهى أحد سواي.
انتهى
تشرين الأول 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر